- En
- Fr
- عربي
"استئناف" الحضارة في الإنتاج والاستهلاك
المقدّمة
ترشدنا ظواهر الإختلاط المتنامي للعرب والمسلمين مع الغربيين في عواصم العالم ومدنه إلى بروز اشكاليات كبرى وتحدّيات متجدّدة حافلة بإشاعة الخوف والحذر ويقظة العصبيّات. وتدفعنا هذه المظاهر إلى التفكير بمستقبل العلاقات الدولية عندما نرى تحديدًا، وعلى سبيل المثال، أنّ سودانيًا من ثلاثة أو سوريًّا أو لبنانيًّا أو مصريًّا أو عراقيًا أو ليبيًا أصبح خارج بلده مؤقتًا و/أو نهائيًّا، والأمر قد ينسحب على الكثير من أبناء الدول الأخرى مثل إيران وتركيا وأوروبا الشرقية، وقد صارت طاقاتهم الشبابية خارج أراضيهم. ينقسمون بين عشق الغرب أو نبذه وكرهه أو التوفيق بين الوجهتين بهدف السلامة والعيش والاستقرار. يقوى هذا التفكير لدى من يتابع بدقّة تلك الأجيال التي يتدفّق بعضها أيادٍ عاملة نحو العالم، ويشغل البعض الآخر أعلى درجات سلّم المسؤولية فيه بعدما أدارت ظهرها لأوطانها الضيّقة بما تدعو إليه الشاشات من حرية ومسؤولية. لقد تشوّهت المشاهد أكثر مع كوارث وموروثات "الربيع العربي"، فبدت الكثير من شعوب البلدان العربيّة تجمعّات جاهزة للنزوح والهجرة واللجوء والإرهاب في زمن قصير لا يتجاوز العقد (منذ الـ2001 تاريخ سقوط البرجين وبعدها).
تبرز هذه المشاهد واضحة وحادّة في المطارات والقطارات والساحات العامة والمدارس والمقاهي، كما في المواقف السياسية المتناقضة وفي أعين رجال الشرطة والسلوك الاجتماعي العام والمؤلّفات والكتابات اليومية الحادّة والمسارح ودور السينما ووسائل التواصل الإجتماعي وغيرها من أنماط الثقافة الرخوة المتحرّكة. وأقصد بالثقافة المتحركة، هنا، الإضاءة على حراك البشر القوي والسهل والسريع في عصر الفضاء والعولمة لا بسبب الهروب من الحروب، بل بقصد السياحة والاكتشاف والتبادل والأعمال التسويقية التي تنظر إلى الأرض بكونها سوقًا واحدة، وهو ما لم نشهده في عصور غزو البشرية لليابسة والمحيطات.
هناك، إذًا، استعادة واضحة للأحقاد والعنصرية يصعب ضبطها واستحضار فكري للقراءات الملتوية التي عادت تنبش التواريخ القديمة بين الشرق والغرب محكومة بخلفيات الصراع المدموغ بلحظات مرّة حافلة بالتشويه والانتحال والتناقض والتلويح بتجدّد دائم للصراعات الدموية.
لنفترض اليوم أنّنا على طريق الخروج من العنوان البائس أعني به "صراع الحضارات"، وقد جسّدته مآسي"الربيع العربي" المستورد والمقيم، فإنّنا نفترض أيضًا سلوك طريق مغاير للمشاهد البائسة، عبر التشديد على اختلاط الثقافات وتداخلها وتزاحمها وصعوبة أو استحالة انتمائها إلى حضارة ضيّقة في عالم تتداخل فيه الحدود بين الإنتاج والاستهلاك وتزول النتوءات لا بمعانيها الماديّة وحسب بل بالقيم والتجارب التي تختزنها والتي تستفيد منها كل الشعوب. يمكن القول، إذًا، أنّ الحضارات بمعانيها الزاهية التقليدية قد فقدت هوياتها بحثًا عن تعريف جديد لها يجمعها كلّها في حضارة واحدة هي التكنولوجيا التي تحوم حولها وتنخرط فيها الشعوب.
وتكاد تغيب في هذا المجال اليوم "النصوصٍ البريئة" Les discours innocents التي لطالما دعا إليها "رولان بارت" أستاذي في الكوليج دو فرانس، بحثًا عن تنظيف العلاقة بين الشرق والغرب لا بالمعنى الديني والسياسي وحسب بل بالمعنى الثقافي. تعني البراءة هنا محاولات تخليص العقل والسلوك من ترسّبات الأحكام السلبيّة المتبادلة والمتوارثة أو التأثيرات الإيديولوجية القاسية التي تقدّم الغربيين والمسلمين وكأنّهما قوى انتشار ثابتة يصعب التفكير بتغيير علاقاتهما نحو الكثير من الإيجابية.
كيف؟
لقد خلّص الإسلام، تاريخيًا، العرب من الجاهلية والوثنية وكان له قوة انتشار نهائية في بلاد العرب وتركيا وإيران وغيرها والشرق الأقصى وحقّق انتشارًا مؤقّتًا في جنوبي أوروبا عبر اسبانيا كما حقّق انتشارًا جزئيًا في بيزنطية. ونشر العالم الغربي في بلاد العرب والمسلمين قوى تغيير وإخضاع عسكري وسياسي، ولكنّه وضع قوّة ابتكاراته ومنتوجاته وانتشاره بتصرّفهم وإظهارهم اليوم مدنًا معاصرة واختلاط ثقافات غربيّة وإسلاميّة منضبطة إلى حدّ كبير عبر استراتيجيّات الإنتاج والاستهلاك تحقّقها مجموعات بشرية هائلة من الشركات الكبرى متعدّدة الجنسيات والتأثر والتأثير الثقافي والفكري الخفي بل المعلن واللذيذ بين الشعوب.
تخفي استراتيجيّات الإنتاج والاستهلاك مجموعات هائلة من أسباب التنافس وعدم التوازن والاستبداد الخفي، بل المعلن، بين الشعوب والحضارات. صحيح أنّ الوجه الطاغي لهذه العلاقات هو اقتصادي محض يكاد يفرّق الشعوب والدول إلى صنفين: منتجة ومستهلكة، إلّا أنّ طاقات الإنتاج والإبداع والتطوير تكاد تصبح ذات هويّة عالمية متشابكة بين الشرق والغرب، أو بين الشمال والجنوب، بما يخرجها من هويّاتها الوطنيّة الجغرافية الضيّقة، إلى مستويات معقّدة ومساحات واسعة في فهم العلاقات الدوليّة. وعندما تتصفّى الجذور والترسّبات في ما يتجاوز الاقتصاد وحركة الأسواق المتشابهة في العالم، نجد أنفسنا مجدّدًا أمام إشكاليات جديدة ومعقّدة أيضًا بحثًا عن تعريف الحضارات أو فهمها بكونها واحدة عالميّة أو متعدّدة.
أوّلاً: استراتيجيات الإنتاج والاستهلاك
صحيح أنّ الوجه الظاهر والطاغي لهذه العلاقات هو اقتصادي محض يكاد يفرّق الشعوب والدول إلى صنفين بعيدين منتجة ومستهلكة، إلاّ أنّ طاقات الإنتاج والإبداع والتطوير تكاد تصبح قطعًا ذات هويّة عالمية متشابكة بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب بما يخرجها من هويّاتها الوطنيّة الجغرافية الضيّقة إلى مستويات معقّدة ومساحات واسعة في فهم العلاقات الدوليّة. وعندما تتصفّى الجذور والترسّبات والتجارب في ما يتجاوز الإقتصاد وحركة الأسواق المتشابهة في العالم نجد أنفسنا مجدّدًا أمام إشكاليات جديدة ومعقّدة أيضًا بحثًا عن تعريف الحضارات أو فهمها بكونها واحدة عالميّة أو متعدّدة.
أطرح هذه المسائل الجديدة في تلاقح الإنتاج والإستهلاك، وأنا أفكّر بمعضلة الإندماج العظيم الحاصل بين أبناء الثقافات والشعوب المتنوّعة والتي تضمّها الأنظمة الديمقراطية والفدرالية إذ ينصبّ الانتماء على الانخراط في دورة الحياة يظلّلها الاحترام الهائل للحقوق والواجبات والعمل الدائم على تحقيق العدالة والاستقرار بين المواطنين. وفي المجال، قد نصادف حتمًا دولًا وأممًا أخرجتها الطبيعة والظروف التاريخية والجغرافية لأسباب غامضة من أعباء الإنتاج أو الانخراط في دوراته إبداعًا وتطويرًا، لأنّ كنوزها الأرضية ربّما منحتها قوّة وحضورًا أرضيًّا وسماويًا هو على ارتباط بالمصادفة أو الحظ الذي يغيّر أحيانًا وجه التاريخ.
نخرج من هذه المشاهد المتناقضة في تناقضها بسلبيّاتها وإيجابيّاتها، إلى الافتراض بأنّ العرب مثلًا واقعون تاريخيًا في دوائر المجتمعات الاستهلاكية الموفورة أو "الإهلاكية" بالمعنى الحضاري العام. تتقدّم حقوق الكسل والاستهلاك ظاهريًا على حقوق العمل والإنتاج والإبداع. هي فكرة ترشدنا إلى إشكاليّات حضارية عميقة تقع في الصورة النمطيّة للعلاقات مع دول العالم في الشرق والغرب بشكلٍ عام، وتطرح السؤال الكبير:
ما العمل لإخراج هذه المساحات من مرمى نيران الحروب المقيمة فيها تصديرًا واستيرادًا، وفي تبادل قسري كريه يتجدّد بين الشعوب إلى حدود تخطّي الأديان والمعتقدات والأفكار وتفريغها من قيمها الإنسانية؟
إنّها قضيّة تدفعنا، وبشجاعةٍ مطلقة، إلى التفكير بإعادة النظر الشاملة، بمجمل القيم والمفاهيم والنظم السائدة، ومحاولة كشف الأغطية عن الأسس الفكرية والإيديولوجية التي"تستمدّ" منها هذه المجتمعات مواقعها وتطوّرها وديمومتها بين الأمم.
