خلف كل بطل... أبطال

أهالي الشهداء في وقفة عز وإيمان لم يزعزعها زلزال الألم

كلنا للجيش وللبنان

بين حدي الألم والفخر التقيناهم. كان قاسياً وصعباً الاقتراب من حزنهم وملامسة الألم الكبير في أعماقهم. لكن لم يكن صعباً الاكتشاف من أين يأتي هؤلاء الشجعان الذين قدّموا حياتهم وشبابهم وفرح عائلاتهم فداءً لوطنهم ومواطنيهم.
كان جلياً ومقروءاً من العنوان أن هذه الصخرة من هذا المقلع.
بين أهالي شهدائنا وعائلاتهم تجولت «الجيش» بتهيّب وخشوع. سمعت بعضاً من قصصهم، تعرفت الى أحلام كانت تراودهم، وانحنت أمام كبرهم وإباء نفوسهم وعظيم تضحياتهم، شهداء كانوا أم أهالي شهداء.
جولتنا امتدت زمنياً من بداية المعركة وصولاً الى النصر. وجغرافياً من الجنوب الى الشمال والبقاع والجبل وبيروت، حيث في كل ناحية بيت مكلّل بالإباء والفخر، بيت شهيد. في ما يأتي، أهالي الشهداء، في وقفة عزّ وإيمان لم يزعزعها زلزال الألم.
نبدأ من اللقاءات التي أجريناها بينما كانت المعركة ما تزال مشتعلة لنتعرف الى مشاعر أهالي الشهداء في مواكبتهم رفاقاً أقسموا على الوفاء لدماء من سبقوهم، وننتهي مع اللقاءات التي أعقبت النصر، فنعاين مشاعر الفخر في نفوس من فُجعوا بأعزّ الأحباء.


• كتبت ندين البلعة:

 

النقيب الشهيد روي أبو غزالة هيّأ نفسه منذ الصغر
في طريقنا الى جنوب لبنان لمقابلة أهالي بعض شهداء الجيش الذين سقطوا في معركة نهر البارد، أحسسنا بغصة: ما الذي يمكن قوله لأهالي شهداء، ماذا نسألهم؟ لكن الألم تكفل بالمهمة، والجرح النازف عبّر عن نفسه.
لم يبخل الجنوب بوهب شهداء أبطال فداءً للوطن ولجيشه. ففي كل زاوية من مناطقه عُلِّقت صورة شهيد.
تكتفي أم روي بالسؤال عن والدة النقيب الشهيد مارون الليطاني، صديق إبنها: «كيف هو وضعها النفسي وكيف تمرّ عليها الأيام؟». ثم تلتفت الى زوجها وكأنها تطلب منه أن يريحها من ثقل الكلام. فيشرع في الكلام عن إبنه، النقيب الشهيد روي أبو غزالة، الذي استشهد غدراً على حاجز المحمّرة في الشمال.
«كانت ليلته الثانية في هذا المركز ولكنه قبل ذلك، تنقّل في خدمته بين عدة مناطق شمالية».
هو هذا الشاب الديناميكي الذي لم يعرف الهدوء في حياته، كان والده يصفه «بالنحلة» ورؤساؤه «بالزرقطة». حلم منذ صغره أن ينضم الى صفوف الجيش، فكان يُهيىّء نفسه فيشتري الثياب العسكرية منذ كان في الصف الثالث الإبتدائي. الى أن حقق حلمه في الثامنة عشرة من عمره ودخل الى المدرسة الحربية، فكان هو «زنبرك» رفاقه، يشجعهم على النشاطات، كما يصفه والده.
شقيقه رود يسعى الى تحقيق أمنية أخيه بالانتساب الى المدرسة الحربية على الرغم من معارضة أهله. أما ريم، سنة ثالثة طب، فلا يغيب أخوه عن كل ما يقوم به فيشعر به موجوداً في كل مكان ويتذكر كيف كان يدعمه في اختصاصه ويناديه «دكتور».
يقول: «كنت أقلّ من يراه عندما يأتي من خدمته. فقد كنت أتابع دروسي في بيروت وهو يكره المدينة. ولكنني كنت آخر من رآه، فقد مرّ بي في الجامعة قبل استشهاده بثلاثة أيام».
شقيقته رشا تعتبر «أن روي لم يمت، ما زال موجوداً في كل زاوية يراقب أخوته ويحميهم».
حقق روي حلمه بأن يموت شهيداً، وبات الأول من آب عنواناً لكل يوم في حياة عائلته، منذ استشهاده.
أمنية أهله الوحيدة أن ينتصر الجيش، المؤسسة الوحيدة الثابتة في البلد، إذ «لا جيش يعني لا وطن!».


الحزن يدل الى الطريق نحو بيت المؤهل الشهيد مصطفى الضاحي
على مشارف أحد أحياء السكسكية يبدو الحزن واضحاً، يلف الحيّ ويمهّد الطريق وصولاً الى بيت المؤهل الشهيد مصطفى الضاحي من لواء الدعم. صُوَر موزّعة في كل زاوية من زوايا المبنى: هذا هو منزل الشهيد.
وتخرج زوجته من وراء السواد الذي يملأ المنزل وجنباته وأهله. تخبرنا عن قصة الحب التي عاشتها مع مصطفى: «ليست أي قصة حب، قصة ملأتها المشاكل والمجابهات لنصل الى العيش سوية، بهدوء وإلفة نُحسد عليهما. منذ صغري وأنا أتمنى أن أكون زوجة عسكري، وقد وفّقني الله بمصطفى». جاءها خبر استشهاد زوجها بعد خمسة أيام على بداية المعركة، يوم أتمت شهرها السابع من الحمل.
«كلمني لآخر مرة يوم الأحد 20 أيار قائلاً أن علوش (دلالة على إسم إبنه علي) أصبح اليوم عمره سبعة أشهر... قبل استشهاده بثماني دقائٍق أرسل لي رسالة.
جنّب زوجته القلق فأقنعها أن موقعه في الوروار وليس في نهر البارد، ووعدها بالقدوم الى المنزل يوم الإثنين أو الثلاثاء. «أحضروه الثلاثاء ولكنه جاء محملاً في نعش، ملفوفاً بالعلم».
أحب جيشه وقد كان على قناعة تامة بضرورة التضحية عندما ينادي الواجب. كان أخوه في المخيم ولكنه لم يذكر هذه المعلومة، بل سجّل اسمه للمشاركة في المعركة باندفاع.
وعلى الرغم من الفاجعة التي أصابتها، لا تحقد زوجة مصطفى على أيّ كان، بل تؤمن بأن الشهيد عند الله حيّ، خسر دنيته ولكنه ضمن جنته.
وتختم: «بالنهاية استشهد فداءً لوطنه وترك ذكرى جميلة. وعندما يكبر إبنه سوف يفتخر بأبيه الشهيد، ولن أعيقه إذا ما أراد أن يتابع مسيرة والده».

