رحلة في الانسان

الارتباط العاطفي مراحل تحكمها كيـميائيات الدماغ
إعداد: غريس فرح

قيل الكثير في وصف حالة الحب بكل ما فيها من فرح وحزن وترقّب وخروج عن المنطق.. مع ذلك، فإن الكثيرين لا يدركون حتى الساعة، ما تعنيه هذه الحالة وما تبعث به من ألغاز ووسائل فطرية الى الشريكين.
فكيف يفسرها اختصاصيو علم النفس، وبماذا يوصون المعنيين بها من أجل تسخيرها لبناء علاقة مستقرة قوامها تفهم معطيات المشاعر وتفعيل دور العقل؟

 

الحب حالة فطرية

حالة الحب كما هو معروف، حالة فطرية تطغى على مطلق شريكين يتبادلان رسائل الكيميائيات التي تؤمن التواصل المطلوب لبقاء النسل. وهذا يعني أنها شعور لا إرادي ينبع من معطيات بدائية الهدف منها بناء علاقة مستقرة، تبدأ بالانجذاب البيولوجي، وتنتهي بالإنجاب ومن ثم حماية الأطفال ورعايتهم. واللافت أن المراحل المتتالية التي تميّز مطلق علاقة منذ بدايتها وصولاً الى تحقيقها للأهداف الطبيعية، تسير وفق إيقاعات مبرمجة تتحكم بها مجموعة كيميائيات يطلقها الدماغ، لتتلاعب بالمشاعر، وأحياناً بالتصرفات الخارجة عن السيطرة. لذا، فإن التعرف الى دور هذه الكيميائيات ومدى أهميتها في لعبة التعارف والحب، يؤمن عموماً معرفة التحكم بالذات، ومن ثم تأمين سيطرة العقل.

 

نقطة البداية وتسلسل المراحل

كما سبق وذكرنا، تبدأ تجربة الحب بدافع من الإنجذاب البيولوجي الذي يعتبر بداية المرحلة الأولى. وهذه المرحلة تتميـز عمومـاً بارتفــاع مستوى الـ«دوبامين» والـ«نوربينيفرين» في الدماغ بسبب الرهبة الناجمة من مواجهة الشريكين لمستقبل العلاقة المجهول أو الغامض.
هذه المرحلة الغامضة وغير المستقرة، غالباً ما تجد لها متنفساً طبيعياً عبر مشاعر الرومانسية التي تمهد للارتباط بشخص واحد. هنا لا بد من الإشارة الى أن مشاعر الرومانسية الهادفة الى محورة الارتباط، والناجمة عن ارتفاع الكيميائيات أو الهرمونات المذكورة، تتسبب عموماً بعوارض مرضية تشبه عوارض الإدمان والاكتئاب السريري، ومنها اضطراب المزاج والقلق وما ينجم عنهما من اضطرابات النوم والطعام والتأرجح بين الفرح والحزن. وهي عوارض يتسبب بها الشحن الكهربائي المفاجئ للجهاز العصبي الذي يتلقى الشعور بالمكافأة والمتعة نتيجة ارتفاع الـ«دوبامين» والـ«نوربينيفرين».
من هنا الميل الفطري الى تفعيل دور الممارسات التي تخدم استمرار الشعور بالمكافأة، ومنها ملاحقة الشريك خوفاً من خسارته، والمبالغة أحياناً باسترضائـه أو ترقّب لقائه بهدف الاستمتاع بلذة ولوج المجهول.
بعد تجذّر العلاقـة الرومانسيـة خلال المرحلة الاولى، تخمد عموماً فورة الـ«دوبامين» والـ«نوربينيفرين» اثر تخطي حواجـز الغمـوض، وذلـك تمهــيـداً لارتفـاع هرموني الـ«فازوبريزين» والـ«اكسيتوسين» المسؤولين عن الاستقرار العاطفي، بعدها يرتفع مستوى الهرمونات الذكورية والانثوية التي تنمي الشعور بمسؤولية الاحتضان والانجاب والحماية الضرورية لبقاء النسل.
هذه المراحل الفطرية الثلاث، لا تميز الانسان عن باقي الثدييات الا من خلال مقدرته على استخدام العقل والمنطق، والتحكم بمستوى الدفع الكيميائي لاكتساب السلوك الحضاري من جهة، والمحافظة على العلاقة الرومانسية التي عموماً ما تخبو بعد الارتباط والإنجاب.

