أسماء لامعة

أول من أجرى عملية زرع قلب في لبنان الدكتور جورج تادي
إعداد: تريز منصور

لطالما شعرت أن الجيش هو الصخرة التي اتكأت إليها

 

بين الموت والحياة، يمارس عمله. سلاحه مبضع أتقن استخدامه إلى حدّ الإبداع، وأنقذ حياة المئات، ومن بين من أنقذهم العديد من العسكريين، فهو يحفظ في قلبه حبًّا خالصًا وتقديرًا عاليًا لمؤسـسة الجيش، واهتمامه بالعسكريين هو طريقته في تجسيد مشاعره حيالهم.
إنه رئيس قسم جراحة وأمراض القلب والشرايين في مستشفى المشرق، ورئيس جمعية البحر المتوسط لجراحة القلب الدكتور جورج تادي، الذي أدخل مع بعض من زملائه ثقافة وهب الأعضاء إلى المجتمع اللبناني، وكان أول من أجرى عملية زرع قلب في لبنان، وكانت لأحد جنود الوطن.

 

رحلة الحياة
ولد الدكتور جورج تادي العام 1963 في منطقة الأشرفية، وهو في الأصل من بلدة الكفور  - النبطية. والده الرقيب المتقاعد في موسيقى الجيش السيد بطرس تادي (عازف آلة الكونترباس)، أما والدته فهي السيدة لوريس عون (ربّة منزل).
تأثّر الصبي الوحيد والمدلّل بين شقيقاته الأربع، بوالده العسكري، وبأنظمة المؤسـسة العسكرية وقوانينها، فهو لا ينسى كيف كان والده يحمله في أحد الشعانين في اليد اليسرى، كي يتسنّى له تأدية التحية للضباط والعسكريين باليد اليمنى. معاني شعار الجيش وأهمية رسم الأرزة بشكل لائق في وسط العلم والهندام اللائق وسوى ذلك من سلوكيات، انطبعت في ذهن الولد، فتعلّم منها النظام والإنضباط والكدّ والنشاط في حياته المهنية في ما بعد.
كان يعرف ان الهدايا التي كان يحضرها والده إنما هي تقدمة  القيادة سنويًا لمناسبة الأعياد المجيدة، وكان مطمئنًا إلى أن القيادة ستساهم في دفع جزء من قسطه المدرسي، فلا تكون دراسته عبئًا صعبًا على مدخول العائلة الوحيد، وكذلك بالنسبة إلى تأمين الطبابة والإستشفاء... باختصار لطالما شعر أن الجيش هو الصخرة التي اتكأ عليها كي يكمل دراسته ويحقق حلمه.
ترعرع تادي بين منطقتي الأشرفية وبعبدا، نظرًا الى طبيعة خدمة الوالد، وكان ولدًا حالمًا ذكيًا، شغوفًا بالمطالعة، ولا سيّما بكتابات الأديب مارون عبّود الذي قرأ قصصه كاملة، وكان بإمكانه إصلاح أي شيء يُتلف، ولا سيّما كل ما له علاقة بالخشب والمعدّات الكهربائية.
تلك كانت مقدمة لينصرف إلى إصلاح ما يصيب القلوب وإعادة النبض إليها.
شاء القدر أن يتلقّى علومه الإبتدائية في ثانوية المتحف الملاصقة للمستشفى العسكري، فكان يراقب الآليات العسكرية تمرّ من أمامه، وكان يفاخر امام رفاقه بمعرفة جميع الرتب، فيما كان شغفه بالمؤسـسة العسكرية يكبر يومًا بعد يوم.
انتسب إلى مدرسة الفرير - فرن الشباك حيث تابع علومه المتوسطة ونال شهادة البروفيه، بعدها انتقل إلى المعهد الأنطوني – بعبدا لمتابعة علومه الثانوية، حيث نال شهادة البكالوريا في العلوم الإختبارية العام 1980 بدرجة جيد جدًا. وكان متفوّقًا في مادتي الرياضيات والعلوم، فنال منحة جزئية من الدولة البلجيكية، نظرًا الى التعاون التاريخي القائم بين المعهد وبعض جامعات الطب في بلجيكا.

 

