معالم وآثار

أنـفـه: جارة البحر تروي قصص المللاحات والقلعة والكنائس
إعداد: جان دارك أبي ياغي

بعد الجولة التي قمنا بها في محيط نهر الجوز (بقسميا والمجدل)، نكتشف مع جمعية «أبساد» آثار منطقة أنفه في قضاء الكورة. أنفه اشتهرت بصناعة الملح وصيد السمك والسياحة، تشير الآثار والمعالم التراثية المنتشرة في أرجائها، إلى أن الإنسان سكنها قبل الميلاد بآلاف السنين، وبالتالي شهدت جميع الحضارات التي تعاقبت على لبنان.

 

إنطلقنا من دار البلدية التي حدّثنا رئيسها الأستاذ جان نعمه عن التنقيبات المستمرّة لاكتشاف آثار ما زالت مدفونة في باطن الأرض. أما مستشار البلدية المهندس جرجي ساسين (عضو في هيئة تراث أنفه وجوارها) فقد رافقنا ورسم لنا خريطة السياحة في البلدة...

 

الملّاحات والبحر والتاريخ
عُرفت أنفه بإنتاج الملح منذ زمن بعيد جدًا. فانتشرت على الشاطئ آلاف البرك التي جرّت مياه البحر إليها بالضخّ بمراوح هوائية. لكن هذه الصناعة تراجعت إلى حدّ الانقراض بسبب المضاربة الخارجية، واستيراد الملح بأسعار منخفضة، فأصبحت معظم الملاّحات معالم تراثية بعد أن كانت قطاعًا منتجًا.
على هامش صناعة الملح، نشأت في البلدة مصانع للمراوح التي تحرّك مضخات لضخّ مياه البحر إلى البرك. انتفت الحاجة إلى هذه المصانع بعد توقّف إنتاج الملح، إلا أنّ واحدًا منها يملكه رامح نخول ما زال يعمل حتى اليوم، وهو ربما كان الأخير على امتداد الشاطئ اللبناني.
بهدف إحياء صناعة الملح في أنفه، أجرت منظمات بيئية مدنية محاولات لتجهيز البرك بطواحين الهواء من صنع محليّ، فعاد عدد منها إلى العمل (حوالى 8 ملّاحات)، هذه العودة تندرج في إطار الحفاظ على التراث والذاكرة.
تشتهر أنفه باستثمارها لثروتها البحرية، من خلال صيد ثمار البحر وإقامة المنتجعات الفخمة على الشاطئ الجميل والذي يعزز تاريخ البلدة أهميته السياحية.
من المميزات البارزة للبلدة وجود رأس طويل ممتد من البرّ في بحرها، وتناقل السكّان عن القدماء أنّه كان قلعة استخدمت على فترات متفاوتة في التاريخ. ومن غير المستبعد وفق بعض الآراء أن يكون اسم أنفه مستمدًا من هذا الرأس الذي يشبه الأنف. أما في رسائل تل العمارنة الشهيرة (تعود إلى القرن الرابع عشر ق. م)، فيرد اسم البلدة «أمبي»، ثم تحوّلت اللفظة إلى «أمبا» ومن ثم إلى «نفين».

 