 

قطعة من قلبها انسلخت
غابت دمعة أم مصطفى عن المقابلة بسبب مرضها على فراق إبنها، تراجعت صحتها وأصابها ألم حاد في قلبها بعد أن انسخلت قطعة منه، باستشهاد ولدها. وتبقى الحرقة واحدة ويخيّم ألم الفراق على منزل الشهيد، فتدعو زوجته بالتوفيق للجيش اللبناني، لكي لا يذهب دم زوجها وباقي الشهداء سدى.

 

الرقيب الشهيد علي موسى لم يسكن منزله الذي بناه
في القصيبة، يقع منزل الرقيب الشهيد علي موسى، من الفوج المجوقل. أصدقاء الشهيد وجيرانه هم الدليل الى طريق منزله. وهناك تناديك صورة كبيرة للشهيد، عَلَت على مدخل منزل أهله حيث استقبلنا زوجته ووالده وأشقاؤه. شاء الله أن يجنّب الأم حرقة فراقها ابنها وفلذة كبدها، فأخذها قبل وَلَدها.  
بقي الرقيب الشهيد علي موسى خمسة عشر يوماً في نهر البارد، يساند رفاقه منذ بداية حرب ظلمتهم فأبعدتهم عن عائلاتهم، وأبعدت علي عن زوجة أحبها 12 عاماً قبل أن يستطيع الزواج منها منذ سنة ونيف تقريباً. لم يترك من أثره طفلاً، فقط حناناً طُبِع في ذاكرة زوجته ليأتي عيد ميلاده الـ26 وعيد زواجهما في 3 آب حاملاً معه فراغاً هائلاً ووحدة قاتلة، صابغاً ذكرى عيد الجيش بحلة حزن وحرقة قلب.
«لا ينفع الكلام، ذهب ولن يعود. لن نستطيع أن نسكن معاً المنزل الذي بنيناه والذي لطالما حلمنا بالإستقرار فيه». كان موعوداً بالمجيء الى منزله فطلب من زوجته أن تعدّ العدّة لمجيئه، في آخر اتصال أجراه معها ليلة استشهاده الساعة الثانية عشرة ليلاً.
«كلمني لآخر مرة طالباً مني ألا أحزن إن أصابه مكروه وأخبرني عن الوصية التي تركها لي. أقنعني أنه بطل وطلب مني السماح وعبّر لي عن الحب الكبير الذي لطالما أحاطني به».

 

دمعة الوالد
ويتحدث والد علي موسى عن النكبة التي أصابت العائلة متمنياً على الجيش أن يقضي على الإرهاب.
لم يستطع أن يخبئ دمعته الحارقة على إبنٍ كان يهاتفه يومياً ليطمئن عليه، وقد عرف بالإصابة في كتفه قبل أربعة أيام من استشهاده. رفض علي أن يترك رفاقه في أرض المعركة، غير عالم أن يد الغدر ستطاله وستسبب فجوة كبيرة وسط عائلته وأخوته الذين بكوا غيابه.
أخ صغير تنهّد، تذكّر أخاه وراح يبكي، الكبير حبس أنفاسه، والشقيقة اختبأت كي لا تُظهر تأثرها... رافضين جميعاً أن يصدقوا أنه لم يبق من أثر علي إلا صُوَر معلقة على الحائط، ولقب شهيد بطل سيبقى في القلوب.


انكسر حلمها مع خطيبها المعاون الشهيد علي محمودي
في جباع، بلدة المعاون الشهيد علي محمودي، من فوج المدرعات الثاني، فتاة تساند أهل حبيبها الذي استشهد قبل أن يتم السابعة والعشرين من عمره.
هي زينب مرعي، إبنة الحادية والعشرين، الفتاة التي بنت مع خطيبها بيتاً كان أساسه الحب والصدق. خطفه منها الموت قبل موعد العرس الذي كان محدداً في 23 آب أي يوم عيد ميلاده، تاركاً لها صورة الشاب الجميل، البطل المرح والمحب للحياة.
«كلمني يوم الجمعة الساعة التاسعة والنصف مساءً، ولم يكن على طبيعته وقد كانت آخر مرة أسمع فيها صوته قبل أن يستشهد يوم السبت الساعة العاشرة والنصف. كنا نحلم كثيراً: حلمنا ببيت وبنيناه، حلمنا بأثاث هذا البيت واشتريناه. وحلمنا أن نسكن في هذا المنزل فانكسر الحلم... ولكن فداءً للوطن!».
أعلمَ خطيبته بوجوده في نهر البارد وأخفى الخبر عن أهله وعائلته، حتى جاءهم خبر استشهاده بعد خمسة أيام على وجوده في المخيم. والدته فخورة به لأنه مات شهيداً ولكنها حاقدة على مَن كسر حلمه وحرق قلبها.
الوالد تخنقه غصّة الرجل الذي عايش حرباً حاول حماية عائلته منها، فجاءت أخرى أفظع لتخطف ولداً من أولاده، ذاك الذي كرّس حياته لجيشه، لوطنه ولعائلته.
«الصالح والبطل يموتان ويبقى المجرم والإرهابي. نحن في بلد يرفع فيه الجيش من دون غيره، الرأس، ونحن فخورون به وبقيادته وبأفراده. لقد ظُلم الجيش وغُدر في معركة مع إرهابيين لا صلة لهم بالإسلام ولا بأي دين سماوي».
والد علي يبدي استعداد العائلة لمشاركة الجيش في حماية الوطن واستقراره، وتؤيد كلامه الوالدة متمنية أن يلتحق إبناها الآخَرَين بالجيش لرد الاعتبار لشقيقهما وحماية بلدهما.     
وائل الأخ الأصغر، يحدثنا عن أخيه الذي كان يدلّله، ولكن دمعة تقاطعه لتشق طريقها نابعة من قلب طفل مشتاق الى مَن كان شغله وشاغله.
والأخ الثاني حسين، الذي جاء من سفره بعد غياب ثلاث سنوات، ليحضر عرس أخيه، تفاجأ باستشهاده فحضر دفنه.
«أخي هو شهيد الوطن في ساحة الحرب. وأنا أضع نفسي بخدمة الجيش بعد عودتي النهائية الى لبنان، ولو بقي لي يوم من حياتي سوف أستعيد حق أخي الشهيد البطل الذي أعتزّ به».
وبالنهاية تعتبر عائلة علي أنه سيأتي اليوم الذي سيأخذ فيه كل ذي حق حقه، موجهة تحية الى قيادة الجيش التي حضنت ابنها وعلّمته معنى البطولة.

