قضايا اجتماعية

الإدمان مأساة شباب أصيب في معنوياته وأخلاقه والعلاج مسؤولية الجميع
إعداد: ناديا متى فخري

كيف نوصد الأبواب التي تتسرب منها المخدرات

اولادنا بحاجة الى اجواء عائلية هادئة وسلطة ابوية عادلة كي لا يفقدوا احساسهم بالأمان والأمل بالمستقبل


لتفتك بأولادنا؟

اولادنا بحاجة الى اجواء عائلية هادئة
وسلطة ابوية عادلة كي لا يفقدوا احساسهم بالأمان والأمل بالمستقبل

الإدمان على المخدرات مأساة حقيقية بكل ما تحمل الكلمة من عمق ومن معنى, مأساة شباب كامل أصيب في معنوياته وفي أخلاقه نتيجة فراغ نفسي وصراع داخلي وغربة موجعة يعيشها مع ذاته ومع أسرته.
البعض ينظر الى مسألة الإدمان كمؤشر لأزمة حضارية, والبعض الآخر يجد فيها حالة مرضية وسلوكية خاصة, ومن الناس من يؤكد أن الحرب وما رافقها من ظروف قاسية كانت السبب المباشر لانتشار هذه الظاهرة بين الناس, أو على الأقل وسيطاً مساهماً للإتجار بالمخدرات وترويجها من دون رقيب أو رادع. قد يختلف الرأي العام ويلتقي حول هذه النظرية أو تلك ولكن النتيجة واحدة؛ الظاهرة متفشية بين الشباب وهذا شيء خطير, أحدث بلبلة وفوضى وخوفاً على المستقبل... ولكن إذا كانت الأسباب واحدة فلماذا وقع بعض الأفراد فريسة الإدمان والآخرون لم تغريهم التجربة, خاصة أبناء العائلة الواحدة؟

 

دور التوازن العائلي

لقد دخلت المخدرات الى البيوت من دون استئذان, لتدمّر وتشوّه وتميت بلا رأفة, والإدمان على المخدرات ليس وقفاً على طبقة معينة من الناس, فالمخدرات لا تعترف بطبقات... فكثيرون أدمنوا وهم من أكبر العائلات.
هنا تظهر أهمية دور التوازن العائلي في الحياة الأسرية. لأن السبب في تسرّب هذه الظاهرة التي لوّثت بيوتنا ومجتمعنا يعود في جزء كبير منه الى إنعدام الأمن النفسي عند الأفراد, وحاجة الشباب لحياة أسرية هادئة ومستقرة.
ان المدمـن على المخدرات مريض نفسي, والإنسـان لا يُصبح مدمنـاً بالصدفة, وتعاطي المخـدرات لا شك هو نتيجة إفرازات تجارب قاسيـة شخصية وبيئية يعيـشها الأفـراد. والمؤسـف, أنه في كل مرة سُئل فيها مدمـن عن سبـب إدمانـه المخدرات, جاء جوابـه كغيـره من مرضى الإدمان: “أريد أن أهـرب من واقعي”, وأنه حدث وسمعـنا غـير جـواب كان: “طـلاق والدي وتفـكك عائلـتي هو السبـب...”.

 

