- En
- Fr
- عربي
الانتفاضة المستعادة أو الحربمن أجل تحرير فلسطين
بعد مرور أكثر من شهرين على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية أو كما اتفق على تسميتها “إنتفاضة الأقصى” في الضفة الغربية وغزة, من الواضح أنّ الأحداث ليست مجرد فصل آخر دامٍ من تاريخ النزاع الإسرائيلي ـــ الفلسطيني, بقدر ما هي صراع الفلسطينيين الأخير من أجل استقلالهم وتحرير ما تبقّى من أرضهم وإعلان دولتهم, بعدما يئسوا من إمكانية تحقيق ذلك من طريق التفاوض.
وإذا كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987 واستمرّت أعواماً هي التي دفعت اسرائيل إلى الإقرار بحق الفلسطينيين في وطن لهم, فإنّ الانتفاضة الراهنة هي سبيل الفلسطينيين لرفض الكيان المقطّع الأوصال والمحاصر الذي وافقت عليه اسرائيل في الاتفاقات التي عقدتها مع الفلسطينيين, والأهم أنّ القدس لن تكون عاصمة أبدية لإسرائيل وإنما هي حق للفلسطينيين ورمز أساسي للعرب الذين لا يمكن أن يتخلّوا عن أماكنهم المقدسة للسيادة الإسرائيلية.
هذه الانتفاضة التي حصدت حتى الآن ما يتجاوز المائة وخمسين قتيلاً فلسطينياً معظمهم من الشبان والأطفال وآلاف الجرحى, والتي تتوقع هيئة أركان الجيش الاسرائيلي استمرارها لمدة سنة أخرى, قد يكون السبب المباشر لانفجارها الزيارة التي قام بها رئيس تكتل الليكود اليميني المتشدّد أرييل شارون إلى الحرم الشريف في مطلع شهر تشرين الأول الماضي, لكنّ هذه الزيارة كانت الفتيل الذي أشعل حريقاً كان على وشك الانفجار والذي كانت عناصره تتجمّع منذ أكثر من سبع سنوات لأسباب سياسية واقتصادية إجتماعية.
1- أسباب اندلاع الانتفاضة
أ- تعثّر المسار السياسي وفشل مفاوضات كمب دايفيد الصيف الماضي:
إتفاقات عديدة وقّعت حديثاً بين اسرائيل والفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو الأول في 13/8/1993 واتفاق أوسلو الثاني عام 1994, إلى اتفاق الخليل 1997 إلى اتفاقية واي ريفر عام 1998 وانتهاء باتفاق شرم الشيخ عام 1999. وبموجب هذه الاتفاقات كان من المفترض أن تكون اسرائيل أنهت انسحابها من معظم مناطق الضفة الغربية وغزة, بحيث يصبح نحو 90 في المئة من هذه المناطق تحت السيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينية.
لكن الذي حدث انه طوال السنوات السبع الماضي, لم يحصل عرفات على سلطة حقيقية إلاّ على 70 في المئة من قطاع غزة (360 كلم2), وعلى 13,1 في المئة من الضفة الغربية
(5673 كلم2), ولا شيء بالنسبة للقدس. أي ما يوازي 20 في المئة فقط من الأراضي التي احتلتها اسرائيل عام 1967 (والتي تشكّل هي ذاتها نحو 22 في المئة من فلسطين في زمن الانتداب).
لقد جرى تقسيم الضفة إلى ثلاث مناطق خاضعة لسلطات مختلفة. المنطقة (أ), وهي تابعة لسيطرة فلسطينية كاملة, المنطقة (ب) منطقة تبقى السيطرة الأمنية فيها في يد الجيش الاسرائيلي, والمنطقة (ج) خاضعة لسيطرة اسرائيلية كاملة. وفي الواقع فإنّ السلطة الفلسطينية تمارس سيطرة مباشرة أو جزئية على نحو 70 في المئة فقط من شعبها([1]).
خلال هذه الفترة لم يتوقف النشاط الاستيطاني في المناطق, إذ تواصل أيام حكومة رابين وحكومة نتنياهو كما يتواصل اليوم مع حكومة باراك.
