وجوه وحكايات

أنطوان كرباج النجم الذي سنفتقده طويلاً...
إعداد: جان دارك أبي ياغي

يغيب أنطوان كرباج في الزمن الصعب، ويغادر مسرح الحياة مسدلًا ستارة العمر من دون تصفيق. هو واحد من أبرز وجوه المسرح والتلفزيون في لبنان والعالم العربي ومن ألمعها. عُرف بأسلوبه الراقي وصوته الجهوري وأدائه الرصين، فاحتلّ مكانة في وجدان الجمهور، وترك بصمة لا تُنسى في ذاكرة الفن الأصيل.

برع في تجسيد الشخصيات التاريخية والوطنية بإحساسٍ مرهف، فوازن في حضوره بين الخشبة والشاشة، بين الثقافة النخبوية والانتشار الشعبي، وكان اسمه دائمًا القيمة المضافة لأي عمل شارك فيه. غادر كبيرًا كما عاش، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا ضخمًا يشهد على عبقرية رجل أحبَّ الفن وأعطاه من قلبه وروحه. وبغيابه ينطفئ نورٌ من أنوار لبنان.

 

رحل الممثل أنطوان كرباج عن عمر يناهز التسعين عامًا، تاركًا وراءه عشرات الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية. لم يكن مجرّد ممثل على الخشبة، بل كان المسرح امتدادًا لروحه، مساحة يتماهى فيها مع شخصياته حتى حدود الذوبان. بصوته الجهوري وحضوره الطاغي، أطلّ على الجمهور في عروض لا تُنسى.

هو من مواليد 4 أيلول 1935، زبوغا - قضاء المتن. كان منذ صغره مشدودًا إلى التمثيل، وقد برزت موهبته في سن العاشرة، عندما كان يجمع الأقارب وأقرانه من الحي ويؤدي الأدوار المسرحية أمامهم. تلقّى تعليمه الابتدائي في المدرسة الرسمية في رأس بيروت، ثم تابع علومه في دار المعلمين، ودرّس مادتَي التاريخ والجغرافيا، قبل أن يُكمل دراسته الجامعية في التاريخ ويتخرّج من الجامعة اليسوعية حاملًا إجازة في هذا الاختصاص.

في تلك الفترة، أعاد إحياء مسرح كلية الحقوق الذي كان مقفلًا، وتعرّف عبر صديقه أمين زيدان إلى الفنان منير أبو دبس الذي كان الأب الروحي للمسرح اللبناني، العائد من فرنسا حيث كان يعمل في فرقة السوربون، وقد دعته لجنة مهرجانات بعلبك الدولية لإنشاء أول معهد للتمثيل في لبنان في مطلع الستينيات وهو «مدرسة المسرح الحديث». تعلّم كرباج من أبو دبس أنّ التمثيل مادة ثقافية، لا تؤخذ إلا بالعلم. فأسّسا معًا «فرقة المسرح الحديث» التي أدّت دورًا رائدًا في الحركة المسرحية في لبنان والعالم العربي.

كان أول ظهور مسرحي لأنطوان كرباج في مسرحية «الملك أوديب» التي عُرِضت ضمن فعاليات مهرجان البحر المتوسط المسرحي في المغرب، وجسّد فيها شخصية الراعي. ثم أطلّ بدَور البطولة مجسّدًا شخصية ماكبث في مسرحية «ماكبث»، من إخراج منير أبو دبس، في مهرجان جبيل الأول العام 1962.

رأى كرباج في المسرح انعكاسًا حيًّا لواقع المجتمع، ووسيلة لتسليط الضوء على قضاياه. وقد مثّلت مسرحية «الملك يموت» محطة محورية في مسيرته الفنية، إذ أدى فيها دور ملك يبلغ المئة من العمر ويأبى الموت، وكان هو حينها في الرابعة والعشرين، لتغدو هذه المسرحية امتحانًا حقيقيًا لإمكاناته كممثل.