قلعة أنفه
يحمل رأس أنفه الداخل في البحر بطول 400 م وعرض 100 م، آثار الشعوب التي تعاقبت على بلادنا: أعمال الفينيقيين المحفورة في الرأس الصخري، معاصر الخمور القديمة التي اشتهرت أنفه بجودتها، الأقنية والأدراج والآبار والمدافن المحفورة في الصخور، القطع الفخارية من مختلف العصور، وقطع الفسيفساء الملوّنة...
اعتبرت قلعة أنفه ضمن الأبنية الأثرية بموجب قرار صادر في العام 1973، وهي تتميّز بالخندق المحفور بكامله في الصخر والذي يبلغ طوله نحو خمسين مترًا، أما عرضه وارتفاعه فيقاربان العشرين مترًا، ويشكّل نوعًا من ترعة تصل المياه بالمياه من وسط الرأس الحجري. نقش الخندق بكامله بالمطرقة والإزميل، وقد تعود أسباب إنشائه إلى أمرين: أولهما جعل المكان صالحًا لبناء السفن، والثاني إحاطة المياه بشكل كامل بالقلعة ما يجعلها نوعًا من جزيرة بحرية لا يمكن الوصول إليها إلاّ عبر جسر متحرّك ما زالت قاعدته قائمة في وسط الخندق، وقد بوشر العمل آنذاك بخندقين آخرين كخطين إضافيين للقلعة إلاّ أنّ حفرهما لم يكتمل. معالم حفر ارتكاز أساسات أسوار القلعة واضحة في الأرض حتى اليوم، وبعض من أبراجها الإثني عشر على طول الشاطئ مع بقايا من أكبر أسوارها ما زال منتصبًا عند نهاية الرأس.
هدم المماليك القلعة في العام 1289، واستعملت حجارتها للبناء - بخاصة بيوت ميناء طرابلس التي نقلت إليها بحرًا- ولإنشاء الملّاحات، كما عبث فيها الكثير من الباحثين عن الكنوز. إلى ذلك، أدّت إقامة الأبنية الحديثة والمشاريع إلى طمس الكثير من المعالم الأثرية، لكن بقايا الأبنية وأساساتها على طول الشاطئ تدلّ على أن أنفه كانت محاطة بأسوار مرتفعة ذات أبراج وحجارة ضخمة.
منذ حوالى 7 سنوات، شرعت البلدية مع فرق تابعة للمديرية العامّة للآثار، بالتعاون مع فريق من جامعة البلمند، وخبراء أجانب، في البدء بحفريات وتنقيب ومسح أثري على مواقع مختلفة من الرأس بغية كشف تاريخ التل المعروف بالقلعة، وقد أدّت إلى نتائج مهمّة.

 

أنفه وشهداء الحريّة
في اليوم الذي علّق فيه العثمانيون المشانق بالتوازي في ساحتي البرج في بيروت والمرجة في الشام وأعدموا عددًا من أحرار البلاد المنادين بالاستقلال، تمّ اعتقال الشهيدين الصحافيين أنطون وتوفيق زريق من بلدة أنفه.
قصة هذين الشهيدين يرويها في مناسبة مرور مئة عام على إعدامات شهداء الحرية (1916-2016)، المهندس جرجي ميخائيل ساسين في مقال كتبه وهو يقول: كان الأخوان أنطون وتوفيق زريق أولاد أنستاز زريق من مدينة طرابلس ومن أنسباء شاعر الفيحاء المشهور سابا زريق، وكانا من الصحافيين العاملين في بلاد الاغتراب حيث نشرا مقالاتهما في عدد من الصحف التي كانت تصدر باللغة العربية في الولايات المتحدة الأميركيّة، وتدعو إلى تحرير بلادنا من الاحتلال العثماني ونيلها الاستقلال. وكان يشجعهما على ذلك ويزيد من حماستهما أخوهما الثالث المحامي فريد زريق المقيم في طرابلس، وهو من مؤسسي نقابة المحامين في طرابلس والشمال.
ويتابع: عندما عاد الأخوان من أميركا لزيارة والدتهما السيدة أولغا في مدينة طرابلس مسقط رأسيهما، علما أنّ اسميهما واسم شقيقهما فريد واردة في جداول المطلوبين للتحقيق في الديوان العرفي، وأن العساكر العثمانيّة تقوم بملاحقة المطلوبين ومداهمة المنازل. تمكّن المحامي فريد من الهرب، بعد أن تنكّر في ثياب نسائيّة ونجا. أمّا الشقيقان أنطون وتوفيق، ففضّلت الوالدة أن يختبئا في أنفه لدى أقارب لها هناك إلى أن يتيسر لهما الهروب عبر البحر للعودة إلى أميركا. فأتيا إلى بيت أمين اسحق درّيق في الحارة الشرقية في أنفه قرب كنيسة السيدة كاترينا.
توسّعت مداهمات العسكر العثماني فشملت أنفه حيث يختبئ الأخوان ضمن تكنة القرميد التي تعلو الطبقة العلوية من البيت، وتمّ اعتقالهما واقتيادهما إلى دمشق وهناك جرت محاكمتهما سريعًا وأعدما شنقًا في ساحة المرجة...

