اقتصاد ومال

إدارة الاستثمارات العامة في لبنان التحديات والحلول للتعافي المنشود
إعداد: سابين حاتم

المشكلات الشائعة
 خطط التنمية منفصلة عن الموازنات أو المشاريع الفعليّة والعكس صحيح.
 مشاريع ”الفيل الأبيض“ أي المشاريع الاستثمارية ذات التكاليف العالية ولكنها ذات قيمة اجتماعيّة واقتصاديّة منخفضة.
 نقص في المشاريع ذات الجودة العالية التي هي في طور التنفيذ.
 منح المشاريع لشركات غير مؤهّلة.
 صفقات مبهمة على الموارد لتطوير البنية التحتيّة من دون وجود ضمانات مناسبة لضمان قيمة جيدة.
 فساد أو تأخير في المشتريات.
 تأخير داخلي أو في موقع المشتريات.
 زيادة التكلفة، وتجاوز المهلة المحدّدة.
 النزاعات التعاقديّة أو المشاريع المتروكة.
 تدني جودة المشاريع المنجزة.
 سوء تشغيل الأصول المنجزة وصيانتها.
 الجمود المؤسسي أو غياب أي استجابة منهجيّة للمشاكل.


العواقب المحتملة
 إنشاء عدد قليل من الأصول العامة القيّمة.
 نقص المرافق العامة الرئيسة.
 مجموعة من البنية التحتيّة المتدهورة: نقص الكهرباء والمياه، والحوادث المروريّة وحوادث السكك الحديديّة، واكتظاظ المستشفيات، وتدهور مؤشر التنمية البشريّة.
 فشل الاستثمار في تحفيز النمو وتحسين الرفاه الاجتماعي.
 صعوبة التوسّع المعاكس للتقلّبات الدوريّة في الاستثمارات.
 فرض الالتزامات في حال مُوّل الاستثمار بالديون.
 أعباء على المواطنين والقطاع الخاص إذا مُوّل الاستثمار بالضرائب.
 انخفاض صافي الثروة إذا مُوّل الاستثمار باستخراج موارد طبيعية محدودة.
 عدم الاستقرار الاقتصادي الكلي.
 عدم الاستقرار السياسي.
 الضغوطات والمخاطر الماليّة.

 

المراجع
الاستثمار العام من أجل التعافي (imf.org) صندوق النقد الدولي،
5 أكتوبر 2020

IMF. (2018). Lebanon Public Investment Management Assessment .
IMF. (2020, October 5). Public Investment For The Recovery. Retrieved from IMF Blog : https://www.imf.org/en/Blogs/Articles/2020/10/05/blog-public-investment-for-the-recovery
الاستثمار العام من أجل التعافي (imf.org) صندوق النقد الدولي، 5 أكتوبر 2020
IMF. (2017). Conflicts and Lebanon’s Capital Stock - IMF Country Report 17/20.
World Bank . (2020). Public Investment Management Reference Guide .
*رئيسة الاقتصاديين في معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي – وزارة الماليّة

كثيرًا ما نسمع أو نقرأ تعابير مالية تُطلق من المنصّات السياسية والاقتصادية؛ تعابير تبدو للوهلة الأولى واضحة، ولكنّها فعليًّا تتضمن مفاهيم معقّدة ومترابطة تتحدى ثقافتنا المالية والاقتصادية، وتتأثر بالتطورات الاقتصادية العالمية. فما هو تعريف الاستثمار العام؟ ما علاقته بمشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص؟ لماذا هو مهم جدًا للبنان؟ ولماذا هو حديث الساعة خصوصًا بعد الأزمات وفي ظل اعتباره من قبل صندوق النقد عاملًا أساسيًا في انتشال النشاط الاقتصادي من الانهيار؟

اشتقت كلمة الاستثمار في اللغة العربية من الثمر أي ما يحمله الشجر. ويُقال ثمّر الرجل ماله أي نماه وعظّمه. من هنا نستطيع أن نفهم بأنّ استثمار الأموال يعني تشغيلها بهدف تنميتها. وبالمعنى الاقتصادي يقصد بالاستثمار زيادة الطاقة الإنتاجية جرّاء إنفاق قدر معين من الموارد خلال فترة من الزمن.