 

 • كتبت جان دارك أبي ياغي:

«البابا» مازن في السماء لكن متى يعود؟
استشهد الرقيب مازن الأعور بتاريخ 20 /5 /2007 أي في أول يوم من الاشتباكات مع مسلحي «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد. في بلدته قرنايل (قرب حمانا) أول انطباع رصدناه كان الحزن الذي يلفّ البلدة ومحيط المنزل، وشرائط بيضاء ازدانت بها الشوارع، هنا أقيم عرس للشهيد.
دخلنا منزل الشهيد، زوجته سوسن تحمل بين ذراعيها طفلتهما لِيا (8 أشهر) والى جانبها ابنهما مجد (3 سنوات و8 أشهر). وقبل أن نتلفّظ بأي كلمة كانت دموعها قد فاضت سيلاً على وجنتيها.
يخبرنا مجد أنه اتصل بوالده قبل أن يستشهد وسأله: «كيفك يا بابا» متى تعود؟، ولكنّ «البابا» استشهد ولم يعد الى البيت، «راح عالسما» يقول مجد الذي لا ينفك يسأل الماما «وين البابا».
ونعود الى زوجة الشهيد: «كان مازن يحب الجيش، يفتخر بانتمائه اليه، تميّز باندفاعه وانضباطه وروحه المرحة جداً. أحبّ الحياة إلا أن عمره كان قصيراً جداً. أحبّ عائلته وتحمّل المسؤولية تجاهها. لا يمكن أن أتصوّر جمال الحياة بعد مازن».

 

«العسكري دمو على كفو»
قبل يومين من استشهاده كان الرقيب مازن الأعور مع عائلته، عندما استدعي للالتحاق بمركز عمله بشكل طارئ، فخرج ولم يعد. وعن هذا اليوم تخبر زوجته: «رجوته، ولأول مرة، ألا يخرج ولكنه أصرّ... قبل أن يغادر البيت قال لها: «انتبهي على «مجد» لأنني رأيت حلماً مزعجاً. بهذه الكلمات ودّع عائلته ومشى على درب الشهادة إذ ناداه الواجب.
بقيت سوسن في ذلك اليوم مسمّرة أمام شاشة التلفزيون تتابع أخبار الاشتباكات بين الجيش وإرهابيي «فتح الإسلام» في الشمال، علمت أن زوجها في عداد المقاتلين، ظلت تتصل به طوال النهار، ولكن من دون جدوى. الى أن بلغها الخبر المفجع.
تقول: «كان ينوي أن يشتري بيتاً بعد أن يقبض تعويضه من الجيش، وكان همّه أن يكمل مجد تعليمه ويدخل الى المدرسة الحربية ليصبح ضابطاً.. أحلامنا انهارت في يوم واحد...» وتساءلت: «لماذا؟ هذا حرام، الجيش لا يُضرب إلا بقمر ورد».
ترضخ سوسن لقدرها «العسكري دمو على كفو»، تقول. لكنها تعلن أنها ستعمل على تحقيق ما كان مازن يحلم به، «ولن أتأخر، لأن دمه وتعبه لأولاده من بعده». وفي كلمة وجهتها الى المؤسسة العسكرية قالت: «لم تقصّر معنا أبداً، الله يحميها ويقوّيها، فكل شاب يستشهد تخسره هي قبل عائلته... والله يقدرنا على ردّ الجميل».
وفي نهاية اللقاء، دعت للجيش بالانتصار والقضاء على الإرهاب كي لا يذهب دم مازن ورفاقه هدراً، إنما دفاعاً عن لبنان، وعندها تكون العدالة قد تحققت على الأرض.
غادرنا المنزل والدموع ما تزال تترقرق في عينيها المشتاقتين الى رفيق العمر، وتوجهنا الى منزل الوالدين الكائن في الطابق العلوي من المبنى.

 

