- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
وتبقى أوكرانيا الحدث والحديث.. تعبت من الملاكمة واللكمات.. اشتاقت سهولها إلى دوار الشمس، وتموّجات السنابل.. إلى الفجر المندلق من شلال الطمأنينة.. إلى الشعاع الآتي من وراء الغيوم الداكنة بالسواد.. إلى الصباح الطافح بالأمل.. من أين يتهادى الحلم الهانئ إلى مخدعها بعد هذا الليل الطويل المشحون بالنكبات.. دهم تغيير الخرائط شوارع المدينة، اقتحم المنازل، يتّم الأطفال، أبكى النساء والشيوخ، ودفع بالرجال نحو الجبهات في مشوار طويل لا عودة منه.
تكثر الأسئلة حول مصير كيان سيّد، مستقل، يتمدّد على مساحة تتجاوز الـ603 آلاف كيلو متر مربع، غنيّ بالموارد الطبيعية، والمعادن النادرة. أخذته المشاريع التوسعية إلى حيث لا يريد، وتركته المتغيّرات الجيو-سياسية على قارعة الطريق ما بين واشنطن وموسكو.
قد يكون أمام أوكرانيا فرصة لالتقاط الأنفاس. الحديث عن هدنة هو مجرّد كلام عن ممر زمني يؤدي إلى شاطئ ما، يتّكئ على كتفه الشراع المحطم، بعدما تلاعبت به الأقدار طويلًا، ودفعت به الرياح الروسية نحو متاهات مخيفة، قبل أن يدركه الرادار الأميركي، ويمدّ له حبل النجاة.
نادى الرئيس دونالد ترامب بوقف الصراع، قبل أن يصل إلى البيت الأبيض. وعد خلال حملته الانتخابية بفضّ الاشتباك خلال يوم واحد، وعندما وصل إلى البيت الأبيض، عقد العزم على وضع القول موضع الفعل بهدف تحقيق جملة من الأهداف، منها:
- «قبرصة» أوكرانيا ما بين موسكو وواشنطن، كما حال الجزيرة ما بين قبرص اليونانية وقبرص التركية.
- الحصول على المعادن النادرة التي تعتبرها إدارة الرئيس ترامب حاجة وضرورة.
- فكّ التحالف ما بين روسيا والصين، إذ لا يمكن للرئيس القوي أن يرى «أميركا أولًا» في مواجهة قوتين نوويتين متحالفتين، ضد الولايات المتحدة.
بعد ثلاث سنوات من الدم والدمار والعقوبات والاضطرابات الاقتصادية، بدأت الحرب في أوكرانيا تلفظ أنفاسها، من دون أي وضوح حول الخرائط الجديدة والجغرافيات، وتوزّع المصالح والحصص وضمانات الهدوء والاستقرار.
بدأ الصراع تحت شعار الدفاع عن السيادة، وحماية الأمن القومي، ليتحول إلى اشتباك جيو – سياسي، تتداخل فيه دول ومصالح وحسابات أمنية وسياسية، واستراتيجيات توسعية. وفجأةً، يقتحم دونالد ترامب المسرح، ويعلن بعزمٍ وتصميم «لا بد للصراع من أن ينتهي. لا بد من إبطال المسرحية وإقفال المسرح الدامي». أخذ المبادرة، وترك الأوروبيين في حيرة.
كانت التداعيات الاقتصادية للحرب مدمّرة بالنسبة إلى أوروبا، من أزمة الطاقة، إلى التضخم الذي بلغ مستويات قياسية، إلى الشعور المتزايد بالإحباط، إلى الضغوط المالية المترتبة على دعم أوكرانيا. وعندما أخذ الرئيس ترامب المبادرة بشكلٍ مباشر، اضطر القادة الأوروبيون إلى إعادة تقييم أهدافهم الاستراتيجية.
يسود شعور في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، من أنّ السلام قد يكون أكثر خطورة من الحرب، خصوصًا إذا ما تم استبعادهم – كما يهدد ترامب – عند توزيع جوائز الترضية.
ويرى بعض صنّاع السياسة الأوروبية في بروكسل «أنّ أي اتفاق يتم التوصل إليه في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية قد يشجّع روسيا، ويقوّض المصالح الاستراتيجية لأوروبا».
