نحن والقانون

الإطار القانوني لحقّ التظاهر في لبنان
إعداد: د. نادر عبد العزيز شافي
محام بالإستئناف


يعتبر التظاهر من الوسائل الديموقراطية التي قد يلجأ إليها البعض للتعبير عن الرأي وتسجيل اعتراض على أنظمة أو تصرفات أو سياسات أو قوانين معينة، من خلال حراك مدني سلمي. فما هي الأطر القانونية التي ترعى التظاهر، وكيفية تنظيمه وقواعده، وحدوده، وكيفية مواكبته أمنيًا؟


التظاهر حق دستوري
كرَّست المادة 13 من الدستور اللبناني «حرية إبداء الرأي قولًا وكتابةً وحرية الطباعة وحرية تأليف الجمعيات». وهذه الحريات «كلّها مكفولة ضمن دائرة القانون». مع أنه لا يوجد نص قانوني واضح يكرّس حرية التظاهر في القانون اللبناني، فإن هذه الحرية تتصل بشكل مباشر بحق إبداء الرأي والتعبير عنه بحرّية. وهو من الحقوق الأساسية والطبيعية التي لا يمكن فصلها عن الحريات العامة للإنسان. ولهذا يعتبر التظاهر حقًا دستوريًا يجب حمايته وتنظيمه ضمن القوانين والأنظمة المرعية الإجراء.
ويفترض التظاهر أن يكون له ظاهر مادي ملموس، عبر تجمع عدة أشخاص في مكان معين ولأهداف معينة، وتكون الغاية التي يتوخاها المتظاهرون هي تنبيه السلطة إلى مطالبهم. وقد يدوم التظاهر لأيامٍ أو أسابيع، وقد لا يتعدى الساعات. ويجب أن يكون التظاهر مقصودًا، أي أن يكون له طابع القصد في التظاهر بشكل صريح وواضح ورضائي، بغية التوصل إلى أهداف معينة.
يعتبر التظاهر محدَّدًا بغايته، لأنه وسيلة جماعية للضغط على السلطة بقصد تحقيق مطالب اجتماعية أو سياسية أو مهنية أو للحصول على مزيد من الحقوق المشروعة.
ويعتبر التظاهر سياسيًا إذا أعلن احتجاجًا على سياسة الحكومة الخارجية أو الداخلية، أو إذا رمى إلى تحقيق مصلحة سياسية. ويمكن اللجوء إلى وسائل سياسية لتحقيق أهداف مهنية، إلا أنه لا يجوز اللجوء إلى وسائل مهنية لتحقيق أهداف سياسية؛ كإضراب العمال عن عملهم لأسباب سياسية وليس بهدف تحسين شروط العمل.

 

بين الممنوع و...المسموح
• منع الموظفين من الإضراب أو التظاهر ضمن الوظيفة:

بالاستناد إلى المادة 15 من المرسوم الاشتراعي الرقم 112/1959، لا يجوز للموظفين العموميين التظاهر أو الإضراب عن وظيفتهم تحت طائلة ملاحقتهم تأديبيًا وقضائيًا وصرفهم من الوظيفة.
• منع النقابات من التظاهر لأسباب سياسية:
نصت المادة 84 من قانون العمل اللبناني على أنه يحظر على النقابات الإشتراك في اجتماعات وتظاهرات لها صبغة سياسية. ولهذا يعتبر حق التظاهر مكرسًا قانونيًا بالنسبة للنقابات شرط أن لا يكون له صبغة سياسية.


• تجريم توقيف العمل بقصد الضغط على السلطات العامة:
جرَّم قانون العقوبات اللبناني (المواد من 340 إلى 344) التعدي على حرية العمل، معتبرًا أن التوقف عن العمل من قبل المستخدمين أو العمال بقصد الضغط على السلطات العامة، أو احتجاجًا على قرار أو تدبير صادرين عنها، جريمة يُعاقب عليها بالحبس أو بالإقامة الجبرية والغرامة.