في منزل والدي الرقيب الشهيد مازن الأعور
الأجواء في منزل الأهل ليست أفضل حالاً، فأم مازن السيدة سميرة الأعور مفجوعة بوفاة إبنها الشاب الذي يبلغ من العمر 36 عاماً، «مازن المحب والكريم والإنساني، مازن الذي خدم الجيش 18 سنة بإخلاص ومناقبية وانضباط بشهادة ضباطه».
أما والد مازن البالغ من العمر 75 عاماً، فما زال تحت تأثير الصدمة التي انعكست سلباً على صحته. بالنسبة اليهما، مازن هو صغير البيت وجسره في غياب إخوته المهاجرين.
كان استقبال الوالدة لنا حاراً كحرارة اشتياقها لولدها الشهيد الذي لا يفارق خيالها والزائر الدائم في منامها، وبادرت اللقاء بتحية لقائد الجيش العماد سليمان وقالت له: «إفتكْ بأعداء لبنان كما فتكوا بعسكرك، إضربْ بيد من حديد الذين تآمروا على جيشك وجعلوا أطفاله يتامى». والى ابنها توجهت بالقول: «شكراً لك يا ابني لأنك مت شهيداً دفاعاً عن وطنك وعن الشعار الذي حملته طوال فترة خدمتك «شرف، تضحية، وفاء».
وتتذكر الأم: «قبل أن يغادر البيت، مرّ بنا كعادته ليسأل عن احتياجاتنا وقال «ادعولي»، من دون أن نعرف ماذا يجري، وانصرف. لا يمكن أن أنسى طلّته بهامته الطويلة حاملاً أولاده على ذراعيه. لقد أحبّ مازن مؤسسة الجيش كثيراً ودخلها فور انتهائه من الدراسة، وأخلص للقسم الذي أدّاه، والأوسمة العديدة التي حاز عليها خير دليل على مسلكيته الحسنة... من الصعب جداً على قلب الأم أن يموت ولدها قبلها، ولكن تعزيتي الوحيدة أن ابني استشهد في قلب المعركة في اشتباكات وجاهية مع الإرهابيين. لقد أصيب إصابة مباشرة في قلبه.
ووصل والد مازن، السيد فوزات نايف الأعور الذي كان يعمل في البستان المجاور للمنزل في محاولة لنسيان همّه. في يده سلة توت أسود أصرّ على الشيخة تقديم التوت لنا، تقول: «مازن كان يحبه كثيراً، كلوا وترحموا».
ننظر الى الأب فيجيب عن سؤال قرأه في عيوننا: «ماذا يُفيد الحكي؟ مازن كان أكثر من إبن، هو أخ وصديق حنون. كان يطلّ عليّ ويرفض أن أعمل لأني رجل مسنّ. لقد بيّض وجهنا بشجاعته وبطولته. رفاقه أخبرونا كيف كان يقاتل ببسالة.
غادرنا منزل آل الأعور الذي يعيش على ذكريات الإبن والزوج والأب، ولن تقدر الأيام على محوها، وسيبقى موعد الوالد مع ولده عصر كل يوم على فنجان قهوة.

 

بابا شوقي باسني وفلّ
ازدان حي التعمير في منطقة الباروك بصوَر شهيد الوطن البطل الرقيب المغوار شوقي فرحان محمود الذي تحدّى الإعصار وحارب بعيونه الأشرار في معركة مصيرية حفاظاً على وطنه، أصيب بتاريخ 21/5/2007 واستشهد بتاريخ 24/5/2007 متأثراً بجراحه، طاوياً من العمر 41 عاماً، وتاركاً وراءه والدين مفجوعين وشقيقات متألمات وزوجة شابة تحمل في عنقها طفلتين: شيرين (3 سنوات) وشيراز التي ولدت ليلة استشهاد والدها.
عندما وصلنا الى منزل أهل الشهيد، كانت ابنته شيرين واقفة في الخارج وهي في ثياب عسكرية. ذكاء حاد وخفة دم أنستنا للحظة وطأة الحزن المقيم على عتبة المنزل. تخبرنا شيرين: «بابا راح بالطيارة وقبل ما يروح باسني وفلّ». وإذ تنظر الى العسكري الذي يرافقنا، تقول له: «إنت لابس متلي جيش. أنا بحب الجيش، لأنو بابا بالجيش». تركنا الطفلة تلهو في الخارج، ودخلنا البيت الذي اتشح أهله بالسواد وأخذ الحزن ركناً في كل زاوية من زواياه.

 

«أنا رايح ومش راجع»
تقول الوالدة «كان شوقي يمرّ بنا، كعادته، قبل أن يصعد الى بيته المجاور لبيتنا، فهو لم ينسَ البيت الذي ربّاه، في تلك الليلة التي استدعي فيها، وبعد أن شربنا «المتي» سوياً قال لي بالحرف الواحد: «يا ماما، أنا رايح ومش راجع. انتبهي على زوجتي وبنتي والمولود الجديد. وما تخبري زوجتي». فقلت له لماذا يا ابني؟ خلال حرب تموز استدعيت ورجعت بالسلامة «شو عدا ما بدا».
صَدَقَ حدس شوقي، ذهب الى المعركة بكل حماسة واندفاع (هكذا هو المغوار) ولم يعد إلا شهيداً.
وتتابع الأم حديثها بحسرة وفخر:
«كان شوقي يتمتع بطبع هادئ، وكان محباً للجميع. «فاللقمة التي بتمو مش إلو». أمضى في فوج المغاوير 17 سنة خدمة فعلية، وكان يرفض أن يتشكّل الى فوج آخر».
وعن اليوم الذي تلقّت فيه الخبر المؤلم تقول: «في بادئ الأمر، لم يخبروني لأنني كنت أخضع لفحوصات طبية في المستشفى العسكري. وفي الوقت نفسه أُدخلت زوجته الى المستشفى في حالة ولادة. في اليوم الثاني علمنا بإصابته كانت بليغة. كان الخبر صدمة كبيرة، وخسارته لا تعوّض. تعزيتنا الوحيدة أنه دافع عن كرامة الجيش، وصدّ الإرهاب الذي كان يهدد الوطن، فكرامة الجيش والوطن فوق كل اعتبار. ولو اقتضى الأمر أن أقدّم كل أولادي فلن أتأخر أبداً».
وفي الختام وجّهت أم شوقي الى شهيد الجيش والوطن والعائلة هذه الكلمات:
«يا شوقي مرسوم عاجبينك البدر
وعا زندك معلّق مغوار
مكتوب عليك بليالي القدر
تحمل دمّك عاكفّك
وعلم لبنان يلفّك».

 

الشهادة لا توصف بكلام
والد الشهيد السيد فرحان محمود حرقته لا تقل عن حرقة الأم ولو أنه تمالك أعصابه أمامنا. ومهما قيل ويقال وسيقال، فالشهادة لا توصف بكلام وكذلك المزايا التي تحلّى بها شوقي: «لم تكن علاقتي به علاقة أب بابنه وحسب، كنت أرى فيه أحلام الشباب تتحقق، فأنا من شجّعه على التطوّع في الجيش كي تتحقق أمنية راودتني طويلاً ولم أنجح في تحقيقها، حققتها من خلال ابني الذي صار مغواراً... فشهيداً، خضع لسبع دورات تدريبية - تعليمية في لبنان والخارج خلال خدمته العسكرية، ونال عدة أوسمة وتهاني رؤسائه».  
أما شقيقتاه عفاف وسعاد فذكرياتهما مع الأخ المحبّ والحنون لا تُنتسى. تقول عفاف: «عندما تزوجت ظلّ يعاملني كما ولو كنت عزباء، وعندما تزوّج هو، لم يغير معاملته لنا»، وتقول سعاد: «أنا أخته الكبيرة، رَبِيَ شوقي على يدي، لا يكسر بخاطر أحد، خدوم، أولادي دائماً في سيرته، عندما لا يزورني نفتقده... صدقيني، نتناول الأدوية المهدئة لنتحمّل غيابه (ويجهش الجميع بالبكاء)... عزاؤنا الوحيد في أولاده الصغار».