وبالاستناد إلى مركز بتسليم الاسرائيلي, فإنّ أكثر من 78,500 مستوطن يهودي جديد جرى إسكانهم في الضفة الغربية وغزة منذ اتفاق أوسلو, وبنت اسرائيل 11190 مسكناً جديداً. ومنذ عام 1993 ارتفع عدد المستوطنين من 22 ألفاً بحيث أضحى 141 ألفاً عام 2000. أما في القدس الشرقية فقد دمّرت اسرائيل 895 منزلاً فلسطينياً (هناك نحو 13 ألف فلسطيني من دون مسكن في القدس منذ عام 1988, حيث صادرت السلطات الاسرائيلية نحو 53 ألف هكتار([2])).
تعمّد إيهود باراك لدى تسلّمه رئاسة الحكومة, تأجيل تطبيق اتفاق واي ريفر, معطياً الأولوية للمفاوضات مع سوريا, على حساب الفلسطينيين, وهو لم يعد إلى إحياء المسار الفلسطيني إلاّ بعدما تبيّن له استحالة التوصل إلى اتفاق مع سوريا في العام الأول لحكمه, وبعد تجميد المفاوضات مع سوريا, وفشل قمة الأسد كلينتون في جنيف في آذار الماضي. ولكن عندما تجدّدت المفاوضات مع الفلسطينيين, بدا ان هناك أكثر من عقبة تعترض تنفيذ الاتفاقات المعقودة, وعلى رأسها مشكلة القدس واللاجئين.
وفي أعقاب فشل قمة كمب دايفيد التي عقدت في شهر تموز الماضي بين عرفات وباراك والرئيس الأميركي بيل كلينتون, وصلت المساعي السياسية إلى حائط مسدود مصطدمة بمشكلة السيادة على مدينة القدس, والتي رفضت اسرائيل قبول أي سيادة فلسطينية عليها, لاسيما على الجزء الشرقي منها, معتبرة أنّ القدس الموحّدة عاصمة أبدية لإسرائيل. وبدا ان السبيل الوحيد لإنقاذ المفاوضات هو الاتفاق على إطار للحل الدائم يشمل مسائل الحدود, والأمن, والمستوطنات, واللاجئين, وتأجيل موضوع القدس إلى فترة لاحقة.
إعتقد باراك بعد عودته من كمب دايفيد أنه بات يقبض على عنق الفلسطينيين. ووصفه أحد الصحافيين أنه عاد “مرتاحاً لنجاحه في مهمته. فالمناطق ما زالت في يد اسرائيل, والتأييد الدولي بات إلى جانبها. وظنّ أنّ باستطاعته التصدّي الآن لموضوع إقامة حكومة إئتلافبة إذ ان حكومته لم تعد تتمتع بالأكثرية الكافية داخل الكنيست([3]).
ب- أزمة باراك الحكومية وضغوطات اليمين الاسرائيلي ضد تقديم تنازلات:
منذ بدء المفاوضات مع الفلسطينيين, تعرّضت حكومة باراك إلى أكثر من هزّة, إذ استقال منها حزب “شاس” الديني (17 مقعداً في الكنيست) وحزب “المفدال” الديني القوي (5 مقاعد) احتجاجاً على إمكانية تقديم باراك تنازلات للفلسطينيين. كما خرج من حكومته أيضاً وزير الخارجية دافيد ليفي زعيم حزب غيشر الذي شكّل جزءاً من اللائحة الإئتلافية “إسرائيل واحدة” التي فاز بها باراك في الانتخابات.
وهكذا وجد باراك نفسه يواجه احتمال حجب الكنيست الثقة عن الحكومة التي لم تعد تتمتع بالغالبية, والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وكان المأخذ الأساسي لأحزاب اليمين على باراك قبوله مبدأ السيادة الفلسطينية على الأحياء العربية للقدس في كمب دايفيد, الأمر الذي اعتبره خيانه لمبدأ الحفاظ على وحدة المدينة المقدسة.
من هنا حاول باراك العمل في أكثر من اتجاه إلى جذب الليكود إليه, وتشكيل حكومة وحدة وطنية, معلناً استعداده التراجع عن كل ما تعهّد به في كمب دايفيد. وقد تكون موافقة الحكومة على الزيارة الاستفزازية التي قام بها ارييل شارون إلى الحرم الشريف محاولة من باراك لإرضاء اليمين, مع كل المخاطر المترتبة على ذلك. وبحسب ما أوردته الصحف الاسرائيلية في تلك الفترة فإنّ الأجهزة الأمنية حذّرت من مغبّة حدوث الزيارة في هذا الوقت بالذات وما قد تسببه, لكن باراك لم يقم لها وزناً كافياً حتى حدث ما حدث.