إنّ حوار الشرق والغرب، والشمال والجنوب، كما الحوار بين الأديان وتحديدًا الحوار الإسلامي المسيحي، وحوار أهل الإنتاج والاستهلاك، كلّها محاولات وأشكال تعكس مآزم هائلة، وحروبًا متشابهة تتراكم في معضلات الحوار الحضاري وعناوينه في بذرتها الأصغر، أعني العلاقة بين الواحد والآخر، مهما كان حجم تلك البذرة، فردًا، جماعةً، دولةً أو أمّة. هذه الأنواع من الحوارات قد تستبدّ بها النتائج المتناقضة المتعايشة التي تجمع التعارف والتواصل والإختلاط والتنابذ والتقسيم والإلغاء في حدودٍ متفاوتة، فلا تقدّم الكثير من التفاعلات والمتغيّرات والأفكار الجديدة التي تميّز على الأقل، بين تحديث المجتمعات بالمنتوجات المعاصرة، وحضارة شهقة الأبراج المتنافسة في علوّها والتي تعيدنا إلى تذكّر برج بابل وكلّها تراكم الأفكار والتجارب والخبرات في الورشة العالمية المتنامية.
وهنا سؤال: لقد ولدت القومية من رحم الثورات الصناعية التي جعلت الدول قوية وضعيفة منتجة أو مستهلكة، لكنّ هل يمكن التفكير في قدرة التكنولوجيا على سحب القوميات التدريجي نحو الديانات وخلط الحضارة بالثقافات؟
ثانيًا: الاختلاط لا الخلط بين الثقافة والحضارة
لست أدّعي إيجاد حلول منطقيّة لهذه المسائل، لكنّني أرى وجهها المظلم في ضوء ميزات العصر الجديد الذي نعيش حيث تتزايد الصعوبات للتمييز بين الثقافة والحضارة في عصر العولمة.
كيف؟
كان يمكن المحاججة الفكرية حول خطورة الخلط بين الثقافة والحضارة على اعتبار أنّ إمكانيّة التمييز بينهما كانت واسعة، خصوصًا إذا اعتمدنا الهوية الثقافية لا بكونها المحصلة المعرفيّة والقدرة على الابتكار أو القوّة التي يتمتّع بها فرد أو جماعة أو شعب، بل بكونها تجعل تلك المحصّلة مطبوعة في طرائق العيش والتقاليد والأفكار وقدرات التفاعل بها مع الآخرين والتأثير بهم. فالشعوب المستغرقة في بدائيتها المحكومة بالغريزة أو الفطرة، هي صاحبة تقاليد بعيدة أو مجهولة وخاصة جدًّا، ويستحيل خلطها في المنظومة الثقافية يقابلها الشعوب التي كانت الثقافة تشغل حيّزًا متقدّمًا من حضورها. كانت الحضارة على ارتباط وثيق بشيوع المدنية ونشوء الدول وتفاعل ثقافاتها. إنّنا نجد أنفسنا، في هذا العصر، منصاعين للاعتراف بالاختلاط الحاصل بين الحضارة والثقافة، بعدما حسرت فيه الأغطية عن الشعوب والأوطان بفضل التواصل. إنّنا في عصر عرض الثقافات الكثيرة عبر الشاشات المتنوّعة وخروج الحضارات من أطرها التقليدية المعروفة إلى البحث، عن تعريفات جديدة للحضارة.
تخرج الثقافات تباعًا، في هذا العصر الاتّصالي، من أطرها الذاتية والوطنية أو القومية المتنوّعة وتلفّحها الرياح العالمية مهما حاولت الحفاظ على خصوصياتها. وإذا ما تشبّث شعب ما بثقافته وتاريخه أو حاولت مجموعة أو أقليّة فيه تأكيد هويتها وثقافتها الخاصة فإنّها قد تحكم على نفسها باستجلاب المخاطر والاندثار. إلّا أنّ أقطار العالم باتت محكومة ومتزاحمة، في عصر العولمة، للمزيد من تحقيق الانفتاح والتحديث والتجديد، وفتح النوافذ لثقافاتها إلى جانب ثقافات العالم، والاختلاط بها، وإلّا فإنّها مهدّدة بفقدان حضورها ومقعدها وقدراتها الذاتية في التأثير، سواء في حيّزها الضيّق أو في الثقافات العالمية.
وليس هناك من ثقافة لا تتطلّع إلى العالمية، مع أنّ الوصول إليها يختلف من دولةٍ إلى أخرى وفق تمتّع أنظمتها بالقيم الإنسانية التي ترفعها من مستنقعات الصراعات الضيقة، سواء كانت محلية أو إقليمية أو عالمية، توخيًّا للإنخراط في الحضارة العالمية. وقد يقود الوضع الانغلاقي الذي يكبّل رياح تفاعل الشعوب مع الخارج إلى انفجار سريع أو انقلاب وطني، أو إلى صراعات وحروب سهلة داخلية بين المجموعات متنوّعة الثقافة في الوطن الواحد أو في الأوطان المتعدّدة المتجاورة. وهذا ما يجرّ، غالبًا، إلى المزيد من الانحطاط والتراجع والصراعات، بدلًا من أن يكون طموحًا، إلى المشاركة في الثقافة الإنسانية بكونه الطريق الأسلم في قرع أبواب الحضارة العالمية.
طبعًا، لا يفترض أن يقودنا هذا الاختلاط بين الحضارة والثقافة إلى الإقرار بالمساواة بين المصطلحين، لأنّ الحضارة ليست مستوعبًا جاهزًا للقيم الهائلة التي تختزنها أو يتبادلها أبناء الثقافات في الشاشات. هناك إشكالية أكبر تدفعنا إلى إعادة النظر في مضامين الكثير من المصطلحات ومعانيها. وقد لا نجازف إذا ما قلنا أنّ الثقافات تتقدّم وتنتشر كثيرًا في عالم الفضاء الافتراضي، مقابل تراجع الحضارات أو أفول معانيها التقليدية المعروفة. باتت المظاهر الثقافية هي الحامية والحاملة لبقايا الحضارات بدلًا من أن يكون الأمر، كما عهدنا واعتدنا عبر التاريخ، عكس ذلك عندما تحمل الحضارة الثقافة بأبعادها المتجدّدة، وبهدف تأمين ديمومتها وحضورها واللحاق بها عبر التاريخ، من دون خسارة مصالحها في أرجاء العالم.
ونلحظ في العقدين الأخيرين نوعًا من النقد اليومي والقاسي لكلّ ما يعرف أو له علاقة بالمجتمع الدولي أو الأسرة الدولية. وهناك دعوات يومية لإصلاح الخلل الفاضح في المؤسسات الدولية والأمم المتّحدة ومجلس الأمن، وكأننا على أبواب عالم تميل فيه كبريات الدول مثل الولايات المتّحدة الأميركية ودول أوروبا إلى التراجع نحو القوميات الضيّقة، خلافًا لمجريات ما يحمله عصر الانفتاح. وقد يوحي المشهد بأنّ الثقافات مهما كانت معاييرها ومرتكزاتها، متدفّقة أمام الانتباه العالمي والأذهان، وليس هناك من اهتمام عالمي كبير بالبحث مجدّدًا عن مسمّيات أو مصطلحات يفترض حشوها بالقيم عند الكلام عن الحضارة، لتصبح حاجة أو ظاهرة عالمية.
تتراجع الحضارة العالمية مجدّدًا في استقطاب انتباه الثقافات البشرية والطموح إلى الإندماج فيها، لأنّ وجوه الدول العظمى المظلمة لا يعنيها امتزاج الثقافات. إنّها على ارتباط بالمغالاة في عنف الحروب وتضاعف المصالح وتقاسم بقايا الثروات وتشظّي الأوطان بالعنف وبقوّة السلاح وفعالياته الهائلة. وهكذا تقدّمت وتيرة الإنتاج والاستهلاك، وصار من السهل اقتناء وسائل الحضارة وأدواتها وأنظمتها العلمية والتقنية من دون أن يكون لها تأثير كبير في نشوء الصناعة وتراكم الخبرات وتحقيق التطوير من ردم الهوّات بين نهضة المجتمعات أو تخلّفها.
ثالثًا: نحو ملامح الإنسان الرقمي L’homme Numérique
في ضوء ما تقدّم، تنقشع الظلمات، وتنكشف مواقع الجماعات والشعوب بين من هو مسترخٍ على ضفاف الأرض، ومن يسابق الشمس التي باتت وكأنّها لا تغرب عن الأرض على الإطلاق بالمعنى التواصلي والتعاضدي في مختلف المجالات. نشير هنا بالخطوط العريضة إلى التحوّلات الهائلة التواصلية وأجهزة الاتصال الشبابيّة التي لا حدود لبراعتها وإبداعاتها وأجيالها في اختصار الرقعة الأرضيّة ملعبًا للأجيال الجديدة التي تميل إلى حمل الهويّات المائعة.
أيبالغ من يعترف بأنّ الفصل بين البشر في منتوجاتهم واستهلاكاتهم صار أمرًا مستحيلًا إلى درجة الصعوبة في ضبط الحاجات المتشابهة أو التفريق في ما بينها أو البحث عن إشباعاتها ؟
ما معنى أنّ سائحًا من أيّ بلدٍ كان، وفي عصرٍ تتضاعف فيه "حضارة" السياحة وتلين اليابسة أمام حركة البشر في عصر الفضاء، يشتري مجسّمًا صغيرًا مثلًا للبيت الأبيض وهو خارج منه، ويقرأ عليه إذ يقلبه: Made in China أي مصنوع في الصين، وقس على ذلك في مجالات الإنتاج والاستهلاك التي يستحيل حصرها ومعرفة صانعيها ومروّجيها ومستهلكيها؟ من وكيف نحدّد دوائر الإنتاج والاستهلاك في عصر اختلاط الأجناس البشرية المتقاربة؟
ألا نلحظ الحضور الدائم والغريب لـ"الإنسان الإنترنتّي"، والأفضل تسميته بالإنسان الرقمي L’homme Numérique في ميادين الشاشات حيث تتقدّم الغرائز الفجّة في قوّتها على العقول المنضبطة، بالإضافة إلى تحوّل الرغبات مثلًا إلى حاجات كالاتّصال الذي صار في خانة الحاجات بما يوازي أو يتساوى مع الحاجات البيولوجية الأربع (المأكل، المشرب، النوم والجنس)؟
ويفترض نجاح ما يمكن تسميته بالإنسان الرقمي في هذه الألفية الثالثة، بإمتلاك الأفراد لمثلّث المعرفة (العلم) والخبرة (التجربة) والشجاعة (المبادرة في التخطيط والإدارة وإتخاذ القرار)، فإنّ فقدان أحد الأضلاع الثلاثة يتسرّب الفساد وتختَل المجتمعات ويحضر التخلف.