 

زوجة الرقيب الشهيد شوقي محمود: إبنتاه بأمسّ الحاجة اليه
ثم إنتقلنا الى منزله المجاور لمنزل أهله حيث كانت تنتظرنا زوجته الشابة منى البالغة من العمر 28 عاماً. كانت ترتدي في عنقها محبسه الذي لم ينزعه يوماً من إصبعه لكثرة ما أحبها وأحبّ عائلته، الى جانب حبه لوطنه وللجيش.
وفي جلسة حميمة قلّبت فيه ألبوم صور العرس، غصّت وترقرقت الدموع في عينيها وأخبرتني: «اليوم ذكرى زواجنا»، وتابعت: «يوم استشهاده لم أعلم بالخبر لأني كنت في حالة ولادة وقد أجريت لي عملية قيصرية ولم أكن في وعيٍ كامل. وعندما استيقظت من البنج، استغربت عدم اتصاله عكس ما كان يفعل كل يوم ليطمئن، وليخبرني عن البطولات التي يقوم بها مع رفاقه في فوج المغاوير. كان إلهاماً من الله أن أراه، لآخر مرة، قبل 5 أيام من استشهاده.... الصدمة قوية جداً ولا يمكنني أن أتحملها خصوصاً بوجود طفلتين هما بأمسّ الحاجة الى حنان الأب وقد حُرمتا من لفظة «بابا».... هذا هو قدرنا».
تجهش بالبكاء وتستطرد: «في الفترة الأخيرة، كان متعلقاً جداً بشيرين التي تسألني عنه كل يوم وأخبرها بأنه سافر بالطائرة. عندما تكبران سأخبرهما أن والدهما مات شهيداً بطلاً وهو يدافع عن لبنان وكرامة الجيش. كان لقبه في المغاوير «فوري» وهو كذلك».
تتنهد مجدداً وتتابع: «خلال حرب تموز الماضي كنت أبكي دائماً لأنه لم يكن يأتي إلا قليلاً، وكان يقول لي: «لا تخافي، فالعسكري لا يموت قبل أوانه»، ويبدو أن الأوان قد حان».
وتختتم بالقول: «لقد حمّلني مسؤولية صعبة وكبيرة، والله يقدرّني على تحمّلها».


• كتبت باسكال معوض بو مارون:

 

إبني علي بطل مغوار
منزل المعاون الاول المغوار البحري الشهيد علي عكّوش يلفّّه الحزن، فيما تجلس والدته وبقربها صورة كبيرة لولدها تبكي لكنها لا تلبث أن تنتفض ويعلو صوتها: «راح علي فدى لبنان، ابني بطل، سلّمتـه لله وهو أخـذه بطريقة مشرّفة، وأنا فخورة بهذه الشهادة. نَصَرَ الله الجيش على أعدائه الكفرة الذين استباحوا أمن الوطن».
وتضيف الأم قائلة: الجيش يدافع وعناصره يموتون برصاص الغدر، وعلي كما رفاقه راح ضحية قاتل إرهابي استباح أرضنا... كان نِعمَ الإبن المرضي، وعدني بإرسالي الى الحج في وقت قريب، كنت أرافقه في كل مرة يلتحق بقطعته حتى طريق المطار، أودعه وأترضى عليه، وهو يقول لي «ادعيلنا يا أمي».
وتتحسر الوالدة: «راح علي»، لكن عزائي أنه دافع بشرف عن أهله وشعبه ولولاه ولولا هذا الجيش لاقتحم هؤلاء الكفّار بيوتنا وقتلونا.
عمره 28 عاماً وهو عريس جديد لم يهنأ بفرحه، «الله لا يسامحن على إجرامن». إن حرقة القلب سوف تبقى دائماً موجودة، لكن الغالي والنفيس نقدمه دفاعاً عن أرض وطننا، إذا ما ضحّينا نحن من سيضحي؟ من سيدافع عنا إذا استبيحت بيوتنا وأرزاقنا وعيالنا؟ راح علي فدى عنا وعن لبنان!».

 

مغوار البحر المؤمن المندفع
والد الشهيد يخفف عن زوجته وبكبرياء يقول:
«علي شاب مؤمن وملتزم، يحب الجميع ويعمل ما يرضي الله دائماً. لقد ربيت أبنائي وكبّرتهم على حب الوطن، حرصت على توعيتهم ووضعهم على الطريق الصحيح، بعد المدرسة انخرطوا بالجيش، وكان علي مندفعاً فاختار فوج مغاوير البحر ليحقق ذاته».
ويتابع الوالد: «أنا والد فخور جداً، لقد استشهد ابني لأجل قضية مشرّفة لأنه قاتل أعداء الوطن والله. واجبنا كلبنانيين أن نضحي لنزيل الخطر الذي يهدد الوطن وأهله».
ويستطرد قائلاً: «الصدمة كانت في الصميم لكنني فخور أن قرار ولدي هو الاستشهاد في سبيل الوطن، ليتني أستطيع أن أموت بدوري فداءً عن وطني فأقاتل حتى الشهادة، وأرافق علي الى دنيا الحق».   