 

الكنائس القديمة
في بلدة أنفه ثلاث كنائس تقوم بمحاذاة الشاطئ، وتروي جزءًا من تاريخ البلدة، وقد أدخلت جميعها ضمن لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية.
تقع الكنيسة الأولى في وسط البلدة بناها الصليبيون على اسم القديسة كاترينا العظيمة بين الشهيدات. وهي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وقد تشبه من الناحية المعمارية كنيسة السيدة في دير البلمند. تحمل واجهة الكنيسة الغربية أكبر نافذة مستديرة بين الكنائس الصليبية المعاصرة لها.
في وسط الحارة القديمة، تطلّ على الساحل الغربي كنيسة مار سمعان ومار ميخائيل التي تعود إلى العصر البيزنطي. تتألّف من هيكلين مزدوجين في بناء واحد، وفيها بقايا جداريات Peintures Murales، ويحتفل في ساحتها بعيد مار سمعان العمودي في الأول من أيلول من كل عام. يتميز سقف الكنيسة بأنه يحتوي على جرار كانت تستعمل في البناء قديمًا، للتخفيف من وطأة الصدى. خضعت الكنيسة لعدة أعمال ترميم بهمّة مجلس رعية أنفه، وبإشراف المديرية العامة للآثار.
الكنيسة التالية هي كنيسة سيدة الريح، وقد بنيت في العهد البيزنطي على الشاطئ الشمالي للبلدة عند بداية رأس القلعة. وهي أول كنيسة على اسم العذراء مريم في بلاد الشام. أصابها الكثير من الخراب، بيد أن داخلها يشكّل تراثًا جليلاً لما تحويه من الرسوم أو الأيقونات الجدارية؛ وباستطاعة الباحث المدقّق أن يلاحظ صورة تمثّل القديس جاورجيوس على حصانه، وجزءًا من أخرى كانت تمثّل القديس ديمتريوس. وعند المدخل صورة عظيمة للسيد المسيح وصور بعض القديسين، وأخرى تمثّل العذراء وهي تقوم بتهدئة عاصفة هوجاء. تخضع الكنيسة اليوم لعملية ترميم واسعة.

 

دير سيدة الناطور
يحتضن شاطئ أنفه أيضًا دير سيدة الناطور الذي يقع في منطقة الحريشة بين جامعة البلمند شمالًا ودير سيدة النورية جنوبًا. يعود تاريخ بناء هذا الدير إلى القرن السادس، وقد تهدّم بفعل الزلازل ثم أعيد بناؤه في العام 1113. وخلال الحرب العالمية الأولى (1914)، تهدّم القسم الغربي من الدير عندما صبّت باخرة حربية تابعة للحلفاء حممها باتجاهه معتبرة أنه قلعة للأتراك.
إبّان الحرب اللبنانية، احترق قسم من الدير بصورة مفتعلة فهجره ساكنوه وعبث المسلّحون بمحتوياته. لكن الأخت كاترين عملت على إعادة بنائه في العام 1979، حاليًا، انتهت أعمال الترميم في الدير وتسكنه المتوحّدة كاترين فيما تتقاطر إليه وفود الزوّار يوميًا لتقف مدهوشة أمام البناء الرائع المزيّن بالأيقونات الفريدة.

 

بيت ومدرسة
في البلدة أيضًا، منزل قديم يعود إلى القرن الثامن عشر كان مقصدًا للرسميين والوجهاء، ويسمّى اليوم منزل الأرشمندريت جرجس الخوري. كذلك ثمّة مدرسة يعود بناؤها إلى العام 1907، وهي مدرسة المساواة الوطنية التي تعرف اليوم باسم مدرسة جبران مكاري.