قضايا اقليمية

إسرائيل ودوامة الأمن والأمل
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

انتقد رئيس أركان جيش العدو الجنرال غادي إيزنكوت سياسة الحكومة الاسرائيلية بشأن إغلاق كل أبواب الأمل بوجه الفلسطينيين عبر الحصار والحواجز ومنع الحلول السياسية، ولو في حدًها الأدنى. وقال إنه «من الخطأ فرض الإغلاق والحصار فهذا ضد مصلحة اسرائيل». وشدد بالتالي على ضرورة «الحفاظ على الأمل في عيون السكان الفلسطينيين» و«الفصل بين منفّذي الإرهاب وبين السكان» على حد قوله.


الدوامة
 إيزنكوت كان يتحدث أمام المسؤولين والمختصين في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب والمحور الأساسي لخطابه في المؤتمر اعتمد على أمرين إلزاميين ومتلازمين، لا بد بحسب رأيه من مراعاتهما وتطبيقهما في السياسة الإسرائيلية، وهما: ضرورة توفير الأمل للفلسطينيين من ناحية، وتحقيق الشعور بالأمن للمواطنين الإسرائيليين من ناحية أخرى، فكلاهما يستولد الآخر. وطرح إيزنكوت سؤالًا ينطوي على توضيح للدوامة التي تتخبط فيها السياسة الإسرائيلية منذ عقود. والسؤال هو: كيف يستطيع المسؤول الأمني الحصول على تحذيرات موضعية عن عمليات السكاكين أو عمليات ما يسمى «الذئاب الداشرة»، في حين أن التحذير الظاهر للعيان هو الاحتلال الذي يخلق واقعًا يغيب عنه الأمل بالنسبة للفلسطينيين، أفليس في هذا مغالطة سياسية واستراتيجية لايمكن التغاضي عنها؟
الكاتب في صحيفة «هآرتس» تسفي بارئيل قدّر موقف إيزنكوت المبني على الصراحة والاخلاص، لكنه وإن قبل بعجزه عن رسم السياسات، فهو لم يعفه من المسؤولية الميدانية لكونه السيد على الأرض. فهو من ناحيته يستطيع أن يضمن أمورًا عديدة مهمة، منها أن تتصرف المحاكم العسكرية مع المعتقلين الفلسطينيين بحسب المبادئ الإنسانية المناسبة، وأن يجد المزارعون الفلسطينيون المرافقة الأمنية حينما يذهبون لفلاحة أراضيهم، تمامًا كما يتم منح ذلك لأولاد المستوطنين. وهو يستطيع منع إنشاء البؤر الاستيطانية غير القانونية بحسب التعريف الإسرائيلي، ووقف طرد البدو من غور الأردن، أو تدمير مغارات سكان جنوب جبل الخليل. ومن صلاحيته أيضًا زيادة كمية البضائع التي تصل إلى غزة، وعدد تصاريح العمل التي تمنح لسكان الضفة. لكن هذا هو الجزء السهل والمضلل من القضية، لأن خلق واقع احتلالي «مريح» لا يخلق الأمل ولا يمنع السكاكين. «الاحتلال المتنوّر» الذي أقره موشيه ديان وإسحاق رابين، تمت تجربته في العقد الأول بعد حرب الأيام الستة. وقد فشل فشلًا ذريعًا، فالاحتلال لا يمكنه أن يكون متنوّرًا أو قابلًا للاحتمال. إنه يتدهور سريعًا ويتحول إلى احتلال دموي وانتقامي وعنيف. وبهذا يخلق من جديد الخدعة بأنه لو كان أكثر إنسانية، ولو كان أُعطي للذين يرزحون تحت نيره ونيرانه المزيد من الحقوق، ولو أن المحتل كان طبّق قوانين مواطنيه على الذين يقعون تحت احتلاله، لكان الأمر نجح. في الواقع هذه هي المغالطة بعينها وهذا هو الخطأ الذي يشوّه الحقيقة لمن يعيشون البلبلة والالتباس بين الاحتلال والفصل العنصري، والنتيجة: ليس طابع الاحتلال هو الذي يخلق المقاومة بل وجوده بالذات. والذي يخادع النفس بكذبة أن توفير أماكن العمل والنمو الاقتصادي هما أساس الأمل الفلسطيني، لابد من تذكيره بأن النمو الاقتصادي في الضفة الغربية قبل الانتفاضة الثانية (2000) وصل إلى 9 في المئة.

 