أطرح هذه المسائل للتفكير والتغيير أكثر منها للتعبير والنقد، وأتصوّر بأنّ الأفكار والنظريات والعقائد والأديان، اضطلعت وتضطلع دورها سلبًا و"إيجابًا"، وعلى مدى العصور، في ترابط متين مع التلاقي والتعارف والتبادل في أساليب العيش والحضارة. وكان لا يمكن إغفال الفكرة بأنّ الصناعات وتقنيات المعرفة والتواصل وتكنولوجيات القرن الراهن قد سخّرت الأرض والبحار والفضاء ومعارف البشر، في تداخلات يظلّلها الوجه القاسي الدموي الذي تورثه نكبة البحث عن الموارد والمصادر، تحقيقًا للمصالح المتنامية إلى حدود مساحة الأرض والكواكب بهدف تكديس الأرباح وأدوات القوة والاستفادة طبقيًا وقوميًا ودوليًا، إن لم نجازف بالقول إلى مستويات التحكّم بالإنسانيّة الذي يبقى مستحيلًا وراقصًا فوق حبال المفاتيح النووية المركونة في أقبية بعض الدول وأدراج حكّامها، خوفًا من مخاطرها التي باتت تثير قلق الألفية الثالثة.
وهنا ملاحظة معترضة واقعية:
يقودنا انحسار الأحادية الدولية الأميركية، وتعدديّة العظمة الدولية، والعبث بأقاصي الشرق، ومشاعية الحروب والنفخ المدروس والمقنّن برهاب الأديان والكراهية في العالم إلى معادلة أو تحذير أو مقدّمة أو نداء جديد في العلاقات الدولية:
لا يفترض بنا الاستهانة بالدول الصغيرة فقد "يشعّل الأحراش عود ثقابٍ صغير". ويبدو القوي ضعيفًا بسبب جشعه الأبدي وتردّده وهزائمه أحيانًا، ويبدو الضعيف قويًّا بسبب جرأته وتهوّره وجروحه التاريخية التي تتناقلها أجيال شعبه. أربط هذه المعادلة الآن بالرعب النووي الشائع منذ هيروشيما إلى بيونغ يانغ، حيث تتطلّع الدول الصغيرة والمجموعات الإرهابية إلى اقتناء هذا السلاح المحظور والتهديد به، بعدما فتحت خزائن العلوم والأذهان والحروب المتنقّلة في فوضى كان لا يمكن أن تصلها البشرية بهذه السرعة.
لقد أفضى عصر الفضاء بإبداعاته الاتصالية الهائلة إلى مثلّث عالميًا غير متساوي الأضلاع. تبحث الدول الكبرى عن نبش الموارد والأسواق فتخلق دورة إنتاج ذات هوية عالمية أو متعدّدة الجنسيات، لكنها مبعثرة أو موزّعة على الدول والمجتمعات الكثيرة، بهدف الاقتصاد ووفق تنظيم وتوازن دقيقين. ويفضي اكتساب الخبرات في عصر تتجاوز فيه الخبرات المعارف إلى تراكم الرغبات في الإنتاج، وهي قد تصل إلى الشهوة النووية المتنامية وكأنّ إشباعها بات مسألة ليست عسيرة في عصر من التحدّيات الدولية المفتوحة إلى ما قد يتجاوز العودة إلى الحروب الباردة.
رابعًا: مثلّث غير متساوي الأضلاع
إذا كان تراكم الإنتاج - الإبداع والإستهلاك - التسخير يشكّلان زاويتي المثلّث الظاهري، لكنّه العملي الذي يتحكّم بعلاقات المجتمعات البشرية المعقّدة فلا يوحّدها، فإنّ الإختصار- الإعلام- التواصل التلميحي السريع هو زاوية العولمة في المثلّث التي قد تجعل بعض المجتمعات الإنسانية متقاربة وهمًا في الأشكال والأدوات والحاجات والطموحات، لكنّها متباعدة وغير متكاملة في الحلقة الحضارية الباهرة، وكأنّها الضلع الضعيف في مثلّثٍ يطمح إلى العدالة. وقد تظهر تلك الزاوية التواصلية المضيئة في المدن المعاصرة موطنًا للاستغلال والغموض والإرباك والانصياع بما يقصي المحشورين فيها عن فلسفة الإنتاج بهدف المزيد من الإنتاج والأرباح وقوة الدول والشركات الدولية .
وعليه، يمكننا أن نحصر جهود البشريّة ومنجزاتها، إذًا، في دائرتين لا تعرفان التوقّف هما: دائرة الإنتاج ودائرة الاستهلاك بما يظهر، وبشكلٍ أوضح، مجالات التمييز الحضاري بين الأمم في مجالين:
1- الإبداع والإيمان: يمكن اعتبار النشاط الإبداعي والابتكاري واستمراريته تحقيقًا لحركة الإبداع الأولى التي أسّست لها الأديان، بكونها هبة من الخالق للعقل وبالعقل تقوى وتنشط روحيًّا تقرّبًا من اللـه، أو تتراجع وتخفّ فتبقى بحاجةٍ، تحقيقًا لتفوّقها وتمايزها نسبيًّا، إلى تخلّف غيرها نسبيًّا أيضًا أو التفوّق عليه وتجاوزه، للمحافظة على بقائها وقوّتها، أي للمحافظة على تميّزها عند عقد المقارنات بين مقدرة الإنسان والكائنات الأخرى.
2- دورة الحضارات: تستمرّ المنجزات الحضارية في تراكمها عبر الأنشطة الإبداعيّة-الإنتاجيّة من فردٍ إلى آخر، ومن أمّةٍ إلى أخرى ومن كوكبٍ إلى آخر، كما هو حاصل عبر تدفّق الأزمنة حيث تنمو حضارات وتذوي أخر. بهذا المعنى، نعتبر النشاط والاجتهاد البشري أحجارًا متراكمة ومضفوفة في قيام الحضارات ونموها وإزدهارها والتفاخر بها، واندثارها أحيانًا إلى ما لا يتجاوز سطرين في القواميس والموسوعات، والأمثلة كثيرة من ركام بلاد ما بين النهرين الراهن إلى الإغريق والرومان. هذه مسألة جوهرية، قد يصعب الإحاطة بها بشكلٍ عملي، إلاّ إذا نظرنا، إلى عمر البشر وتجليّاتهم وابتكاراتهم كمن ينظر إلى عمر فراشة في ظلّ عظمة الكون. والسبب في هذه النظرة إلى عمر الإنسان مثلًا هو أنّ التاريخ المكتوب الأوّل بدأ منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وما سبقه من تقديرات بقيت محط الشكوك أو لا نعرف عنه الكثير([1]).
يعمّق هذا البحث الغموض في مساحة فهم التكافؤ والتفاعل بين دائرتي النشاط المذكورتين حيث العلاقة المتحيّرة بين قدرة العقل على التفكير والتغيير وتسليم أصحابه بما هو موجود. ونذكر التفاعل الحضاري هنا ليس بمفهومه التقني ومساراته الإبداعية وحسب، وإنّما أيضًا، في مفهومه الفج الذي لم يتخلّص بعد من البحث عن الحركة الأولى أو خطوة آدم الأولى التي ارتجّت فوق الأرض بالمعنى الأسطوري. تهدف الحركة، بهذا المنظار، إلى إيقاظ طاقة التواصل البشري القوي والضعيف مع الخارج. ولو ذهبنا إلى أعمق من ذلك، لقلنا أنّ الخالق بتمثّلاته المتعدّدة وأشكال الخوف الكثيرة المتشكّلة لدى الإنسان عنه، تجعله بالمعنى الديني ومقتضيات الإيمان النبع الطبيعي للإنتاج الأعظم ، بينما الإنسان هو الخاضع المستهلِك والمستهلَك والهالك أبدًا- وكأنّه النهر المتدفّق أبدًا من النبع. يمكننا هنا إضافة فكرة الطاقة الاتّصالية لدى الإنسان وتفاعلاته وبحثه الدائم عن صورته الطامحة إلى مرتبة عليا في الإبداع والخلق، والتي يصعب إيقافها أو تحديدها.
كما نلحظ داخل هاتين الدائرتين، وحول شكلي النشاط "الإبداعي" (على اعتبار أنّنا قد نصادف نظريات وأفكارًا تعتبر التلقّي والاستتباع والاستهلاك المادي الأعمى، وجهًا خادعًا آخر من وجوه الإبداع)، أنّ رسلًا دمغوا الحضور البشري بما تركوه، كما قامت حركات و"ثورات" وحضارات، وانتشرت فلسفات وأفكار ومدارس وأدمغة، وما عاد من الممكن حصر المصطلحات التي غلّفت المجتمع البشري وخصوصًا المعاصر منه، مثال التنمية والتبعيّة والتخلّف والتقدّم والجدّة والإبتكار، والخلق والإبداع، والحداثة والتحديث والمعاصرة بما فصّل قياسات العالم والشعوب إلى أوّل وثان وثالث ورابع..إلخ... ليعود التقسيم نحو مرحلةٍ من الفوضى والتداخلات، سقط عبرها الكثير من مساحات التمايز بين الحضارات. فمن ابراهيم إلى موسى وعيسى ومحمّد وأصقاع الهند الأولى التي وصلت الأرض بالسماء، بقيت السماء هي المنتج الأكبر والأرض هي المتلقّي أو المستهلك الأكبر. والأمر كذلك فلسفيًا في الفكر الفلسفي الذي سبق الأديان من سقراط وأرسطو وأفلاطون، إلى هيغل وماركس ونيتشه وفرويد وإلى مركوز وهيوم وكانت وفوكو...إلى أسماء دمغت العقل العالمي بحضورها ولا يتّسع المجال لذكرها، عوالم من التباين والاختلاف والتكامل حول الإبداع والتلقّي يفصل ما بين السماء والأرض من ناحية، ثمّ يلاقيهما ويجمعهما من ناحيةٍ ثانية.
تقتضي إشكاليات العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك التوسّع في استيعاب مفهوم الحضارة كونه مدلولًا تموّج بين علوم ازدهارالمجتمعات واللاهوت مرورًا بالفلسفة، وخصوصًا لفهم الحضارات في تعدّدها ووحدتها وتلاقحها عند الاستغراق في ما كتب عن بلاد ما بين النهرين ومصر واليونان التي توضع دولها المعاصرة وتراثها وكنوزها ومخطوطاتها وشعوبها في موقع السقوط، وصولًا إلى فهم فلسفة الحضارة التقنية والمعلوماتية المعاصرة التي تبدو وكأنّها لم تبلغ أوج قوّتها ونهضتها بالنسبة للأجيال التي تعاصرها([2]).
