قضايا إجتماعية

إلى أي حد تتأثر حياة العسكريين بظروف الخدمة؟
إعداد: ريما سليم ضوميط


شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة الطلاق في لبنان، حيث ورد في إحصاءات غير رسمية أن ثلاثين في المئة من الزيجات تنتهي بانفصال الطرفين.
وما يطال المجتمع المدني، يخترق أيضًا المجتمع العسكري، حيث شهد الأخير ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة الطلاق بين صفوفه.
فما الأسباب وراء هذه الظاهرة وما تداعياتها؟ في ما يلي محاولة للإضاءة مع المعالجة النفسية الدكتورة ماري أنج مرعي.
الطلاق يدق أبواب  الكثير من العائلات !


جزء من كل
المجتمع العسكري هو جزء من المجتمع ككل، وبالتالي فإن العوامل السلبية التي تؤدي إلى نشوء خلافات بين الزوجين داخل المجتمع بشكل عام، تهدّد الحياة الزوجية داخل المجتمع العسكري. فالظروف الإقتصادية  الصعبة، والتفاوت الإجتماعي والثقافي والخيانة الزوجية، والإضطراب النفسي كلها عوامل تؤثر سلبًا في الحياة الأسرية. وإلى جانب هذه العوامل يمكن أن تتأثر حياة العسكريين الزوجية سلبًا بظروف الخدمة ونمط حياتهم المختلف عن الحياة المدنية في حال لم تكن الشريكة متفهّمة لهذا الإختلاف.  

 

الغياب عن المنزل والعلاقات خارج الزواج
تعاني المجتمعات العسكرية في مختلف دول العالم مشكلة انتشار القطع والألوية في نقاط بعيدة عن أماكن سكن العسكريين مما يؤدي إلى نشوء خلافات عائلية بسبب اضطرار الزوجة إلى أداء دور الأب والأم في ظل غياب الزوج، وهي مسؤولية لا طاقة لبعض النساء على احتمالها. ففي الولايات المتحدة مثلًا ارتفعت نسبة الطلاق في صفوف العسكريين بعد حرب العراق وحرب أفغانستان، ذلك أن بعض الزوجات لم يستطعن مواجهة ضغوطات الحياة إضافة إلى الضغط النفسي الذي يشكله وجود الزوج على أرض المعركة.
في لبنان يختلف الوضع بالتأكيد، فالمسافات وإن طالت تظل قريبة، كما أن الدعم المعنوي دائمًا موجود من قبل الأهل والأصدقاء مما يخفف من وطأة الضغوطات على الزوجة، لكن مع ذلك يبقى غياب الزوج العسكري عن البيت من ضمن العوامل التي قد تؤدي إلى مشاكل.
يذكر أيضًا من بين الآثار السلبية لنمط الحياة العسكرية، أن بعض النساء يشعرن بالفراغ من جرّاء الغياب المتواصل للزوج، وقد تقع الضعيفات منهن في فخ الخيانة الزوجية بحجة التعويض عن النقص العاطفي.
في المقابل هناك أسباب وظروف قد توقع الزوج العسكري في فخ الخيانة. فالعسكري يمثّل السلطة والقوّة، مما يضفي عليه هالة معيّنة، ويعطيه «هيبة» خاصة. هذه الصورة تجذب النساء في العادة، وتجعل العسكريين عرضة لإغراءات بعض النساء اللواتي لا يحترمن الحياة الزوجية ولا يمانعن في إقامة علاقة مع رجل متزوج.
وتشير الدكتورة مرعي إلى أسباب إضافية للخيانة الزوجية تتعلّق بعقدة جنسية عند بعض الرجال. وتقول في هذا الإطار: يركّز علم النفس على دور المرأة كأنثى وكأم، الأمر الذي يفرض على الرجل المتّزن التعاطي مع زوجته على أنها إمرأة وشريكة وأم. غير أن الرجل الذي يعاني عقدة جنسية يفصل بين الأدوار، فيبحث عن الأنثى خارج المنزل، محتفظًا بالأم في داخله.  
ومن بين العوامل النفسية التي تؤدي الى خلل في العلاقات الأسرية، عقدة الفوقية التي يمكن أن يعانيها بعض العسكريين.فالمجتمع العسكري ذكوري بامتياز، على الرغم من وجود العنصر الأنثوي ضمن صفوفه. والعسكريون يتمتعون بسلطة أكثر من سواهم، وتبرز المشكلة لدى تحوّل السلطة عند البعض الى تسلّط يستفز الزوجة أو يضعها في دور ثانوي، وإذ يرضى بعض النساء بذلك، فإن كثيرات منهن يرفضن هذا الغبن ويطالبن بحقهن في المساواة، الأمر الذي يشكل مادة نزاع بين الطرفين.

