قضايا إقليمية

إسرائيل في حمأة التحوّلات السياسية والعسكرية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

إن قرارات الحرب التي اتخذت في العقد الأخير كانت مجرّد مخرج من أزمة صنع القرار السياسي والمستمرة منذ العام 1967 بسبب جنون العظمة من ناحية، والتحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية والأمنية من ناحية أخرى.

إن الفشل والتردد في اتخاذ القرار والغموض في أهداف الحرب والفوضى الحاصلة في مجرياتها ووقائعها، قد جعلت الإسرائيليين يقفون مذهولين خائفين أمام أداء جيشهم وأمام حوافز الانضمام اليه.

يعتبر غابي شيفر، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، أن العلاقات الخاصة التي تربط النخب السياسية الإسرائيلية بالنخب الاقتصادية والقضائية بشكل أساسي، وبالنخب الإعلامية بشكل فرعي، قد جعلت الديموقراطية الإسرائيلية تعمل بشكل رسمي ظاهري فحسب. كما وأن تدهور النخب السياسية من حيث الكاريزما والنوعية قد أدى الى حالة من الإحباط الشديد في أوساط الجمهور بسبب الشعور العام السائد بانعدام الاستقامة وانعدام العدل، فالديموقراطية الإسرائيلية، بحسب شيفر، «لم تعد أكثر من زخرفة عديمة القيمة لجهاز سياسي مليء بالفساد». ومن هنا جاء التغير السريع في الحكومات، التي لم تكمل واحدة منها قط فترة ولايتها الكاملة على مدى أكثر من عقد ونصف من الزمن، وهذه كانت حال حكومات بيريس ونتنياهو وباراك وشارون وأولمرت، التي لم تتمكن من تحمّل مسؤولية أعمالها وقراراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على حد سواء، وخضع أغلبها لمساءلات قانونية وقضائية وأخلاقية، الأمر الذي ترك تأثيرات عميقة على المجتمع والخريطة السياسية والقيادية، وبشكل رئيس على عملية اتخاذ القرار. وهذه الأمور شهدناها بشكل أساسي بعد الحرب الثانية على لبنان العام 2006 وبعد عملية «الرصاص المصهور» التي شنّت على قطاع غزة أواخر العام 2008، حيث دار الجدل الداخلي في الكيان، ليس حول شرعية الحرب والعدوان، وإنما حول الأسلوب والسرعة في اتخاذ القرار ومدى جاهزية الدولة والجيش والمجتمع لخوض حروب من هذا النوع، وحول ماهية العلاقة بين الحكومة والقيادة العسكرية وطرق إدارة الحرب عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، الأمر الذي يترك تداعياته العميقة والخطيرة على الخريطة السياسية وعلى منظومة القيم والمفاهيم والعلاقات الإتنية والاجتماعية في هذا الكيان. كما وأن التطورات المشار اليها آنفاً قد عكست نفسها تغيراً في المفاهيم الأساسية لدى الإسرائيليين حول تصوّر مكانة الكيان في المنطقة: من دولة هامشية معزولة كان أقصى ما تتمناه هو قبولها في المنطقة وإقامة علاقات سلام، حتى لو كان بارداً، مع جيرانها، الى دولة، آخر ما يعنيها الاعتراف العربي بها، مع فرض التعامل معها، سراً أو علناً، بطريقة إنتقائية تخدم مصالحها أولاً وأخيراً، وتأخذ على عاتقها دور الذراع الطويلة في «صراع الحضارات».
لقد خضع المجتمع الإسرائيلي خلال العقدين الأخيرين وما يزال حتى اليوم، لعوامل وتأثيرات جوهرية ساهمت في التحولات الحزبية والسياسية الحاصلة فيه ومن أبرزها ما يلي:
أ - العولمة الإقتصادية والثقافية.
ب - السياسات الاقتصادية النيوليبرالية والخصخصة والانتقال من الاقتصاد المركزي الموجّه الى اقتصاد السوق الحرة.
ج - ظاهرة المحافظين الجدد ممثلة بعدد من مراكز الأبحاث الاستراتيجية وترجمة أفكارهم ومواقفهم الى سياسات.
د - تراجع دور الدولة والخسارة في جميع مجالات الحياة، لا سيما في أعقاب خصخصة الخدمات الأساسية.