الخالق هو في رأس هرم الوجود وبه يتماهى الإنسان "العاجز" عن إدراك الحقائق الكبرى المطلقة أو شبه المطلقة حول هويّة العلاقة بين الإنسان المستهلك الهالك والمبدع الأكبر الباقي. وعلى هذا النحو، يستمرّ الزمان مقياسًا أبديًا للحركة في جمود الأشياء، ويلعب الإنسان بقشرة دماغه بحثًا عن تفسيراتٍ أو أفكار وكشوفات وتعليلات شتّى ومواقف كثيرة تعيد طرح حضارة الإنسان وثقافاته وكيفية تطوّر هذه الحضارة وتفاعلها وتناسلها إلى حضاراتٍ مختلفة متفاعلة متحاورة أو متصارعة.
خامسًا: إيجابيات التفاعل بين الإنتاج والمعتقدات
تقودنا هذه المقاربات/الممهّدات ذات الطابع الفلسفي العام، إلى الكتابة عن الحضارة كصفوةٍ للعطاء والإنتاج، وإرث ثقافي ومعرفي متحرّك تتزوّد منه البشريّة. هذه عملية محكومة بالاستمرارية و"المثاقفة" Acculturation بين تنوّعات العقل البشري على نحو ما أشار "دوميرابو"، وهو من أوائل الذين أطلقوا كلمة الحضارة بمعناها الدقيق، جامعًا بينها وبين الثقافة كمجموعة تتناول مجمل المعرفة البشرية وقدرات الإنسان، بينما هناك قطع صادم بين الثقافة والحضارة في الفكر الألماني ومحاولات توفيق بينهما في الفكر الأنكلوساكسوني ([3]).
يمكن القول أنّ الحضارة هي مجموعة منتجات شعب وأنشطته والنظام الاجتماعي والديني، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ الثقافة هي مع الشخصيّة والمجتمع جزء أساس من التفاعل الاجتماعي والثقافي، لبنيان بطيء لمجموعات من المعاني والقيم والقواعد عند الأشخاص والجماعات الذين يتفاعلون مع تقديم مجموعة الوسائل التي تجعل هذه الفكرة موضوعية، مشاعة، وسهلة النقل والتأثير([4]).
تبدو الحضارة قوّة، بهذا المعنى، ذات مدلول صناعي، إنتاجي، وهي على اتّصال وثيق بمفهوم الدولة وموقعها، ومقولة جذرية من مقولات بناء المجتمعات والدول وتطويرها وتحفيزها وإشاعة ابتكاراتها. يمكننا التمييز، في هذا المجال، بين الحضارة بالمعنى المدني والثقافة، لأنّ كلّ مدنيّة ثقافة وليس كلّ ثقافة مدنيّة. السبب في ذلك، أنّه عندما تتحجّر الثقافة وتتعلّب أحيانًا في أطر أبديّة، تتجمّد معها المجتمعات وتنتفي الصناعات والكشوفات فتحمل هوية استيرادية ([5]) نقليّة معتدّة بما بين يديها من ماض لا يتحرّك بل يتحرك آسرًا المستقبل وقبله الحاضر وهو ينظر إلى أمجاد الوراء.
وهنا قد نفتح هلالين لسؤال؟
لماذا يعجز بعض المجتمعات/الدول عن الانخراط في متعة المخترعات وتنمية الصناعات والإبتكارات؟ هناك ظلم للأديان إذا ما اعتبرنا الجواب قائمًا على ربط الدنيا بالإيمان بشكلٍ محكم ومقفل على حركيّة الزمان الذي يحمل التغيير الدائم؟
كيف؟
يكاد هذا التمييز ينعدم بين المدنيّة والثقافة في الذهن الغربي وخصوصًا الفرنسي مثلًا بكونه كان رائدًا في الابتكار ومن بعده براعة الأميركي والياباني والصيني اليوم مع الاختلاف في وجهات هذه الدول الكبرى ومعتقدات شعوبها .
لماذا؟
لأنّ الفصل بين الاتّجاهات العلمية والخلقية والدينية طارىء. لم يكن واردًا أصلًا بالمعنى التاريخي وهو لم يكن يحول دون التقدّم والابتكار، وهذا هو لبّ الإشكاليّة. ألم يبرهن برغسون مثلًا أنّ الصوفية بمعنى الدين والآلية قابلان للتكامل، ومختصر كتابه "ينبوعا الأخلاق والدين"([6]) يقول بأنّ الصوفيين الزاهدين كانوا رجال صناعة وأعمال، ولا سيّما المسيحيين منهم؟ لقد نشأت الحضارة الآليّة عندهم في بيئةٍ مسيحية مؤمنة، بل شديدة الإيمان لأنّ أصحاب الحياة الروحيّة أرادوا الاتّصال باللـه مبتكرًا وخالقًا أعلى، وصار همّهم ومشاغلهم وتفكيرهم منصبّة على إيجاد أدوات ووسائل وابتكارات لها تأثير معاش يرضي مشيئة الخالق والناس. وكان يفترض أن يعظم هذا الفهم قيم التسامح بهدف تقدّم الإنسانيّة توخّيًا لتحقيق المجتمع المفتوح La société ouverte.
وكانت حجج الغيبيين تقوى وتشتدّ في وقتٍ راحت فيه الكنيسة بالتراجع أمام اطلاق قوّة العقل، وانطلق هؤلاء في بسط فلسفة التزاوج بين المادة والروح ودفعهما إلى مناخٍ من المصالحة. رأوا الزخم الروحي وراء الآلة، تخليصًا لأنسنة الإنسان الذي بدا هاربًا من وجه خالقه. وقالوا بأنّ الآلة لا يجب ولا يجوز أن تطوّق الإنسان وتحاصره، سواء أكان هو صانعها أم مستعملها. وحتى لا يقع فريسة لإغراءات الإنتاج، وإهمال نفسه وتحقيرها أو نسيان النظرة التحليلية لحضور الغيب وقوّته. اعتمدوا التفرّغ إلى اللـه بهدف المزيد من الإنتاج والتقدّم والكشف والابتكار. وعلى الرغم من أنّ هذا المنطق زاوج بين العقل والإيمان، فإنّه لم يتمكّن من الوقوف في وجه دورة العقل ومكانته، إذ كان لهذا الأخير شأن وتأثير في خلق الفكر المتردّد الذي أدّى إلى ردّات الفعل الدينية. لكنّ هذا المنطق لم يستطع أن يقف في وجه الحركة الصناعيّة التي كانت في أساس الوصول إلى الفكرة القوميّة في نهضة الغرب.
وأكثر من ذلك، فقد راح الغيبيون ينقّبون عن إنسان ما قبل الثورة الصناعيّة، معتبرين أنّ الزراعة والصناعات الخفيفة كانت أساسًا بتصرّف الرهبان، وقالوا بأنّ الحضارة الروسيّة قد بنيت مثلًا وهي على اتّصالٍ وثيق بالأديرة. وهذا ما لم نشهده في البلدان العربيّة الإسلامية، وتلك مفارقة هائلة لم يكتب عنها الكثير في عودة إلى ما حقّقه الابتكار عند العرب في ميادين الشعوب الأخرى. وأدّى هذا الزخم الروحي إلى اعتماد تفسير التاريخ من وجهة نظر إلهيّة (وهذا أقصى ما هو حاصل في تعامل العرب اليوم مع الحضارة التقنيّة بأجيالها المتعدّدة)، بحيث نجد اللـه في الأديان التوحيدية، ويصبح الكون من إنتاج اللـه يشرف عليه، ويعتني به. فالقول بالعناية الإلهيّة موقف إيماني محض غير قابل للتحليل، وعلماء اللاهوت لا يحاولون تعليل نشأة الحضارة وتطوّرها بالعناية الإلهية، لأنّ وجوهًا مظلمة وقاسية قد تحملها الحضارات، وهم يرفضونها لأنّها تفرز أيضًا معالم الشرور في مسارها، لكنّهم يقولون بأنّ الأحداث التاريخيّة سوف تنصبّ يومًا وحتمًا في ملكوت اللـه. ولهذا اعتبر "تيار دو شاردان" مثلًا، أنّ لهذا التاريخ معنى عظيمًا حيث لا يذهب كلّ شيءٍ تلقائيًّا إلى اللـه، لكنّ هناك أشياء وحضارات تنحلّ وتضمحل وتختفي، ومع ذلك يبقى اللـه هو الألف والياء، لأنّ اللـه يلملم التاريخ وينقّيه ويصبّه في ملكوته، مع أنّ اللـه قد ينقضّ أحيانًا على التاريخ ويبعثر ما جمّعه الإنسان مثل الصاعقة([7]).
هذا البعد الروحي أو ما يمكن فهمه بالتفسيرات الميتافيزيقيّة لتفجّر العقل الذي التزم به رجال الدين وكذلك السلفيّون المتناسخون بحللٍ متنوعة عبر الأزمنة، لم يظهر في تجليّاتهم ومواقفهم سوى في الوعيد والتخويف من الخالق وإثارة الفلسفة التباعدية بين اللذّة والواقع، أو بين الاستهلاك والاجتهاد وبين التسليم بنظام الطبيعة وتنمية أنظمة البشر. وكان يساندهم في تجذير مواقفهم عوامل الخوف البشري حيال المصير المحتوم، وإعادة ربط الإنسان كليًّا بالسماء. وكان من الطبيعي أن تفضي تلك الحالة من التفكير إلى الانصراف نحو التأزمات الاجتماعية والنفسية التي ترافق التضافر في التقدّم المتسارع في مجال التقنيّات وتحولاتها الانتاجيّة عبر المجتمعات.