• تجريم التظاهر بقصد الشغب أو ارتكاب جرائم أو تعكير الطمأنينة:
 يُعاقب القانون على تظاهرة الشغب بالحبس من شهر إلى سنة وبالغرامة من عشرين ألفًا إلى مئتي ألف ليرة. وكل حشد أو موكب على الطرق العامة أو في مكان مباح للجمهور يعدّ تجمعًا للشغب ويعاقب عليه بالحبس من شهر إلى سنة، إذا تألف من ثلاثة أشخاص أو أكثر بقصد اقتراف جناية أو جنحة وكان أحدهم على الأقل مسلّحًا. كذلك يعتبر جرمًا كل تجمّع (يتألف من سبعة أشخاص على الأقل) بقصد الاحتجاج على قرار أو تدبير اتخذتهما السلطات العامة للضغط عليها، أو تجمّع لأكثر من عشرين شخصًا ويظهرون بمظهر من شأنه أن يعكر الطمأنينة العامة. ويعفى من العقوبة المفروضة آنفًا الذين ينصرفون قبل إنذار السلطة أو يمتثلون في الحال لإنذارها من دون أن يستعملوا أسلحتهم أو يرتكبوا أي جنحة أخرى. وإذا لم يتفرّق المجتمعون بغير القوة، كانت العقوبة الحبس من شهرين إلى سنتين. ومن استعمل السلاح عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، فضلًا عن أي عقوبة أشدّ قد يستحقها، وذلك وفق أحكام قانون العقوبات (المواد من 345 إلى 348).
التنظيم القانوني للتظاهر
في العام 1970 أصدر وزير الداخلية مذكرة تتحدث عن آلية التعامل مع التظاهرات في لبنان. وفي 29/3/2006 صدر عن المرجع نفسه قرار (1024/2006) اعتبر أن حق التظاهر للتعبير عن الرأي في القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والمهنية والاقتصادية، هو مظهر من مظاهر الديمقراطية، ولا يحدّ من هذا الحق إلّا احترام حقوق وواجبات الغير والتقيد بالقوانين والأنظمة النافذة.


• إجراءات أخذ العلم بالتظاهر وفق القرار 1024/2006:
أ- يقدّم العلم بالتظاهر أو التجمع أو الاعتصام إلى المحافظ المختص قبل موعد التظاهرة بثلاثة أيام على الأقل، ويجب أن يتضمن هذا العلم النقاط الآتي ذكرها:
1- سبب الدعوة للتظاهر، واسم الجهة الداعية وصفتها، والشعارات الأساسية التي ستطلق.
2- أسماء منظمي التظاهرة الذين يجب أن يكونوا لبنانيين وأن لا يقل عددهم عن ثلاثة، بالاضافة إلى تحديد أماكن اقامتهم.
3- عدد المشاركين التقريبي في التظاهرة، وساعة انطلاقها، وساعة انتهائها.
4- مكان أو أمكنة تجمّع المتظاهرين للانطلاق.
5- خط سير التظاهرة المقترح، بحيث تذكر الشوراع التي ستسلكها والأماكن التي ستتوقف فيها لإلقاء الكلمات.
6- مكان تفرّق التظاهرة.
7- تعهّد خطّي من مقدّمي الطلب بتحمل المسؤولية الكاملة عن أي ضرر قد تسببه التظاهرة للأشخاص والممتلكات الخاصة والعامة.
ب- يمكن للمحافظ ولأسباب أمنية، أن يعدّل أو يغيّر مكان تجمّع التظاهرة وانطلاقها والشوارع التي ستسلكها، وزمان إقامتها.
ج- تتم تسمية لجنة ارتباط بين المتظاهرين والقوة الأمنية الموجودة على الأرض، وهذه اللجنة تتألف من:
- ثلاثة من المتظاهرين على الأقل تتم تسميتهم من قبل منظمي التظاهرة.
-  قائد القوة الأمنية الموجودة على الأرض.
مهمة هذه اللجنة التنسيق لمنع حصول أي خلل أمني في أثناء مواكبة التظاهرة، أو أي أعمال شغب قد تحصل.
د- يطّلع وزير الداخلية والبلديات قبل التظاهرة بـ24 ساعة على الأقل، على اقتراحات المحافظ الخطية والمبنية على مقترحات مقدمة من قوى الأمن الداخلي، ويقرر الوزير عند الاقتضاء دعوة مجلس الأمن المركزي للاجتماع ودراسة الوضع.
هـ- في الحالات الطارئة الخاصة التي لا تتحمل التأخير، يجري تقديم الطلب إلى المحافظ الذي يعالج الموضوع فور وروده.

 