ج- الأزمة الاقتصادية والمعيشية للفلسطينيين, وتأثير النموذج اللبناني في تحرير الجنوب:
ثمّة إجماع على أنّ الوضع المعيشي الذي عانته مناطق السلطة الفلسطينية منذ أكثر من خمس سنوات بات لا يطاق إلى حدّ ان البعض أخذ يترحّم على إيام الاحتلال الاسرائيلي للضفة وغزة. فالإجراءات الصارمة التي اتخذتها اسرائيل بعد انسحابها من غزة, والتي أدّت الى فصل القطاع بسياج ينتهي بمعبر هو معبر “إريز” أدّت الى انخفاض كبير في المداخيل.
وبالاستناد إلى تقرير خاص أعدّته الأمم المتحدة([4]), فقد انخفض الناتج القومي الإجمالي الحقيقي في الضفة وغزة ما بين السنوات 1992 و1996 بنسبة 22,7 في المئة. ويعود ذلك إلى خسارة فرص العمل في اسرائيل, وانخفاض التبادل التجاري بسبب سياسة إغلاق اسرائيل للمعابر وانخفض الناتج القومي للفرد من 2425 دولاراً عام 1992, إلى 1480 دولاراً بحلول عام 1996. وبلغ المعدّل الوسطي للبطالة في الضفة 24,8 في المئة, وفي القطاع ارتفع إلى 39 في المئة.
ولقد تفاقم هذا الوضع منذ تلك الفترة بصورة تصاعدية لاسيما بعد سياسة التشدّد التي اتبعتها اسرائيل إزاء العمال الفلسطينيين. وفي تحقيق صحفي طويل نشرته صحيفة “لوموند”([5]) جرى تصوير ذلك بالقول: “خلال الاحتلال الكامل لقطاع غزة, كان الدخول إلى اسرائيل حراً, وكان باستطاعة أي فلسطيني أن يقود سيارته وان يصل إلى تل أبيب, أو أي مدينة أخرى في أقل من ساعة. وكان تدفّق اليد العاملة الفلسطينية إلى اسرائيل لا يتوقف. ومع بدء عملية السلام وُضعت قواعد صارمة, وبات لا يُسمح إلاّ لنمط معيّن من الفلسطينيين بالعمل خارج القطاع, تخوّفاً من وقوع عمليات إرهابية. وهكذا بات العامل الفلسطيني “المثالي” هو المتقدّم في السن المتزوج والأب لعدّة أطفال, والذي عليه أن يخضع يومياً لإجراءات تفتيش مهينة.
إلى ذلك, عانى فلسطينيو غزة من الحصار, والاغلاق الجزئي أو الكلّي للمعابر, الذي تفرضه اسرائيل لدواعٍ أمنية, كل ذلك ساهم في خلق جوّ من الاختناق في منطقة “تعتبر الأكثف في العالم من حيث نسبة عددالسكان”. وليس من الصدفة والحال هذه أن تشهد غزة بالذات الإرهاصات الأولى للإنتفاضة.
ولا يخفى هنا التأثير الذي كان لتحرير الجنوب على يد المقاومة في لبنان, والانسحاب السريع و”المذلّ” على حدّ تعبير الاسرائيليين أنفسهم, والذي نفّذه الجيش الإسرائيلي في 25 أيار الماضي, وقبل الموعد الذي كان حدّده باراك لهذا الإنسحاب في أوائل تموز.
تحدّث المعلّقون الاسرائيليون عن تأثير الانسحاب وانتصار المقاومة اللبنانية على الشارع الفلسطيني, فكتبت “هآرتس” تحت عنوان: “على خطى حزب الله”([6]) تصف الفرح الذي غمر الجمهور الفلسطيني الذي أغرق الشارع الفلسطيني في مواجهة الانسحاب, والارتباك الذي ساد قيادة عرفات إزاء ما يجري في لبنان. وعلّقت الصحيفة قائلة: “... إذ لا مجال للمقارنة بين مقاومة “حزب الله” والنتائج الباهرة لتي حققتها, وبين الانجازات التافهة للديبلوماسية الفلسطينية”. وهكذا صعّد الانسحاب من الجنوب الانتقادات الموجّهة إلى القيادة الفلسطينية, وزاد من الضغوطات الشعبية التي أخذ تطالب عرفات بعدم تقديم تنازلات وبالعودة إلى المقاومة والاحتذاء بمثل المقاومة اللبنانية.
