قضايا اقليمية

إسرائيل تربي أجيالها على العسكرة والتعصب وقتل الروح الإنسانية
إعداد: احسان مرتضى

 يعتبر علماء الاجتماع أن التربية المدنية، في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية تقوم على الدمج بين مصالح الدولة ومصالح المواطن الفرد. وللدولة والفرد، في الحالات السوية والسليمة، مصالح مشتركة في تنشئة مواطنين يتمتعون بالاستقلال الذاتي، خلافاً لما هو شائع في الدولة العبرية حيث يخضع المجتمع اليهودي لنفوذ ثلاث مجموعات قوى هي:

 

 مجموعة رجال الدين، ومجموعة أصحاب رؤوس الأموال من كبار المتمولين، ومجموعة كبار القادة العسكريين في الجيش وسائر القوى الأمنية. وهؤلاء جميعاً معنيون بتنشئة أجيال جديدة من المواطنين "الخانعين الذين لا يفكرون إلا بالعمل والدين والجيش" على حد قول الباحثة الإجتماعية الإسرائيلية الدكتورة سيغال بن بورات، التي تضيف: "أن تكون مواطناً جيداً في إسرائيل، يعني أن تخدم في الجيش وتندمج في سوق العمل".

 

 ومثل هذا المصطلح، في رأيها، يخلو من المعاني الديموقراطية والإنسانية، لأن أجهزة التعليم والتوجيه في الدول الديموقراطية الحقيقية إنما تقوم بتنمية "مواطنين وليس جنوداً ولا شغيلة". فالدولة يستحيل أن تكون ديموقراطية إذا لم تمنح مواطنيها الاستقلال الذاتي والحرية والقدرة على اتخاذ القرار المستقل في اختيار طريقهم بحسب وعيهم الخاص لمفهوم الخير الذي يخصهم. وإذا كان الإنسان عموماً، بطبيعته وفطرته الأساسية، ذا نزعة إنسانية أخلاقية إيجابية، فإن التربية التي يتم تلقينها حالياً للأجيال الصاعدة في إسرائيل تحت سيطرة الليكود والأحزاب القومية والشوفينية والدينية المتطرفة القابضة على سدة السلطة، إنما تعمل على قمع هذه الميزة وهذه النزعة واجتثاثها من جذورها.

 

 والذي يطّلع على منهج التعليم في المدارس الإسرائيلية في مختلف المراحل التعليمية حالياً، يدرك بسهولة التوجه العام القائم على التنشئة التربوية بروح العسكرة الإسبارطية التي لا تعرف الرحمة ولا المهادنة، والتي تسعى الى خلق الإسرائيلي الصهيوني الجديد والمتجدد المنتصر دائماً على العرب والذي أقام دولته بعد ألفي عام من الصبر والألم. ومعلوم أن هذه الروح الإسبارطية القتالية الشرسة كانت قد اشتدت وتفاقمت في أعقاب حرب العام 1967، وما أعقبها من احساس طوباوي بالدعم الإلهي المزعوم وانتقال مجموعة كبيرة من جنرالات الجيش المنتصر للعمل في السياسة وشغل المناصب العليا في الدولة: رؤساء حكومة، وزراء، مدراء عامون وقادة مؤسسات وأجهزة حكومية، مثل اسحق رابين، وعيزر وايزمان، وايهود باراك وآرييل شارون وبنيامين نتنياهو وقبلهم موشيه ديان ويغآل آلوف ويسرائيل غاليكي ومثلهم العشرات.

 

وفي ضوء مثل هذا الواقع، لا نستغرب أن تقوم وزيرة المعارف الحالية ليمور ليفنات (ليكود)، بإلغاء أحد كتب التاريخ من التدريس في المدارس بزعم أنه يشتمل على مواقف يزعم أصحابها بأن دور الصهيونية قد انتهى بقيام إسرائيل. وقد قررت الوزيرة دعم وتقديم موضوع جديد يحمل عنوان "تراث إسرائيل" ويقوم على توسيع وترسيخ الدراسات اليهودية ذات الأبعاد القومية والتاريخية التراثية، وخصوصاً تلك التي تجعل من اليهود شعباً فوق سائر الشعوب، ويحق له بالتالي حسب المفاهيم التلمودية ما لا يحق لسواه، وهذا كله على حساب التربية على الحس المدني والإنساني لدى المواطن. وهي في هذا الصدد قلصت ميزانيات حصص التعليم في المدارس الرسمية، وخصصت في المقابل المزيد من المبالغ الطائلة لصالح مدارس المستوطنات التي تربي الناشئة على الروح القتالية الشرسة بدلاً من قيم الديموقراطية والإنسانية. وما من شك في أن التصعيد القمعي العنيف ضد المواطنين الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، مع ما يكتنفه من قتل وتدمير وسحق للبنى التحتية المدنية من دون أي اعتراض يذكر من قبل المجتمع الإسرائيلي، إنما هو ثمرة من ثمار هذا التوجه التربوي غير السوي والمفعم بالعنصرية والنزعة النازية.