 

كيف نحافظ على الرومانسية؟

من منطلـق الاعتراف بأن الرهبة تجاه المجهـول ترفـع مستوى هرمـونات الإثارة، وبأن الوضـوح في سياق العلاقة يولّد الاستـقرار ومن ثم الرتابة والمـلل، يشير الاختصاصيون الى أهمية إحياء مرحلة الرومانسية من حين الى آخر، وذلك تماشياً مع متطلبات الشـريكـين ومـدى استعدادهـما للاسـتمتاع بالتغيير، وما يحـملـه مـن غـموض وإثـارة.
والتغيير كما هو معروف يستمد إيقاعه من عوامل حياتية عدة بالإمكان التحكم بها، وتوجيهها لمصلحة حياتنا اليومية وعلاقاتنا الشخصية بشكل خاص. وباعتبار أن التغيير المطلوب لاحداث الإثارة يتطلب مواجهة مواقف غامضة ترفع مستوى الهرمونات الآنفة الذكر، فلا بد إذن من الأخذ بالاعتبار أهمية المغامرة، وما تنطوي عليه من إيجابيات الى جانب السلبيات.

 

معنى المغامرة وأساليبها

المغامرة حسب مفهوم الاختصاصيين أنواع، منها الحسي، ومنها المعنوي، علماً أن الهدف الأساسي منها هو الإبقاء على حيوية الإرتباط العاطفي الى حد ما.
هنا لا بد من الإشارة الى أن نتائج آخر الدراسات أكدت على إيجابية الزواج الذي تسبقه لقاءات مدبرة أو مبرمجة. والسبب أن الاختيار العقلاني الذي يسبق الانجذاب العاطفي، يمهد لمرحلة من الاستقرار والرومانسية في آن معاً. بمعنى أن المعلومـات التي يجمعها كل من الشريكين عن بعضهما الآخر في بداية العلاقـة، قد تؤمـن نوعاً من الاطمئنان، الا انها لا تلغي الحذر من حصول مفاجآت غير مستحبة أو منتظرة على المدى البعيد، وهذا الإحساس كفيل بتزويد كل منهما بسلاح دفاعي فطري لمواجهة خطر الانفصال، الأمر الذي يبقي على شعلة الرومانسية لأطول مدة ممكنة.
وبالعوة الى أساليب التغيير، يؤكد الإختصاصيون على ضرورة استحداث المفاجآت وترتيب المناسبات بالإضافة الى السفر إذا أمكن، وتمضية أوقات خارج المنزل.
ومن ناحية أخرى، فقد تم تركيز لافت على فن المشاحنات والنقاش الزوجي الحاد، باعتباره من العوامل الضرورية لإحياء العلاقة.

 

دور المشاحنات وأهميتها

تشكل المشاحنات الزوجية الى حد ما ملح العلاقة وزادها اليومي. فهي إذا ما تمت ضمن حدود المنطـق والاحترام المتبـادل للأفكـار والمشاعر، قادرة على تقوية أواصر العلاقة عن طريق إشعـار الزوجين بخطر الانفصـال.
فالمشاحنات والنقاش الحاد أو الجدال حول الأمور الشخصية والعائلية، ترفع مستوى هرمون الـ«أدرينالين»، وهو الهرمون الذي يفرزه الدماغ بسرعة خلال المواقف الصعبة للتنبيه الى وجود خطر ما.
لذا فإن التنبه والخوف من احتمال حصول الفراق نتيجة للمشاحنة، قد يضع الشريكين في حالة غموض من شأنها رفع مستوى الإثارة، واستعادة رابط العلاقة الحيوي.
لا بد من الإشارة هنا الى أن الذكور والإناث يختلفـون عمـوماً من حيث مستوى الرغبة في إحداث الانفتاح والتغيير، وخصوصاً بعد انجاب الأطفال. على كل، فإن في هذا الشأن ثبت أن نجاح العلاقة الزوجية يعتمد الى حد بعيد على تقارب الطباع والميول والنشاط العصبي الحسي. لذلك فإن المغامرين أو محبي التغيير والإثارة، قد يجدون صعوبة في التأقلم مع شركاء تنقصهم هذه الميول لاختلاف في أجهزتهم العصبية، وبالتالي ردات فعلهم تجاه المحفزات. وهذا يعني أن الشعور بثقل الرتابة والملل، يختلف باختلاف ميول الزوجين ورغباتهم.