في دراسة كتبها الباحث في “مركز دايان للدراسات الاستراتيجية” تحت عنوان: “انعكاسات الانسحاب من لبنان على العلاقات الاسرائيلية الفلسطينية” يقول مارك هيلز: “رأى العديد من الفلسطينيين والعرب في الانسحاب الاسرائيلي من لبنان هزيمة لا تستوجب فقط الاحتفال بها, وإنما اعتبارها سابقة أو نموذجاً يجب أن يحتذى به. وهم يعتقدون ان “حزب الله” أجبر اسرائيل على الانسحاب الكامل وغير المشروط, ومن دون اتفاق سياسي أو تنازلات أو ترتيبات من الجانب اللبناني, وهم يعتقدون بأن الحزب أنجز تحرير الأرض بواسطة العنف, وعلى الفلسطينيين استخدام الوسيلة ذاتها لتحقيق أهدافهم”.
وفي الحقيقة فإن النظر إلى ما آلت اليه الأوضاع اليوم في المناطق الفلسطينية, وإلى الطريقة التي تطورت بها أساليب المواجهة, تدلّ بوضوح على تبنّي النموذج اللبناني في المواجهات, مثل استخدام العبوات الناسفة, وإطلاق النار على الدوريات, إلى العمليات الانتحارية, بحيث أكّد أكثر من مسؤول عسكري اسرائيلي انه يعتبر الانتفاضة الشعبية الفلسطينية قد دخلت في مرحلة “اللبننة”.
وهكذا فالزيارة الاستفزازية التي قام بها شارون للحرم الشريف, ومشاهدة الفلسطينيين لمئات رجال الشرطة الذين رافقوه, أشعرهم بأن اسرائيل تحاول من جديد الاعتداء على مقدساتهم, وفجّر فيهم كل مشاعر الاحتقان الديني والسياسي. وهكذا بدأت الاشتباكات من ساحة المسجد الأقصى لتنتشر بسرعة هائلة في كل مناطق الضفة وغزة, وتتجاوزها إلى داخل المدن والبلدات العربية في اسرائيل, معلنة بداية مرحلة جديدة من النزاع بين الاسرائيليين والفلسطينيين.
2- إنفجار العنف, من النُذر الأولى إلى خطوط التماس فالمواجهات المسلّحة:
قبل أيام من زيارة شارون للحرم القدسي, انفجرت عبوة ناسفة أثناء مرور دورية اسرائيلية في نتزاريم في قطاع غزة, أدّت إلى مقتل جندي اسرائيلي من لواء غفعتى. في الفترة نفسها قُتل ضابط من حرس الحدود الاسرائيلي برصاص زميله الفلسطيني في دورية مشتركة, وكان الدافع لذلك انتقام الفلسطيني لنفسه بعد تعرّضه للضرب قبل فترة على يد الاسرائيليين. وهذه الحادثة وقعت أيضاً في غزة.
وسوف يتبيّن لاحقاً ان غزة, وتحديداً منطقة نتزاريم, التي يرابط فيها الجنود الاسرائيليون ستتحوّل إلى نقطة أساسية من نقاط الاحتكاك الساخنة. فمن المعروف أنّ حوالى 90 في المئة من سكان غزة هم من سكان مخيمات اللاجئين والذين يعانون من الضائقة الاقتصادية والاجتماعية.
ومنذ اليوم الأوّل للإنتفاضة برز إسم تنظيم “فتح” بوصفه المخطّط للأحداث والمواجهات, بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية. حول هذا الأمر كتب زئيف شيف في “هآرتس”([7]): “لقد كان واضحاً أن الأحداث التي اندلعت إنما حدثت بمبادرة من تنظيم “فتح” ومن رجال شرطة فلسطينيين في ثياب مدنية. فهم الذين تسبّبوا في اندلاع الإضطرابات في أكثر من 20 موقعاً مختلفاً في الضفّة والقطاع. وثمّة شكوك في أن تكون السلطة الفلسطينية هي التي أعطت الضوء الأخضر للتظاهرات في البلدات الفلسطينية الواقعة على حدود الخط الأخضر , من أجل نقل الشرارة إلى داخل اسرائيل وعدم اقتصارها على المناطق. ولقد قام أعضاء الكنيست العرب بدور فعّال في التشجيع على ذلك”.