 

الوطن أولًا
إضافة الى العوامل المذكورة، تصادف زوجات العسكريين مفاجآت تفرضها الحياة العسكرية، ومنها أن ولاء زوجها يصب بالدرجة الأولى في المؤسسة التي نذر نفسه لها، فمصلحة الوطن تأتي فوق مصلحة العائلة، وقد يلهيه انشغاله في الخدمة عن متابعة تفاصيل الأمور العائلية التي تعتبرها المرأة هامة وأساسية. وهنا تشتكي بعض النساء من ان أزواجهن يعتبرون المنزل «فندقًا»، ولا يدركون أن داخل الجدران الأربعة من ينتظر يوم العطلة للخروج في نزهة عائلية، بينما يراها الزوج فرصة للراحة في المنزل، كما يتوقّع من عائلته تأمين الأجواء المناسبة لذلك.
وتشير الدكتورة مرعي في الإطار نفسه الى نمط الحياة العسكرية الذي قد يسبب تعبًا نفسيًا للفريقين، فبعض العسكريين يجدون صعوبة في التأقلم مع نمطي حياة مختلفين: الحياة العسكرية القائمة على التراتبية والحقوق والواجبات، والحياة العائلية التي تغلب عليها العاطفة والتي تشهد أحيانًا تراخيًا في تطبيق القوانين. لذلك تراهم يشتكون من الفوضى المنزلية ومن «الدلع» الزائد للأولاد. ويذكر هنا أن عدة خلافات تنشأ بين الزوجين بسبب الخلاف على أسلوب التربية خصوصًا عندما يكلّف طرف ثالث، كالجدة او الخادمة، العناية بالأطفال.  

 

المعارك والحروب
غالبًا ما تخلّف المعارك والحروب آثارًا سلبية على العسكريين على الصعيدين النفسي والإجتماعي. فالجندي الذي يحمل رفيقه المصاب في المعركة، أو ذاك الذي يلمّ أشلاء رفيقه، سيعاني على الأرجح، بعد انتهاء المعركة، مشاكل نفسية، وسيحتاج حكمًا إلى اهتمام خاص وتفهّم من قبل عائلته. فإذا لم تتعاطف الزوجة مع معاناة زوجها، سوف يخلق ذلك شرخًا في زواجهما.

 

أسباب إجتماعية ونفسية مختلفة
من الأسباب العامة للطلاق وفق الدكتورة مرعي الى التغيّرات التي طالت المجتمع. وهي توضح ذلك بالقول: نلاحظ في مجتمعنا الشرقي نزعة متزايدة الى التحرّر، لكن المشكلة في المفهوم الخاطىء للتحرّر. فالمرأة، وهي نصف المجتمع، ابتعدت وبفعل هذا المفهوم الخاطىء عن دورها الأساسي وهو إنشاء عائلة ومنحها الأولوية في سلّم اهتماماتها، يليها العمل ومن ثم النشاطات الإجتماعية على انواعها، وليس العكس كما هو حاصل في عدد كبير من الزيجات التي تنتهي الى الطلاق نتيجة إهمال الزوجة واجباتها.
في السياق نفسه، نلاحظ أن وضع الرجل ليس افضل حالًا، فهو وعلى الرغم من قبوله فكرة عمل المرأة خارج المنزل، لا يزال غير متفهّم لمتطلبات المساواة بين الطرفين، ويعود ذلك الى طبيعة مجتمعنا الذكوري، والتربية التي لا تحضّر الذكور لقبول مبدأ المساواة بمختلف وجوهه. فالرجل يفاجأ عند زواجه بأن زوجته تختلف عن أمه، فهي تريد تحقيق ذاتها عن طريق العمل وتتوقع منه مساندتها ومعاونتها. وهنا ينشأ الصراع بين توقعات الطرفين المتناقضة تمامًا، فلا هو يرضى بالمساهمة في الأعمال المنزلية والإهتمام بالأولاد لأنه يعد ذلك انتقاصًا من رجوليته، ولا هي تبدي استعدادًا للتضحية في سببيل الحفاظ على الزواج.
إلى ذلك، يؤدي التفاوت في المستوى الثقافي أو الإجتماعي بين الزوجين دورًا كبيرًا في تأجيج الخلافات، إذ يجعل التفاهم على أبسط الأمور شبه مستحيل، فما يراه أبيض تراه أسود، والعكس صحيح. وهنا لا بد للطرف الأنضج فكريًّا أن يستوعب الآخر للحفاظ على وحدة العائلة.
كذلك يمكن للإضطرابات النفسية أن تؤدي الى فشل الزواج، كأن يكون أحد الطرفين غير مؤهل لتقبل شروط الزواج (التواصل، والقدرة على تحمل الصعاب، ومواجهة الضغوطات اليومية).
في مجال آخر، تؤثر الظروف المعيشية الصعبة التي يجتازها المجتمع اللبناني بأسره سلبًا في المجتمع العسكري أيضًا، وهي قد تؤدي الى نشوء خلافات لعدم قدرة الزوج على تلبية متطلبات الحياة العصرية على أكمل وجه. في هذا الإطار تؤكد الدكتورة مرعي أن الأسباب المادية لا يمكن أن تكون سببًا أساسيًا في الخلاف العائلي، لا سيما بالنسبة الى العسكريين الذين يتمتعون بتسهيلات جمّة على المستوى المعيشي إن لجهة الطبابة أو التعليم أو النقل، الخ... وتوضح أن تراكم المشاكل اليومية بين الزوجين يمكن أن يؤدي الى نقمة قد تنفجر في أي لحظة مقنّعة بصورة الخلاف المادي أو أي خلاف آخر.

