قضايا إقليمية

أكذوبة اليمين واليسار في اسرائيل
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

لا يختلف اليمين واليسار في إسرائيل في تعاطيهما مع مسألة السلام والتسوية مع الفلسطينيين والعرب، فهما وجهان لعملة واحدة. وكما يؤكد رئيس الكنيست الأسبق أبراهام بورغ فإن اليسار يدعم الأفكار، واليمين ينفذها. وبعد تراجع اليسار وانكشاف نفاقه نظريًا وعمليًا، باتت السياسة الاسرائيلية محصورة ما بين يسار يائس ويمين ميؤوس منه. والفرق بين اليائس والميؤوس منه على حد قول يغال عيلام في صحيفة «هآرتس»، هو أن اليائس (أي اليسار) ينظر بلا حيلة إلى ما يحدث أمامه ويشعر أنه لا يستطيع فعل شيء، فـ«اللعبة» لم تعد في يده. في المقابل فإن الميؤوس منه (اليمين بزعامة الليكود)، لا يمكنه الادعاء بأن اللعبة ليست في يده، فهو استثمر في هذه اللعبة معظم رصيده وقام ببناء نظرياته انطلاقًا منها، وهو غير مستعد للتراجع.

 

ماضٍ ليس له حاضر أو مستقبل
إن شعور اليأس والاغتراب لدى اليسار لا ينبع فقط من فقدان السلطة وعدم التأثير الذي كان له في الماضي على الجمهور الإسرائيلي، بل مصدره أعمق بكثير، وهو الادراك المتزايد بأن الواقع الإسرائيلي - المجتمع والدولة - قد تغير مقارنة مع ما كان سائدًا في الخمسينيات والستينيات. ففي حين كان العمل ينادي يومها بـ«السلام» (في الشكل على أقل تقدير) أصبح هذا الأمر من الماضي وليس له حاضر أو مستقبل. أما اليمين فقد تبنّى موقفًا قوميًا متطرفًا فظًا، على حساب الموقف المدني الذي هو جوهر الوجود الرسمي للدولة، بحسب رأي عيلام. لقد «أدمن» هذا اليمين الاستيطان وأخذ المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف تحت ضغط الهجرات الكبيرة، مستغلًا مشاعر الإحباط والدونيّة والغضب التي رافقت عمليات الاستيعاب الصعبة للمهاجرين، لا سيما الوافدين من الدول الإسلامية. هذه المشاعر تركّزت في أفق ضيّق من الكراهية تجاه النخبة الاشكنازية التي قادت الدولة منذ تأسيسها وشكّلت أنماط هجرتها.

 

اليمين المقيّد
من ناحية أخرى نجد أن التواصل الذي نشأ بين الليكود، باعتباره حزب السلطة، وبين الصهيونية الدينية الانتهازية والنفعية، قد قلص حرية العمل السياسي لليمين في السلطة وقيّدها. وفي ظل «الثالوث المقدس: شعب إسرائيل، توراة إسرائيل وأرض إسرائيل»، غابت مكانة الدولة وقدرتها على المناورة السياسية. وبالتالي فإن اليمين الذي اعتاد على فكرة «أرض إسرائيل الكاملة»، لا يقدر الآن على وقف العملية التي ستؤدي بشكل مباشر إلى خلق دولة ثنائية القومية قابلة للانفجار. وفي اليمين يعرفون أيضًا مغزى هذا التطور الذي يدفع إسرائيل إلى الانقسام الداخلي العميق والمدّمر، وإلى العزلة في الساحة الدولية، لكنهم لا يستطيعون التغلب على ذاتهم ولا يقدرون على إحداث التحوّل نحو الواقعية. إنّ سلوك اليمين في السلطة الآن، يحوله إلى ميؤوس منه سياسيًا أكثر فأكثر، ويدفع إلى إجراءات تشريعية وقانونية ذات طابع نازي أحيانًا، بموجب هذه الإجراءات يتمّ وسم أشخاص ومنظمات بدمغة مطلقة، ومصادرة كتب ومنع مؤسسات ثقافية، ومنع مقاطعة المستوطنات، وفرض الموقف القومي الديني المتطرف على جهاز التعليم، والضغط على القضاء وتهديده، بما فيه محكمة العدل العليا. كل هذا من أجل أمل كاذب مفاده أنه يمكن إسكات صوت الاحتجاج والانتقاد، الداخلي والخارجي. على صعيد السياسة الخارجية تظهر حكومة اليمين سلوكًا ميؤوسًا منه، هو التحريض ضد العالم إستنادًا إلى مقولة «كل العالم ضدنا». ويشمل ذلك الولايات المتحدة صديقة إسرائيل وسندها الوحيد حتى الآن، وكذلك فرنسا، علمًا أن التحريض هو السلاح الأخير غير الناجع للميؤوس منه.