 

أهمية الرائحة وتأثيراتها

بالإضافـة الى التأثيـر الإيجابي للنقاش في الحياة الزوجية، لا بد من التنبيه الى أهمية الرائحة التي تميز شخصاً عن آخر.
فالرائحـة كما تؤكد الأبحـاث، هي القوة الفطريـة الدافعة في مجمل مراحـل العلاقات العاطـفية، علـماً أنها أكثر أهمية بالنسبة الى الإنـاث منها للذكور.
فالمرأة التي حمّلتها الطبيعة أمانة الإنجاب، قد زوّدتها بمقدرة فطرية على تمييز الروائح باعتبارهـا إشـارة بالغة الأهميـة بالنسبة لصحة النسل. أما الرائحة المقصودة هنا، فهي الكامنة تحت مستوى الوعي الحسي، والتي تعطي كلاً منا هوية متميزة نابعة من جهازه المناعي الخاص.
فداخل الحامـض النووي للخلية الوراثية لـكل فرد على حدة، شريحة تتحكم بالبروتـينات الموجودة في جهـاز المناعة بالإضافة الى إنتاج الرائحة الفردية المميزة. وباعتبار أن الجنس البشري محمي ضد مختلف الأمراض بفـضل جهـازه المناعي المتماسك، فإن النساء المؤتمنات على حماية النسل، يخترن بالفطـرة، وعن طريـق تمييز الرائحة، الرجـال المزوديـن بأجهزة مناعية مختلفـة عن أجهزتهـم بهـدف إنجاب أطفال أصحاء.
ولتأكيد هذه النظريـة عرضت الدراسات نماذج مختلـفة لزيجات فاشلـة جمعت نسـاء ورجال متقاربين من حيث تشابه تركيـب الجينات الوراثية وأجهزة المناعة. أما سبب الفشل الأساسي فهو تعرض النساء للاجهاض المتكرر، أو صعوبة الإخصاب.
 الى ذلك، تحذر الدراسات الحالية من سلبيات الاستعانة بحبوب منع الحمل لتجنب الإنجاب، وخصوصاً  خلال سنوات الزواج الأولى. فهذه الحبوب مصممـة خصيصاً لخداع جسم المرأة عن طريـق الإيحاء بالحمل الكـاذب، الأمر الذي يـؤثـر إيجاباً في زيـادة انجذابهـا الى الشريـك وتعلقها برائحته الفطريـة بدافع حماية الجنين الوهمي. لذا فهي عندما تتوقف عن استخدام الحبوب، قد تتغيـر ردة فعلها الحسية تجاهه بشكـل تدريجي أو مفاجئ، ما يؤدي أحيانـاً الى الخلاف والانفصال.
هـذه وسواها من الدوافـع المتشابكة في إطـار مراحـل العلاقـة البالغـة التعـقيد، مـن شأنها أن تتفاعل وتـؤدي الى تجـذر أنمــاط سلوكيـة قد تضـر أحياناً بصحــة العلاقــة، إلا أن الإطلاع على هذه الدوافع والتعرّف الى إيجابيـاتـها وسلبـياتها، يجـعل المعنيـين أكثـر مرونـة وتفهـماً وتصميـماً على استخـدام العـقل لتفـعيل النواحـي الإيجابية، وضبط الإيقاعـات الفطـرية الخارجة عن المنطق الحضاري.