 

كيف يمكن تفادي الطلاق؟
تشير الدكتورة مرعي إلى أن الطلاق في أيامنا هذه أصبح أسهل من الماضي، فالمجتمع الشبابي بات مهيأ لفكرة الإنفصال قبل الإقدام على الزواج. كما أن الزوجين أصبحا يفكران بفردية بدل التفكير كثنائي، وكل منهما يحاول أن يحقق من خلال الشراكة الزوجية، مكاسب شخصية. وتؤكد المعالجة النفسية أن الحل لتفادي الإنفصال يكمن أولًا في التفاهم والحوار بين الطرفين قبل الزواج وبعده. فمن الضروري أن يتفق الثنائي على رؤية موحّدة للقضايا الأساسية من دون أن يعني ذلك إلغاء أحدهما قناعات الآخر. كذلك يقتضي الزواج الناجح اعتماد الصدق والشفافية في التعامل بين الطرفين، والأهم هو احترام أحدهما الآخر وعدم استخدام الكلمات الجارحة أو العنف الجسدي في أثناء الخلاف على موضوع ما، لأن سوء المعاملة يؤدي إلى النفور ويؤجج المشاعر السلبية.
وتنصح الدكتورة مرعي زوجات العسكريين بتفهّم ظروف الخدمة العسكرية، وتقديم بعض التضحيات كمشاركة الزوج في تحمّل مسؤوليات الأسرة في أثناء غيابه في الخدمة من دون التذمر أو إبداء الإمتعاض. وتضيف أن التزام الزوج بواجباته الوطنية لا يعني أنه مقصّر تجاه عائلته. فالعسكري كأي رجل، يسعى الى تأمين مختلف الحاجات المادية والدعم المعنوي والعاطفي لأفراد عائلته، وقد يقصّر احيانًا من دون قصد، وهنا يفترض بالزوجة أن تلجأ الى الحوار البناء لعلاج اي سوء تفاهم. في المقابل، توصي الزوج بإعطاء عائلته الوقت الكافي، والمشاركة بفعالية في مهمة تربية الأولاد، ومتابعة همومهم ومشاكلهم قدر المستطاع بغية علاج أي مشكلة طارئة قبل تفاقمها. وتضيف أن الإلتزام المشترك تجاه العائلة يمتّن الزواج ويكسبه المناعة ضد العوامل الخارجية التي تؤثر سلبًا في الحياة الأسرية.

 

متى يصبح الطلاق ضرورة؟
تنصح الدكتورة مرعي الزوجين بالسعي إلى تحسين العلاقة بينهما مهما ساءت، وبالإبتعاد عن فكرة الطلاق قدر الإمكان. لكنها في المقابل تنصحهم بالإنفصال عند وجود عوامل تؤدي إلى استحالة العيش بين الطرفين. ومن بين هذه العوامل عدم وجود النيّة لدى أحدهما أو كلاهما في استمرارية الحياة الزوجية، أو التضارب المطلق في الآراء التربوية، أو نقمة واحدهما وحقده على الآخر. وفي هذه الحالة يمكن على الأقل حفظ كرامة الطرفين إذا لم يكن من الممكن الحفاظ على الرابط الأسري.

 

الآثار السلبية للطلاق
يؤكد المتخصصون في علم الإجتماع أن الآثار السلبية للطلاق لا تقتصر على الأولاد وإنما تطال الزوجين أيضًا. فالإنفصال يخلّف لديهما معاناة على الصعيدين النفسي والإجتماعي، فهو اولًا يبدل نظرة المجتمع اليهما وقد يخسران الكثير من الأصدقاء، كما يمكن أن يقعا في الوحدة الطوعية، إضافة إلى شعورهما بالفشل والسقوط في دوامة لوم الذات.
كذلك يعاني المطلقان من الشك والريبة في سلوكهما مما يجعلهما يعيشان على هامش الحياة الاجتماعية.
أما الضرر الأكبر فيقع على الأولاد، حيث أن تفكك الأسرة يؤثر في النمو النفسي والاجتماعي للطفل وهو يمكن أن يؤدي الى التراجع في المدرسة والى السلوك العدائي، كما يمكن أن يؤدي مستقبلًا الى انحراف الأولاد وجنوحهم.