ملف العدد

من أمل مشروع وأهداف نبيلة الى الإدمان والسلوك المرضي

ان ألعاب الحظ والمال موجودة منذ القدم، ولكنها لم تتلوّن وتتشكّل كما اليوم، وفضلاً عن ذلك، لنبادر الى الاعتراف بأن ما من أحد منّا، لم "يجرّب حظّه"، ولو مرّة ذات يوم، وأمل "مشروع" يحدوه بكسب مادي ذي قيمة، وأكثر، قد يغيّر حياته، لقد احتلت هذه الألعاب مكانة هامة في الحضارات كافة، وفي المجتمعات كلها والطبقات الاجتماعية كافة، وفي أيامنا هذه، غدا هذا النشاط تسلية ذات شأن، إثنان من أصل ثلاثة يدمنان عليها بانتظام. وبالنسبة الى غالبية الناس، اللعب هو نشاط من دون تَبِعات للاستراحة والاسترخاء، بيد أن بعضهم يُنمّي سلوكاً مرضيّاً في ما يتعلّق باللعب: فهو يغدو مرضاً أو تبعية تتجلّى بالاندفاع المتعذر كبحه الى المراهنة على المال. وبالنسبة الى اللاعب المفرط أو المدمن، المراهنة هي مصدر الإثارة والراحة، وتسيطر على حياته بالكامل ولها نتائج مشؤومة متعدّدة بما فيها الهوس المستبدّ اللجوج المتجلّي في تبذير مبالغ مالية تزداد من دون توقف. وفي كل هذا يلجأ الى خرافات وتعاويذ يجسدها في عالم الواقع أرقاماً رآها في حلم أو قدّمها طفل لا يفقه شيئاً من عالم الأرقام.
ومما يُروى عن مثل هذه الخرافات ما يعتمده سكان نابولي الايطالية الذين اذا رأوا في المنام ميتاً جسّدوه بالرقم 47، أو ليثاً يتكلم فبالرقم 48، واذا طعن رجل بسكين من امرأة فالرقم 17للمكروه و40 للسكين، وغيرها الكثير من الأمور اليومية، حتى أنّ السباب والشتائم حملت أرقاماً.

مبالغ مالية تزداد من دون توقف

لم تبتكر المجتمعات الحديثة اللعب البتة. فبعض الأحداث المجمّعة من هنا ومن هناك في سفر التاريخ، يكشف عن دوام ألعاب الحظ على مرّ العصور في المجتمعات الموسومة بتطوّرات فكرية وعلمية ضخمة.

- اليونان:

كان اليونان أصحاب الحضارة النبيلة والخلاّقة يمارسون ألعاب الحظ والمال. وقد ظهر فيهم بعض اللاعبين المدمنين الى حدّ أن الحكام حظّروا هذه الألعاب حفاظاً على النظام الاجتماعي. وهذا ما أبرزه ديوجينس لايرتيوس (القرن الثالث) مؤلف أول تاريخ للفلسفة اليونانية: سيرة ومذاهب ومعلومات قيّمة عن مؤلفات قديمة مفقودة. فهو يروي أن "أرسطوكسان، ابن سبينتار، يقول أن سقراط كان يُضارب ويلعب بالمال، ويكسب ويصرف سريعاً ما كسبه، ويعاود اللعب من جديد"، وأن أفلاطون أنّب ذات يوم رجلاً يلعب بالنرد، فأجابه بأنه يستشيط في اليسر من الأمور، فأردف افلاطون: "ولكن عادة اللعب ليست بالأمر القليل".
وينقل الشاعر الشهير هوميروس في "إلياذته" كيف كان الجنود يلقون مصيرهم بين يدي القدر لاختيار جندي منهم يبارز هكتور.

- الرومان:

في روما أقبل الناس على ألعاب الحظ إقبالاً شديداً اذ السحب كان يجري في الساحة العامة سنوياً في عيد الإله سترنوس، إله الخمر وصديق الفلاحين، وكانت الاحتفالات  تدوم سبعة أيام مع لياليها من 17 الى 24 كانون الأول.
والعام 1514 كان اليانصيب موضوع بحث لاهوتي في جامعة تورينج بألمانيا. وكان مصدره بالتأكيد، ربما، ايطاليا: ففي القرن الخامس عشر كان تجار البندقية وجنوى يستعملون نظام اليانصيب للتخلص من بضاعتهم القديمة أو لبيع أشياء غالية الثمن كانوا يجدون صعوبة في بيعها.

الهنود الأميركيون في كندا

ينبئنا اكتشاف اميركا عن ممارسة ألعاب الحظ التي كانت العملة المتداولة عند هنود كندا الأميركيين، فأول مستكشف، جاك كارتيه (1491-1557)، يروي أن النساء المحليات في كندا اعتنقن تقليداً صعقه. فاللواتي منهن، في سن الزواج، كن يجتمعن للتفرّغ لتعاطي ألعاب حظ يخسرن فيها كل شيء. ولاحقاً لاحظ المرسلون مراراً هذه النشاطات اللعبية عند السكان الاصليين لكندا، والتي كانوا يدمنونها حتى المبالغة فيراهن بعضهم على امرأته وأولاده فيخسرهم، وقد يعادون اليه. وكانوا رجالاً ونساء يخسرون بكل فرح وصبر كل شيء لهم، حتى ثيابهم، إذ غالباً ما كانوا يؤوبون الى قراهم عراة يغنون وكأنهم ما خسروا شيئاً، حسب روايات المرسلين ومشاهداتهم.