وهكذا بدأت ترتسم خارطة للتظاهرات والمواجهات يمكن تلخيصها كالتالي:
أ- مظاهرات شعبيّة خلال النهار ورشق بالحجارة لمواقع الجيش الاسرائيلي ولجنوده وآلياته التي عادت إلى محاصرة المدن الكبرى في الضفّة وغزّة بعدما كانت قد انسحبت منها. هذه التظاهرات كانت تنحسر ليلاً ليحلّ مكانها إطلاق النار. وتركّزت هذه المواجهات في مناطق رام الله, والخليل, وطولكرم, وقلقيلية, وبيت لحم, وفي غزّة وبالقرب من نتزاريم وغوش كطيف وكفار دروم ورفح على مقربة من الحدود المصرية ــ الإسرائيلية.
ب- قيام الفلسطينيين برشق المستوطنين اليهود بالحجارة, فيرد المستوطنون بإطلاق النار في الهواء. كما يقوم الفلسطينيون بقطع الطرقات بالإطارات المشتعلة, ممّا يحمل الجيش على فتح الطرق والإشتباك مع الفلسطينيين([8]).
ج- بدءاً من الأسبوع الثالث بدأت تبرز في المناطق “خطوط التماس” التي تذكّر بما كانت عليه الحـال خلال الحرب الأهليّة في لبنان في السبعينات. فلقد برز خط تمـاس بين بلدة بيت جالا الفلسطينية التي تدخل ضمن نطاق بيت لحم وهي خاضعة للسيطرة الفلسطينية الكاملة, وبين مستوطنة جيلو اليهودية التي تدخل ضمن نطاق بلدية القدس. وبحسب الرواية الإسرائيلية فإن عناصر “فتح” دخلت إلى بيت جالا التي غالبية سكانها من المسيحيين الأورثوذكس وبدأت بإطلاق النار, لا سيما في الليل, على سكان مستوطنة جيلو, وذلك إنطلاقاً من أماكن العبادة والمدارس, وذلك لجرّ الجيش الإسرائيلي إلى الرد وإلحاق أضرار بأماكن الصلاة أو بالمدنيين, ممّا سيثير الرأي العام في العالم ويثير نقمة المسيحيين على إسرائيل([9]).
نموذج آخر لخط تماس هو الذي برز بين بلدة البيرة الفلسطينية وبين مستوطنة بسبغوت في الضفّة. والمعروف أن هذه المستوطنة أقيمت على أراضٍ تابعة لسكان البيرة صادرتها إسرائيل عام 1977, وتقدّم أصحابها بشكوى إلى محكمة العدل العليا.
د- استخدم الفلسطينيون أسلوب “إضرب واهرب” هذا إلى جانب أسلوب العبوات الناسفة, وعمليات التصفية كما حدث مثلاً في رام الله عندما أقدم المتظاهرون الغاضبون على تصفية جنود إسرائيليين حاولوا اللجوء إلى مركز الشرطة الفلسطينية بعدما كشف أمرهم, لكن الجماهير اقتحمت المركز, وأقدمت على تصفيتهم ضرباَ. وكان لهذا الحادث أثره الكبير إذ قامت على أثره المروحيات الإسرائيلية بقصف مراكز السلطة في المدينة إنتقاماً.
ه- قد تكون المرحلة الأخيرة التي وصلت إليها الإنتفاضة هي مرحلة الإنتقال من أسلوب المواجهات الشعبية إلى الإشتباكات المسلّحة والعمليات ضد الجيش الإسرائيلي مباشرة. وتطوّرت هذه المواجهات حتى دخلت ما أسماه المسؤولون العسكريون مرحلة “حرب الإستنزاف” حيث تقوم خلال ساعات النهار التظاهرات الشعبية وعمليات رشق الحجارة والزجاجات الحارقة, وفي الليل تبدأ عمليات إطلاق النار. كما وأخذ الفلسطينيون يدخلون أسلحة جديدة إلى الإستخدام مثل قذائف الآر. بي. جي المضادة للدبابات.