 

ما الفرق بين اليمين واليسار؟
يرى الباحث والمؤرخ الإسرائيلي شلومو بن عامي الذي شغل منصبي وزير الخارجية والأمن الداخلي سابقًا، أنّ أهم الأسباب التي قادت إلى تعاظم اليمين الإسرائيلي وتراجع اليسار، سببها التغيّرات الديموغرافية والإثنية التي طرأت داخل إسرائيل، وليس تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي.
ويرى الباحث ميرون بنفنستي أن أحد أهم العوامل التي دفعت نحو انهيار اليسار، هو أن الجمهور الإسرائيلي لم يعد يلمس وجود أي فروق إيديولوجية ذات مغزى بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين. ويضيف بنفنستي: عندما يجلس حزب العمل إلى جانب حزب الليكود في حكومتي شارون الأولى والثانية، وإلى جانب حزب «إسرائيل بيتنا» في حكومة أولمرت، فإن الجمهور الإسرائيلي يعي أنه لا يوجد في الحقيقة ثمة فروق بين اليسار واليمين في إسرائيل، حتى أن حزب العمل سمّي أحيانًا بإسم الليكود رقم اثنين. ويشير بنفنستي إلى أنه من ناحية إيديولوجية، فإن اليسار واليمين يجمعان على قداسة أسطورة الاستيطان، وإلى أن اليسار هو «الذي تحمس لفكرة إقامة جدار الفصل العنصري في قلب الضفة الغربية الذي حاصر الأرض الفلسطينية، وجعل منها مناطق معزولة غير قادرة على الوصول إلى العالم الخارجي، وعلى تطوير بنية تحتية من دون الاعتماد اعتمادًا كليًّا على إحسان الخارج وصدقاته». وفي هذا السياق يقول بن عامي: خلال العقود الثلاثة الماضية أسفرت التغيرات الديموغرافية عن تبلور ثلاثة قطاعات سكانية رئيسة داخل إسرائيل، وهي: المهاجرون الروس الجدد، الشرقيون، والمتدينون، وهذه التجمعات أصبحت تضم حوالى 80% من المستوطنين اليهود في إسرائيل. ويضيف أن قوى اليسار لم تنجح في اختراق هذه التجمعات، التي خضعت منذ البداية إلى تأثير نخب مثقفة ذات توجهات يمينية صرفة. وبحسب بن عامي فإن المهاجرين الروس لوحدهم يشكّلون 20% من إجمالي عدد المستوطنين في إسرائيل، ولا يوجد لليسار تأثير يذكر على هذا التجمع السكاني الكبير. ويتفق البرفسور سامي ساموحا، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة حيفا، مع بن عامي، ويضيف أن هناك عاملين دفعا المهاجرين الروس الجدد لتبنّي التوجهات اليمينية المتطرفة، وهما:
أولاً: الرغبة في التميّز عن المهاجرين المخضرمين، إذ انّ اندفاع المهاجرين الجدد لتبنّي المواقف اليمينية المتطرفة، واتخاذ مواقف عنصرية من العرب للتدليل على إخلاصهم لـ«الوطن الجديد» (على اعتبار أن المواقف العدائية من العرب ينظر إليها كدليل على «الوطنية»)، يكاد يكون من المسلّمات. وما يدلل على الرغبة في التمايز، هو حرص المهاجرين الجدد على التطوّع للخدمة في الوحدات المختارة والخاصة في الجيش الإسرائيلي عندما يحين موعد خدمتهم العسكرية الإلزامية.
ثانيًا: التعرض لتأثير النخب المتطرفة، ففي حين أهمل اليسار الاهتمام بالمهاجرين الجدد، فإن اليمين حرص على احتضان النخب المثقفة منهم، ومساعدتها على بناء منابر إعلامية خاصة بها. فالغالبية الساحقة من هيئات تحرير الصحف الروسية الصادرة في إسرائيل وقنوات التلفزة ومحطات الإذاعة باللغة الروسية، وكذلك الصحافيون والمعلّقون العاملون في وسائل الإعلام هذه، يتبنون المواقف اليمينية المتطرفة. وفي ما يتعلق بالشرقيين، يرى البرفسور يهودا شنهاف (رئيس جميعة «قوس قزح شرقي»، التي تدافع عن حقوق اليهود الشرقيين في إسرائيل)، أن معظم الشرقيين يعتبرون أن الأحزاب اليمينية هي الكفيلة بالدفاع عن حقوقهم ومصالحهم و«إنصافهم من الغبن الطائفي» الذي يعانونه منذ إعلان الدولة. وهو يضيف أن الاستسلام لهذه القناعة، دفع اليهود الشرقيين لمنح ولائهم بشكل أساسي إما لحزب الليكود، أو لحركة «شاس» ذات التوجهات المتطرفة، والتي حملت راية رفع الغبن ومواجهة التمييز ضد الشرقيين.

