- En
- Fr
- عربي
العوافي يا وطن
في ذاكرتي مشهد يعود إلى العام 2007، وتحديدًا شهر حزيران من ذلك العام، يوم كانت معارك نهر البارد على أشدّها ودماء شهداء الجيش المباركة تعلو مداميك في وجه مخططات الإرهابيين السوداء. كنت مع كثيرين من الأهالي ننتظر خروج أولادنا من المدرسة التي اتّخذت في تلك الفترة تدابير خاصة وسط مخاوف من عمليات إرهابية تستهدف مؤسسات مدنية. من بين تلك التدابير إغلاق البوابة التي يخرج منها التلامذة الذين يغادرون بصحبة أهلهم، وعدم فتحها إلا بعد أن يعلن من جاء لاصطحاب ولده عن اسمه واسم ابنه أو ابنته، فتفتح البوابة ويخرج الولد. أطلّ من بين صفوف الأهالي عسكري بدا لكل من رآه أنّه آتٍ من هناك، من ساحة المعركة. تلقائيًا، أُفسح أمامه مجال المرور، وبادره كثيرون بالقول: «تفضّل يا وطن».
فُتِحت البوابة وخرجت منها طفلة لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات، وما أن رأته حتى غرقت في نوبة صراخ: «بابا، بابا، بابا...» وفيما حملها ورفعها إلى حيث قلبه، كانت دموعها وصيحاتها تملأ الساحة وتسيطر على كل من فيها. في تلك اللحظة انسحبت من المشهد كل تفاصيل الازدحام والانتظار والتذمّر... ذلك الأب المحتضن ابنته كان أشبه براية مرفوعة تشدّ جميع الأنظار. سالت دموع كثيرين، وظلت دمعة العسكري بين القلب والشرايين تنتظر أن يبتعد قليلًا لتسري في مجراها. غادر محتضنًا طفلته حاملًا حقيبتها، وسَرَت بين الحاضرين تكهّنات عن الوقت الذي أمضاه خارج البيت، بعيدًا من عائلته. أحد الحاضرين جزم بأنّه لم يرَه آتيًا لاصطحاب ابنته مذ بدأت الحرب في نهر البارد.
خلال تلك المرحلة العصيبة كما في مراحل وأيام أخرى، عاشت عائلات عسكريّينا تجارب قاسية لم تقتصر على غيابهم الطويل عن بيوتهم وعائلاتهم، ولا على ما عانته هذه العائلات من قلق وخوف. فكم من عسكري عاد محمولًا على أكتاف الرفاق قبل أن يرى ابنًا وُلد في أثناء غيابه؟ وكم من طفلة انتظرت أن تجد والدها أمام بوابة المدرسة وهي لم تستوعب بعد أنّه لن يأتي أبدًا؟
إنّها واحدة من الضرائب الكثيرة التي يسدّدها كل من اختار طريق الجندية ملتزمًا واجبه وشرفه العسكري. وهي أحد الأمور التي تطرح بقوة إشكالية الحضور والغياب في حياة الآباء العسكريين. فهم كآباء، مسؤولون من جهة عن عائلاتهم، وهذه المسؤولية تقتضي الحضور الفاعل بجميع أبعاده في حياة أبنائهم وعائلاتهم. وهم من جهة أخرى يتحمّلون مسؤولية كبرى تجاه وطنهم ومجتمعهم، ما يضطرهم في أحيان كثيرة إلى الغياب عن بيوتهم ومتابعة شؤون أولادهم كما سائر الآباء. فهل يمكن تخطي ثغرات الغياب والتعويض عنها؟ وكيف يمكن ذلك؟
تُفيدنا الدراسات في علم الاجتماع وعلم النفس أنّ حضور الأب لا يقتصر على حضوره المادي في عائلته، أي على مدى ما يمضي في بيته من الوقت. وإنما هو بالدرجة الأولى حضور معنوي يرتبط بالصورة التي يُمثّلها في عائلته، حتى وإن كان الوقت المتاح له ضمن العائلة قليلًا. فصورة الأب يجب أن تكون مصدرًا للشعور بالأمان، وهذا ما ينتج عن كونه صاحب السلطة في العائلة ورمزًا للنظام والقيَم وفي الوقت نفسه رمزًا للتضحية والحنان والتفاني. تؤدي هذه الصورة دورًا مهمًا في بناء شخصية الأبناء وتكون قدوة لهم ومثالًا يُحتذى به، وبقدر ما يكون وهجها قويًا، بقدر ما تكون وطأة غياب الأب المادي عن البيت أقل تأثيرًا، ويكون حاضرًا حتى في غيابه، رغم قسوة الغياب وتداعياته.
وفي الواقع، إنّ صورة الأب تلتقي في أبرز ملامحها مع صورة الجيش الذي يُجسد في إدراك المواطنين مجموعة من القيم والفضائل التي من دونها لا تستقيم أمور المجتمع ولا يقوم بنيانٌ لدولة.
في عيد الأب الآتي مع مطلع الصيف وما يمثله الصيف من مواسم عطاء، لكل أب عسكري تحية عيدَين: عيد تحتفل به كل عائلة، وعيد يستحق أن يحتفل به كل الوطن.
العوافي يا جيشنا.
العوافي ياوطن.