التسوية.. والثمن
وفق المسار المرسوم لوضع حد للصراع في أوكرانيا، يبقى السؤال حول ما يعنيه السلام محل النزاع. هل سيُنظر إليه على أنّه انتصار، أو تسوية، أو اعتراف مرير بالحقائق الجيو – سياسية ومفادها أنّ روسيا فازت واحتلت 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية؟
كل هذا يعني أنّ نهاية الحرب ستفرض إعادة تشكيل توازنات وديناميات جديدة إن على مستوى الأمن، أو الاقتصاد، أو الاستراتيجيا، أو ما يتصل بصدقية التحالفات الغربية.
بالنسبة إلى أوكرانيا، يوفّر السلام فترة من الراحة، واختبارًا قاسيًا للقدرة على الصمود. لقد رسّخت الحرب هويّـتها الوطنية، وكشفت عن عدوانية عميقة تجاه روسيا، وعزّزت تطلعاتها الأوروبية، وعمّقت اعتمادها على حلفائها الغربيين. ومع ذلك، فإنّ الشروط التي تنتهي بها الصراعات ستحدد ما إذا كانت أوكرانيا ستظهر كدولةٍ ذات سيادة حقيقية، أو كدولة مجزّأة مجبرة على تقديم تنازلات مؤلمة.
سيكون من الصعب للغاية على روسيا أن تتخلى عن الأراضي الأوكرانية المحتلة. والواقع أنّ أحد أكبر أوجه عدم اليقين يحوط بالسيادة الإقليمية، وإذا ما تم التوصل إلى تسوية تفاوضية، فقد لا يكون أمام كييف خيار سوى قبول خسائر شبه جزيرة القرم، وأجزاء واسعة أخرى.
ووفق «فرانس 24»، إنّ خارطة أوكرانيا «الجديدة» في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب مع روسيا لن تشمل لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابورجيا، أي المناطق التي ضمّتها موسكو في استفتاءات رفضها الغرب في العام 2022.
ويلفت المحلل السياسي وأستاذ الأكاديمية الروسية محمود الأفندي، إلى أنّ الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين يخططان لإبرام صفقة هي بمثابة «يالطا» أخرى لإنهاء النزاع، وجعل هذا البلد منطقة محايدة.
ومن شأن هذا السيناريو أن يثير تساؤلات غير مريحة: هل كانت الحرب تستحق كل هذا العناء؟ وهل تستطيع أوكرانيا استعادة هذه الأراضي؟ وما هي السابقة التي قد يشكّلها ذلك على صعيد الصراعات المستقبلية؟
وبعيدًا عن حدودها، يظل أمن أوكرانيا معضلة مفتوحة. لقد أصبحت عضوية حلف شمال الأطلسي غير مطروحة على الطاولة، فهل ستُضطر كييف إلى الاعتماد على اتفاقات ثنائية ظرفية مع الولايات المتحدة، والدول الأوروبية؟ علمًا بأنّ الصراع المجمّد من دون حماية واضحة من شأنه أن يترك أوكرانيا عرضة للخطر الدائم.
وهناك الدمار الاقتصادي، فالمدن أصبحت خرابًا، والصناعات دُمّرت، والتقديرات الأولية تشير إلى تريليون دولار، وما زال الملايين من الأوكرانيين نازحين. لقد وعد الغرب بتقديم مساعدات وازنة لإعادة الإعمار بعد «النصر»، لكن «النصر» لم يتحقق، فهل تتحقق هذه الوعود في ظل التغيير الجيو – سياسي الذي تحوّل إلى أمرٍ واقع؟
لقد قاتلت أوكرانيا من أجل بقائها، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، ولكن المؤشرات غير واعدة، وعواقب الحرب قد تكون حاسمة بقدر الصراع نفسه.
أوروبا والأسئلة
لقد دافع قادة دول الاتحاد الأوروبي عن التدخل العسكري، أو حتى إرسال قوات، ثم هندسة الدعم لأوكرانيا باعتباره «قتالًا من أجل أوروبا نفسها» وليس مجرد دفاع إقليمي.
