تحية لها

إناث في عالم المهن القاسية
إعداد: الرقيب كرستينا عباس

يمارسن بكفاءة أعمالًا مُهرت بطابع الذكورية. بعضهنّ أتين إلى هذا العالم بدافع الشغف، وبعضهنّ الآخر قادتهنّ إليه صدفة أو أجبرهنّ ظرف قاسٍ على عمل لم يخطر لهنّ يومًا خوض غماره. في ما يأتي شهادات لشابتَين في مجال ميكانيك السيارات، ولسيّدتَين في مجال آخر، الأربعة اخترن مهنًا قاسية بملء إرادتهنّ ونجحن في التغلّب على الصعوبات التي اعترضتهنّ.
لم تشأ رنا حايك العمل في مجال ميكانيك السيارات بسبب ضائقة مادية، أو لكونها مهنة عائلية موروثة. أرادت القيام بهذا العمل لأنّها أحبّته. تحدّت الصعوبات لتتابع اختصاصًا من النادر أن تفكّر به الإناث. فكيف أصبحت مهندسة ميكانيك وكهرباء سيارات؟

 

القصة
تخبرنا رنا قصّتها: «كنت أرافق أبي كلما أراد إصلاح عطل في السيارة لأنّني كنت أحب الاطلاع على كل ما يوجد فيها. في ما بعد، أصرّيت على أن يكون العمل في الميكانيك مهنتي. أخذني أبي للتدرّب في كاراج رفيق له حين كنت في سن السابعة عشرة، كان يعتقد أنّني سأبدّل رأيي حين أجد الزيوت والشحوم على ثيابي وتحت أظافري بسبب العمل. خاب ظن أبي فبعد التجربة عشقت المهنة أكثر. واليوم أصبحت مهندسة ميكانيك وكهرباء سيارات».
القوة البدنية شرط لمزاولة العمل الذي اختارته، لكنّ هذا الشرط لم يقف يومًا عائقًا في درب طموحها وحبّها للمهنة. تطوّر التكنولوجيا قدّم حلولًا ووسائل مساعدة، ما يُعرف بـ Special Tools يساعد في حلّ البراغي وتركيبها مثلًا. وتضيف رنا في هذا السياق: «لا أخجل أبدًا من طلب المساعدة، إذا كان أحد البراغي مشدودًا أكثر مما يلزم، فالذي علّمني المهنة كان رجلًا ولا داعي للخجل».

 

خلافًا للمتوقّع
لم يقبل المجتمع الذكوري رنا كمهندسة ميكانيك بسهولة، إذ واجهتها مشقّات على هذا الصعيد، وتخبرنا: «كنت كلما أرسلت سيرتي الذاتية إلى كاراج، وذهبت لإجراء المقابلة ألاحظ الدهشة على وجوه المعنيّين. كانوا يتفاجأون عند رؤيتي إذ كانوا يتوقعون فتاة «مسترجلة». وبعضهم كان يعتقد بأنّني لاجئة من دولة أخرى. مع ذلك، ثمّة الكثير من الأشخاص كان موقفهم مغايرًا. الشبان الذين يحبّون السيارات مثلًا يسرّهم التعرّف إلى فتاة تشاركهم الحديث الذي يهتمّون لأمره».
من ناحية الصعوبات الجسدية، لفتت رنا إلى أنّها في البداية كانت تؤذي نفسها فحماستها كانت تدفعها إلى حمل القطع بسرعةٍٍ والسير بها من دون التنبّه إلى الوضعية المناسبة لذلك، لكنّها بعد الخبرة والدراسة باتت تقوم بعملها بإتقانٍ وتستخدم بنيتها كما ينبغي كي لا تتأذى.
رنا حايك اليوم لم تعد تأبه لمن لا يعجبه أنّ تصلح سيارته فتاة، أو يخاف على سيارته منها. بل هي واثقة بنفسها وقدراتها، وزبائنها باتوا يثقون بها ويقدّمونها كقدوةٍ لِبناتهم.

 

 قصة أخرى
«أحببتُ عالم السيارات والسرعة منذ الصغر، لذلك اتّجهت إلى العمل في مجال الميكانيك. جرّبت العمل وأحببته وأردت المثابرة وتحقيق النجاح فيه». بهذه الكلمات تعبّر إلسي أبو زيد عن سبب اختيارها مهنة ميكانيك السيارات. وتضيف: «في عائلتي نحن 11 ولدًا 3 منّا فقط إناث، تربيت بين الشبان، ورفاقي أيضًا من الذكور. هذا الجوّ قد يكون سببًا في نمو حشريّتي إلى اكتشاف ما في داخل السيارات، فاكتشفت وتعلقت بالمهنة».
كأنثى، في مجال عُرف بكونه عملًا للرجال، لم تعانِ مشكلات جسدية، فعدم امتلاك القوة الجسدية مشكلة قد يعانيها الرجال أيضًا، فالأدوات الحديثة تساعد في إنجاز العمل بمجهودٍ أقل، وهذا ما يستفيد منه العاملون في الميكانيك.