 

الاستثمار العام يعزز النمو الاقتصادي
الاستثمار إذًا يشير إلى توظيف رؤوس الأموال لتنشيط مشروع اقتصادي معيّن يرجع بالمنفعة المادية على أصحاب المشروع ويؤثر إيجابًا على الاقتصاد الوطني. يتم الاستثمار الخاص من قبل الشركات والأفراد لتوليد الأرباح والثروة الشخصية، في حين يتم الاستثمار العام من خلال الحكومة لدعم الاقتصاد وتحسين البيئة الاقتصادية وتحقيق الفوائد الاجتماعية للمجتمع بأكمله.
بتعابير أكثر دقّة، يعرّف الاستثمار العام على أنّه إنفاق رأسمالي تقوم به الحكومات لغايات الاستحواذ على أصول ثابتة، أو لصيانتها أو تحسينها. ومثال على ذلك الاستحواذ على المباني والمنشآت، علمًا أنّ المبالغ المستحقة لتسليم الموقع وتجهيزه تحتسب من ضمن الاستثمار العام، وكذلك تكلفة جميع التركيبات والمرافق والمعدات التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من هذه المباني والمنشآت، بما في ذلك الآلات والمعدات (غير المشمولة بالمباني والمنشآت). وتستثني بعض الدول أنظمة الأسلحة من إدارة الاستثمار العام لدواعٍ أمنيّة.
يؤثر الاستثمار العام على النمو والوظائف إذ يخلق على المدى القصير وبشكل مباشر عددًا كبيرًا من الوظائف، وأعدادًا أكبر بشكل غير مباشر وعلى مدار فترة أطول. يؤثر الاستثمار العام سلبًا وإيجابًا على النمو المحلّي. وتشير الأبحاث التي أجراها صندوق النقد الدولي (IMF) إلى أنّ زيادة الاستثمار العام بنسبة 1% فقط من إجمالي الناتج المحلي في اقتصادات الأسواق الناشئة يمكن أن تنعش النشاط الاقتصادي بشكل كبير، وتعزّز إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2.7% (الرسم البياني 1)،  والاستثمار الخاص بنسبة 10%، والعمالة بنسبة 1.2%، خصوصًا إذا كانت الاستثمارات عالية الجودة مما يعزّز الثقة في التعافي الاقتصادي. هذا طبعًا إذا لم تتسبب هذه الزيادة بزيادة أعباء الديون (صندوق النقد الدولي، 2020).  
الرسم البياني1: تأثير زيادة الاستثمار العام على النمو


التخطيط والإدارة الجيّدة للاستثمارات العامّة عامل ثقة
تشير المعطيات إلى أنّ الاستثمارات التي يتم تخطيطها وتنفيذها بشكل جيّد، وتتميّز بمرونتها وباحترامها معايير الاستدامة، تشكّل محركات رئيسية للنمو الاقتصادي وتحدّ من أوجه عدم المساواة (الرسم البياني 2). ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يجذب الاستثمار العام الجيّد الاستثمارات الخاصة الجديدة، والتي تستفيد من الإنتاجية العالية التي يوفّرها الاستثمار العام، الأمر الذي يعزّز بدوره عجلة النمو الاقتصادي. لكن، وعلى الرغم من ثبوت هذه الحقائق، نلاحظ انخفاض نسب الاستثمار العام في زمن الأزمات وخلال فترات الانكماش المالي وترتيب أوضاع المالية العامة. فما هي السياسات العامة التي على الدول اعتمادها، وخصوصًا لبنان في هذا المجال الحيوي؟

