من القلب

أنا واحد منهم
إعداد: العقيد محمد رضا رمال

لم أكن أتصوّر أن وجودي بين الجمهور الذي حضر لمتابعة مباراة في كرة السلة على ملعب إحدى مدارس حمانا سوف يُكسبني أكثر من مفخرة واحدة، عدا عن أن ولدي إبن السبعة عشر عاماً يصول ويجول في أرجاء الملعب مسجّلاً النقاط لصالح فريقه، وسط تشجيع الفتيات، الذي لم أتأكد حتى الآن ما إذا كان هو، أم وجودي أنا، وراء اندفاع ولدي وتألقه.
وأياً يكن السبب، فوجودي هناك جعلني أتحسّس مفخرة أخرى، طالما رافقتني خلال خدمتي العسكرية، وكانت أصداؤها تتردّد دائماً على مسامعي أينما حللت.
في الصف الثاني من مقاعد الجمهور جلست متأبطاً آلة التصوير، وأمامي كان يجلس أشخاص بدا لي من متابعتهم مجريات المباراة، ومن حركة الناس باتجاههم، أنهم رئيس النادي منظم البطولة، وأحد الحكام الرياضيين العرب، وشخص آخر تعرّفت عليه لاحقاً وكان راعي تلك الدورة الرياضية.
على مدخل الملعب، حيث تقام المباراة، كان ثلاثة عسكريين، بكامل انضباطهم وحرصهم، يراقبون ما يجري، ويعملون على تأمين سلامة المكان ومَن فيه، حتى انتصف زمن المباراة فصدح صوت الموسيقى في الأرجاء، وأخذ اللاعبون قسطاً من الراحة إستعداداً للشوط الثاني، فدخلت آلة التصوير التي أحملها في إجازة محدودة، وانتشر بعض الفتية والفتيات بين المقاعد يوزعون الحلوى والمرطبات على الحاضرين، وكان من الطبيعي أن تبدأ مراسم الضيافة من حيث يجلس القيّمون على المباراة، أي من أمامي، وهكذا كان.
وبدا كل شيء عادياً بالنسبة إليّ، حتى سمعت رئيس النادي وهو يطلب من إحدى الفتيات القيام بواجب الضيافة تجاه العسكريين الثلاثة الواقفين عند مدخل الملعب، فبادره أحد الجالسين بجواره القول: «لا تتعب نفسك، فإنهم لا يأخذون شيئاً، لقد حاولنا ذلك معهم في السنة الماضية ولم نوفّق». فرد رئيس النادي: «هؤلاء غيرهم، ولا يجوز أن ينظروا الينا ونحن نتناول المرطبات والحلوى بينما هم واقفون منذ ساعات من دون طعام، وعلى كل حال، لا بأس من المحاولة».
لا أدري لماذا أحسست بأن متابعة الموضوع باتت تعنيني أكثر من متابعة المباراة التي يشارك فيها ولدي، وأصبحت عيناي تلاحقان خطوات الصبيّة التي اندفعت باتجاه العسكريين حاملة طبقاً من الحلوى وهي تحثّ رفيقاً يحمل المرطبات على اللحاق بها.
كانت عيناي شاخصتين باتجاه العسكريين، وكان المشهد الذي سيحصل معروفاً لديّ، وكأنني سبق ورأيته في ملعب آخر ومكان آخر، لكني كنت بحاجة الى أن أزرعه مجدداً في ذاكرتي، وأن أسجّل نقطة في مرمى رئيس النادي بالرغم من أني لا أعرفه ولا أكنّ له أية ضغينة.
رفض العسكريون بلطف، بالرغم من إلحاح الصبية، ولم يطل الوقت حتى عادت ورفيقها خائبين، وكان من الطبيعي أن يعودا الى مَن أرسلهما ليخبراه بما جرى. وبدا لي أن عيون الناس كانت تتابع ما يجري، ولا أدري لماذا، ربما لأنهم كانوا بحاجة الى أن يزرعوا مجدداً في ذاكرتهم صوراً ألفوها في وقت سابق، أو ليستبدلوها بصور أخرى، أو ربما لأن كلاً منهم كان يخطط لكسب الرهان من الجالس بجواره، ولم يكن يدور في بال أحد منهم أنني ايضاً قد دخلت في عملية الرهان من دون استئذان أحد.
بعد عودة الصبية ورفيقها بخفي حنين، سمعت أحد الحاضرين يقول: «ألم أقل لك؟»، فاستويت في مقعدي مزهواً كمن ربح المباراة، ووددت أن أقف صارخاً بأعلى صوتي: أنا واحد منهم، أنا واحد منهم، تتغيّر وجوهنا، وأسماؤنا، وقاماتنا، وأسماء قطعاتنا، ويتغيّر الزمن، ولا تتغيّر تربيتنا وإباؤنا وترفّعنا ومهماتنا.
في تلك الأمسية لم يعد يهمني مَن الفائز بالمباراة، ولا عدد النقاط التي سجّلها ولدي في مرمى الخصم، ولا كثافة المعجبات به، كانت عيناي تتجهان الى أبطال المباراة الحقيقيين، الذين أعادوا تذكيري بأن لديّ مفخرة أخرى، وهي أنني أنتمي الى هؤلاء الواقفين كالحقيقة على مفارق أيامنا، الذين يعطون دائماً ولا يأخذون.
ولم يسعني، وأنا أغادر المكان، إلا أن أرمقهم بنظرة أعرف أنهم قد فهموا مغزاها، وهي أنهم قد كسبوا الرهان، ولا عجب، فإنهم دائماً يكسبونه.