خيار الطب لإزالة الألم
على الرغم من حبّه للجيش اللبناني، وحلمه بأن يصبح ضابطًا طيارًا، فقد قرّر دراسة الطب، متاثرًا بنوبات الوجع المتكررة التي كانت تصيب والدته خلال صباه، وكان يضطر مع شقيقاته إلى البحث عن ممرّضة في محيط المنزل تحقن لها حقنة تخفّف الألم، في أثناء وجود الوالد في الخدمة. يومها كان يؤلمه أن يقف عاجزًا عن مساعدتها، وفي ما بعد، اختار الطب ليزيل الألم.
غادر إلى بلجيكا العام 1980، وانتسب إلى جامعة بروكسيل الحرّة (ULB) وحاز إجازة في الطب (1987)، ثم غادر إلى باريس، لينتسب إلى أهم مركز لجراحة القلب في فرنسا  (مستشفى LA PITIE  SALPETRIERE) حيث تتلمذ على يد أحد مشاهير جراحة وزراعة القلب في العالم البروفسور كريستيان كابرول، وحاز 4 شهادات قبل أن يقوم بجولات تخصّص في كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
لم يزاول مهنة الطب في الخارج بل عاد إلى لبنان العام 1995، ليقدّم ما اكتسبه من خبرة ونجاح في مجال جراحة القلب، لأبناء وطنه، متأثرًا بحكمة قدّمها له أحد رجال الأعمال اللبنانيين البارزين الذي أنقذ حياة إبنته من الموت في فرنسا «ستكون في بلدك سمكة كبيرة في بحر صغير، بينما ستكون في الخارج، سمكة صغيرة في بحر كبير».

 

بداية مشوار النجاح
بداية ترأّس قسم جراحة الصدر والشرايين في مستشفى قلب يسوع بانتظار اتمام المبنى الذي سوف يستقبل جراحة القلب، وخلال تلك الفترة كان يجري عمليات القلب المفتوح في مستشفى رزق. ثمّ انتقل الى قسم جراحة القلب في مستشفى قلب يسوع وجهّزه بالتعاون مع أستاذه البرفسور كابرول وترأسه منذ العام 1999 لغاية العام 2006، حيث التحق بمستشفى المشرق وقام بتجهيز قسم خاص بجراحة وأمراض القلب والشرايين، الذي بات القسم الأهمّ فيها، إذ يجري 400 عملية قلب مفتوح في السنة.
إثر عودته إلى لبنان طلب منه رئيس المستشفى العسكري العميد الطبيب جوزف خوري المساعدة، نظرًا الى النقص الموجود في مجال جراحة القلب والشرايين. وإحساسًا منه بالإمتنان للمؤسـسة العسكرية التي ساندته وواكبته منذ الصغر، عمل الدكتور تادي في المستشفى العسكري من دون أي مقابل كطبيب مجاني، وساهم مع العميد خوري في إنشاء لجنة القلب المفتوح فيها، التي لا تزال تعمل لغاية اليوم، ومهمّتها درس ملفات مرضى القلب من العسكريين وعائلاتهم، وإصدار القرارات الطبية الضرورية حولها
خلال معارك نهر البارد العام 2007، لم يقف مكتوف اليدين أمام ما يجري، فقد سارع إلى وضع قسم جراحة القلب بتصرّف قيادة الجيش وقدّم كل خبرته وإمكاناته للمساعدة. وبالتعاون مع بلدية سن الفيل تمكّن خلال ثلاثة أيام، من تجهيز مدرج قرب مستشفى المشرق للطوافات العسكرية، التي نقلت خلال شهرين نحو 32 حالة لإصابات في الصدر والشرايين.

 

الجمعية اللبنانية لوهب الاعضاء
أجرى د تادي أول عملية زرع قلب للبناني هو المحامي سعد الدين الحوت في باريس العام 1993، فأصبح بالتالي عميد زارعي القلوب في لبنان وهو لا يزال على قيد الحياة ويمارس مهنته.
وقد ساهم الدكتور جورج تادي مع مجموعة من زملائه في نشر ثقافة وهب الأعضاء في لبنان حيث أنشأوا الجمعية الوطنية لوهب الأعضاء والكلى RODLA وهو أمين سر الجمعية، والتي أصبحت لاحقًا الجمعية اللبنانية لوهب الأعضاء(NOODTDT).
ومن انجازات الجمعية تحقيق لائحة المرضى الذين يحتاجون لوهب الأعضاء، وإقرار قانون الآداب الطبّية حول تنظيم وهب الأعضاء في مجلس النواب، منعًا للمتجارة أو لبيع الأعضاء. وقد قامت الجمعية بحملات توعية بالتنسيق مع الجمعيات الأهلية (NGO) لتوعية الناس حول مفهوم الموت الدماغي، وأهمية التبرّع بالأعضاء، وكيفية الإستئصال والزرع.
ويذكر في هذا الإطار أن مجلس الوزراء أقرّ مشروع قانون متعلّق بتغطية وزارة الصحة لتكاليف عمليات استئصال الاعضاء.
ساهمت هذه الخطوات بكسر جدار اللامبالاة الاجتماعية وانطلقت عمليات وهب الأعضاء وإن خجولة. فالعام 1999، تمّ لأول مرة في بيروت إستئصال متعدد للقلب وللكبد والكلى والقرنيتين من سيدة في حالة موت دماغي، وأجرى الدكتور تادي في مستشفى رزق، أول عملية زرع قلب للجندي في الجيش اللبناني فرحات فجلون، وهو أب لـ 4 أولاد، وما زال حيًا يرزق.
أما أول عملية زرع قلب أجراها الدكتور تادي في مستشفى المشرق، فكانت العام 2008، حيث ساهمت قيادة الجيش في عهد الرئيس العماد ميشال سليمان، في نقل القلب المستأصل في إحدى طوافاتها العسكرية، من مستشفى رفيق الحريري الحكومي إلى مستشفى المشرق، كسبًا للوقت.
ويوضح الدكتور تادي «أنه على الرغم من العدد الضئيل لعمليات الوهب، نحن فخورون أن لبنان والمملكة العربية السعودية، هما البلدان الوحيدان في العالم العربي اللذان تجري فيهما عمليات زرع قلب. ويعود الفضل بذلك إلى الجمعية اللبنانية لوهب الأعضاء وإلى بعض الجراحين المؤمنين بزراعة الأعضاء، الذين تمكّنوا من إيصال لبنان إلى مستوى عالٍ في هذا المجال يضاهي المستويات العالمية، وأعطوا أمل الحياة لبعض المرضى». وطموحه أن يحصل كل مريض موجود على لائحة الإنتظار على قلب، ولكنّه يعلم أن هذا الأمر مستحيل تحقيقه، على اعتبار أن عدد الواهبين ما زال قليلاً في لبنان.