يرتبط مفهوم إدارة الاستثمارات العامة بطرق إدارة الحكومات لنفقاتها الاستثمارية أو نفقات رأس المال، بدءًا من طريقة اختيارها للأصول العامة المنوي الاستثمار بها وكيفية إنشائها وصيانتها. يتولى القطاع العام عادة (أي الوزارات، أو الشركات المملوكة من الدولة، أو البلديات، أو..) إدارة الاستثمار العام. ويُموَّل إمّا من موازنة الدولة أو من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص أو الكيانات الخاصة النظامية. وغالبًا ما يتكوّن الجزء الأكبر من هذه الاستثمارات من مشاريع البنية التحتية ذات التكلفة المباشرة العالية، والتي تحتاج إلى مدة طويلة الأمد لتصميمها وتنفيذها، وتتضمن أكلافًا غير منظورة بما فيها الأكلاف المالية. تختزن هذه الأكلاف مخاطر لها تبعات كبيرة على الاقتصاد الكلي.
يؤدي ضعف إدارة الاستثمارات العامة من جانب الدولة تحديدًا، إلى مشاريع غير ناجحة ذات أكلاف عالية، وتكون عرضة للتأخير والمكاسب الاجتماعية الناتجة عنها ضعيفة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مشاريع الاستثمار العام، ولا سيما في مجال البنى التحتية، تكون عرضة للفساد، الأمر الذي يؤدي إلى خسارة الأموال العامة من خلال سوء تخصيص الموارد المالية أو ارتفاع النفقات وانخفاض الجودة. وبحسب صندوق النقد الدولي، يبلغ متوسط فجوة الكفاءة بين الأموال المنفقة وجودة البنية التحتية نسبة 30٪ في العالم. ويمكن أن تصل هذه الفجوة إلى 53٪ في البلدان ذات الدخل المنخفض كلبنان (صندوق النقد الدولي، 2020).
لهذه الأسباب، تشكّل إدارة الاستثمارات العامة وفق الأساليب والمعايير الحديثة والمعايير العالمية حجر الزاوية لأي عملية تعافٍ منتظرة في لبنان يمكن أن تنتشله من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي يشهدها، علمًا أنّ مستوى الاستثمار العام شهد انخفاضًا خطيرًا خلال السنوات الماضية من 11.6% في العام 2017 إلى 3.2% في العام 2020.

 

الاستثمارات العامة في لبنان والتعافي المنشود
في العام 2018، جرى تقييم ممارسات لبنان في إدارة الاستثمار العام بحسب أداة تقييم دولية تعرف بـ PIMA Public Investment Management Assessment. اعتَبر التقييم أنّ إدارة الاستثمارات العامة ضعيفة للغاية ومفكّكة بشكل كبير. وقد أشار تقييم  PIMA إلى خسائر في كفاءة الإنفاق وإلى تدهور سريع في البنية التحتية أثّر على جودة الخدمات العامة الأساسية (مثل الكهرباء والمياه والاتصالات السلكية واللاسلكية وما إلى ذلك) بالإضافة إلى خسائر في الفرص الاقتصادية. ويبيّن الرسم البياني 3 تراجع لبنان على محاور التقييم الخمسة عشر مقارنة بالبلدان المحيطة وبالاقتصادات التي تشبهه. هذا الضعف ليس بنتيجة الأزمة بل هو سابق عليها ويمكن اعتباره بأنه ضعف مزمن. فقد قدّر صندوق النقد الدولي (IMF) فجوة الكفاءة في لبنان قبل الأزمة بنسبة 43%، أي مرتين أكبر من البلدان ذات المستوى المماثل من رأس المال العام للفرد (IMF, 2018).

الرسم البياني 3: لبنان - مقارنة التصميم المؤسسي مقابل الفعاليّة
المصدر: صندوق النقد الدولي (IMF)، 2018، تقييم إدارة الاستثمار العام في لبنان

للضعف المزمن في إدارة الاستثمارات العامة تكاليف مالية واقتصادية كبيرة على المجتمع والمال العام. فالطبيعة المجزأة للإطار التنظيمي وضعف القدرات المؤسسية لها عواقب كبيرة على الانضباط المالي، والتنسيق بين الكيانات، وشمولية الموازنة، ومراقبة الأصول. في لبنان، لا توجد عمليات موحّدة لتخطيط الاستثمار العام، ولا تملك جهة واحدة، ولا حتى وزارة المالية، معلومات أو لوائح كاملة عن المشاريع الممولة والجوانب المالية الأساسية المرتبطة بها. وهذه المعلومات، وإن وجدت بشكل جزئي، ليست متوافرة بشكل دوري أو منسّق. إنّ عدم وجود إطار تنظيمي قوي يفرض عمليات تقييم ورصد منهجية، فضلًا عن عدم إدماج الشراكات بين القطاعين العام والخاص في الموازنة العامة، يجعل من الصعب بل من غير الممكن تحديد المخاطر على الموازنة العامة Budget Risks وتصنيفها وتقييمها ووضع الخطط الاستباقية للتخفيف من حدتها Risk management، وبالتالي يزيد من المخاطر على المالية العامة فيصعب تقييم الآثار طويلة الأجل على استدامتها. هذه المخاطر طويلة الأجل، سواء الصريحة منها أو الضمنية، تضعف خطة الحكومة للتصحيح المالي وتجعل توقّعات الاقتصاد الكلي بشأن تفاقم الدين العام والإيرادات والإنفاق شديدة الصعوبة.
من جهة أخرى، يزيد ضعف تنفيذ الأنظمة النافذة والرقابة من مخاطر الفساد، الذي تقدّر تكلفته، وفق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بـ5 مليارات دولار سنويًا (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2020) ، بسبب التخصيص السيّئ للأموال العامة ومحدودية عائدات الاستثمارات، بالإضافة إلى الخسائر في الفرص الاقتصادية المتعلّقة بهروب رؤوس الأموال وتردّد المستثمرين المحتملين. فهل لبنان حاضر لإعادة النظر بمنظومة إدارة الاستثمارات العامة السائدة؟ وهل يمكنه استقطاب موارد مالية أساسية لاستعادة عجلة التعافي من دون إعادة ترتيب هذه المنظومة وفق المعايير الدولية؟