 

على هذه الخلفية يعطي العديد من الباحثين الإسرائيليين شواهد وأمثلة على ما يحصل في إسرائيل من تشجيع العسكرة والتعصب الديني وقتل الروح الإنسانية، ففي يوم الاستقلال مثلاً يتم تشجيع الأطفال على تسلّق الدبابات والدخول الى قلبها حاملين الأعلام الإسرائيلية، كما ويتم تشجيعهم على تزيين صفوفهم في مدارسهم برايات وحدات الجيش الإسرائيلي المختلفة بدلاً من تشجيعهم على روح الديموقراطية واحترام الآخر والاعتراف بحقه القانوني والإنساني.

 

كذلك يتم توجيه الطلاب على التقسيم والفرز ما بين "نحن وهم" نحن الطيبون وهم الأشرار، وذلك من منطلق الإيحاءات الدينية والعقلية العنصرية. وقد أعرب بعض علماء الإجتماع السياسي في إسرائيل عن صدمتهم بسبب المعطيات الأخيرة حول عدد الضباط المتعصبين دينياً في الجيش، والذي يبلغ بحسب دراسة إحصائية قام بها جنرال متدين اسمه غالي نافيه، ما يناهز 40%. مع العلم بأن نسبة المتدينين في المجتمع الصهيوني نفسه لا تتجاوز 17%. ومن المعطيات المثيرة التي كشفت عنها دراسة الجنرال نافيه، أن الضباط المتدينين ينتشرون بنوع خاص في الوحدات القتالية الميدانية والقوات الخاصة، علماً بأن قادة مثل هذه الوحدات يكونون عادة في مقدمة كبار الضباط المرشحين لقيادة الجيش والقوى الأمنية الأخرى في المستقبل. والجدير بالذكر أن المقصود هنا هم فئة كبار العسكريين المنتمين للتيار الديني الصهيوني وليس الى التيار الديني الأورثوذكسي ممن يرفضون الخدمة في الجيش من أساسها وفقاً لاتفاقية "الوضع القائم" التي حصلت منذ العام 1948 بين بن غوريون وكبار حاخامي هذا التيار. وما من شك في أن مواصلة أبناء التيار الديني الصهيوني في تبوّء المناصب العليا في الجيش إنما تعني بالتالي إحداث المزيد من التعقيد والصعوبات بوجه إمكانية التوصل الى تسوية سياسية ما بين الكيان العبري وأي طرف فلسطيني أو عربي مهما كان مرناً أو متساهلاً.

 

من خلال هذه الأجواء أقدم 500 حاخام إسرائيلي على إصدار فتوى دينية تحرّم تطبيق خريطة الطريق التي تقدمت بها اللجنة الرباعية الدولية لحسم الصراع الفلسطيني ­ الإسرائيلي، وذلك بحجة مخالفتها للتوراة، وقد دعت في سبيل ذلك الى التمرد ورفض أوامر إخلاء أية بؤرة استيطانية واعادة بناء كل بؤرة يتم تفكيكها. وهذا ما جعل الكاتب روييك رولانتال في صحيفة معاريف يقول: "ثمة قوانين أسمى من قوانين الدولة، لا قيمة للميثاق الاجتماعي، والتعددية الفكرية باتت بمثابة كلمة فارغة". وكذلك كتب سيفر بلوتسكر في صحيفة يديعوت أحرونوت يقول: "إن الدولة باتت في جهة ومواطنيها في جهة أخرى، لقد حان الوقت لرسم الحدود الدولية للدولة وحان الوقت لإرساء الحياة العامة حسب ضوابط القانون والأخلاق وضرورات القيم، حان الوقت للمواطنة، وحان الوقت لانهاء النزاع مع الجيران، حان الوقت للقضاء على الفقر والبطالة والنقائص التربوية، وأن نكون دولة طبيعية".