 

الطموحات والأحلام
تزوج الدكتور تادي من مهندسة الديكور ألين تابت العام 2001، ورزقا ثلاث بنات: بيا ماريا (12 سنة)، أندريا نور (10 سنوات)، ساشا (سبع سنوات).
إضافة إلى عضويته في الجمعية اللبنانية لوهب الأعضاء، هو عضو في الجمعية الفرنسية والجمعية الأميركية لجراحة القلب، ورئيس جمعية البحر المتوسط لجراحة القلب.
يمتاز الدكتور جورج تادي بالديناميكية، بالتواضع، المحبة والإيمان بالله الخالق، وواهب الحياة. ويخبر عن حادثة صادفته في أثناء مرحلة الدراسة في فرنسا، ويقول:
«أجرينا عمليتي قلب مفتوح في اليوم نفسه، الأولى لرجل مسنّ في الثمانين من عمره وأخرى لسيدة في العقد الثالث من العمر، وبعد الإنتهاء من العملية الأولى نبض قلب الرجل العجوز مباشرة، بينما  لم يتحرك قلب الصبية بتاتًا على الرغم من أن العملية قد تمّت بشكل دقيق وناجح.
وبعد 30 دقيقة من الانتظار والخيبة، وبعد ان باءت كل محاولاتنا بإعادة الحياة الى هذا القلب بالفشل، سألت الله في قرارة ذاتي، «لماذا يا ربّ؟»، إن كنت إلهًا عادلاً وموجودًا أعد الحياة إلى قلب هذه الشابة كما أعدتّه إلى المسنّ، ولم تمرّ دقيقة، إلا وعاد النبض إلى القلب، وعادت المرأة إلى الحياة.
وقد وصلت رسالة الله هذه مباشرة الى صميم قناعاتي وهي تمثّل حجر الأساس في بنيان مسيرتي الطبية، لأنني تأكدت أن الله موجود، وهو وحده واهب الحياة، منه نستمدّ القوة والإستمرارية، وما نحن والآلات التكنولوجية المتطورة، سوى أداة بيده».
ويضيف الدكتور تادي: «إن جراحة القلب صعبة جدًا، تضعنا أمام الحياة والموت في كل مرّة. يكمن الخطر في عميات القلب المفتوح بنسبة تراوح بين 3 و5 في المئة، وفي عمليات الزرع بين 15 و20 في المئة، ومن هنا إنني أواجه أهل مرضاي بالحقيقة، وأشرح لهم بنفسي المضاعفات إذا حصلت».

 

مركز وطني لأمراض القلب
يعرب د. تادي عن حلمه بتأسيس مركز وطني لأمراض القلب وجراحته، يكون عبارة عن مستشفى تخصّصي، تتجمّع فيه مهارات لبنان في هذا المجال.
ويؤكد أنه لم يندم على عودته إلى لبنان البلد الأحب إلى قلبه «لأن المجتمع الشرقي وخصوصًا اللبناني مختلف عن المجتمعات الأخرى، لا بل أنا فخور بما قدّمته من خدمة لأبناء وطني في مجال جراحة القلب والشرايين»، منوّهًا بالنتائج المذهلة التي يحقّقها الأطباء الزملاء، والتي تفوق في بعض الأحيان النتائج في أرقى دول العالم، على الرغم من الصعوبات والمشاكل التي نواجهها. وهذا أمر يدعو الى التفاؤل الدائم بالوطن ومقدّراته البشرية.
ختامًا ينوّه بالخدمات التي توفّرها الطبابة العسكرية لمضمونيها، إن لناحية عمليات الزرع أو لناحية القلب المفتوح، أو تركيب البطاريات والقلب الإصطناعي، فالمريض المضمون من الجيش هو حاليًا الأوفر حظًا بين الآخرين، إذ أنه يتمتع بتغطية شاملة ويكون محاطًا بجهاز طبي عسكري متكامل ومتميّز بالكفاءة.