 

موعد للّقاء
المعاون ابراهيم عكّوش شقيق الشهيد، رتيب في فوج المغاوير، كان يقاتل في المخيم أيضاً، تحدث بغصّة قائلاً:
لقد أصيب أخي ورفاقه بقذيفة «آر بي جي» أطلقها إرهابي تسلل الى أرضنا ليقوّض دعائم الوطن. لقد حمل علي نعش صديقه الشهيد قبل وقت قصير، ثم حمله رفاقه ومنهم من استشهد بعده.
ويتابع شقيق الشهيد قائلاً: كنت في دورة تدريبية في الأردن عدت بعدها والتحقت بسريتي في نهر البارد، ولم أرَ أخي الذي كان في الناحية الأخرى من الجبهة، وفي اليوم الذي استطعت تدبير لقاء معه، جاءني الخبر المفجع بسقوطه شهيداً بطلاً في أثناء عملية إقتحام ضد العصابة الإرهابية.
«عزّت عليّ الدني» لأنني لم أره قبل استشهاده، لكنني فخور به أيما افتخار، فهو تمنى طوال هذه الفترة أن يمنحه الله شرف الشهادة، ولم يبخل الله عزّ وجلّ عليه بهذه النعمة».
وختم المعاون إبراهيم عكوش كلامه: «الله يقوي الجيش وينصرنا على أعدائنا لأنه سيبقى شوكة في عين كل من يحاول زعزعة الإستقرار، فهو أقوى من الجميع ولن تذهب تضحيات شهدائه الذين سقطوا في ساحة الشرف سدى».
وإذ وجه تحية الى قائد الجيش البطل المؤمن بقدرات عناصره قال:
سوف ينتصر الجيش بإذن الله «وبقدرة الشباب» وثقة القائد بهم، وكلنا للجيش ومعه لأنه حامي الأرض.


• كتبت تريز منصور:

 

أم إيلي: الله أولاً ومن بعده الجيش
«راح البطل، دمّر كل شيء»، بحرقة قلب ودمعة ترقرقت على الخد، عبّرت أم الشهيد المعاون إيلي معلوف السيدة عايدة معلوف عن وجع الفراق والخسارة الكبيرة للعائلة، وللمؤسسة العسكرية التي خسرت بدورها البطل الذي تابع نحو ثماني دورات في لبنان والخارج (كان آخرها دورة خبير متفجرات في فرنسا).
في صباح ذلك الأحد المشؤوم في 20/5/2007 خسر الجيش خيرة من عناصره في كمين غادر، فقد توجّهت آلية عسكرية من مركز اللواء السابع في بلدة بطرام الكورة للتحقق من سبب اندلاع الرصاص الكثيف في بلدة القلمون، في الطريق تعرّضت الدورية الى كمين مسلح من قبل إرهابيي «فتح الإسلام»، إستشهد خلاله سبعة عسكريين وكان المعاون الشهيد إيلي موريس معلوف من بينهم.
تقول والدته: «رصاصتا غدر أطلقها الإرهابيون في الرأس والظهر أنهتا حياة فلذة كبدي وسندي في الحياة إيلي. إنتظرته ذلك اليوم على الغداء موعد مأذونيته, فجاءني رفاقه ليخبروني خبر الفاجعة. شعرت أن العالم قد انتهى من حولي وما من شيء يعني لي. كان الله الأول في حياتي وبعده يأتي أبنائي. اليوم وأقولها بكل ثقة، الله أولاً ومن بعده الجيش اللبناني. لدي ثلاثة أولاد إنتسب منهم اثنان الى هذه المؤسسة التي نجلّ ونحترم، وهما الجندي الأول كميل في الشرطة العسكرية والشهيد إيلي. ومنذ استشهاد شقيقه لم ينفك كميل يقول إنه مستعد للإستشهاد أيضاً فداءً للبنان».
وتختتم بالقول: «إنني جد فخورة بهذا الجيش العظيم وأدعو له أن بالنصر في هذه المعركة الحساسة والمصيرية في تاريخه وتاريخ الوطن. وللعسكريين الأبطال أقول، أمدكم الله بالقوة والعمر المديد».

 

• كتبت ريما سليم ضومط:

 

دماؤهم فدت لبنان
من الشمال الذي طالما رفد الجيش بخيرة من رجاله كانت شهادات لعدد من عائلات الشهداء أجمعوا فيها على أن دماء أبنائهم قدمت فداءً عن جميع اللبنانيين، لأن المؤامرة التي حاكتها الأيدي الإرهابية كانت لتستهدف لبنان بأسره وبجميع أبنائه من دون التمييز بين فريق وآخر.

 

رامي ابن الجيش
في القلمون كان لقاؤنا مع عائلة العريف المغوار الشهيد رامي حمزة، إبن الواحد والعشرين ربيعاً الذي عرف المسؤولية في سن مبكرة ثم رحل على عجل مخلفاً ذكرى الإبن الحنون والأخ العطوف والصديق الوفي والعسكري المندفع المخلص لقسمه.
حين وصلنا كان في استقبالنا أخ الشهيد وعدد من الأقارب والجيران. وما إن جلسنا على «السطيحة» حتى جاء والده مهرولاً لاستقبالنا، وقد بادرنا لاهثاً: «كنت في ساحة البلدة وسمعت إنكم وصلتم فجئت راكضاً للقاء الأحبة». وتابع: «رامي مش إبني لوحدي، هو إبن الجيش منذ التحاقه بالمؤسسة العسكرية التي كان يفتخر دائماً بالإنتماء اليها، ولطالما توجّه الى مركزه العسكري بفرح واندفاع ليعود الينا بالإحساس نفسه، على الرغم من أن والدته رحمها الله أبدت قلقاً كبيراً حين انضم الى فوج المغاوير».
وأضاف «عندما التحق بجبهة نهر البارد إتصل بنا مراراً ليطمئننا، وكان دائماً يقول «ما في شي، الأحوال رايقة، ما تخافوا» وكنا بدورنا نتضرّع الى الله لكي يعيده سالماً مع رفاقه بعد القضاء على الخلية الإرهابية. وفي أول عودة له من المخيم، إستقبله أولاد العائلة والجيران «بهيصة كبيرة» وكانوا يقبّلونه باستمرار ويلعبون معه بفرح «كان قلبن حاسسن»، كان هو كعادته فرحاً ومندفعاً لا يعرف القلق أو الخوف... كنا موعودين بأن نخطب له عروساً عند عودته من المعركة، لكن الله اختاره عريساً للوطن، ونحن نحمده على إرادته، فإبننا قد استشهد ليمنع الإرهاب من التغلغل في أرضنا وسلبنا وطننا... يوم المأتم كان عرساً حقيقياً شارك فيه جميع أهالي القلمون حتى أن البعض منهم أحضر معه أولاده ومن بينهم أطفال رضع كانوا يجرّونهم في العربات. في ذلك اليوم عبّر جميع الأهالي عن محبتهم للجيش ودعمهم له، كما عبّروا عن محبتهم لرامي، العسكري الشجاع، والصديق الوفي، والجار والقريب العطوف الذي يفتخر به أهله وجيرانه».
وبصوت متهدّج أضاف: «الجميع يحترم رامي ويقدّره، فقد كان منذ صغره يتمتع بحسّ المسؤولية، وكنت حين أعطيه «مصروفه» ليشتري كباقي الأولاد، يعود الى المنزل حاملاً كيس خضار أو فاكهة!».   