... ودور المجتمع

قد يكون التبدّل الذي حدث في المجتمع هو أحد أسباب إدمان المخدرات, ولكن مجتمعنا هو كغيره من المجتمعات التي واكبت عصر التطوّر وتبدلت فيه النظرة الى الحياة في مختلف قطاعاتها الفاعلة على الساحة الوطنية, والإعتراف بالواقع هو جزء من العلاج. أما الأسباب التي تدفع الشباب الى الإدمان فكثيرة ومتشعبة, والطب لا يستطيع أن يضع اللائمة على سبب ويتغاضى عن سبب آخر, لأن الوضع الشخصي للفرد وظروف حياته مرتبط بوضعه الإجتماعي والبيئي.. هذا ما تطرّق إليه حديث الطبّ النفسي والصحة العامة, لدى مناقشة مسببات هذه الظاهرة الخطيرة... وأيضاً تناول مشكلة الجيل الذي يواجه مغريات وضغوطاً ثقيلة تجعله عرضة للسقوط في مجاهل سلوكيات منحرفة, أكثرها سوءاً تعاطي المخدرات. وهنا يشير دكاترة الطب النفسي الى الخطأ الكبير الذي نقع فيه حين نلوم الشباب ونحكم عليهم بقسوة, من دون أن ننظر في الدوافع التي آلت بهم الى السقوط ضحايا في هاوية المخدرات, وأيضاً من الخطأ الاعتقاد أن الشاب يُصبح مدمناً لمجرّد وجود صديق له مدمن, شجعه على هذه التجربة. صحيح أن رفاق السوء كثر, ولكن, لو لم تكن لدى الشاب الدوافع والأسباب, ما كان اختار أن يسير على هذه الدرب المليئة بالأشواك.
هذا ويؤكد الطب النفسي, أن المخدرات نتيجة وليست وباءً مُعدياً, والإدمان على المخدر هو نتيجة واقع مشوش تتضافر فيه مجموعة متناقضات سلبية تؤدي الى الإنحراف والإدمان, ومنها: الحرمان العاطفي والنفسي, الحرمان الإجتماعي والثقافي, عدم إستقرار الحياة في العائلة, التنشئة الأسرية التي تفتقر الى توجيه سليم, إهمال الأهل لمشكلات أولادهم, البطالة وإنعدام فرص العمل, المفهوم الخاطئ للحرية, الفشل في الإمتحانات, الوضع الإقتصادي المتدهور, تدني مستوى المعيشة, إنعدام الإرادة والثقة بالنفس... وكلها أمور مسببة للوقوع في متاهة الإنحراف, والإستسلام لمشيئة المخدرات.

 

إنفعال... فتفاعل!

أحياناً يكون السبب أزمة مراهقة, فهناك فئة من الشباب تنجرف وراء إدمان المخدرات نتيجة الإحباط أو الشعور بالكآبة جرّاء معاناتها من مناخ مشحون بالقلق والأنانية.. والبعض يشعر بغربة نفسية لا يدرك أسبابها, أو يفقد عزيزاً لديه فيرفض المشاركة ويلجأ الى أقصر الدروب التي تقوده الى النسيان... ويتأثر بنظرية الرفاق الذين يؤكدون له أنه في المخدرات يجد ما يبحث عنه من نسيان, ولكنهم ينسون أن يُخبروه أن نهاية تعاطي المخدرات موت محتّم.
ليس من السهل على الأهل والمدرسين التعرف على المدمن, لأن المدرّس لا يستطيع أن يلعب دور التحري ولا حتى الآباء يستطيعون ذلك, سوى بالتفرّغ الكامل, وهذا أمر صعب, نظراً للمهمات الملقاة على عاتق الطرفين. ولكن “الملاحظة” تلعب دوراً في إكتشاف المدمن, شرط أن تكون دقيقة وموضوعية, والملاحظة تكون بمراقبة السلوك, لأن سلوك المدمن دليل عليه. فمن الناحية الصحية تبقى المؤشرات ضعيفة, لأن الدلائل ليست ملفتة للإنتباه, فالمدمن مثلاً, تبدو عيناه محمرتين ويظهر سواد حولهما, ويشعر بعطش شديد ودائم, ولكن هذه الظواهر ليست كافية لنقول أن هذا الشخص مدمن, فقد يكون مردّها الى أسباب صحية بعيدة كل البعد عن إدمان المخدرات, فالذي يعاني من قصور الكبد, أو من التهاب مزمن في الرئة, أو من مشاكل في الكلى, أو من ضعف معيّن في الدم, قد تظهر عليه هذه الدلائل. ولكن المعرفة الحقيقية للمدمن تظهر من السلوك, فالمدمن يُبدل فجأة أسلوب عيشه ويبتعد عن أصدقائه القدامى ويصير متردداً ويختار العزلة ويصبح منطوياً على نفسه تعتريه الكآبة والشرود, ويتجرد من كل إحساس إنساني.

 

تصنيفات طبية

المخدرات على أنواع, لكل منها تأثيره وإنعكاسه على الصحة والسلوك, وقد تم تصنيفها طبياً على الشكل التالي:

1­ المثبطات: وهي مادة تجعل الإنسان في حالة من الخمول, وتحثه على الخلود للنوم والإستسلام للاوعي, ومنها: الهيرويين, الحبوب المهدئة, حقن المورفين والأفيون.

