- En
- Fr
- عربي
من الأرض
استخدم العدو الإسرائيلي في عدوانه الأخير على لبنان، كمًا هائلًا من القنابل والصواريخ والمتفجرات التي أدّت إلى سقوط آلاف الشهداء والجرحى وتسببت بتدمير قرى وتسوية منازلها بالأرض. وإذا كانت الخسائر في الأرواح والممتلكات هي أول ما يتم الحديث عنه عند تناول الحروب والنزاعات المُسلّحة، فإنّ الأضرار البيئية لا تقل أهمية، خصوصًا أنّ تداعياتها تستمر لتشكّل خطرًا على المديَين القريب والبعيد، وهذا ما أثار مخاوف كثيرة لدى المواطنين. لكن إلى أي حد يجب أن نقلق؟ وما هو واقع وحجم الأضرار البيئية التي سبّبها العدوان، ومدى انعكاسها على الصحة العامة؟
بالتزامن مع أعمال تنظيف القرى والبلدات من الذخائر غير المنفجرة، باشرت سرية الوقاية من أسلحة الدمار الشامل في فوج الهندسة في الجيش اللبناني مسحًا كيميائيًا وإشعاعيًا للمناطق المستهدفة خلال العدوان، لا سيما في ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع والجنوب. تمّ تنفيذ هذه المهمة بالتعاون مع مختبرات الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية، ومختبرات البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت، بهدف تقييم الأثر البيئي الناجم عن العدوان على التربة والمحاصيل الزراعية، وعلى الصحة العامة بالإجمال، والتأكّد من عدم استخدام العدو الإسرائيلي أسلحة محرّمة دوليًا. شملت العملية استخدام أجهزة ميدانية متخصصة للكشف الكيميائي والإشعاعي، وجمع عينات لإجراء تحاليل معمّقة في المختبرات المذكورة أعلاه.
وكان سبق ذلك، خلال فترة العدوان، تفقُّد مواقع تعرضت لاستهدافات كبيرة، بخاصة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وإثر ورود تساؤلات حول احتمال استخدام العدو قنابل تحتوي على اليورانيوم المنضب، أو عوامل كيميائية محرّمة دوليًا، أو الفوسفور الأبيض. وقد أُجري حينها مسح كيميائي وإشعاعي بالأجهزة الميدانية المتوافرة، وجُمعت عينات تم تحليلها في المختبرات المعنيّة، لتؤكد النتائج عدم وجود أي مؤشرات تدعم هذه المخاوف.
اليورانيوم المنضب: الاستخدامات والمخاطر
هو المادة الناتجة عن عملية تخصيب اليورانيوم، ما يؤدي إلى ازدياد نسبة نظير اليورانيوم 238 مقارنة بالنسبة الموجودة في اليورانيوم الطبيعي. إلى ذلك، يحتوي اليورانيوم المنضب على تراكيز محددة من نظير اليورانيوم 235 ونسبة ضئيلة جدًا من اليورانيوم 234.
يتم استخدام مادة اليورانيوم المنضب في المجالين العسكري والمدني، إذ يُستعمل عسكريًا بكمياتٍ صغيرة جدًا (بضعة غرامات) في تصنيع قذائف الدبابات المضادة للدروع وفي تدريع الدبابات بهدف تعزيز صلابتها، علمًا أنّه لم يُستخدم تاريخيًا في قنابل الطيران. أمّا في المجال المدني، فيُستفاد منه في الوقاية من الإشعاع، إذ يُعد مادة تدريع فعّالة تفوق قدرتها الرصاص بحوالى 1,68 مرّة في امتصاص أشعة غاما والأشعة السينية، كما يُستخدم في تطبيقات طبية متعددة ضمن هذا الإطار.
عند استنشاق الغبار الناتج عن عملية أكسدة اليورانيوم المنضب المستخدم في الأسلحة المضادة للدروع، يكون أثره كأثر أي عنصر ثقيل لا يتآلف مع فيزيولوجية جسم الإنسان (كالرصاص والكادميوم والزئبق إلخ...) إذ يتم التخلّص من جزءٍ منه عبر البول والبراز، فيما تبقى كميات أخرى داخل الجسم لمدة أطول وتتآلف مع خلايا الرئة. هذه الكميات قد تؤدي إلى انبعاث أشعة ألفا، مما يرفع حرارة الخلايا ويزيد من احتمالية الإصابة بأمراض رئوية مزمنة أو سرطانية.