 

كيف أعلّم المهنة لفتاة؟
ماذا عن نظرة المجتمع إليها؟ البعض تقبّلها برحابة على العكس من آخرين. الشبّان العاملون في الكاراج مثلًا لم يرحّبوا بها أول الأمر وكانوا يتساءلون: «كيف يمكن أن نعلّم فتاة؟ لكنّهم تقبّلوها في ما بعد. مع مرور الوقت بنَت صداقات مع معارف وزملاء في المهنة. من جهتهم رحّب أهلها بالفكرة ودعموها، فهم يعرفون أنّ هذا العمل يشبه شخصيتها إلى حدّ كبير. ولكنّهم كانوا حذرين نوعًا ما لجهة الصعوبات التي يمكن أن تواجهها. التعليقات السلبية من البعض مَدّتها بمزيدٍ من الشجاعة والرغبة في إثبات الذات أكثر».
تطوّرت إلسي في عملها خطوة بعد أخرى وأثبتت نجاحها، وحاليًا انتقلت إلى العمل في مجال بيْع قطع غيار السيارات وهي سعيدة بأنّها تحقق حلمها وتعمل في المهنة التي أرادتها دومًا.
أسّست شقيقتان شركة تُعنى بأعمال فتح المجارير ومنع النشّ. المبادرة كانت موضع تعجّب لكنّها أضحت موضع إعجاب. كانت فكرة تأسيس الشركة لزوج أمل بيطار أبي خليل الذي كان يعمل طيارًا ويريد أن يؤسس عملًا له يتابعه بعد التقاعد. اقترحت أمل على زوجها أن تفتتح هي وشقيقتها وفاء الشركة إلى حين تقاعده. رفض في البداية لأنّ في العمل أوساخًا كثيرة وظروف عمل صعبة في الشتاء والصيف. لكنّه عاد واقتنع بالفكرة خصوصًا وأنّ الشركة اعتمــدت تقنيّــات تغنــي عن الحفريّــات لإصــلاح الأعطــال.
تروي وفاء: «بدأنا العمل على «فان زغير»، كنت أراقب العمال عن كثب وأحلّل ما يقومون به وأتعلّم حتى استوعبت المصلحة وتعرّفت إلى عمل كل آلة من الآلات، ولأيّ حالات تُستعمل. نما عملنا واستلمت أختي فريقًا وأنا فريقًا آخر. تعلمت قيادة «الفان» وانطلقنا في هذا المضمار. عانينا التعب الجسدي بالطبع، إذ كنّا نعمل لساعات طوال وسط الأوساخ في أثناء فتح المجاري في الأماكن العائمة. لكنّ ثقة الزبائن بنا كانت تدفعنا إلى الاستمرار».

 

لمسة خاصة
أضافت الشقيقتان لمسةً خاصّة إلى عملهما، وحّدتا ملابس العمّال وشدّدتا على النظافة والترتيب في مظهرهم، من وضع القفّازات والحلاقة اليومية إلى قصّ الشعر وسوى ذلك من متطلبات الهندام المرتب.
وتضيف وفاء: «يستقبلوننا بنظرة تعجب ويودّعوننا بنظرة إعجاب، اكتسبنا ثقة زبائننا، واشتركنا بعدة مسابقات خاصة بتميّز النساء.
منذ 6 سنوات تعبت أختي قليلًا فانتقلتُ إلى الإدارة. لدينا حاليًّا 3 فرق عمل منظّمة ومدربة، تنفّذ العمل على الأرض ونحن نتابع عبر الهاتف».
برهنت النساء أنّهن إن رغبنَ في الوصول إلى هدف معين يستطعنَ النجاح فيه وتخطي كل الصعوبات التي يمكن أن تعترضهنّ. فأمل ووفاء شقيقتان استطاعتا كسر الحواجز والنجاح في عملٍ صعب، كان وما زال خاصًا بالرجال بالإجمال، ولكنّهما أضافتا إلى هذه المهنة لمسة أنثوية ساهمت في نجاحهما.