القمع الإسرائيلي للإنتفاضة
منذ اليوم الأوّل للإنتفاضة, عمد الجيش الإسرائيلي إلى استخدام وسائل عنيفة لمواجهة المتظاهرين العُزّل. من استخدام القنابل المسيلة للدموع إلى الطلقات المطاطية فالرصاص الحيّ. ولقد كان لافتاً العدد الكبير من الإصابات في صفوف الفلسطينيين, كما كان واضحاً أن الجنود كانوا يصوّبون طلقاتهم إمّا إلى الرأس أو إلى الصدر. وبالإستناد إلى تقرير إسرائيلي نشرته صحيفة
“هآرتس”([10]) فإنه حتى تاريخ 14 تشرين الثاني الماضي بلغ عدد القتلى الفلسطينيين أكثر من 300, بينهم العشرات تقلّ أعمارهم عن السابعة عشرة, وهناك ثمانية آلاف جريح بينهم 1200 أصيبوا بعاهات دائمة. وتحدّث التقرير عن الرصاص الإسرائيلي الذي يهشم العظام ويتسبّب بنزف داخلي, كما رُوي عن استخدام طلقات المطاط التي تقتلع الأعين من محاجرها, وعن الصواريخ التي باستطاعتها تدمير طبقات كاملة من الأبنية, وأن تشعل النيران الهائلة بسرعة خاطفة, وعن القنابل المضيئة التي بإمكانها أن تنير حيّاً بأكمله طوال ساعات الليل.
أمّا في مواجهة مطلقي النار؛ فإنّ الرد الإسرائيلي على ذلك كان أعنف, من استخدام المدفعية إلى استخدام الطوافات الحربية.
وفي الواقع فإن حادث تصفية الجندييين الإسرائيليين في رام الله على يد المتظاهرين شكّل نقطة تحوّل في مستوى العنف ودرجته, فارتفعت الأصوات في قيادة الجيش الإسرائيلي مطالبة باستخدام المزيد من العنف في قمع الإنتفاضة, حتى ولو أدى ذلك إلى إعادة إحتلال المناطق الفلسطينية التي تخضع للسلطة الفلسطينية الكاملة. في هذا الشأن تساءل زئيف شيف المعلّق العسكري في صحيفة “هآرتس”([11]) ما إذا كان على الجيش الاسرائيلي دخول منطقة (أ) فقال: “هل بات مطلوباً الآن دخول الجيش الإسرائيلي المنطقة (أ) الواقعة تحت السيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينية, والتي يحتمي فيها الفلسطينيون بعد القيام بهجماتهم على المستوطنين والجنود؟” رأى شيف أن إتخاذ مثل هذا القرار هو في يد إسرائيل ومثل ذلك قد يوسع دائرة المصادمات والمواجهات مع الفلسطينيين ويحوّلها إلى مواجهة إقليمية وحرب. وحتى الآن ما زالت الحكومة تتوقّع عودة المفاوضات السياسية, وهي لا ترغب في حدوث مواجهة شاملة.
ولكن إرتفاع عدد القتلى بين الإسرائيليين في النصف الثاني من شهر تشرين الثاني, زاد عدد الأصوات المطالبة بتخلّي الجيش الإسرائيلي عن سياسة “ضبط النفس” والقيام بعمليات مبادأة.
ونقلت الصحف الإسرائيلية في تلك الفترة أصداء النقاشات التي دارت بين المسؤولين العسكريين والأمنيين الإسرائيليين من جهة وبين القيادة السياسية من الجهة المقابلة, وتمحور الجدل حول ما إذا كان على إسرائيل القيام بعملية عسكرية كبيرة أم أن عليها الإستمرار بسياستها الحالية. لكن التقديرات رجّحت استمرار السياسة الحالية مع تشديد قبضة الحصار المفروض على المناطق والذي من شأنه أن يؤدّي إلى تجويع أهالي الضفّة والقطاع.
وفي الحقيقة تُعوّل اسرائيل كثيراً على الحصار الاقتصادي والتمويني الذي فرضته على الضفّة وغزّة, والذي بدأ ينعكس بصورة حادة على الوضع المعيشي هناك. وبالإستناد إلى تقرير وضعه مدير المجلس الفلسطيني الإقتصادي للتنمية والتطوير([12]) فإن أكثر المناطق معاناة من الحصار هي غزّة والخليل وشمال الضفّة والتي تعتمد اعتماداً كبيراً على العمل في إسرائيل.