2­ المهلوسات: وهي مواد تعبث بأحاسيس الفرد وتجعله يشعر بأشياء ليست موجودة في الواقع, كأن يسمع أو يرى, أو يحس بما لا وجود له, وذلك يسمى هلوسة سمعية ­ بصرية ونظرية, ومنها: "L.S.D", والحشيشة حين تؤخذ بكميات كبيرة.

3­ المنشطات: هنا يقف الطب قلقاً ومحذراً, لأن المخدر المنشط يشجع الإنسان على التمادي في تعاطي هذا النوع من المخدرات التي لها مفعول مقوي, خصوصاً أنها تعطيه الحيوية فيعتقد أن في هذه المادة نجاته من حالة التردي والإرهاق. والمنشطات أنواع, منها: الكوكايين, الأمفيتامينات, والقات وهي عشبة منشطة لها مفعول شديد التأثير, وهذه المواد تجعل المدمن عليها يشعر بنشاط فكري وجسدي, وتضاعف طاقة الإستيعاب لديه, والخطورة تكمن في أن هذا النشاط الإصطناعي لا يدوم سوى لساعات فقط, بعدها تكون ردة الفعل عكسية.]

 

إجتهادات وعلاجات

لقد توصل المختبر الطبي في اجتهاداته الى اكتشاف عقاقير مضادة للمواد المخدرة, تحد من تأثير مفعولها وتكاد تلغيه تماماً في فترة أقصاها 10 الى 15 يوماً, وتجعل المدمن يشفى تماماً حتى لو كانت حالته مزمنة, بشرط واحد: أن يكون لدى المريض الإستعداد الصادق للشفاء, وأن يكون متجاوباً مع طبيبه, لأن تجاوب المريض يزيد من إمكانية نجاح العلاج ويساعد المدمن على الشفاء. ولكن حين تكون الحالة مزمنة, فالشفاء لن يكون مضموناً مئة في المئة بحيث لا يعود المدمن الى تعاطي المخدر, لأن المخدرات تؤذي الأنسجة الدقيقة في الجسم وتؤثر سلباً على وظيفة كل خلية فيه, وفي هذه الحالة تحتاج الخلايا المريضة الى عدة أشهر كي تستعيد حيويتها ونشاطـها, وطبعـاً, ليـس من الممـكن أن يخضع المريض للعـلاج ويبقى قيد الإستشفاء طـيلة أشهر في المركز الصحي.
كخطوة أولى يُعالج المريض من التبعية الجسدية حتى يشفى, ثم يبدأ الطبيب بالبحث عن الأسباب النفسية التي جعلته يتعاطى المخدرات للعمل على إزالتها, لأن دخول المريض الى المستشفى ليس كافياً لشفائه, المهم أن تتم معالجة الأسباب التي دفعته نحو الإدمان. لذلك لا يكتفي الطبيب بالمعالجة الجسدية, بل يطلب من ذوي المدمن مراقبة حالته ومتابعتها بعد خروجه من المستشفى وإعلامه بكل جديد يطرأ على حالته الصحية والسلوكية, فهناك حالات عديدة حدث أن تعرضت للوقوع مرة اخرى في الإدمان بعد أن تم علاجها, وهنا يتوقف الأمر على إرادة المريض وأيضاً على المراقبة الدقيقة من قبل أهله وطبيبه.
أما إذا وقـع أحدهم ضحية المخدرات ولم يكن هناك دافع أساسي (عضـوي أو نفسي) فعلاجـه سهـل جداً ويمـكن أن يشـفى بسرعـة.

 

وأما مراحل العلاج فهي كالآتي:

­ المرحلة النفسية: يجب معرفة الأسباب, وتقوية إرادة المريض, وخلق القناعة لديه بأن المخدرات سم قاتل, مع توفير أسباب الرفاه النفسي له ورفع معنوياته, ودفعه الى الشعور بقيمته كعضو فاعل في المجتمع.
­ المرحلة الصحية: من المفروض أن تتم معالجة المدمن بأحدث الطرق وأكثرها إنسانية, والخطوة الأساسية تكون بتنقية دم المريض من المواد المخدرة بواسطة الأمصال والعقاقير, والعلاج يتم بنسب متفاوتة, حسب درجة الإدمان ونوع المخدر.
أما المرحلة الأهم في معالجة آفة الإدمان على المخدرات فتقع مسؤوليتها على الدولة والأهل, وتفترض شجاعة وأخلاقاً وتجرداً لتحقق النجاح المطلوب.