 

الجيش والرفاق
ويتابع الوالد الحزين وقد أضاء الشعور بالفخر ملامحه: «كان لرامي رفاق كثر، وأنا أشكرهم جميعاً على محبتهم وتضحيتهم في سبيله، لا سيما رفاقه في الجيش الذين حاولوا سحبه عندما أصيب في المعركة، فأصيبوا هم أيضاً، وأولئك الذين وقفوا الى جانبنا في مصابنا فكانوا بمنزلة أخوة حقيقيين للشهيد. وأود أن أشكر الجيش قيادة وضباطاً وعسكريين بجميع رتبهم وأطلب منهم الإستمرار في المواجهة وعدم التراجع حتى القضاء على شبكة الإرهاب التي تحاول تدمير وطننا».
وختم الأب بشيء من الحماس الممزوج بالغضب «سمعت أن المبنى الذي استشهد فيه إبني صار رماداً وقد ارتحت كثيراً لهذا الخبر، وكم تمنيت لو يسمح لي الجيش بالمشاركة معه في معركة الوطن ضد الإرهاب كي أكمل رسالة رامي في فداء شعب الوطن وأرضه».

 

ثلاثة براعم من دون جرجس
في منزل يلفّه السواد والحزن، إلتقينا عائلة الرقيب الشهيد جرجس البيسري: الأهل والزوجة وبناته الثلاث في عمر البراعم، إضافة الى الأخوة والأقارب.
بعد التعزية والسؤال عن الأحوال، حاولت أرملة الشهيد أن تستجمع قواها المنهكة لتجيب بصوت متهدّج «مش مصدقة اللي صار... هل يعقل أن يأتي الغريب الى عقر دارنا ليحاول سلبنا أرضنا، فيقتل خيرة شبابنا ويحرم الأطفال من عطف الأب ومن الإستقرار والشعور بالأمان.
أي حق لهم عندنا يقاتلون في سبيله، وبإسم أية قضية يريدون سلبنا وطننا؟ هذا ظلم لا مثيل له، وعزاؤنا الوحيد أن شبابنا يستشهدون حفاظاً على كرامتنا وشرفنا».
نسأل عن الأطفال فتجيب بما يشبه الهمس «لم نخبرهن بأنه مات... الصغيرتان لم تفهما شيئاً مما حصل، أما الكبيرة (4 سنوات ونصف) فقد حملت صورة والدها لتتباهى بها أمام أولاد الجيران، وإذ بها تعود باكية لتسألني ما إذا كان والدها قد مات! وهي ما زالت حتى اليوم تستيقظـ في الليل باكية لتسألني «صحيح مثل ما قالوا الولاد إنو بابا مات»!
تحاول الأرملة المفجوعة أن تتماسك لتواصل الكلام: «كان حلمه أن يبني عائلة وأن يضمها تحت جناحيه، وكانت وصيته الدائمة: إنتبهي للأولاد... فيا للأسف، حتى أحلامنا الصغيرة سلبنا إياها الإرهابيون من دون أي مبرّر أو دافع محق!».
وتغص الزوجة الحزينة ويغص معها القلم وتضيع الأسئلة، ويبدو للحظات كل ما حولنا ضبابياً قاتماً... ماذا يمكن أن يقال في أوقات كهذه؟ أي كلمات تعزية كانت تبدو تافهة عند النظر في عيني إبنة الشهيد الخائفتين! وماذا نقول لطفلة السنوات الأربع التي لن تركض بفرح بعد الآن لاستقبال «بابا» العائد من الخدمة ليأخذها «مشوار»؟
بماذا نعزّي «جوان» إبنة الأشهر السبعة التي كانت تنتظر مع «ماما» عودة الأب البطل لتفاجئه بأنها تعلمت أن تنطق بكلمة «بابا» لكثرة ما سمعت الأختين الأكبر سناً ترددانها؟!...
ما عجزنا عن قوله، قالته والدة الشهيد الغارقة في دموع صامتة: «ما يعزينا أن جرجس استشهد بالنيابة عن أبناء الوطن. الأغراب الذين اعتدوا على الجيش ليس لهم أي حقوق عندنا، فليحاسبهم الله على أعمالهم، وليوفّق الشباب على الجبهة كي يعودوا الى عائلاتهم سالمين».
وختمت الأم حديثها بصوت مخنوق: «كان عطوفاً ومحباً. بكاه رفاقه وكأنه أخ، أما عائلته فلن تقدر على نسيانه، هو صغير العائلة الذي اعتاد أن يجمعنا كلنا مع أخته وأولادها كأب عطوف، كيف يمكن أن ننساه؟ كيف يمكن لقاتله أن ينام قرير العين وقد حرم ثلاثة أطفال من كلمة «بابا»؟

 

يحيى دافع عن كرامته وأرضه
«إبني دافع عن كرامته وأرضه وعرضه، ومات فداءً للبنان كله».
بهذه الكلمات اختصرت والدة العريف الشهيد يحيى المسلماني حزنها على إبنها الذي قضى في اليوم الأول من الإعتداءات الإرهابية على الجيش في مخيم نهر البارد.
وبحسرة الأم المفجوعة قالت: «أفقت صباح ذلك اليوم من نومي يراودني إحساس غريب بأن مكروهاً سيصيب يحيى. كان دوي القصف والرصاص يأتينا من الخارج فظننت للوهلة الأولى أن إسرائيل تهاجمنا. خفت كثيراً وهرعت مسرعة الى مركز ولدي الأكبر سناً وهو عسكري أيضاً، وطلبت منه الإستعلام عن أخيه، وجاءنا الخبر الصاعقة: فيما كان يحيى خارجاً من مركزه لاستطلاع ما يجري، غدره الإرهابيون برصاصهم وقضوا عليه».