هذه العوامل نقلت المجتمع الإسرائيلي من مجتمع جمعاني الى مجتمع فرداني، حيث طغيان المصالح الشخصية والفئوية والقطاعية.
لقد أشار الباحثون في التاريخ العسكري الإسرائيلي الى أن أولمرت هو رئيس الوزراء الثالث في تاريخ إسرائيل الذي تمّ تضليله من جانب القيادات العسكرية، بعد بيغن وبيريس، لكن الحقيقة هي أن قرارات الحرب التي اتخذت في العقد الأخير كانت مجرد مخرج من أزمة صنع القرار السياسي المستمرة منذ العام 1967 بسبب جنون العظمة من ناحية، والتحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية وغياب الإجماع في السياستين الخارجية والأمنية من ناحية أخرى، خصوصاً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بكل حيثياتها وتفرعاتها الجغرافية والديموغرافية والسياسية والعسكرية والأمنية. وفي هذا السياق جاءت التحوّلات الايديولوجية وتطوّر مؤسسات المجتمع المدني وتغيّر القيم وتعمّق الانقسام السياسي والشرخ الإتني وتحرر وسائل الإعلام من قبضة الدولة وتحوّل دور الأحزاب ونمط القيادة وضعف المركز المهيمن وزعزعة الاستقرار. وأولمرت كان رئيس الوزراء الثالث من الجيل الثاني في القيادة السياسية (بعد نتنياهو وباراك) الذي لم يصمد أمام عبء اتخاذ القرار في لحظة الأزمات، أما حكومة شارون التي سبقت أولمرت فاعتبرت حلاً لأزمة نظام بالعودة الى قيادات جيل مؤسسي الدولة، وغيابها تسبّب بعودة الأزمة والفراغ وانحسار دور الدولة وتدهور ثقة الجمهور بأجهزة ومؤسسات السلطة الحاكمة، خصوصاً بعد انخراط عناصر هذه السلطة في قضايا الفساد وفقدان الكاريزما القيادية المطلوبة وعبادة المصالح الشخصية.
هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد العسكري، فإن الفشل والتردد في اتخاذ القرار والغموض في أهداف الحرب والفوضى الحاصلة في مجرياتها ووقائعها، قد جعلت الإسرائيليين يقفون مذهولين خائفين أمام أداء جيشهم وأمام حوافز الانضمام اليه. في هذا السياق ايضاً يأتي التحوّل والتخبّط في نظرة الإسرائيليين الى الحرب والانتصار فيها. فمن المعروف أن الهوية الوطنية الإسرائيلية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقوة العسكرية. ولذلك فإن أي مواجهة من هذا القبيل لا تكون نتيجتها نصراً كاسحاً وحاسماً، حتى لو لم تكن حرباً تهدد الوجود، إنما تفهم على أنها انهيار للرؤيا الخلاصية، وهي تسبب بالتالي سلسلة من ردود الفعل تنعكس في اليأس والاحباط والغضب والهستيريا والشعور بالانكسار والخوار والعودة الى التأكيد على القلق الوجودي. من هنا بدأ في إسرائيل بعد تقريري فينوغراد وغولدستون بشكل خاص نوع من حساب نفس قومي جماعي يتم التعبير عنه بوضوح عبر وسائل الإعلام وعبر المقالات والمقابلات التي تعبّر عن الشعور بالصدمة وخيبة الأمل، حتى قيل إن «النصر» في الحروب مع «حزب الله» و«حماس» قد تحوّل الى مسألة «شعور». وضمن هذه الأجواء جاء الانسحاب من جنوب لبنان العام 2000 والانفصال عن قطاع غزة العام 2005، تحت عنوان إضعاف الفريقين والاستفراد بهما تحت مظلة سياسية أفضل. إلا أن كل هذه الإجراءات لم توقف حالة التدهور المادي والمعنوي في أوضاع الجيش، فالقوى البشرية الأفضل توجّهت نحو القطاع الخاص ونحو المهن الحرة وعالم الهاي - تيك، حيث الترقي والمكافأة بحسب التحصيل والانجاز، أما المتوسطون وما دون ذلك فذهبوا الى السياسة والجيش الأمر الذي انعكس سلباً على مستوى نوعية شريحة الضباط والقيادة. فالملاحظ في هذا المجال تراجع فئة الضباط من أصول غربية (أشكينازي) وتقدم فئات الشرقيين والمهاجرين الروس والمتدينين القوميين وهي جميعاً فئات من المنتفعين الذين وجدوا في الجيش وسيلة للإستفادة المهنية والاقتصادية ورفع مكانتهم الاجتماعية.