تراث وطني

افتتاح المكتبة الوطنية في بيروت بعد ترميم مبناها ومحتوياتها
إعداد: جان دارك أبي ياغي

علامة مضيئة  في الزمن الصعب

 

في مطلع العشرينيات من القرن الماضي أسّس الكونت فيليب دي طرّازي المكتبة الوطنية في بيروت انطلاقًا من مجموعة خاصة قيّمة يملكها. نمت المكتبة وشكّلت مركز إشعاع ثقافي إلى أن بدأت الحرب في العام 1975. اليوم، وبعدما أعيد افتتاحها يُنتظر أن تؤدّي دورها على صعيدي إنتاج المعرفة وحفظ التراث الوطني.

 

حين تأسّست المكتبة الوطنية في العام 1921، كانت تضم نحو عشرين ألف كتاب. وبفضل قانون الإيداع الذي صدر بعد نحو ثلاث سنوات نمت محتوياتها وأصبحت 200 ألف في العام 1975. في زمن الحرب تعرّضت محتوياتها للضياع والنهب. وفي العام 1979، أغلقت تمامًا، بعد أن عجزت عن الصمود في موقعها الكائن على خطوط التّماس وسط بيروت، ثم نُقلت بين العامين 1982 و1983 إلى مبنى داخل حرم ​الأونيسكو،​وظلّت هناك لغاية العام 1997.
في العام 1999، قرّر مجلس الوزراء اللبناني جعل مبنى كليّة الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، الواقع في منطقة الصنائع، مقرًّا للمكتبة الوطنية التي انتقلت إلى حرم مرفأ بيروت، وها هي اليوم تستقر في مركزها الحديث بعد تنفيذ المشروع بتمويل من قطر والاتحاد الأوروبي.

 

الإرث الثقافي
يؤكّد رئيس مجلس الإدارة والمدير العام للمكتبة الوطنية الدكتور حسّان عكره (دكتور في علم الآثار)، أنّ دور المكتبة الوطنية هو حفظ الإرث الثقافي والإنتاج الوطني على اختلاف أنواعه (مسرح، سينما، رسم، نحت، موسيقى، شعر، أدب...) فضلًا عن حفظ الأعمال والوثائق المتعلّقة بهذا الإنتاج، والمحافظة على المجموعات المتوافرة وتنميتها باستمرار.
ويشير عكره إلى أن المكتبة تحتوي 300 ألف كتاب يعود بعضها إلى القرن السابع عشر، ونحو ثلاثة آلاف مخطوطة يعود أقدمها إلى القرن العاشر، وهي ستكون مركزًا للأنشطة الثقافية بمختلف أوجهها. وإذ لفت إلى أنّه من بين موجودات المكتبة النادرة مجلدات من مجلة «الجندي» تعود إلى العامين 1948 و1949، دعا المفكّرين إلى إيداع نسخ من كتبهم في المكتبة الوطنية، متمنيًا أن تصبح متحفًا للكتب والمخطوطات.

 

العراقة والمعرفة
احتضن مجمع الصنائع الذي أُنشئ مطلع القرن العشرين العديد من مؤسسات الدولة، إلى أن استقرت فيه في العام 1959 كلية الحقوق والعلوم السياسية التي ظلت تشغله حتى العام 2006 حين انتقلت إلى مقرّها الجديد في الحدث.
يشكل مبنى الصنائع نموذجًا لفنّ العمارة العثمانية في أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر. وعندما تحوّل إلى مقرّ للمكتبة الوطنية، راعت الدراسات الهندسية التي وُضعت لترميمه الحفاظ على طابعه التراثي، وأضافت إليه بعض المساحات والتحسينات اللازمة.
يمتد المبنى على مساحة 12500 متر مربّع، وتتوزّع في طوابقه مخازن الكتب والمجلات وسواها من مطبوعات حُفظت بطريقة علمية تمنع وصول الرطوبة إليها، وقاعة القراءة، وقاعات مخصصة للباحثين، إضافة إلى المكاتب الإدارية ومختبر ترميم الكتب، وموقف يتسع لمئة سيارة، فضلًا عن الحديقة العامة التي يمكن تنظيم عدة نشاطات فيها.
تشير المديرة التنفيذية للمكتبة السيدة جلنار عطوي إلى الطابع المميز للمكتبة التي تجمع بين جمال فنّ العمارة القديم وتطور التجهيزات الحديثة. في الصالة الكبيرة التي شهدت حفل الافتتاح، يحيط الحجر القديم بالمكاتب الخشبية المجهّزة لضمان تمكّن روّاد المكتبة من استخدام أجهزتهم التكنولوجية والاستفادة منها، وحول المكاتب الخشبية مكتبات تحتوي كنوزًا معرفية بينها كتب قديمة نجت من الحرب الأهلية، وكتب دينية يرجع تاريخ بعضها إلى العام 1671.
مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية لم ينتهِ بعد، بحسب عطوي، والعمل جارٍ لفهرسة المجموعات الموجودة وتصنيفها وترميم الوثائق القديمة وغير ذلك من الأمور التي تُعدّ أساسية.
تتضمن مجموعة المكتبة الوطنية اللبنانية حاليًّا الوثائق التي كانت مودعة في 3400 صندوق بعد إقفال دار الكتب الوطنية في العام 1979. وقد أضيف إليها بعض المقتنيات الحديثة التي قُدِّمت إلى المكتبة عبر هبات شخصية وغيرها. وتتضمن موجوداتها فضلاً عن الكتب والدوريّات(مجلّات، نشرات، الخ...): وثائق نادرة، مخطوطات، لوحات، منشورات حكوميّة، خرائط وتصاميم، بطاقات بريديّة، تسجيلات موسيقيّة، ملصقات ووثائق إلكترونية (أقراص مدمجة...).