بعد العام 1967، افترق دربه عن منير أبو دبس، وشارك مع المسرحي اللبناني ميشال نبعة في مسرحية «الديكتاتور»، من تأليف الشاعر عصام محفوظ. قدّمت المسرحية، التي عُرِضت على مسرح غولبكيان، مفهومًا جديدًا للمسرح اللبناني، وقد تناولت حوارًا مكثفًا لمدة ساعتين باللهجة اللبنانية المحكية بين الديكتاتور ومساعده، وعكست ببساطة ديكورها وعمق مضمونها واقع الشعب الذي يتضوّر جوعًا تحت الحصار، فيما ينعم السياسيون بالعيش الرغيد.

إلى ذلك، شارك كرباج في مسرحية «الأمير الأحمر» التي عرضت في سينما الأورلي، وهي مقتبسة من قصة للأديب مارون عبود، من إخراج يعقوب شدراوي وبطولة ليلى كرم، إيلي صنيفر، والياس رزق. سلّط العمل الضوء على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه القرى اللبنانية، وجسّد صراعًا محتدمًا بين قوى الخير والشر يعيشه القرويون المتواضعون في بحثهم عن كرامة ضائعة...

 

زواج واستقرار فني

في العام 1966، تزوج كرباج من الأديبة والصحافية لور غريب ورزقا ثلاثة أولاد: وليد، رولا ومازن. وبعد عامٍ واحد، أسّس فرقته الخاصة، وما لبث أن تعرّف على الأخوين رحباني، لتنشأ بينهما رفقة عمر ومسيرة إبداع، أسهمت في رسم ملامح لبنان الثقافية والحضارية في العالم.

في العام 1974 شارك في مسرحية «المهرّج» من إخراج يعقوب شدراوي، وتأليف الشاعر محمد الماغوط الذي تناول فيها قضايا تتعلق بـ«الأمة العربية»، ومحاربة الفساد، وضياع فلسطين وغيرها من الأراضي العربية المحتلة. وفي العام نفسه قدم، بالاشتراك مع نضال الأشقر، مسرحية «أبو علي الأسمراني»، على مسرح سينما الأورلي، للكاتب التركي خلدون ثائر، موسيقى زياد الرحباني، وإخراج برج فازليان. ثم كان له حضور مميز في مسرحية «بنت الجبل» مع سلوى القطريب.

في شباط 1975 قدم كرباج على مسرح الأورلي «المارسيلياز العربي» من تأليف محمد الماغوط، موسيقى زياد الرحباني، إخراج يعقوب شدراوي، ديكور غازي قهوجي. وقد حظيت المسرحية بإقبال جماهيري كبير، إذ أحبّ الجمهور أنطوان كرباج، الذي عُرف بحسن اختياره للأدوار التي تليق بشخصيته. ونراه في هذه المسرحية يعمل مجددًا مع الأشخاص الذين برعوا في إنتاج المسرح وازدهاره في السبعينيات والثمانينيات.

في نيسان 1980، وعلى مسرح كازينو لبنان، تعاون مع أنطوان غندور فقدم مسرحية «بربر آغا»، وفي العام نفسه بدأ التعاون مع روميو لحود فقدم مسرحية «نمرود» على مسرح الإليزيه في الأشرفية، أحد المسارح القليلة في لبنان التي لم تُغلق خلال الحرب اللبنانية، وهي واحدة من حوالي 12 مسرحية من إخراج روميو لحود.

 

مع فيروز اكتمل المشهد

لم يكن مسرح الأخوين رحباني ليكتمل من دونه، وهل يمكن تصوّر فيروز في مجدها المسرحي وأدائها الدرامي من دون أنطوان كرباج؟ شارك معها في عديدٍ من البطولات، فكان «المهرب» في «يعيش يعيش» (بيروت، 1970)، و«الوالي» في «صح النوم» (بيروت ومعرض دمشق الدولي، 1971)، و«فاتك المتسلط» في «جبال الصوّان» (مهرجانات بعلبك الدولية ومعرض دمشق الدولي، 1972)، و«الملك غيبون» في «ناطورة المفاتيح» (مهرجانات بعلبك الدولية ومعرض دمشق الدولي، 1972)، و«الحرامي» في «المحطة» (بيروت، 1974)، و«القائد الروماني» في «بترا» (عمان ودمشق وبيروت، 1977).

في ما بعد، تعاون مع منصور الرحباني فأدى دور «اليوزباشي عساف» في مسرحية «صيف 840» (كازينو لبنان، 1987)، و«الملك رعد الثالث» في «حكم الرعيان» (مهرجانات بيت الدين، ودمشق، وحلب، والدوحة، 2004 - 2005).