كان تغليب العقل وتقديمه في أساس الحضارة التي وصلنا إليها، أعني الحضارة الأوروبية التي سمّيت في العصر الوسيط باسم الحضارة المسيحية، بينما في العصر الحديث لا يمكن تسميتها بذلك أبدًا؛ لأنَّ سمتها البارزة كانت في التمرد على الدين المسيحي. غير أنّ التوجّه الروحاني لم يذوِ زخمه، وصرنا نشهد في عواصم العالم مظاهر ارتداد غريبة ومتجدّدة نحو الاستغراق في الطبيعة، واستنساخ الإنسان/الماضي عبر تقليعات وأفكار وفلسفات اجتاحت العالم على مستويين:
1- الخروج من الحضارة: يعتبر هذا المستوى شكليًّا إذ تخرج المجموعات والأفكار من حضارات المدن القاسية والمتأرجحة بين الاستهلاك الراقي والانتحارات الصناعية البطيئة الحافلة بالمعاناة والمآسي المتمظهرة في "الهيبيين والهاري كريشنا والمون" وغيرهم من شرائح الشابات والشباب الذين يتحدّون بعبثيّتهم الحضارات المعاصرة ويكشفون زيفها وجرائمها، فيقلّدون القبائل الأولى ما قبل بزوغ الحضارة عبر إشاعة ثقافة وشم الأجساد وإطلاق اللحى والشعر ورسم الندوب فوق صفحات الوجوه وتطويق الأعناق بالقلادات العريضة والإقبال على الثياب الجلدية التي تقرّب أفراد هذه المجموعات من الكائنات الأخرى وتخرجهم من المجتمع الإنساني البرّاق، لا في الشكل أحيانًا بل بما يتخطّى ذلك نحو السلوك وطرائق العيش البدائي في المخيمات النائية وتحت أدراج المترو وأنفاقه حيث لا إنتاج ولا استهلاك ولا انخراط في حركة الحضارة. ويبلغ بهم الأمر أن يتحوّلوا جزءًا من جماليات السياحة في العواصم الأوروبيّة، عندما تتكفّل الأنظمة برعايتهم وتسهيل أمزجتهم في الحرية والتعبير. قد تسقط الفروقات بين الأنوثة والذكورة وتغيب نهائيًا من حيث الشكل، وتصل إلى ذروتها في تغيير الجنس بينهما عبر المظهر الخارجي أو بالخضوع للعمليات الطبيّة التي تفتح أمامنا عالمًا من التحوّلات التي تتوخّى الجمال والتجميل أو القبح والتشويه في الوقت نفسه. طبعًا كان لا يمكن للمرأة خوض عصر الصناعة وصولًا إلى حضارة التكنولوجيا، من دون تخلّيها عن الكثير من مستلزمات الشكل التي تقرّبها من الرجال، والتي قد تجعلها في تجاوز ونجاحٍ مستمر في الميادين الإنتاجية المختلفة.
2- الموضة تردم الفجوات الاجتماعية: تبرز مظاهر الفقراء وألبستهم شكلًا متقدّمًا وجاذبًا كعنوان للموضة المعاصرة، نعاينها عبر اقبال أبناء الطبقات الميسورة والمتوسطة على ارتداء الثياب الممزّقة بصفتها آخر الأزياء تيمّنًا بالفقراء والشحاذين والمتسولين بثيابهم الرثّة، وخصوصًا سراويل الجينز التي تتألق منذ الـ2010 بصفتها آخر الصرعات. والجينز ليس أميركي النشأة، بل اقترحه مهندس فرنسي وألبسوه لعمّال المناجم الذهبية بعدما اكتشف أنّ ثياب العمّال العادية سريعة الاهتراء، فعمد إلى تفصيل أقمشة الخيم السميكة الزرقاء وكانوا ينامون فيها ألبسة لهم بدافع التوفير والاقتصاد. هي من قدرات الولايات المتّحدة الأميركية التي حوّلت بالمعنى الثقافي هويّة الجينز مثلًا، فصنّعته وأمركته وعولمته. ولقد فعلت الأمر نفسه بالبيتزا صاحبة الهوية الإيطالية فبرعت فيها وحوّلتها وعولمتها وأصبح الرائي لإعلاناتها في الطرقات العالمية والساحات قادرًا على شمّ صورتها الأميركية الجاذبة، لكنّها لم تنجح كثيرًا في إخفاء هويتها الإيطالية الأساسية فمنحتها هويّةً جديدةً يصحُ أن تكون عالمية إذا اعتبرنا بأنّ البيتزا هي قطعة خبز يضع كلّ شعب فوقها ثقافته وما لديه من أعشاب ومنتوجات لتصبح وكأنّها نوع من الثقافة العالمية.
3- الاحتماء بالشكل القديم: وليس بعيدًا من هذه الأمثلة، نجد اليوم مظاهر أفراد ومقاتلي المنظّمات الإسلامية مثل القاعدة وداعش والنصرة وغيرهم من الفصائل الإسلامية التي لا تحصى باللباس الذي كان سائدًا أيام النبي محمّد، محاولين العودة بالفكر والسلوك والشكل أكثر من ألفٍ وأربعماية سنة إلى الوراء. هذا الاندماج والتداخل بين ثقافات الشعوب والمظاهر المتنوّعة في العالم يعكس وجهًا آخر خطيرًا من التنابذ والكراهية بين الشعوب المتنوّعة في عواصم العالم ويجنح بالفكر مجدّدًا نحو نبش الأفكار القومية والعنصرية التي كنّا نتصوّر بأنّ جذورها قد سحبت من أرض الحضارة الإنسانية المعاصرة.
4- فلسفات الشكل: ونجد لهذه الأشكال البرّاقة التي تعيد إحياء القديم والسلفي فلاسفتها ومنظّريها ليس في بلاد الإسلام وحسب بل في الغرب مثل المفكّر الفرنسي روجيه غارودي الذي تأثّر بالمتصوّف الفرنسي لويس ماسينيون الذي أشهر إسلامه. وقد استطاع غارودي إشاعة فكرته بـ" حوار الحضارات"([8]) على مستوى العالم، بحثًا عن قواسم وأرضيّات مشتركة بين شعوب الغرب والشرق عن طريق الحوار، لكنّه قتل فكرته إذ غالى في نقده للغرب وأميركا تحديدًا، مبشّرًا في زوايا نظريته بزوال هذا الغرب من التاريخ عمومًا.
ولقد تحوّلت الاستبدادية في الانتاج والاستهلاك إلى ما يتجاوز الشكل بعدما أرسى جان بول سارتر في كتابه "الوجود والعدم"مثلاً، فلسفتها الجديدة، بعدما خرجت فرنسا وأوروبا من أقبية الحرب العالمية الثانية القاسية، مقدّمًا الوجود الإنساني البسيط والعيش وإمكانية الاستهلاك على فكرة عدميّة الصراعات التي تفتك بالحضارات كما على أيّ فكرةٍ فلسفية آخرى.
5- من يسقط أوّلًا: الشرق أم الغرب؟
لم تصمد فكرة الحوار الحضاري وغابت أصداؤها لكونها وقعت في زمن كان الصراع القائم بين الجبارين يحكم المجتمعات والعقول العالمية، تتقدّمها فكرة الجنوح الأميركي الكبير نحو قيادة العالم التي روّج لها الكثير من المفكرين، وفي رأسهم "فرانسيس فوكوياما" الياباني الأصل الذي قال بـ"نهاية التاريخ"، تلك الفكرة التي انتشرت سريعًا وتداعت بسرعةٍ أكبر عندما صوّرت أنّ نهاية التاريخ هي في انتصار الرأسمالية الأميركية على الأرض، والتلويح بسقوط الشرق الحتمي. وصار السؤال المعاصر يدور حول من يسقط أوّلًا: الشرق أم الغرب؟
جاء وقع طرح هذ السؤال ونتائجه كارثيًا بالمعنى الفكري المنتظر على مستوى العالم. وقد استفزّ السؤال الشعوب والحضارات شرقًا وغربًا بما فيها أوروبا، وحرّك في الوقت نفسه دورة الإنتاج والتحدّيات التي كان أقصى تجليّاتها مفاجأة سقوط الاتحاد السوفياتي وانهياراته التي أربكت أوروبا بأن ضاعفت أعداد دولها وأعباء شعوبها، وعجّلت في بحث روسيا لاستعادة عظمتها بالتوجه نحو المتوسط وإنتاج تحالفات واسعة تسقط فكرة الدولة أو الحضارة الأحادية، وتعيد أميركا إلى سلوك الطريق الذي هندسته وأسمته بلكنتها الأميركية High way، أي الجادة العريضة للذهاب والإياب، بدلًا من سيرها وحيدة في قيادة العالم عبر طريق في اتّجاه واحد one way.
لقد دفع مثلّث السقوط السوفياتي والبرجين وجدار برلين، إلى تجديد التركيز الفكري والبحث عن تنظيف نظريات ظهور الحضارات أو سقوطها أو حواراتها أو صراعاتها أو انتحاراتها، بما يقدّم الكثير من النقد والدحض على أكثر من مستوى.
طبعًا لم يسقط الغرب ولم يسقط الشرق، لكن اللافت في هذه النتائج الجديدة ومتعدّدة الأسباب والأهداف، أنّها تحاول الإسهام في إعادة تحفيز الإنسان وإخراجه من الحاضر نحو الماضي بهدف الحريّة والسأم من القلق الحضاري أو بهدف التمسّك بالدين تحقيقًا للتكافؤ في الصراع المستحيل. يلجأ كثيرون في الغرب إلى بعث الأفكار المسيحية المعصرنة كون النصوص المسيحية باتت بعيدة أو غريبة عن الواقع الراهن، بينما يدير الكثيرون ظهورهم نحو هذه الحجج الغيبيّة للمسيحيّة فيتوجهون شطر القبض على الإسلام- الشرق- البترول، فيحمل لواء نزعات دوله وصراعها الذي تعبق منه رائحة النفط، وهي مظاهر يفترض ألاّ تخدعنا على الإطلاق، بل يفترض أن نفضحها وندينها. وقد نعثر على من يذهب إلى ربط تلك الإنهيارات الحضارية بإيديولوجيات اليهود باعتبارهم يبرعون في تقديم أنفسهم مجتمعًا تاريخيًّا رائدًا في تواصل نبيّهم مع الخالق، فيحتفظون بماضيهم الثقافي والديني وطقوسهم، وفي الوقت نفسه يجهدون في تفريغ ماضي المسيحية والإسلام ومحو تاريخ الآخرين وطمسه أو تدمير معالمه حفاظًا على نقاء تاريخهم المزعوم برياديته وقوّته وتطويعه للقرار العالمي.
وفي ضوء ما تقدم يعاد طرح السؤال التاريخي مجددًا: هل الحضارة واحدة أم متعدّدة؟
6- الحضارة بين الوحدة والتعدّدية
الحضارة متعدّدة وهي في تراجع وتندمج بالثقافة، وهذه معضلة تحول دون أي ثقافة تمطّ عنقها لتعلن بأنّها هي الحضارة العالمية. ويرشدنا التاريخ إلى تفاعل طبيعي وحتمي بين الشعوب والحضارات بما يظهر تقاربها وتناغمها لا وحدتها، بينما تضعنا الخصوصيات الحضارية والحروب في تباعد وتنافس وصراع مدمّر بين الحضارات المتعدّدة، إلى حدّ امتصاص حضارة معيّنة لعِظام الحضارات التي سبقتها. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتراف بصعوبة الحسم بين وحدة الحضارات وتعدّديتها. وقد نعزو السبب الأوّل إلى أنّ الإنجازات الحضارية الكبرى الماضية غالبًا ما تقرأ وتأخذ مكانتها في ضوء الأيديولوجيات السائدة لدى الحضارات المعاصرة اللتين جاءت بعدهما. وهذا ما "يمكن أن نتمثّل به بالعودة، مثلًا، إلى الحضارتين الكنعانية - الفينيقية الشرقية التي جاءت بعدها حضارتا الإغريق والرومان الغربيّتان اللتان عملتا على محوٍ منهجي لإنجازاتهما عبر احراق مكتبتي صور وقرطاج قبل أن يدمّرا العاصمتين الحضاريتين بعدما أخذوا عنهما الأبجدية وبناء السفن والمرافيء". أمّا في ما يتعلّق بالحضارة العربيّة والإسلامية الأحدث عهدًا، فقد اعتمد الغرب استراتيجيات مختلفة مع انجازاتها مثل القراءات الملتوية لها وعدم الإنصاف والإنتحال والنقل والتحريف والطمس والتناقض في المقولات والأحكام ([9]).