وقررت الدول الأوروبية دعم أوكرانيا دفاعًا عن القيم الديمقراطية والحرية والسيادة الوطنية والنظام الدولي القائم، واعتبرت أنّ الغزو الروسي كان يمثل تهديدًا وجوديًا لهذه المبادئ، وبالتالي فإنّ الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي كان «ضرورة أخلاقية استراتيجية».
إنّ إنهاء الحرب، سواء من خلال تسوية تفاوضية، أو قبول بحكم الأمر الواقع للخسائر الإقليمية، من شأنه أن يقوّض اللغة الأخلاقية المطلقة التي استخدمها القادة الأوروبيون في البداية. وإنّ التحوّل من «يجب ألّا نقبل العدوان الروسي أبدًا» إلى «يجب أن نسعى إلى السلام والاستقرار»، من شأنه أن يكشف عن التناقضات في روايات القادة الأوروبيين الذين سيحتاجون أيضًا إلى الإجابة عن أسئلة أعمق حول كيفية تطبيقهم لقيمهم المعلنة في الممارسة العملية. فإذا انتهت الحرب في أوكرانيا في حالة ضعيفة، أو خسائر إقليمية، أو حتى وقف نار هش وغير مستقر، فسيجادل المنتقدون: هل كانت الاستجابة الغربية حقًا انطلاقًا من «القيم»، أم كانت مناورة جيو – سياسية؟ هل استغلّت أوروبا أوكرانيا لتحقيق هدف استراتيجي أوسع ضد روسيا، لتتخلى عنها عندما أمر الرئيس ترامب بذلك؟
ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لصدقية أوروبا إذا كانت النتيجة تتناقض مع المبادئ ذاتها التي برّرت المشاركة؟
إنّ هذا الأمر الأخلاقي يشكّل عبئًا طويل الأجل على أوروبا، وستحتاج الطبقة السياسية إلى إعادة صَوغ مبرّراتها، وربما التحوّل نحو سرديات «السلام البراغماتي»، و«الاستقرار الإقليمي»، و«الدروس المستفادة»، ولكن هذه السرديات ستفتقر إلى الوضوح الأخلاقي الذي برّر به الحرب في البداية.
كشفت الحرب عن نقاط ضعف عميقة اقتصادية وعسكرية وسياسية. والآن مع اقتراب الصراع من نهايته يتعيّن على الزعماء الأوروبيين أن ينتقلوا في سياق تبريري هش من التدخل إلى الانسحاب.
لقد اختبرت التداعيات الاقتصادية للحرب صبر الجمهور في مختلف أنحاء القارة، فأسعار الطاقة ارتفعت، وارتفع التضخم إلى مستويات قياسية. والتكاليف الهائلة للدعم العسكري، جعلت دافعي الضرائب يشكّكون في الالتزام الطويل لأجل أوكرانيا.
ومع بدء الحكومات بتحويل تركيزها نحو الاستقرار الداخلي، يبرز سؤال غير مريح: من سيدفع تكاليف إعادة إعمار أوكرانيا؟ هل يكون دافِعو الضرائب الأوروبيون على استعداد لتحمّل التزام آخر بمئات المليارات من الدولارات إزاء بلد خسر الحرب، أم أنّ التعب السياسي سيفرض التراجع؟
إلى ذلك، هناك المستقبل الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي. لقد عزّزت الحرب اعتماد أوروبا الشديد على الولايات المتحدة من أجل الأمن، ولكن مع إشارة واشنطن إلى رغبتها في تحويل التركيز إلى مكان آخر، يتعيّن على أوروبا أن تقرر: هل ستتّحد بشأن الدفاع وتعزز قدراتها العسكرية، أم ستظل مقيّدة بالزعامة الأميركية؟
وقد تتصاعد التوترات بين أوروبا الشرقية والغربية أيضًا. وفي حين تظل دول مثل بولندا، ودول البلطيق مستثمرة بعمق في مواجهة روسيا، يمكن أن تدفع فرنسا وألمانيا نحو تجديد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع موسكو. وإذا تحرّكت أوروبا الغربية بسرعةٍ كبيرة لتطبيع العلاقات مع روسيا فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، وإضعاف وحدة أوروبا في لحظة حرجة.
فكّ التحالف ما بين موسكو وبكين
كان الرئيس ترامب قد فرض مقترحًا أميركيًا على أوكرانيا بقبول هدنة فورية مدتها 30 يومًا قابلة للتجديد.