 

أي صنف من البشر هم؟
وتابعت الأم الحزينة منتحبة: «هاجموا الجيش كالوحوش وقتلوا العسكريين غدراً، فأي صنف من البشر هم؟ إنهم أنصار الشيطان ويستحقون النار! حرموني ولدي في مقتبل عمره (23 عاماً) وحرموا الكثير من الأمهات أبناءهن والأطفال آباءهم بسبب طمعهم ووحشيتهم، فأي شريعة ترضى بأعمالهم الوحشية هذه؟».
وراحت أم الشهيد تتلو صلوات خافتة وتطلب رحمة الله، مما هدّأ من روعها قليلاً، وأكملت حديثها بلوعة وأسى: ليتني أستطيع أن أجمع كل الذين عرفوا يحيى أو تعاملوا معه لكي يخبروا كم كان شاباً مهذباً ومتسامحاً ومحبوباً... إسألوا عنه رؤساءه وأصحابه في الجيش لتدركوا كم كان سلوكه لائقاً. كل من عرفه يقول الآن «ليتني ما عرفته، فخسارته كبيرة جداً».
وتابعت: كان يفكر في الزواج وإنشاء عائلة وقد سألني رأيي في الموضوع فشجعته كثيراً، لكن المجرمين حرموه مستقبله وهو ما زال في ربيع شبابه.
وختمت متضرعة الى الله «الله يحمي الشباب عالجبهة، ويرجعوا بخير وسلام لأهلن».
وتوجهت الى أهالي الشهداء معزّية: «عزاؤنا أن أبناءنا استشهدوا في سبيل وطنهم، أما الأغراب الذين حاولوا احتلال أرضنا فمصيرهم الهزيمة أمام إرادة اللبنانيين وشجاعة العسكريين وصمودهم».

 

أهل الرقيب الشهيد روي البستاني:
«من دون هالبدلة ما إلنا حياة ولا وطن»
بالأمس كان شاباً فتياً، يملأ المنزل حياة وحيوية، واليوم أضحى صورة متشحة بالسواد، تحتل طاولة صغيرة في زاوية الغرفة، تحرسها شموع كئيبة وصلوات أم مفجوعة. روي البستاني الرقيب الشهيد، إبن الواحد والعشرين ربيعاً، الذي تبنٍى قضية الوطن والمواطن لمدة ثلاث سنوات قضاها في المؤسسة العكسرية، توّج عطاءه بتقديم دمائه للقضية التي يؤمن بها.
في منزله في كوسبا التقينا والديه وأخته وأعمامه، وإذ تقدمنا بالتعزية، أكد لنا والد الشهيد أنه «إذا كان من عزاء لنا فهو الأمل بأن يقضي الجيش على بؤرة الإرهاب وأن ينعم وطننا بالإستقرار في ظل القوى الشرعية». وأضاف بعزم: أنا عسكري متقاعد ومستعد للإنضمام الى الجيش في معركته ضد الإرهاب. ثم أشار الى اللباس العسكري وقال بانفعال: من دون هالبدلة ما إلنا حياة وما في وطن».
وإذ انتقلنا بالحديث الى ظروف استشهاد الرقيب البستاني تحدث والده بحسرة: «كان روي في المنزل يوم الإعتداء على العسكريين، وحين طلب منه الإلتحاق بمركزه في اللواء الخامس كان قلقاً بعض الشيء في البداية، فأوصلته وأخي الى المركز وشعرت بالإطمئنان حين رأيت وجهه مشعاً وقد زال عنه الشعور بالقلق، كنا على اتصال دائم به، وكان دائماً يطمئننا ويعدنا خيراً». وتابع الوالد بغصة: بعد الحادثة عرفت من رفاقه أنه شارك في رد خمس هجمات، وأنه كان شديد الحماسة والاندفاع، فكان بعض الرفاق يطلب منه توخي الحذر فيجيبهم: «اليوم عرسو لشاكر العبسي». وأضاف الوالد: لقد دافع إبني عن أرضه ببسالة، واستشهد في أثناء الهدنة، كما قيل لي، بسبب غدر الإرهابيين الذين أطلقوا قذيفة هاون، أصابته شظية منها في قلبه فهوى على رفيقه!
لقد فدى روي ورفاقه الشهداء الشعب اللبناني بأسره، فالإرهابيون كانوا سيسلبوننا أرضنا وعرضنا.

 

بأي حق؟
فيما كان الوالد يتحدث منفعلاً، كانت والدة روي تجلس في سكون في الجهة المقابلة تكفكف دموعها بصمت، وتسترق النظر بين الحين والآخر الى صورة ابنها الشهيد وهي كل ما تبقى لها منه!
توجهنا اليها بالحديث فأجابت بلوعة: «كان روي شاباً مهذباً وخجولاً، ربيته على الإيمان وسهرت على رعايته كي أراه شاباً سعيداً، واليوم أبحث عنه في المنزل فلا أجده»... وانقطع الكلام إذ أجهشت الوالدة بالبكاء لتتابع بعد قليل بأنفاس متقطعة: «منربّي ولادنا ومش مصدقين يكبروا، فجأة يحرموننا منهم لمجرد أنهم «استحلوا» أرضنا! فبأي حق يعتدون على أمن وطننا ويهدمون حياتنا واستقرارنا العائلي؟ لدي ابن في الدرك كان دائماً مع روي، وكان مرحاً وبشوشاً، اليوم تراه صامتاً بالكاد تخرج الكلمة من فمه، لقد حطموا سعادتنا، فمن أعطاهم هذا الحق وأي شريعة ترضى بالوحشية التي عاملونا بها؟ أليس لديهم أمهات وزوجات وأطفال يفكرون بهم قبل القيام بأعمالهم الإجرامية؟

تصوير: روبير مرقص
نايف درويش
العريف بلال صالح