المهم، أنّ هذا التفاعل، كان يثير، على الدوام، طموحات الشعوب إلى حدود الوهم بأنّ الإنسانية يفترض أن تتّجه نحو حضارة واحدة، وكان يسعفهم في ذلك بأنّ المعتقدات وأنساق القيم قد تتشابه وقد يسعفها الاتّصال في ما بينها للتعجيل في تحقيق هذا الحلم. بكلمتين، لم تتجاوز الوحدة الحضارية عالم الحلم لأنّ الفلسفة والفكر اللذين انبثقا من أقاصي الشرق مرورًا بالفلسفة الإغريقية والفلسفات العربية والإسلامية والفلسفات الأوروبية الحديثة، لم تتمكّن من إيجاد الأجوبة عن الأسئلة الفلسفية الكبرى وعجزت عن توحيد البشرية فانصرف العقل إلى التسليم وتجيير أسئلته إلى الدين، الذي أخفق بدوره، حتّى التوحيدي منه، في توحيد البشرية. وأخفقت تواريخ العلوم والابتكارات في توحيد الشعوب في حضارة واحدة، بل إنّها زادت في الشروخ والمسافات في ما بينها. وأعتقد بأن عصر التكنولوجيا التواصلية التي تتمتّع بها البشريّة ربّما يحقّق بعض ملامح هذه الوحدة التي لا تتجاوز التقارب وتوسيع الآفاق وتحقيق اليقظات والتحفيز على الثورات والصراعات، لكنّ الجزم في ما تؤول إليه في المستقبل يبقى نوعًا من المجازفة لأنّ الحضارة التي أسّس لها ابن خلدون في "مقدّمته" منذ ثمانية قرون بحثًا في كيفية ولادة الدول ونموها وأطوارها وهرمها وسقوطها وموتها، بدا أنّها جاءت تبشّر العالم بالمادية الجدلية والاقتصاد.
سادسًا: بين ابن خلدون والصحوة الدينية
بنى إبن خلدون عمارة راسخة جاءت في أساس علم العمران البشري وعلم الاجتماع السياسي إذ شبّه الإمبراطوريات والسلالات بالبشر تولد وتنمو ولها حياتها وقوانينها الخاصة، وهي تصل إلى الذرى لكنها تشيخ وتنحدر وتموت مفسحةً في المجال لإمبراطوريات أخرى. وتمرّ هذه العصبية في خمسة أطوار: الاستيلاء على الملك، الاستبداد، الرخاء، القناعة والمسالمة، الإسراف والتبذير، الانحدار وبداية النهاية بمعنى زوال الملك وظهور ملك جديد يمرّ بالأطوار نفسها.
في الفصل الثالث من المقدّمة التي تلتها مجلّداته السبعة، تطرّق ابن خلدون إلى الدول والملك والخلافة ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها معطيًا العصبية المكانة الكبرى في حياة الدول والممالك. وربط ابن خلدون هذه العصبيّة بشكل محكمٍ بعلاقات النسب والقرابة التي تقوى وتضعف وفق درجات النسب. وعندما يضيع النسب ويصبح الولاء متجاوزًا العائلة إلى القبيلة قد تختفي العصبيات التي قد تضيع أيضًا في المدن، وتتهددها شدّة الاختلاط إذ تفسد الأنساب عندها بالجملة. ويرى بأنّ العصبية تطول وتشتدّ ويمكن توريثها على امتداد 120 سنة أي أربعة أجيال، وهذا ما استنتجه من خلال دراسته العينية الدقيقة للسلالات الإسلامية التي حكمت الأندلس، والغرب، والشرق، التي عاصر العديد منها، بل وكان وزيرًا لدى بعضها، ودخل السجن أيضًا وهذا ما منح نصوصه القدرة على الجذب والإقناع لأنّه خبر بما جعله عارفًا عمّا يكتب وكأنّه درس نظام الحكم من الداخل مسجّلاً بأمّ عينيه ما شهده من المناورات والمؤامرات السياسية ([10]).
صحيح أنّ ابن خلدون قد دمغ الفكر البشري بحضور لافت ومستمر إذ حين جهد آرنولد توينبي إلى التمييز بين البداوة والمدنيّة في نظرته إلى الحضارات، واعترف بأنّه تأثّر بابن خلدون في "مقدّمته" الشهيرة، وأخذ عنه فكرة "التحدّي والاستجابة" عند تفسير نشوء الحضارات الأولى التي أحصاها في واحد وعشرين مجتمعًا حضاريًا اندثرت بمعظمها، ولم يبق منها سوى سبع تعصف بها أسباب الانحلال هي الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية، والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية، والهندوسية، والصينية، والكورية -اليابانية؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربية، فهو لم يقرّر مصيرها النهائي. لقد حاول التأكيد نظريًّا، بأنّ الإنسان هو في تحدّ دائم من الطبيعة والبشر، وتفترض التحدّيات الإستجابات، وباختلاف هذه الإستجابات تختلف الجماعات، فإذا كانت الإستجابات تواصلية وغنيّة تصبح عنوانًا للتمدّن والتطوّر، بينما إذا كانت ضعيفة، باهتة، تبقى عنوانًا للبداوة أو للتأخّر، لهذا يمكن أن تختلط الصور البدائية بعناصر أكثر تقدّمًا كالدين والفن والأدب.
ولقد برع أوزوالد شبنغلر خلافًا لتوينبي عندما سحب نظرية ابن خلدون على الغرب، معلنًا سقوط الحضارة الأوروبية في كتابه بالالمانية Der Untergang des Abendlandes والذي ترجم إلى العديد من اللغات ومنها العربية بعنوان: "تدهور الحضارة الغربية"([11]) وفيه تناول صعود الحضارات وازدهارها، وأفولها الحتمي لأنّ أعمارها محدودة وفق تاريخ الحضارات في العالم، تمامًا مثل الكائنات الحيّة التي تنمو وتموت وفق دورة طبيعية. لكنّه في تناوله لصعود الحضارات وسقوطها وقع في خطأ ربط الحضارة بالمعايير الثقافية الواسعة لا الوطنية بمعانيها وأحجامها الجغرافية والسياسية.
1- في سقوط أعمدة العصبيّة: يمكن القول بأنّ المرتكزات النظرية والمقولات التي اعتمدها ابن خلدون في حياة الدول وموتها قد أسقط الزمن الكثير من دعائمها ومرتكزاتها أو جعلها قابلة للنقد بتأثير التطوّر التاريخي الهائل الذي عرفته البشرية. وقد يكون للعصبيّة الحضور والأدوار المتراجعة أو المتقدّمة في المجتمعات العربيّة والإسلامية وغيرها من المجتمعات، لكنّ شيوع العلوم وظاهرة عولمة الجامعات والأبحاث والاختلاط الهائل على مستوى العالم وتقنيات العولمة الاقتصادية وثورة الاتصالات والإيغال في عصر الفضاء اللامتناهي أو الذي يصعب تحديده حتى الآن، الحيز الطبيعي لإخراج هذا النوع من الفكر من التاريخ الحديث وإسقاط جدران عمارته في فهم الحضارة والمدنيّة. وأكثر من ذلك، فقد وصل البشر إلى زمنٍ يمكن فيه قبول نظريات وتجارب تدحض نظريّة العصبية والأنساب ومقولات القرابة التي اعتمدها ابن خلدون ومجّدها، وتقدّم أمثلةً عليها شائعة من بنوك الدم أو بنوك الحيوانات التناسلية أو تأجير الأرحام الشائع في أوروبا وغيرها ممّا ينسف مفاهيم علاقات القربى الدموية العائلية والأعراق والأديان والمذاهب والتي بدت في انهيار وانحدار في العلاقات بين أبناء الدولة الواحدة والدول الأخرى في المجتمعات المعاصرة ([12]).
2- لماذا اهتمام الغرب بابن خلدون؟: أدرج هذا السؤال وأمامي على قناة الـC.N.N إعلان نقلًا عن محمد بن سلمان ولي العهد السعودي السماح للمرأة بقيادة السيّارة. هذا قرار ضجّت به وسائل الإعلام العالمية، يمكن إدراجه أوّل الغيث في إمكانية هندسة المستقبل، بل انتصار عظيم (كما أسمته وسائل الإعلام ودوائر الغرب الكبرى)، مهّد له ولي العهد الشاب قبل نصف سنة إذ كان يعلن رؤية المملكة العربيّة السعودية للعام 2030 معتبرًا "المرأة نصف المجتمع" (وهو شعار طبيعي ومحقق في العالم كلّه)، ولا بدّ لها أن تكون فعّالة ومنتجة...وقيادتها للسيّارة ليست دينية بقدر ما لها علاقة بقبول المجتمع أو رفضه...لا نفرض عليه شيء لا يريده، لكنّ المستقبل تحدث فيه متغيّرات، نتمناها أن تأتي دومًا إيجابيّة..."([13]).
هناك إقرار بأنّ المستقبل حافل بالمتغيّرات، وهنالك إجماع بأنّ ابن خلدون قد "صاغ فلسفةً للتاريخ هي أعظم ما توصّل إليها الفكر البشري في مختلف العصور والأمم" وفقًا لأرنولد توينبي. وقد أرسل الروائي الروسي مكسيم غوركي برسالة إلى المفكّر الروسي أنوشتين في 21 أيلول/سبتمبر 1912 وفيها أنّ نظريته" قد أحدثت وقعًا مثيرًا اهتمّ به لينين الذي تساءل بدوره: ترى أليس في الشرق آخرون من أمثاله؟" ([14]).