 

إعادة النظر بالمنظومة الحالية ضروري لاستقطاب الاستثمارات
مما لا شكّ فيه أنّ الحفاظ على الإطار والممارسات الحالية ليس عاملًا مساعدًا في استقطاب الموارد وسيكون لذلك عواقب بيّن بعضها الجدول رقم ١، ولا سيما على الخدمات العامة، عواقب سوف تشعر بها الفئات الأكثر ضُعفًا وهشاشة، وهي الفئات التي تعتمد اليوم بشكل متزايد على الخدمات العامة. فالموارد النادرة جدًا والمخصّصة لتطوير البنية التحتية الجديدة أو الحفاظ عليها والمقدرة بـ 32 مليار ليرة لبنانية في موازنة 2024 ليست كافية. والبنى التحتية تتهاوى والكثير منها بات عرضة لخطر الزوال، كما وأنّ المواطنين معرّضون لخطر انعدام تام لبعض الخدمات الأساسية .
خيارات الارتقاء بإدارة الاستثمارات العامة
لكي يتمكّن لبنان من ولوج فترة التعافي على قواعد حديثة ومستدامة لا بدّ له من تحقيق نقلة نوعية في طريقة إدارة الاستثمارات العامة تكون متناسقة مع المعايير الدولية، وتساعد في توجيه التخصيص الاستراتيجي للموارد النادرة وتحديد أولويّات الاستثمارات المهمة في القطاعات التي تؤثّر بشكل مباشر على الفئات السكانية الأكثر ضعفًا (سواء كانت محلية أو دولية).
هذا الإصلاح الهيكلي صعب، يتطلّب إعادة نظر علمية موضوعية بالأطر الناظمة، واعتماد خيارات مؤسسية واضحة، بعيدة عن منطق التنازُع والتضارب، وبناء القدرات في مجالات اختيار وتقييم المشاريع، وتعزيز التعاون بين المؤسسات المعنية على قواعد تحديد المسؤوليات والصلاحيات بغرض المحافظة على إدارة فعّالة للأموال العامة تتكامل مع الأطر المالية وعمليات الموازنة. ولوزارة المالية دور أساس مهما كانت الخيارات المستقبلية التي سيعتمدها لبنان إذا كان يرغب فعلًا في تحقيق نتائج أفضل من الاستثمار العام وتحقيق نقلة نوعية لا تشكل مخاطر على المالية العامة واستدامتها.
هناك عدّة خيارات مؤسسية يمكن اعتمادها ضمن الإطار التنظيمي والتشريعي الحالي تسمح بالارتقاء بعمليات إدارة الاستثمارات العامة إلى المعايير الدولية، وأخرى قد تستوجب إدخال تعديلات قانونية وتعزيزات تنظيمية وتشغيلية على مستويات مختلفة، أو تتطلّب استحداث أطر قانونية جديدة. ولكن، مهما كانت الخيارات، يُعتبر وضوح الأدوار كما وتحديد المسؤوليّات إضافة إلى التدريب وبناء القدرات، والتنسيق المتواصل والرقمي بين وزارة المالية والمجلس الأعلى للخصخصة والشراكات، ووحدات إدارة الاستثمارات العامة لدى الوزارات القطاعية المعنية والمؤسسات العامة والشركات المملوكة من الدولة، والبلديّات وغيرها، وكذلك مع الجهات المموّلة، والجهات الرقابية  وأبرزها ديوان المحاسبة أمرًا بالغ الأهميّة لتحقيق إدارة فعّالة وشفّافة للمال العام.