 

أهمية دور الأهل

إن الدافع الى الإدمان يحمل بعداً أخطر بكثير من الأسباب الظاهرية التي يعتبرها بعض الناس مسؤولة. فالإدمان أسبابه ودوافعه نفسية وبيولوجية وإجتماعية, ولكن الأهم في هذه الدوافع هو: إنعدام التوازن في الحياة الأسرية, فهذا يرشح الأسرة للفشل ويشجع الأبناء على رفض الإستمرار في ظل أجواء يسودها الإضطراب والحرمان, فينطلقوا خارج حدود الأسرة للبحث عن أجواء بديلة مطمئنة. وهنا نشير الى أن التقصير العاطفي, وإهمال الأبناء والقسوة في التعامل معهم, والخلافات الزوجية بين الأب والأم, وانعدام التفاهم, وتفضيل أحد الأبناء عن الآخر... كل ذلك يخلق جواً من الإكتئاب النفسي والفراغ المعنوي, وينعكس سلباً على شخصية الأبناء, ويظهر لديهم الميل لممارسة السلوكيات المنحرفة التي ليس لها صلة بالأخلاق.
إن أولادنا بحاجة الى أجواء عائلية هادئة وسلطة أبوية عادلة, يطمئنون إليها حتى ولو اصطدموا بها, كي لا يفقدوا إحساسهم بالأمان والأمل بالمستقبل.
مسؤولية الأهل كبيرة في موضوع المخدرات, فاللائمة تقع عليهم قبل سواهم في توجيه وتوعية أولادهم سلوكياً وخلقياً وفي ترسيخ القيم الإنسانية والوطنية والإجتماعية القويمة في ذهنهم, وينبغي على كل مربّ أن يكون مرناً ومتفهماً ويساعد الناشئ على إكتشاف أخطائه وتصحيحها, وأن يدربه حتى يكتسب مناعة نفسية ضد أي سلوك جانح؛ وفي تعاطينا مع أولادنا لا يجب أن نضخم الأمور ولا أن نهملها.
إن المخدرات شبيهة بالنار التي تحرق كل ما حولها, وتترك الحياة وراءها تشتعل وتستريح رماداً, ولكن النار إذا كانت قد استطاعت أن تحـرق ما وصل اليها فلأنه قابل للإحتراق, ولكنها لو اشتعلت قرب بحـيرة هادئـة لانطفـأت من فورهـا, لأن الميـاه غير قابلة للإحتراق.

 

مسؤولية الإعلام

صحيح أن التوعية جزء من المكافحة ولكنه الجزء الأهم, ودور الإعلام هو توعية الرأي العام وتحذيره من أخطار المخدرات, والتوعية تكون بإظهار الحقيقة لا بإخفائها, لذلك يجب أن يلتزم الإعلام بمسؤوليته ويقدم للشباب أمثلة حية عن الوجه الحقيقي للمخدرات التي تجعل الإنسان مجرماً, فاقد السيطرة على نفسه وأعصابه وتصرفاته, والمطلوب من أجهزة الإعلام المرئي والمسموع أن تقوم بحملات إعلامية مكثفة ودورية للتعريف عن المخدرات ومخاطرها, وكيف تجـعل الإنسان يرتكب الجنح والجرائم تحت عامل الإكراه النفسي وبلا وعي منه.. نحن نعرف بالتأكيد أننا لا نستطيع أن نتوصل الى مكافحة نهائية للمخدرات طالما أن المروّج موجود, فالمكافحة الجادة تكون باستئصال جذور المخدر وإلغاء وجوده وأسبابه والدوافع التي تحث الناس على إدمان المواد المخدرة.
من ناحية أخرى يجب أن ننظر الى المدمن نظرة متعاطفة, كونه مريضاً وليس مجرماً, والمريض يجب معالجته لا معاقبته, ولا يجب أن نعتبر أن المدمن مسؤول بكامل قواه الفكرية والعقلية حيال جريمته, لأنه لا يتصرف بوعي منه بل بوحي هلوسة المخدر الذي يفقده توازنه الذهني.
بالنهاية, المخدرات أشبه بقنبلة نووية لا تنفجر إلا موتاً. ومسؤولية مكافحتها تقع على الجميع, وليس منا من هو خارج المسؤولية.