لكنّ اللافت أنّ الغرب قد احتفل أكثر من العرب والمسلمين بابن خلدون تونسي الأصل ورائد التركيز على دور العوامل الاقتصادية وعلاقات الإنتاج منذ القرن الرابع عشر. كان الاحتفاء الأخير به غربيًّا في العام 2016 في ذكرى مئة سنة على وفاته إذ لا يتّسع المجال لأعداد الصحف الخاصة والدراسات والمؤتمرات (في فرنسا، الجزائر، إشبيلية، تونس، المغرب...الخ) حول ابن خلدون وبالطبع المقالات والمقابلات والمؤلّفات التي تستوقف الباحثين([15]). ليس في الأمر غرابة كبرى لأنّ الأوروبيين هم الذين اكتشفوا في القرن التاسع عشر أهميّة ابن خلدون وفكره إلى جانب أفكار من هم من أمثاله مثل ابن رشد والفارابي وغيرهم، إذ راحوا يحققون مخطوطاتهم وكتبهم يدرّسونها على مقاعد الجامعات، بعدما اكتشفوا أنّ تلك المخطوطات كانت تباع بما يقابل أوزانها ذهبًا في العصر الوسيط ورواج النسخ. يمكن عزو هذا الإهمال العربي إلى حالة الجمود والإنحطاط التي نعانيها وهذا ليس بجديد.
3- البحث عن إسلام التنوير: بالفعل لماذا هذا الاهتمام؟
يستمدّ السؤال أهميّته بالعودة إلى التفكير في ظاهرة الفوران الديني والمذهبي الذي يضاعف من عدم استقرار الدول والحضارات بسبب عناوين غريبة مثل الإرهاب والإسلاموفوبيا والفوضى الخلاّقة.
مال العقل الغربي في العقد الأخير إلى الاعتقاد بأنّ ابن خلدون قد يمثّل نموذجًا مقنعًا أو مغريًا ويحتذى به من قبل المثقفين العرب في مناخ مضغوط فكريًا وسياسيًا وعسكريًا بـ"صراع الحضارات"، بديلًا مطلوبًا للتوفيق بين الأصولية والحداثة الغربيّة. ومن الملاحظ أنّ الفكر السائد في فرنسا والمغرب العربي كان من أشدّ المروّجين لهذه التوليفات الفكرية (نقول التوليفات لأنّ الفكر التوفيقي في نظرنا هو من أسوأ أنواع الفكر)، انطلاقًا من الفكرة التي تظهر ابن خلدون في عين الغرب عائمًا لم يغص في بحور الفلسفة إلى المستوى الذي علق في الأذهان خشية خروجه عن طريق الدين ولم يكن من أنصارها بقدر ما كان فقهيًّا ولاهوتيًا وفق التسمية الأوروبية. يمكننا أن نرجّح في استدعائه إلى عصرنا تسهيلًا للتوفيق بين العلم والإيمان، أو بين العقل والدين وهو أقصى ما يشتهي العالم تحقيقه في دنيا العرب والإسلام سواء بالفكر والحوار أو بالقوة والخراب.
لقد أفلت الفلسفة بمعانيها التقليدية القديمة مثل الهلينيّة بصفتها العالمية كحضارة الإغريق أو الرومان أو الفرس، وضمرت نحو مسائل البيئة والصحة والتواصل...إلخ. وتأفل معها الفكرة القائلة بأنّ الفلسفة قد توصل إلى الكفر والإلحاد على ما يظنّ الأصوليون، باعتبار أنّ دراسة الظواهر الفيزيائية أو الطبيعية قد تفضي بنا إلى اللاهوت والميتافيزيقيا وترتفع بالدارس إلى مستوى الإيمان.
وفي المحصّلة، يمكن نقد هذا النوع من الاهتمام الفكري الغربي لنحمّل متنوّري العرب والإسلام أكثر ممّا نتصوّر لحلّ العلاقات المأزمية مع العرب والمسلمين وعلاقاتهم بالغرب. ولا يمكننا التوفيق بين عصور التنوير العربي والإسلامي في القرن الرابع عشر، حيث كان الانحطاط شاملًا، وعصر التنوير الغربي في القرن الثامن عشر، بأدوات القرن الواحد والعشرين، لأنّنا نغفل مقولات الاقتداء والانبهار بالغالب والاستعداء والانتماء في علاقات الشعوب والثقافات بين تخلّفها وتقدّمها في حقبٍ مختلفةٍ.
يمكننا الترويج لفكرة استئناف الحضارة بمعناها الثقافي المتنوّع بتنوّع شعوب الأرض وفق المواصفات العالمية للحضارة الجديدة التي تضبط مشاعيتها وفوضاها وسائل التواصل والتداخل الهائل بين قوى الإنتاج وقوى الإستهلاك التي أخذت حيّزها من هذه الدراسة ونضيف إليها بعض الخلاصات:
الخلاصات:
1- كان يثير التفاعل الناعم أو القاسي بين الدول والشعوب، على الدوام، طموحات إلى حدود خلق وهم التصوّر أو القناعة بأنّ الإنسانية يفترض أن تتّجه نحو حضارة واحدة، وكان يسعفهم في ذلك بأنّ المعتقدات وأنساق القيم قد تتشابه وقد يسعفها الاتصال في ما بينها للتعجيل في تحقيق هذا الحلم. بكلمتين لم تتجاوز الوحدة الحضارية عالم الحلم لأنّ الفلسفة والفكر اللذين انبثقا من أقاصي الشرق مرورًا بالفلسفة الإغريقية والفلسفات العربية والإسلامية والفلسفات الأوروبية الحديثة لم تتمكّن من إيجاد الأجوبة عن الأسئلة الفلسفية الكبرى وعجزت عن توحيد البشرية فانصرف العقل إلى التسليم وتجيير أسئلته إلى الدين والإيمان الذي أخفق بدوره حتّى التوحيدي منه في توحيد البشرية. وأخفقت بدورها تواريخ العلوم والابتكارات في توحيد الشعوب في حضارة واحدة، بل أنّها زادت في الشروخ والمسافات في ما بينها. وأعتقد بأنّ عصر التكنولوجيا التواصلية التي تتمتّع بها البشريّة اليوم ربّما تحقّق بعض ملامح هذه الوحدة التي لا تتجاوز التقارب وتوسيع الآفاق وتحقيق اليقظات والتحفيز على الثورات والصراعات، لكنّ الجزم في ما تؤول إليه في المستقبل يبقى نوعًا من المجازفة لأنّ مفهوم الحضارة التي أسّس لها إبن خلدون في "مقدّمته" منذ ثمانية قرون بحثًا في كيفية ولادة الدول ونموّها وأطوارها وهرمها وسقوطها وموتها ما زالت مستمرّة وهي جاءت وكأنّها تبشّر العالم بالمادية الجدلية والإقتصاد.
2- قد تندثر الحضارة وتموت عندما تفكّ عراها في الالتحاق بالمستقبل، ولكنّها قد تتراجع وتركد عندما تلتحق به لكنها تنقطع عن تأثيرها وتفاعلها العام. السبب ربّما يكمن هنا في استراتيجيات الدول التي تفتح طموحاتها على مستوى العالم وكأنّها تنتجه وتجعله ملعبًا للمستهلكين. ويمكنني التفكير هنا بما أسمّيه بـ"استئناف الحضارة" في العالم كمحطّة إيجابية غالبًا ما تلغي الانخراط في العصر، ولا تتمكّن من إلغاء الماضي قطعًا لكنها تستوعب التوقفّ والتعثّر الذي يمكن أن تقع فيه الحضارات والشعوب بهدف اكتشاف الحكم والعبر والتسليم بمقدرات الأجيال المعاصرة. يندرج مصطلح الاستئناف الشائع بمعنى التصويب والتصحيح في ميدان القوانين، مثلاً، في أحكام الدرجة الإبتدائية عندما يفتقر الحاكم إلى العدالة، ويذهب الأمر إلى تمييز الأحكام في حال فقدان العدالة عند الاستئناف، وهي معادلة رائعة في إجهاد الشعوب ودوران الفكر حول مخارج مفيدة بدلًا من الإرتماء الكامل في الماضي الذي لا يورث أهله سوى الانقطاع أو الانحطاط أو السقوط أو الانهيار وتزدهر معها كلّها الانتحارات الحضارية. هكذا يمكننا أن نفهم بؤس الحضارة العربيّة إذ تنحصر في المعتقد والثروات الجوفية بما يجعلنا "نشهد تناقضًا أو تقابلًا مدهشًا أو توازيًا صارخًا بين حركة الإسلام الأولى عند امتصاص الحضارات البيزنطية والهندية والفارسية... ونشهد انتشار الحضارة الصناعية بمعنى الإنتاج والإستهلاك (وأضيف إليها التكنولوجية) ونحن لا نعرف بعد، إن كان العرب قادرون على استعمال خلاصات تجارب العالم ودفعها في أيّ اتجاه وهل هم قادرين فقط على امتلاكها بثرواتهم أم أنّهم قادرون على الانخراط في لغات الألات وتجاربها ومفاهيمها..."([16]).
إنّ أزمة الحضارة العربيّة كامنة في التمزّق المألوف بين الإقبال على التقنيّة واكتسابها، حتّى قبل الآخر صانعها ومبتكرها مع رفض المبتكر وقيمه وتكفيره. الهدف الأسمى من ذلك هو تحقيق المعاصرة الشكلية التي قد تضيف شيئًا إلى ثقافة المستهلكين وعاداتهم وسلوكهم.
لا تضيف اليقظات الدينية الكثيرة بتركيزها على الأخلاق في السياسة والاقتصاد. يمكن فهمها بأنّها ظاهرة تعويضيّة تغطّي القصور الناتج عن الضعف التقني والابتكاري من ناحية، والتمادي في الإقتراب من الغرب (أو الشرق بالمعنى الصناعي) وشرائهما وتعاظم الحاجة إليهما من ناحية أخرى. هذا التوفيق المستحيل بين مستلزمات العقائد الدينية ومستلزمات تحوّلات الأجيال الصناعية والتقنية تدفع بالتوفيقيين إلى الإستهلاك المتزايد باعتبار الإستهلاك نوعًا من تسخير فكر المنتجين واستعدائهم. يصحّ السؤال هنا: إنّ ما يلبسه المنتج في الشرق والغرب ويأكله ويشربه ويسافره ويطمح إليه، كيف يمكنه أن يصل إلى القيم الكامنة وراءه فيمتلكها وهي في تحوّلاتٍ مستمرّةٍ بل كيف يمكنه التوفيق بين قيمه الثابتة وتحوّلات هذه القيم الجديدة؟
يفترض هذا التوجه الإيجابي لا الإنكماشي الغالب، الاعتراف بأنّ المنطقة العربيّة الممتدّة من أقصى المغرب نحو مصر وبلاد ما بين النهرين شرقًا نحو بلاد الشام هي مهد الحضارة الإنسانية، وإنسانها على صناعة الحضارات والاقتصاد والمال، لأنّه نجح في بناء حضارة مميّزة له في الماضي، فهو قادر من جديد على بعثها إذا ما تمثّل اهتمامه في صناعة الإنسان الجديد والانخراط في حركة التطوّر والإبتكارات العالمية والخروج من دوائر الإستهلاك إلى دوائر الإسهام في الإنتاج لا تمويله، وصولاً إلى المشاركة في إنتاج مفاهيم الحضارة الجديدة التي تسقط من حسابها الأفكار والشروط التقليديّة والخصوصيّات الضيّقة.