جاء ذلك في بيان مشترك لمسؤولين أميركيين وأوكرانيين بعد محادثات استمرت أكثر من ثماني ساعات، استضافتها المملكة العربية السعودية في مدينة جدة المطلة على البحر الأحمر، من أجل التوصل إلى خارطة طريق تنهي الحرب مع روسيا.
ترى، ما هي الدوافع التي أملت على الرئيس ترامب التقرّب من روسيا، والضغط لإنهاء الصراع في أوكرانيا؟
يسعى الرئيس الأميركي إلى تعزيز العلاقات، وتحقيق تقارب أكبر مع روسيا، الأمر الذي قد يغيّر مسار السياسة الخارجية الأميركية على مدار عقود من الزمن.
لقد وقف الرئيس ترامب إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ما يتعلق باتفاق السلام لإنهاء الحرب الأوكرانية. وضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للقبول بشروطٍ قاسية تفرضها روسيا التي غزت أراضي بلاده. كما أوعز للحلفاء الأوروبيين بعدم التعويل على استمرار الدعم الأميركي للدفاع عنهم.
وتبعث هذه الخطوات رسائل دعم للرئيس بوتين، مما يطرح تساؤلات بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة تمضي قدمًا نحو استراتيجية دبلوماسية جديدة. وهل توجد خطة استراتيجية أكبر تهدف إلى محاولة استمالة روسيا بعيدًا عن الصين؟ أم أنّ سلوك ترامب يُعزى ببساطة إلى مجرد مشاعر شخصية، وعلاقة وثيقة بالرئيس بوتين؟
التحوّل الكبير
بدت أولى بوادر التحوّل الأميركي الكبير نحو روسيا في 12 شباط الماضي عندما أجرى الرئيس ترامب اتصالًا هاتفيًا مع نظيره الروسي دام 90 دقيقة.
وفي أعقاب ذلك، فرض ترامب ضغوطًا على الرئيس الأوكراني للموافقة على اتفاق سلام، مطالبًا إياه بالتنازل عن أراضٍ لمصلحة روسيا من دون تقديم ضمانات أمنية من الجانب الأميركي.
وقال ترامب في اتصاله الهاتفي ببوتين: «اتفقنا على التعاون الوثيق جدًا، بما في ذلك الزيارات بين بلدينا».
كما أعلن ترامب أنّ أوكرانيا لن تحصل على عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد انتهاء الحرب. وهو وَعْد كان قد قدّمه سلفه الرئيس جو بايدن، واعترضت عليه روسيا بشدة.
بعدها، وصف ترامب الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأنّه «غير كفوء»، وأبلغه خلال اجتماعهما في البيت الأبيض بأنّ «أوكرانيا لم يكن ينبغي لها أن تبدأ بالحرب»، وهي تصريحات مشابهة لما سبق وأدلى به بوتين.
وأحجم ترامب عن تقديم أي دعم أميركي لقوات أوروبية إذا تولّت مهمات حفظ السلام في أوكرانيا بعد انتهاء الصراع. وفي المقابل رفضت روسيا بشكلٍ صارم فكرة وجود قوات غربية على الأراضي الأوكرانية.
كما دعمت الولايات المتحدة روسيا في عمليات التصويت داخل الأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الثالثة لاندلاع الحرب في أوكرانيا، وامتنعت عن إدانة روسيا لغزوها الأراضي الأوكرانية.
وتمثّل هذه الخطوات الرامية إلى دعم روسيا، والابتعاد عن الحلفاء الأوروبيين تغييرًا جذريًا في سياسة الولايات المتحدة الخارجية على مدار 80 عامًا. وعلى الرغم من ذلك، ما زال من غير الواضح بشكلٍ مؤكد إذا كان هذا المسعى يشير إلى تبنّي استراتيجية أميركية جديدة لسياستها الخارجية.
في مواجهة الصين
كان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قد أوضح في حديثه لمنصة «بريتبارت – BREITBART» الإخبارية المحافِظة بتاريخ 25 شباط الماضي، «أنّ الرئيس ترامب وإدارته يطمحون إلى تقويض العلاقات الروسية – الصينية».