السلام الاقتصادي
إن فكرة السلام الاقتصادي تمتد جذورها إلى رؤية شمعون بيريس، السياسي الإسرائيلى المخضرم، وقد طرحها لأول مرة في العام 1993، في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام (1991). وترتكز هذه الرؤية إلى تجربة الاتحاد الأوروبى في تحقيق التكامل الاقتصادي للوصول إلى السلام، حيث يرى بيريس أن السلام السياسي بين العرب وإسرائيل قابل للتحقق من خلال عملية اقتصادية مشتركة، تقود إلى التنمية والنهوض الاقتصادي في الشرق الأوسط بشكل أفضل فيما لو تشكلت معادلة إنتاج تشمل الأموال النفطية الخليجية والعمالة المصرية والمياه التركية والعقول الإسرائيلية. ولم يكن ظهور مفهوم الشرق الأوسط الجديد وفق تعبير بيريس أو السلام الاقتصادي وفق تعبير نتياهو، وليد الصدفة بقدر ما هو انعكاس لحالة الطفرة التكنولوجية التي ظهرت في إسرائيل أوائل التسعينيات، وتغيّر هيكل الصناعات الإسرائيلية، من الصناعات التقليدية إلى الصناعات عالية التكنولوجيا. فلإسرائيل مطامح في اقتحام الأسواق العربية والإسلامية نظرًا إلى ضخامة تلك الأسواق وافتقارها إلى هذا النوع من السلع التي تتخصص في إنتاجها الدول المتقدمة صناعيًا، وكذلك بهدف الحصول على الفوائض المالية النفطية على شكل استثمارات في قطاع التكنولوجيا، مما يعزز قدرتها التنافسية الدولية في هذا المجال.
وقد حققت إسرائيل مكاسب كبيرة منذ طرح هذا المشروع تمثلت في اتفاقيات سياسية واقتصادية وتجارة بينية عربية – إسرائيلية علنية، رغم أن العلاقات التجارية السرية تمتد إلى عقود سابقة، حيث كان المنتج الإسرائيلى يمرر إلى الأسواق العربية على أنه منتج أوروبى، ولم يظهر له تصنيف في الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية.
شهد السلام الاقتصادي حركة إنعاش جديدة عندما طرحه نتنياهو في برنامجه الانتخابي للعام 2009، وذلك كبديل عن السلام السياسي الذي يطمح إليه الفلسطينيون لبناء كيان سياسي فلسطيني ذي سيادة. وبذلك تم القفز فوق مبدأ الأرض مقابل السلام، إلى مبدأ السلام مقابل الرفاهية الاقتصادية. وقد ارتكز سلام نتياهو الاقتصادي على عدة نقاط أهمها:
1- بناء مشاريع اقتصادية مشتركة في مناطق حدودية تهدف إلى استيعاب العمالة الفلسطينية وحلّ مشكلة البطالة من دون إدخال الفلسطينيين إلى المناطق المحتلة في العام 1948، بهدف توفير أكبر درجة من الأمن للإسرائيليين.
2- توفير الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين مقابل تحقيق الأمن لإسرائيل، وفتح المعابر وإزالة الحواجز التي تشكل عائقًا أمام حركة السكان.
3- منح مزيد من التراخيص لرجال الأعمال والتجار لدخول إسرائيل.
4- السماح لمزيد من الفلسطينيين بالدخول إلى إسرائيل بهدف العلاج والسياحة.

 

سياسات الاحتواء
إنّ كل هذه الاغراءات لم تكن في الواقع سوى مناورة خبيثة لتجاوز المفاوضات السياسية وتصفية القضية الفلسطينية استنادًا إلى الوضع الاقتصادي المتردي للشعب الفلسطيني. وعلى هذا الاساس ساد اعتقاد خلال السنوات الأخيرة، بأن الشباب الفلسطيني سوف يستجيب لسياسات الاحتواء الاقتصادي الذي طرحه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي (عقد في 25 أيار 2013)، والقائم على إتاحة فرص العمل للفلسطينيين في السوق الإسرائيلية والمستوطنات، لتكون التنمية الاقتصادية الوهمية ملهاة عن انشغالهم بالشؤون السياسية والقضايا الوطنية. والواقع أن السلام الاقتصادي هو مجرد مغالطة ومجرد بديل عن رفض نتنياهو ومن هم وراءه، الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967، وإنكار حق العودة، والوصول إلى تقسيم القدس وعدم إزالة المستوطنات. وفي المقابل ما تزال سياسة الحكومة الإسرائيلية قائمة على العصا والجزرة، فمن جهة يجري استخدام القوة المفرطة في القمع والإعدامات الميدانية للمنتفضين الفلسطينيين، الذين هم من طلبة المدارس والجامعات وتقل أعمار معظمهم عن 24 عامًا، ولا تربطهم أي مصلحة عمل أو وظيفة بكل من الاحتلال والسلطة الفلسطينية، ومن جهة أخرى يتواصل منح التصاريح لمعظم العمال والتجار الفلسطينيين الكادحين وراء لقمة العيش. والأجهزة الأمنية الإسرائيلية ما تزال توصي السياسيين بعدم تبني سياسات تهدف إلى خنق الفلسطينيين اقتصاديًا في هذه المرحلة، لأن ذلك يعني إضافة توتر كبير إلى الحالة القائمة واتساع رقعة المواجهات.
حاليًا الكثير من الأراضي في المنطقة (ج) التابعة حصرًا للسلطة الفلسطينية غير مستغلّة. وإسرائيل لا تسمح بالقيام بأي مشاريع عليها سواء كان ذلك للبناء، أو التجارة، أو الصناعة. وعلى مدى سنوات طويلة قامت السلطة بعرض مخططات استثمارية كثيرة فيها، مثلًا مشاريع إسكانية في الأغوار (غور الأردن)، مطار دولي بالقرب من منطقة النبي موسى جنوب أريحا والذي من المفترض أن يستقبل حُجاجًا مسلمين من الشرق، فنادق ومواقع ترفيه ومُنشآت للصناعات الكيميائية شمال البحر الميت. كل هذه الخطط لم تر النور وبقيت المنطقة (ج) من الناحية الفعلية تابعة لإسرائيل، وهناك مساعٍ إسرائيلية جادة لضمها بشكل رسمي، الأمر الذي يعني انعدام أي أمل في سلام اقتصادي أو سياسي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.