3- أعتقد بأنّ الأمر يفترض، خلع الخطابات القديمة العربيّة والانفتاح الشجاع على العالم. لا يكفي أن نفتح الأبواب والنوافذ على مقتنيات الآخرين وتقليدهم فقط، في ظل سوق عالمية واحدة أسقطت الحدود بين الشعوب. فالحديث الشائع مثلًا عن السوق العربية المشتركة أو الوحدة العربيّة مثلًا، كلام وأحلام قديمة سبقتها حركة العصر. لقد تحوّل العالم كلّه إلى سوق عالمية شاسعة.
ولا نغفل أنّ تاريخ الحضارات يرشدنا إذ نقرأه أفقيًّا، إلى تعيين غير نهائي لنقاط أو ملامح التفاعل الحتمي والطبيعي بين الشعوب بثقافاتهم المتنوّعة. هذه الملامح خاضعة بالطبع للتقارب الجغرافي أو تطويع الجغرافية وأساليب التواصل والغلبة التي كانت وما زالت تشكّل، بالنسبة لطرائق تفكيرنا، نتوءات وحواجز وأحداث مؤلمة بين الشعوب، يتغلّب فيها الأقوى، بعد أن تؤدّي التفاعلات إلى الحروب الهائلة والإخضاع.
قد تقودنا النظرة العمودية أحيانًا إلى الكشف عن خصوصيّات حضارية باهرة تحتاج لأن يغوص فيها علماء الإنتروبولوجيا، ولا يستطيع باحث أن يتجاهلها عندما يكون همّه في الخروج من أعباء الإنقطاعات الحضارية. يساعد التفاعل في بث الحيوية في الحضارات الواقفة كما التفاعل بين حضارتي مصر والهند مع حضارة بلاد ما بين النهرين، أو التقارب والتداخل والنقل بين حضارات أوروبا وآسيا وحضارات الصين والهند. وقد يكون هذا التفاعل قد تراجع على أكثر من مستوى وإلى حدود كبيرة بعدما تمدّدت أميركا والصين واليابان بتقنياتها وغمرت العالم كلّه، وهي في الواقع لم تشكّل أو تؤسّس بعد لحضارة جديدة وفق المفاهيم السائدة، ولو أنّها قدّمت نفسها متقدّمة ورائدة في مختلف المجالات.
بهذا المعنى، يمكن النظرة إلى مقياس النموّ بكونه التقدّم في سبيل التحقيق العالمي لا الوطني، ويكون ذلك عن طريق المبدِعين من الأفراد والإداريين والباهرين من الشباب، أو بواسطة الفئة القليلة من القادة الملهمين الحالمين الذين تستجيب لهم الأكثريَّةُ عن طريق المُحاكاة الآليَّة التي تمثل الطريقةَ الغالبة في عمليَّة الانقياد الاجتماعي نحو مشاهد التطوير والتسويق. وتـقود هذه المحاكاة في الجماعة البدائيَّة إلى حركة سلفية تـنزع إلى محاكاةِ القدماء، بينما هي في المجتمعات الحضاريَّة النامية حركة تقدمية تؤدِّي إلى محاكاة الطليعة الخلاَّقة التي لا تنقطع.
هنا تبرز كيفية تطوير الحضارة، عبر تنزيه الدين وإبعاده النهائي عن السياسة لأنّ قيمة الوقت وقيمه The time is money تبرز في قاموس الأجيال الجديدة من دون التركيز على الكثير من الفروقات. فالزمان هو مقياس الحركة ولا يمكنه أن يتوقّف في البحث عن التطوير، لأنه مثل مياه النهر يجري ولا يعود إلى الخلف، ويعني تقديس الوقت والإنجاز والإنتاج دوام التعلّم والبحث الحاصل اليوم عبر طاقات الشباب والشابات حيث الإدارة قيادة عالمية طلّقت الأعمار المتقدّمة وسكنت عقول الصغار المسكونين بالمنافسة في عصر اقتصاد المعرفة بهدف النجاح والسباق وتلاقح الثقافات والخروج النهائي من عقدة الحضارة.
مراجع الدراسة
[1] Naissance de l’écriture, Cunéiformes et hiérogllyphes, Galeries nationalees du grand palais, Ministère de la culture,Paris,7mai-9 .AôUT,1992
[2] بولس الخوري، التراث والحداثة، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1983.
[3] Victor de Mirabeau, L’ami des hommes ou traité sur la population, Paris,1756.
[4] Ralph Linton, Le fondement culturel de la personnalité, trad.par Andrée Lyotard,Paris,Dunod,1988.
[5] نسيم الخوري، مذكّرات وطن مستورد، دار إعلامك، بيروت، 1994.
[6] هنري برغسون، ينبوعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي والدكتور عبداللـه عبد الدايم، ط2، بيروت، دار العلم للملايين، 1984.
[7] Teilhard de Chardin. Les terres inconnues de la vie spirituelle, Les editions Fides, Paris,2002
[8] Roger Garaudy, Promesses de l’Islam, éd. Seuil, Paris,1982
[9] فردريك معتوق، سوسيولوجيا الفن الإسلامي، منتدى المعارف، بيروت، طبعة 2، 2017.
[10] Arnold Toynbie, l’Islam,l’Occident et l’Avenir, editions des malassis, paris, 2013.
وأيضًا منح خوري، التاريخ الحضاري عند توينبي، دار العلم للملايين، بيروت،1960.
[11] أوزوالد شبنغلر، تدهور الحضارة الغربيّة، ترجمة أحمد الشيباني، ج1و2، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1969، وقد نشر بالإلمانية في العام 1922.
[12] نسيم الخوري، فنون الإعلام والطاقة الإتصالية، دار المنهل اللبناني، بيروت، 2005.
[13] مغيب الثلثاء 25 أيلول /سبتمبر2017.
[14] Arnold toynbie.ibid
[15] من الكتب التي نشرت في تلك السنة:
ISmaïl Goumeziane, Ibn Khaldoun. Un génie maghrébin (1332-1406), Paris, Non Lieu, coll "Personna grata" 2006.
Hamit Bozarslan, Le luxe et la violence - Domination et contestation chez Ibn Khaldûn, éditions du CNRS, avril 2014.
Gabriel Martinez-Gros, Ibn Khaldûn et les sept vies de l'islam, éd. Actes Sud, Arles, 2006.
Claude Horrut (préf. Jean-Louis Martres), Ibn Khaldûn, un islam des Lumières, Complexe, 2006.
Abdesselam Cheddadi, Ibn Khaldûn. L'homme et le théoricien de la civilisation, éd. Gallimard, Paris, 2006.
Krzysztof Pomian, Ibn Khaldûn au prisme de l'Occident, éd. Gallimard, Paris, 2006.
Pierre Lepape, “L'inventeur de la sociologie”, Le Monde diplomatique, janvier 2006.
“Conférence : la cité dans la pensée d'Ibn Khaldoun”, [archive], Le Matin, 17 mai 2006.
راجع أيضًا للمزيد من التفاصيل:
www.google.com, 6ème centenaire de la mort d'Ibn Khaldoun
[16] أطلقت فكرة استئناف الحضارة في دبي ضمن القمة العالمية للحكومات في دورتها الخامسة، صحيفة الخليج، 14 شباط/فبراير، 2017.
Continuity of civilization in production and consumption
At first glance, it appears that the relation between production and consumption is of a purely economic character.
However, the reality is completely different taking into consideration that it is the relation joining the West and the East. Based on this idea, we are witnessing another merge between culture and civilization, though it is important to note that this merge drives us to work toward achieving equality between these two concepts, particularly in this so-called digital world. This new world that is distinguished with nuclear avidities could insinuate the beginning of a new Cold War. In any ways, we are addressing an amalgam of convictions merged with religion and a spiritual space. All of these aspects are included under the aegis of a spiritual explanation for human logic, obviously without breaking up with Christian and Muslim civilizations.
It appears that departing from this dilemma and these conflicts drove us to resort to different explanations mainly the return to the past and philosophy.
All things considered, we can name a list of differences between Ibn Khaldoun and religious awakening in order to denounce religious fanaticism as a preliminary step toward a new renaissance.
In conclusion, one must say that societies aim for a harmonious civilization; however, these societies are leaning toward production and consumption.
It is also worth mentioning that we should drive consumers into relying on an ethic, a new culture and an attitude.
La continuité de la civilisation dans la production et la consomation
Il apparait à première vue que les rapports entre la production et la consomation revêt un caractère pure économique
Alors que la réalité est tout a fait autre étant donné qu’il s’agit de relation entre l’Occident et l’Orient. De ce fait, on assiste à un autre mélange qui se manifeste entre la culture et la civilisation, or, il faut dire que ce mélange nous mène à établir une égalité entre ces deux concepts, surtout dans ce nouveau monde dit numérique. Ce nouveau monde plein d’une convoitise nucléaire peut insinuer le retour d’une guerre froide. De toute façon, il s’agit d’un amalgame de convictions mélangées avec la foi et un espace spirituel.
Tous ces aspects se répondent sous l’égide d’une explication spirituelle de la logique humaine, bien évidement sans se disloquer des civilisations chrétiennes et musulmanes.
Il s'avère que pour sortir de ce dilemme et ces conflits, on a recours à plusieurs explications notamment la mode et le retour au passé ainsi que la philosophie. Tout compte fait, on établit une liste de différences entre Ibn Khaldoun et l’éveil religieux pour arriver à dénoncer le fanatisme religieux vers une époque de lumière.
En guise de conclusion, il faut dire que les sociétés tendent vers une civilisation harmonieuse, mais apparemment elles se penchent vers la production et la consomation. Notons aussi qu'il faut adopter une éthique aussi qu'une nouvelle culture et attitude chez les consommateurs. Et le niveau de développement de pas sera le cadre national vers un cadre plus vaste voire celui de l’international.