وقال: «أرى أنّ بقاء روسيا في مركز الشريك الثانوي دائمًا للصين، واضطرارها لتنفيذ أي شيء تقوله لها الصين بسبب اعتمادها عليها، ليس بالمآل الجيد لروسيا، ولا لأميركا، أو لأوروبا، أو حتى للعالم أجمع».
وأشار إلى أنّ هذا الوضع سيكون خطيرًا على الولايات المتحدة، «لأنّ الأمر يتعلق بقوتين نوويتين متحالفتين ضد الولايات المتحدة».
وأضاف روبيو: «إنّ الولايات المتحدة تعتزم التصدي لشبكة التجارة العالمية التي تتبناها الصين، والتي تُعرف باسم «مبادرة الحزام والطريق».
الصين تردّ والصورة معكوسة
ردّت الصين بقوة على تصريحات روبيو. وصرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية لين جيان، قائلًا: «سعي الولايات المتحدة إلى زرع الفتنة بين الصين وروسيا محكوم عليه بالفشل. لدى الصين وروسيا استراتيجيات تنموية طويلة الأمد، وسياسات خارجية راسخة».
ويمكن اعتبار الاستراتيجية التي طرحها روبيو، والتي تهدف إلى إبعاد روسيا عن الصين لتقويضها، بمثابة صورة معكوسة لنجاح دبلوماسي سابق في عصر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، حين نجح في فصل الصين عن الاتحاد السوفياتي.
ففي تجربة نيكسون، أقامت الولايات المتحدة علاقة وثيقة مع الصين ما أدى إلى عزل روسيا. أما في حالة ترامب، فإنّ تقاربه مع روسيا قد يؤدي إلى عزل الصين. ووصف المراقبون هذه الاستراتيجية بأنّها «خطة نيكسون المعكوسة»، أو «خطة هنري كيسنجر المعكوسة».
وكان نيكسون قد أبرم معاهدة مع الصين في العام 1972 بتوجيه من مستشاره لشؤون الأمن القومي هنري كيسنجر، منهيًا بذلك عقودًا من التحالف بين الصين والاتحاد السوفياتي - الدولتين الشيوعيتين آنذاك - في عدائهما المشترك ضد الولايات المتحدة.
وقال مركز الأبحاث الأميركي «مجلس العلاقات الخارجية»، بشأن خطة روبيو: «يبدو أنّ أبرز السياسيين المختصين في الملف الصيني في البيت الأبيض، يعتقدون أنّهم يستطيعون التعاون مع روسيا لعزل الصين عن العالم، وتحجيم نفوذها العالمي المتنامي».
وأوضح كلاوس ويل، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد «أنّ الولايات المتحدة لا ترغب في أن تصبح روسيا مركزًا لتزويد الصين بالمواد الخام، فالأمر يعني أنّ روسيا تبيع موادها بثمن زهيد ما يمنح الصين تفوقًا على الولايات المتحدة».
الليثيوم واليورانيوم والتيتانيوم وغيرها الكثير...
لا تقتصر المقاربة الأميركية للوضع في أوكرانيا على فتح قنوات التودّد إلى موسكو، والتي كانت مقفلة ومشحونة بالعقوبات، بل تهدف أيضًا إلى وضع اليد على معادن أوكرانيا النفيسة والنادرة.
وتمتلك أوكرانيا واحدًا من أكبر احتياطات الليثيوم المؤكدة في أوروبا، وفق «الأكاديمية الوطنية للعلوم» في أوكرانيا، أي ما يُقدّر بـ 500 ألف طن متري، لم يتم استغلال أي منها بعد.
يُطيل هذا المعدن الفضي الناعم عمر البطاريات، ويمكّنها من الاحتفاظ بشحناتٍ أطول، ما يجعله ضروريًا للبطاريات القوية المستخدمة لتشغيل السيارات الكهربائية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ موقع أحد احتياطات الليثيوم الرئيسية في أوكرانيا هو على بعد 10 أميال فقط من خط المواجهة.