ومن أعماله المسرحية أيضًا «بليلة قمر» مع فرقة كركلا (كازينو لبنان ومونتريال، ولاس فيغاس، 2000)، و«ألف ليلة وليلة»، إنتاج مدينة دبي للإعلام (دبي، مهرجانات بعلبك الدولية، بيروت، لندن، 2002 - 2003).

أما آخر الأعمال التي مثّل فيها دور البطولة، فكانت مسرحية «نقدم لكم وطن» للكاتب أنطوان غندور، من إخراج ريمون جبارة (مسرح كازينو لبنان، 2012، وفي التلفزيون)، وقد أدى فيها كرباج دور البطريرك الحويك.

 

نجمٌ أول في التلفزيون

قبيل اندلاع الحرب اللبنانية، كان كرباج قد رسّخ مكانته نجمًا أولًا في التلفزيون، وأحد أبرز روّاد الدراما اللبنانية. تميّز بأدائه المتقن لأدوار الخير والشر على حد سواء، وتألق في تجسيده لشخصية «جان فالجان» في مسلسل «البؤساء» المقتبس من رواية فيكتور هوغو، من إخراج باسم نصر (تلفزيون لبنان، 1974).

امتدّ إبداعه إلى المسرح من خلال أعمال معرّبة عن روائع الأدب العالمي، منها «ماكبث» لشكسبير، و«الذباب» لجان بول سارتر، و«أوديب ملكًا» لسوفوكليس. كما شارك في مجموعة من أبرز المسلسلات التلفزيونية، من بينها «بربر آغا» (تأليف أنطوان غندور، إخراج باسم نصر، 1979)، و«أوراق الزمن المرّ»، ولعب دور «المفتش» في «لمن تغني الطيور» إلى جانب نهى الخطيب (إخراج إيلي سعادة، 1976)، إضافة إلى دوره الرئيسي في مسلسل «ديالا» مع هند أبي اللمع (إخراج أنطوان ريمي، 1976)، ومشاركته في «من يوم ليوم» (للأخوين رحباني) إلى جانب هدى ووحيد جلال.

وكان لأنطوان كرباج خلال مسيرته الطويلة مشاركات في أعمال سينمائية، خصوصًا في ثمانينيات القرن العشرين، إذ شارك في ثلاثة أفلام سينمائية، هي «امرأة في بيت عملاق» للمخرج زيناردي حبيس، و«نساء في خطر» مع إيمان (1982)، و«الصفقة» مع رلى حمادة (1984)، للمخرج سمير الغصيني.

تربّع كرباج سيّدًا على المسرح، لا يُذكر اسمه إلا وترافقه هيبة الفن ووقار الكلمة. هو واحد من أولئك القلائل الذين منحوا للمسرح اللبناني هويته، وللشاشة الصغيرة نبضها الصادق، وللثقافة صوتًا يحاكي الوجدان الشعبي بلغة سامية. كيان مسرحي خالص، عاشق للكلمة، وصاحب حضور يصعب تكراره.

قالت عنه الفنانة فيروز: «كان وجوده على المسرح يبعث الطمأنينة، كأن النص قد استراح حين قرأه كرباج».

أما زياد الرحباني فوصفه ذات مرة قائلًا: «أنطوان ما بيمثّل، أنطوان بيعيش الشخصية، وبيخلي الناس تعيشها معه.»

وعبّر المخرج شكيب خوري عن تقديره له بالقول: «كان الأستاذ أنطوان كرباج مدرسة قائمة بذاتها، لا تُنسى ولا تُستعاد.»

توّج كرباج مسيرته بتولّيه منصب نقيب الممثلين في لبنان بين العامين 2005 و2009، قبل أن يغيب تاركًا إرثًا فنيًا عابقًا، سيبقى منارة تهتدي بها الأجيال المقبلة.

 

بأقلامهم

إثر الإعلان عن نبأ وفاة أنطوان كرباج، حفلت صفحات الشبكات الاجتماعية في لبنان برسائل تعزية من مشاهير ومستخدمين آخرين أشادوا بالممثل الراحل بوصفه أحد رواد المسرح في لبنان ومن أهم وجوه «الزمن الجميل» في الفن اللبناني.

وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة، وصف كرباج في منشور على منصة «إكس» بأنه «كان صرحًا (...) من صروح المسرح اللبناني في عصره الذهبي».

وقالت نقابة ممثلي المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون في لبنان في بيانها: «غادرنا عظيم من بلادنا. بدأ حياته ملكًا وبقي كذلك طوال مسيرته الفنية». وأضافت: «هامة مسرحية ودرامية أغنت المكتبة الإبداعية بالعديد من الأعمال العظيمة وبخاصة على المسرح الجاد والاستعراضي مع الأيقونة اللبنانية السيدة فيروز والعملاقين الأخوين رحباني».

وقال فيه الصحافي عقل العويط: كان أنطوان كرباج موهبة كاملة، وحالة مسرحيّة، وعلامة فارقة، وكان حضوره على الخشبة يجسّد لحظة الارتقاء إلى عيار الذهب الصافي، خلوًّا من أيّ غبش ونقصان.

أدواره وشخصيّاته وأسماؤه ومشاركاته الفذّة في المسرح والتلفزيون والسينما، لا تُحصى، وهي أنيقة وعالية ومهيبة ومتنوعة، ومن شأنها أن ترتّب له المكانة اللائقة والدائمة في ذاكرة الفنّ المسرحي اللبناني والعربي الحديث.

وأشار زميله وصديقه الممثل والمسرحي رفعت طربيه إلى أنّ أنطوان كرباج «كان يتمتع بقلب طفل في التعامل وكان عظيمًا على المسرح بحضوره المهيب وصوته الرائع». ورأى فيه «ممثلًا عالميًا من طينة الممثلين الذين نفتقر إليهم ليس فقط في لبنان بل في العالم». من دون أن ننسى أنه أبدع في المسرح الإغريقي في «أوديب ملكًا» ومسرحيات شكسبير كـ«ماكبث» التي بدأ بها حياته المسرحية.

أما الصحفي الذي رافق الحركة الثقافية منذ سبعينيات القرن العشرين ميشال معيكي، فقال إنّ كرباج «كان الصوت الهادر في مسرح الأخوين رحباني، بحضوره وصوته وأدائه ومن أبرز القامات المسرحية في لبنان». ومع أنّ كرباج «كان من كبار الأسماء على صعيد التمثيل»، فإنّه بحسب معيكي «لم يكتب نصوصًا مسرحية ولم يخض الإخراج. بل برز على الخشبة كممثلٍ كبير وقدير وفي التلفزيون».

وأضاف: «كان أهم ما فيه ذاكرته ويا للأسف أصابه المرض في ذاكرته. كان يكتفي بقراءة المسرحية مرة أو مرتين فيحفظها من دون أن يضطر إلى مراجعة دوره».

لم يهجر أنطوان كرباج الجبّار خشبة المسرح والحياة إلا بفعل المرض. عاش فنانًا ملتزمًا، ومات رمزًا من رموز المسرح الأصيل، سيظل صوته وأداؤه محفورَين في وجدان كل من عرف معنى الفن الحقيقي. إنه نجم المسرح، الذي سيفتقده طويلًا…

 

أعماله المسرحية

منذ بداياته الفنية حلّق الفنان أنطوان كرباج في أعماله المسرحية وأبدع في تأدية أدواره العديدة ومنها:

«ماكبث» في مسرحية لشكسبير، «أورست» في «الذباب» لسارتر، «الملك» في مسرحية «الملك يموت» لأوجين يونيسكو، «أوديب» في مسرحية «أوديب ملكًا» لسوفوكليس، «المفتش» في مسرحية «علماء الفيزياء» لدورنمات، «الملك» في مسرحية «هاملت» لشكسبير، «فاوست» في مسرحية «فاوست» لغوته، «المهرج» في مسرحية «المهرج» للشاعر السوري محمد الماغوط، «أبو علي» في مسرحية «أبو علي الأسمراني» للكاتب التركي خلدون ثائر من إخراج برج فازليان، فضلًا عن أدواره الرائعة مع فيروز في مسرح الأخوين رحباني. وفي عالم الإنتاج له مسرحيتان: «أبطال وحرامية» و«أمرك سيدنا» من تلحين زياد الرحباني.