تدارك الخطر
لدى وقوع أي انفجار، تنبعث الغازات السامة بطبيعتها، بالإضافة إلى الغازات الناتجة عن احتراق مواد مختلفة في المنازل كالخشب والبلاستيك والمواد الكيميائية المستخدمة لأعمالٍ منزلية. هذه الغازات أثقل من الهواء وهي بالتالي تتجمّع في الأماكن المنخفضة كالشوارع والأقبية والشقق الأرضيّة إلى أن يبدّدها الريح. لذا فإنّ استنشاقها، لا سيما بكميات كبيرة وعلى فترة زمنية طويلة، قد يسبّب حالات اختناق وتسمم على المدى القريب، بينما تحتوي الانبعاثات على معادن ثقيلة مسرطنة قد تزيد احتمال الإصابة بالسرطان على المدى الطويل. لذلك ينصح دائمًا بالابتعاد عن الأماكن التي تتعرض للقصف وإفساح المجال أمام الأجهزة المختصة المزودة وسائل الحماية للتدخل وإجراء أعمال البحث والإنقاذ.
الفوسفور الأبيض وأثره على البيئة
الفوسفور الأبيض مادة كيميائية غير محرّمة دوليًا، إذ يستخدم في الذخائر المضيئة والمدخنة والمحرقة، وإنما يُحظّر استخدامه للتسبّب بأذى غير مبرر عسكريًا على المناطق المأهولة أو حتى على البيئة. وهو مادة كيميائية P4 تشتعل تلقائيًا عند التَماس مع الأوكسيجين وتتحوّل إلى غبار مسبّب للتهيّج والتحسّس (Phosphorus Pentoxide P2O5) الذي يتحول بدوره إلى مادة حمضية Phosphoric Acid عندما يتفاعل مع المياه. تظهر إحدى مخاطر هذه المادة عند عودة المزارعين إلى أراضيهم، حيث يمكن أن تؤدّي حراثة الأراضي المستهدفة بهذه القذائف إلى كشف أجزاء متطايرة من الفوسفور الأبيض كانت مطمورة في التربة، ما يعيد اشتعالها فورًا. أما بالنسبة للبيئة، فإنّ حموضة التربة والمياه الجوفية ستكون أعلى من المعدلات الطبيعية، كما ستزداد نسبة الفوسفور في التربة، مما يؤثر سلبًا على المردود الزراعي لهذه الحقول، إلى أن تتمكن الطبيعة من استعادة توازنها تدريجيًا، مثلًا بعد هطول الأمطار.
إلى ذلك، فإنّ ارتفاع نسبة الفوسفور في التربة يؤثر على حياة الميكروبات والحشرات والديدان التي تلعب دورًا جيدًا وإيجابيًا في خصوبة التربة، ويؤدي بالتالي إلى انخفاض طويل الأمد في إنتاجية التربة.
... والمياه
في المناطق التي تحتوي على مياه سطحية مثل البحيرات، يؤدي ارتفاع مستويات الفوسفور إلى تعزيز نمو الطحالب، ما يهدد حياة الأسماك و يتسبّب في نفوقها.
كذلك الأمر بالنسبة للتلوّث بالمعادن الثقيلة التي ترتفع نسبتها في المناطق التي تعرضت للاعتداء، إذ تمتصها بعض النباتات (الحشائش بشكل خاص) التي تنمو في تلك التربة وتنقلها للإنسان والمواشي أو عند تناولها بشكلٍ مباشر.
إجراءات وقائية
للفوسفور الأبيض آثار مؤذية إلى حد كبير على الجلد، لذا يجب ارتداء ملابس بأكمام طويلة وأحذية مغلقة لدى الاقتراب من مواقع تعرضت للقصف، والتزوّد بكمامات ونظارات واقية تجنبًا للتعرّض لأي أذى. كذلك، ينصح بعدم استخدام المكنسة للتخلص من الرماد الذي يخلفه القصف بالفوسفور الأبيض، بل التخلص منه بالماء، مع ضرورة غسل الملابس التي يتم ارتداؤها في هذه المواقع، بالماء البارد مباشرةً للتخلص من الرواسب المؤذية.
خطر الملوثات على سلامة الغذاء
الملوثات العضوية وغير العضوية (المعادن الثقيلة مثلًا) هي الملوثات الموجودة في الدخان المتصاعد من الانفجارات التي تقع في أرض المعركة، والتي قد تترسّب على المحاصيل الزراعية، كالخضار والحبوب… هذه الملوثات هي مواد كيميائية مضرّة بصحة الإنسان. لذا، فإنّ تناول الغذاء الملوث بها من دون تنظيفه بشكلٍ مناسب قد يعرض المرء لمخاطر صحية جسيمة. على سبيل المثال، إذا لم يتم غسل الزيتون قبل عصره، فإنّ هذه المواد الضارة الموجودة على القشرة الخارجية مثل الغبار الناجم عن احتراق الفوسفور، أو أنواع متعددة من المركبات الهيدروكربونية، أو حتى معادن ثقيلة كالزئبق والرصاص، يمكن أن تختلط بالزيت، مما يشكل تهديدًا للسلامة الغذائية.
في أي حال وبالنظر إلى ما أصاب قرانا وبلداتنا من دمار وما أُلقي في تربتها من مواد حارقة وملوّثة، فإنّ الرصد الدقيق للأضرار البيئية قد يتطلب مزيدًا من الوقت، خصوصًا في المناطق الحدودية.