وكان وزير حماية البيئة والموارد الطبيعية في أوكرانيا قد أعلن في العام 2022 «أنّ الليثيوم، بفضل قدرته على تخزين الطاقة بكفاءة لكل وحدة وزن، بات لا غنى عنه تقريبًا في إنتاج بطاريات المركبات الكهربائية. وبالتالي فإنّ الدعم والتعاون لإزالة الاحتلال من الأراضي الأوكرانية من شأنه أن يسرّع الوصول إلى المواد الخام الحيوية لأوكرانيا، ولشركائنا من منطقة اللجنة الاقتصادية لأوروبا التابعة للأمم المتحدة».
اليورانيوم هو أيضًا من ضمن ثروة المعادن النادرة التي تمتلكها أوكرانيا. ويُستخدم هذا العنصر المشعّ بشكلٍ طبيعي كمصدرٍ رئيسي لوقود المفاعلات النووية وفق الوكالة الدولية للطاقة الذرّية. ويمكن لكميةٍ بحجم بيضة من وقود اليورانيوم أن توفّر كمية الطاقة التي يوفرها 88 طنًا متريًا من الفحم.
ووفق الرابطة النووية العالمية، تمتلك أوكرانيا أكبر مخزون من اليورانيوم الخام في أوروبا، إذ يبلغ هذا المخزون أكثر من 107 آلاف طن متري.
نصل إلى الغرافيت، وهو مكوّن رئيسي في بطاريات المركبات الكهربائية، والمفاعلات النووية، وتمثل احتياطات أوكرانيا منه 20 في المئة من الموارد العالمية. وليس من المستغرب أن يبدو ترامب حريصًا على الاستفادة من هذه الثروة، وبخاصةٍ أنّ الصين ما زالت لاعبًا رئيسيًا في استخراج المعادن مثل التيتانيوم.
وتؤكد هيئة الجيولوجيا الحكومية الأوكرانية أنّ البلاد تمتلك أكبر الاحتياطات من التيتانيوم في أوروبا (8.4 مليون طن متري)، أو نحو 7 في المئة من احتياطات العالم. والتيتانيوم هو معدن فضي قوي مثل الفولاذ، ولكنه أخف وزنًا بنسبة 45 في المئة، وأكثر استخداماته الحديثة أهميةً هي في صناعة الطيران.
وقد باتت أوكرانيا مزوّدًا رئيسيًا للولايات المتحدة بمعدن التيتانيوم اعتبارًا من أيلول في العام الماضي.
إلى ذلك، تحتفظ أوكرانيا برواسب مؤكدة من البريليوم، وهو أمر بالغ الأهمية للطاقة النووية، والصناعات الفضائية العسكرية، والصوتية الإلكترونية.
وتدير شركة «بي جي في» منجمًا للبريليوم في منطقة زيتومير شمال غرب أوكرانيا، والتي قالت إنّ لديها احتياطات مؤكدة تبلغ 5512 طنًا متريًا من المعدن النادر.
وتشمل مجموعة تطبيقات البريليوم الاستخدام في أجهزة الكمبيوتر، والهواتف الجوالة ومعدات التصوير الطبي ومكونات السيارات ومعدات الطائرات.
وثمة المزيد بعد، إذ تُعدّ أوكرانيا خامس أكبر منتج للغاليوم في العالم، وهو عنصر أساسي في صناعة أشباه الموصلات، ومصابيح الليد. كما كانت منتجًا رئيسيًا لغاز النيون، إذ توفر 90 في المئة من النيون عالي النقاء المخصص لأشباه الموصلات لصناعة الرقائق في الولايات المتحدة.
ثروات أخرى دفينة
تشتهر أوكرانيا باحتياطاتها الكبيرة العالية الجودة من خام الحديد والمنغنيز، والتي تعد ضرورية لإنتاج الصلب الأخضر. وقد وفّرت أوكرانيا 43 في المئة من واردات الاتحاد الأوروبي من ألواح الصلب في العام 2021. كما تمتلك أوكرانيا احتياطات كبيرة من المعادن غير الحديدية، مثل النحاس (الرابع في أوروبا)، والرصاص (الخامس)، والزنك (السادس)، والفضة (التاسع). وتوجد رواسب النيكل (215 ألف طن) والكوبالت (8.8 ألف طن) في منطقتي كيروفوهراد ودنيبروبيتروفسك الآمنتين.
أمام هذا المنجم الاستثنائي من الكنوز الدفينة، ينحو الرئيس ترامب إلى تعامل استثنائي مع أوكرانيا...