اللعب والأسباب النبيلة

لم يكن اللعب على الدوام موضوع استهجان. ففي حين كان الحكام يرون فيه مصدراً غير مأمول وربما لا ينضب من الأموال، اكتسبت ألعاب الحظ والمال رسالتها النبيلة. وهكذا، وفي إبان تنافس فرنسا واسبانيا وبريطانيا على وضع اليد على أراضي العالم الجديد، عرف اليانصيب واسع انتشاره. لقد كان الأمر يتعلّق بملء خزينة الدولة بطريقة سهلة ومبتكرة من أجل تحقيق مشاريع اكثر إفادة منها نبلاً. وهنا بعض الأمثلة:
في هولندا أواسط القرن السادس عشر، نظم المستثمر جاك هنكوفن يانصيباً تحت رعاية الدوقة، وقدّم ستماية جائزة بما فيها طقم آنية طعام، وكؤوس وأقداح كلها من الفضة. واختصت الدوقة نفسها بالاعلان عن هذا الحدث.
في بريطانيا، نظمت الملكة اليزابيت الأولى (1533-1603) يانصيباً للمنفعة العامة، ذهبت أرباحه الى تجديد الجسور وقناطر المياه في مملكتها. وعلى عهد شارل الثاني(01630-1685) الانكليزي ايضاً ظهر أول يانصيب سمحت أرباحه بتمويل البعثات نحو أميركا.
أما في فرنسا فقد انتشر اليانصيب كما الفطر. وأفادت الأرباح، تارة في دعم أعمال الخير، وطوراً في تمويل المستشفيات والكنائس. وبين العامين 1724و1729، اكثر من نصف كنائس باريس رُمّمت بأموال وفّرها اليانصيب الذي بات رمزاً للإيثار والشهامة، فمن كان يجرؤ على الاعتراض على مشاريع هدفها الوحيد الخير المادي والجسدي والروحي للناس؟
ثم أدخل الايطاليون مع "كاترين دي مديسيس" اليانصيب الى فرنسا العام 1533، والعام 1539 أصدر الملك فرنسوا الأول مرسوماً يمنح فيه لسيّد يدعى جان لوران الاذن بإصدار ما يريد من اليانصيب، شرط ان يدفع له حقاً سنوياً قدره 2000 توري (صفة نقد فرنسي مسكوك في مدينة تور على الطراز الملكي). ومذ ذاك تنظم اليانصيب: لقد بات وسيلة للتخفيف عن مالية الدولة، وبقي كذلك حتى اليوم. وانشئ اليانصيب الملكي العام 1660 واستوحت الفكرة الدول الاوروبية كلها: سويسرا، اسبانيا، حتى الفاتيكان الذي اعترف باليانصيب كعمل انساني العام 1713.
غير أن فرنسا في 20 أيار 1836 منعت اليانصيب مجدداً. وبقي الحظر سائداً حتى العام 1933 حيث انزلت الدولة رسمياً أوراق اليانصيب وجرى أول سحب تحت رعاية السيد "البير لوبران" رئيس الجمهورية في 7 تشرين الثاني من ذلك العام.
حتى أمهات مؤسسات المعرفة تدين قليلاً في نبوغها لألعاب الحظ والمــــال. فــفـــي الولايــــات المــــتــحدة، وتســــهــيـــلاً لمــــتـــابــعــة مــهــمــتــهــــا النبـــيـــلة في البـــحـــث العـــلـــمـــي وتطويـــر الفــنـــون والآداب، مُـوّلت جــامـــعـــات هارفرد، ويال، وكولومبيا، على سبيل المثال لا الحصر، في قسم من موازناتها من يانصيب، أو نظمت هي نفسها يانصيباً لتعزيز خزائنها.

أما في كندا، فمــصــدر أول يــانصــيـــب مــنــظــم رســـمي معــــترف بــه، ملفت ومعبّر. فعملية التــحــضــير للألــعـــاب الأولمــــبــيــة في مــونتريال الــعـــام 1976، أدّت الى عــجــز لا مثيل له إلاّ مشاريع رئيس مقاطعة كـــيــبــك، جــان درابــو. ولــكــن، نـــظـــراً الى كـون اليـــانصيب عملاً غير قـــانــوني في كـــنـــدا، ابــتــكر درابـــو وســيــــلـة عبــقــرية للالتفاف على القانون: لــقد قــدّم سحب اليانصيب على أنه "ضريبة اختيارية " قَـــبــِلَ المواطــنـــون ابقــاءَها لامــتـصــاص العــجـــز مــقــابـــل بطـــاقــة تعــــطــيــهــم الحــق بالمشــــاركة في ســـــــحـــب اليــانصـــيــب. وقــمــة الابـــتـــكـــار في هذا السحب كانت تقديم سبائك الذهب بدلاً من المال الى الرابحين.

ضربات الحظ

بعد أن فاز القروي الفرنسي بجائزة بلغت 900 ألف فرنك فرنسي العام 1978، ها هو العام 2006 يفوز مرة أخرى بالجائزة الكبرى للوتو الوطني الفرنسي، حاصداً 1.5 مليون يورو. ووفق العامل في مركز اللوتو القريب من سكن الفائز، فإن الأخير يواظب منذ أكثر من 30 سنة على وسم ورقة واحدة في الأسبوع، مختاراً دوماً الأرقام السبعة التي أتاحت له الفوز في المرة الأولى.

محاولة انتحارها كانت جواز سفر للجائزة الكبرى

حاولت سوما (أثيوبية تعمل في لبنان) الانتحار، فأراد أصحاب المنزل إعادتها الى بلادها، توسلت الخادمة باكية لعدم القيام بهذه الخطوة، نظراً لحاجتها الى العمل، ولكن القرار كان قد اتخذ، وبعد مضي شهرين، وسمت سوما شبكة لوتو وربحت الجائزة الكبرى وقيمتها 200 ألف دولار.