 

الانجراف نحو التطرف
من ناحية أخرى، يرى المفكر والكاتب الإسرائيلي عكيفا إلدار في صحيفة «هآرتس» أن أحد أهم الأسباب التي دفعت الرأي العام الإسرائيلي للانجراف نحو التطرف، هو اعتقاده أنه لم يعد هناك شريك فلسطيني أو عربي في أي تسوية مستقبلية للصراع. ويؤيده في هذا الرأي تسفي هارئيل المعلّق في الصحيفة نفسها، والذي اعتبر أن تشرّب نظرية «انعدام الشريك» أثار حماسة الجمهور الإسرائيلي للإجراءات القمعية ضد الفلسطينيين. ومن المفارقات ذات الدلالة، أنه على الرغم من أن الحرب الإجرامية التي شنتها إسرائيل على غزة في العام 2014 تحت إسم «الجرف الصامد» قد أشرفت عليها حكومة يديرها اليسار ويسار الوسط، وعلى الرغم من الشعور بالرضا العارم الذي اجتاح المجتمع الإسرائيلي في أعقاب تلك الحرب بسبب قلة الخسائر الإسرائيلية، فإن هذه الحرب تحديدًا قد أدت إلى ارتفاع أسهم اليمين الإسرائيلي. وتعليقًا على ذلك يقول الباحث زئيف سيغل إنه يمكن تفهّم هذا التوجه الذي يبدو لأول وهلة غير منطقي، لأنه كان من المفترض أن تؤدي الحرب إلى ارتفاع أسهم حزبي «كاديما» و«العمل» اللذين أداراها، لكن هذا لم يحصل لأن الحرب فتحت شهية المجتمع الإسرائيلي، الذي كانت كرامته قد تحطمت في حرب لبنان الثانية، على خيار الثأر والانتقام. ومن هذا المنطلق استنتج هذا المجتمع بأن قادة اليمين بالذات يمكنهم أن يتصرفوا في الحرب المقبلة بشكل أكثر وحشية وحسمًا، وبالتالي بشكل أفضل من اليسار ويسار الوسط.