كيفية التعامل مع التظاهرات والدفاع عن النفس أو المال
إذا تبيّن من التقارير أنه يخشى حصول تظاهرات شعبية أو تجمّعات خطرة، يحق للمحافظين, بعد التشاور مع قادة قوى الأمن في مناطقهم، أن يطلبوا إطلاق القوات اللازمة إلى الأماكن المُهدَّدة لأجل إقرار الأمن فيها. ويمكن للضابط أن يطلب عندئذ من رؤسائه إمداده بقوات اضافية من خارج منطقته إذا بدا له أن القوات الموجودة لديه غير كافية لمجابهة الموقف، عملًا بالمادة 181من تنظيم قوى الأمن الداخلي الصادر بالمرسوم الإشتراعي الرقم 54/1967. كما أن المادة 220 من المرسوم نفسه، نصت على أن غاية الضابطة الادارية هي: المحافظة على الأمن بردع المؤامرات والثورات والحوادث والتظاهرات الصاخبة, وتوطيــد الأمــن بالقــوة إذا لــزم الأمر.
وإذا تجمّع الناس بمظهر من شأنه أن يعكّر الطمأنينة العامة، يعلن أحد ممثلي السلطة الإدارية أو ضابط من الضابطة العدلية قدومه إذا دعت الأحوال، وينذرهم بالتفرّق بقرع الطبل أو النفخ في البوق أو الصفارة أو بأي طريقة أخرى مماثلة. وإذا لم يتفرّق المجتمعون بغير القوة، يعتبر ذلك جرمًا جزائيًا عقوبته الحبس من شهرين إلى سنتين. ومن استعمل السلاح عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات فضلًا عن أي عقوبة أشد قد يستحقها، عملًا بالمادتين 347 و348عقوبات.
وتتولى دائرة الإستقصاءات في المديرية العامة للأمن العام، مكافحة الأحزاب المنحلّة، في جميع وجوه نشاطها، من اجتماعات، وتظاهرات، وإضرابات... ومكافحة الجمعيات السرية أو الممنوعة، والتظاهرات، والتجمعات، وكل عمل مغاير للقانون، عملاً بالمادة 5 من تنظيم مديرية الأمن العام (المرسوم الرقم 2873/1959).
ويُحظَّر على المساجين قطعيًا القيام بالألعاب التي يسمع لها ضجيج، والتظاهرات، وشرب المسكرات، والمقامرات والمراهنات على اختلاف أنواعها، عملًا بالمادة 96 من تنظيم السجون وأمكنة التوقيف ومعهد إصلاح الأحداث وتربيتهم.
وبالتالي، يتبيّن من هذه النصوص القانونية أنه لا يجوز استعمال القوة المفرطة في مواجهة التظاهرات، بل يجب على القوى الأمنية مواكبة التظاهرات وتأمين الحماية الأمنية لها، شرط أن لا تؤثر على الأمن العام وأن لا تسبب أي تعديات على الأملاك العامة أو الخاصة أو تخريب لها.

 

التعدّي على الغير أو الأملاك العامة والخاصة
في حال التعدّي على الغير أو على الأملاك العامة أو الخاصة، يجوز للقوى الأمنية استعمال القوة إذا لزم الأمر بعد استنفاد جميع الوسائل السلمية، خصوصًا عند وقوع أعمال شغب أو أعمال إجرامية، وهذا يدخل ضمن إطار الدفاع المشروع عن النفس أو المال الذي كرَّسه المشترع اللبناني في المادة 184 من قانون العقوبات. وتنصّ هذه المادة على أنه : «يعدّ ممارسة حق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرّض غير محقّ ولا مُثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والشخص المعنوي. وإذا وقع تجاوز في الدفاع أمكن اعفاء فاعل الجريمة من العقوبة في الشروط المذكورة في المادة 228 عقوبات». وقد اعتبرت المادة المذكورة أنه «إذا أفرط فاعل الجريمة في ممارسة حق الدفاع المشروع لا يعاقب إذا أقدم على الفعل في ثورة انفعال شديد انعدمت معها قوة وعيه أو إرادته».

 

الدفاع المشروع لحق عام
يعتبر الدفاع المشروع سببًا من أسباب التبرير العام، وحقًا موضوعيًا مطلقًا مقرَّرًا لجميع الأفراد، يبيح لهم ارتكاب الجريمة، ويشكل استثناء على الأصل العام الذي يمنعها، وذلك لدرء الأخطار التي تهدّدهم عند استحالة اللجوء إلى الوسائل السلمية أو تدخّل الأجهزة المختصة لاستيفاء الحق أو لمنع وقوع الضرر، وذلك تغليبًا لمصلحة المعتدى عليه على مصلحة المعتدي الذي أهدر حماية القانون وانتهك قواعده.
ويشترط القانون اللبناني توافر عدة شروط لممارسة حق الدفاع المشروع، وهذه الشروط هي: وجود تعرض غير محق ولا مثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه. إلا أن كل ذلك لا يعني اطلاق ممارسة حق الدفاع المشروع من دون قيد أو شرط، فيجب أن يتوافر في فعل الدفاع شرطان أساسيان، هما: ضرورة الدفاع، وتناسبه مع الخطر.
وإذا توافرت شروط الدفاع المشروع والتزم المدافع قيوده، كانت الجريمة التي أقدم عليها مبرَّرة، وأصبحت بالتالي عملًا مشروعًا لا تترتب عليه أي مسؤولية، لا جزائية ولا مدنية. وتمتد مفاعيل الدفاع المشروع إلى الأفعال المرتبطة به؛ فلا يُسأل المدافع عن اطلاق النار من مسدس مرخص، ولا تجوز مصادرته أو تحميله مسؤولية عن اطلاق النار. كما تمتد مفاعيل الدفاع المشروع إلى جميع المشاركين مع المدافع في الجريمة، سواء علموا أم لم يعلموا بتوافر حالة الدفاع المشروع.
وإذا وجد المدافع نفسه مضطرًا للمساس بحقوق الغير لكي يتمكن من الدفاع عن نفسه وماله، حيال خطر جسيم، يعفى من العقاب سندًا الى المادة 229 من قانون العقوبات.