 

مراحل ومحطات
في العام 2003 وقّعت وزارة الثقافة وبعثة المفوضية الأوروبية في لبنان اتفاقية هبة أطلق بموجبها العمل بإعادة تأهيل المكتبة الوطنية عبر إنقاذ محتوياتها ومعالجة الوثائق القديمة وترميمها بعد نقلها إلى محترفاتها في حرم السوق الحرة في مرفأ بيروت.
وفي العام 2006، قدّم أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني هبة إلى الدولة اللبنانية لبناء المكتبة الوطنية شملت ترميم المقرّ الكائن في الصنائع وبناء مساحات جديدة.
اليوم، وبعد مرور كل هذا الوقت، تمّ إحياء هذا التراث الوطني عبر إعادة افتتاح المكتبة الوطنية بحلّتها ​الجديدة، ​في احتفال حضره رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، رئيس الحكومة سعد الحريري، وزير الثقافة غطاس خوري، سفير قطر محمد حسن جابر الجابر، وعدد كبير من الشخصيات اللبنانية.

 

مجموعة الفيكونت فيليب دي طرّازي
تاريخيًّا، شكّلت مجموعة الفيكونت فيليب دي طرّازي (1865- 1956) الخاصة نواة المكتبة الوطنية. وهو أديب وشاعر وباحث، أصله من الموصل، هاجر أسلافه إلى حلب وتفرّقوا في بلاد الشام ومصر.
كان لدى دي طرّازي ولع بجمع الآثار القديمة والعناية بها، فاهتمّ منذ العام 1889 بجمع الأعداد الأولى من المجلات والجرائد التي ظهرت في عدة لغات كالعربية (جمع 1900 صحيفة ومجلة عربية) والتركية والسريانيّة والعبرانية والأرمنية والفارسية والتترية والكردية والهندية والأوردية وغيرها... ورتّبها حسب تسلسل صدورها.
في العام 1913 وضع كتاب «تاريخ الصحافة العربية» الذي يتضمن تأريخًا شاملًا للصحافة العربية في مشارق الأرض ومغاربها.
اقتنى دي طرّازي مجموعة احتوت على خطوط مشاهير الرجال والنساء في الشرق من سلاطين وملوك ووزراء وأمراء وعلماء وشعراء وأئمّة، كما اقتنى مجموعة مهمة من الطوابع البريدية. وقد أسهم في نشر الثقافة، إذ أهدى مكتبة دير الشرفة للسريان الكاثوليك (لبنان) ونقابة الصحافة في بيروت مجموعة كبيرة من الكتب المخطوطة والمطبوعة، وقدّم العديد من الكتب إلى المكتبة الخديوية في القاهرة، والمكتبة الامبراطورية في فيينا، والمكتبة الوطنية في لندن، والمكتبة الفاتيكانية في روما، والمكتبة الأهلية في برلين، ومكتبة همبرغ في ألمانيا، ومكتبة مدرسة اللغات الشرقية في باريس...
أنشأ دار الكتب في بيروت التي سُمّيت «دار الكتب الكبرى»، ونقل إليها مكتبته الخاصة التي ضمّت نفائس مخطوطة ومطبوعة ومجموعة كبيرة من المجلات والجرائد. سافر إلى أوروبا على نفقته الخاصة، وجمع آلاف الكتب من معاهد الأدب والمؤسسات الثقافية والمجامع العلمية، والعديد من التحف الثمينة، إضافةً إلى اللوحات الزيتية.
تمّ تدشين الدار رسميًّا في 25 تموز 1922 باحتفال ترأسه الجنرال غورو، وعُيِّن دي طرّازي أمينًا عامًّا لها حتى العام 1939.