وبحسب تقرير البنك الدولي, فإذا ما استمرّ الحصار الإسرائيلي حتى نهاية شهر رمضان فإن جميع العمّال الفلسطينيين في اسرائيل والبالغ عددهم 125 ألف عامل سيمنعون من العمل في اسرائيل, وبعد هذه الفترة سيسمح لـ25 ألف عامل فقط بالعودة إلى عملهم في اسرائيل. ويقدّر البنك الدولي خسائر الناتج القومي الفلسطيني خلال الشهر الأوّل للإنتفاضة بنحو 210 مليون دولار. وفي حال استمرّ الحصار حتى نهاية عام 2000, ستبلغ الخسائر 630 مليون دولار (المبلغ الكامل للموازنة الفلسطينية نحو مليار دولار), أمّا خلال العام 2001, فستبلغ الخسائر 1,7 مليار دولار. وحتى نهاية عام 2000 انخفض الدخل الفردي بنحو 11 في المئة وذلك بالمقارنة بما كان يمكن أن يكون عليه من دون حصار. وفي عام 2001, سينخفض إلى 27 في المئة. وسيرتفع معدّل الفقر من 21 في المئة إلى 28,3 في المئة من مجموع الفلسطينيين. وفي عام 2001 سيبلغ هذا المعدّل 43,7 في المئة وسيكون قطاع غزّة هو الأكثر تضرّراً حيث سيصبح نصف سكانه تحت معدّل خط الفقر. وهكذا يتضافر القمع العسكري والحصار الاقتصادي والملاحقات الأمنية لمحاصرة فلسطينيي المناطق وقمع انتفاضتهم.
3- مشاركة عرب اسرائيل في الإنتفاضة
منذ اليوم الأوّل للإنتفاضة, إمتدّت نيرانها إلى مدن وبلدات فلسطينية تقع داخل إسرائيل, فأغلقت الطرقات أمام السيارات, وتظاهر آلاف الفلسطينيين في الناصرة وأم الفحم, والعديد من المدن الواقعة على محاذاة الخط الأخضر, ممّا أثار مخاوف كبيرة داخل اسرائيل, وصدمة لدى الجمهور الإسرائيلي. ويقول زئيف شيف في “هآرتس”: “أدى انضمام عرب إسرائيل إلى الإضطرابات في المناطق, إلى قطع أجزاء من البلد عن الدولة, وتسبّب بإضطرابات كبيرة”. وخلص من ذلك “في الحالة الحاضرة لم يعد عرب إسرائيل جسراً نحو السلام مع الدولة الفلسطينية, وإنّما باتوا مشكلة أمنية كبيرة([13])”.
وفي الواقع , فإن التضامن الواسع لعرب 48 مع أخوانهم في الضفّة وغزّة أتى نتيجة أمرين: شعورهم بالغبن وعدم المساواة والحرمان داخل إسرائيل, وتماهيهم مع فلسطينيي المناطق الذين يشاطرونهم هويتهم وإنتماءهم القومي, ويتعاطفون مع نضالهم من أجل الإستقلال.
لكن دخول فلسطينيي 48 على خط التظاهرات أحدث صدمة كبيرة في أوساط الشارع الإسرائيلي الذي عبّر عن خوفه وحذره وعدم ثقته بالعرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية منذ أكثر من خمسين عاماً. وفي استفتاء أجرته صحيفة معاريف([14]) تبيّن أن 60 في المئة من الإسرائيليين اليهود عبّروا عن رغبتهم في انتقال عرب 48 إلى أراضي السلطة الفلسطينية التي في رأيهم يدينون لها بالولاء.
وهكذا أظهر تضامن عرب 48 مع إخوانهم في الضفّة وغزّة عدّة حقائق أساسية: سقوط مقولة “الخط الأخضر” الذي جعله الإسرائيليون فاصلاً وحاجزاً بين فلسطين 1948 وفلسطين الضفّة والقطاع, وفشل مقولة أسرلة عرب 1948, ومحاولة دمجهم في الدولة العبرية عبر الرهان على إضعاف هويتهم القومية. وهكذا تنبّه المسؤولون إلى وجود مشكلة أساسية مع الأقلية العربية في اسرائيل والتي تعاني التهميش والتمييز, مثلها مثل سائر المجموعات الأتنية التي يتألّف منها المجتمع الإسرائيلي, والتي فشلت الصهيونية في دمجها في بوتقة صهر إجتماعية واحدة, وعادت لتطالب من جديد بحقوقها, مثل مطالبة اليهود من أصل شرقي عربي بمساواتهم باليهود من أصل غربي أشكينازي؛ ومحاولة المهاجرين الروس الجدد الذين قدموا إلى إسرائيل في موجات هجرة كبيرة بدءاً من أواخر الثمانينات, الحفاظ على هويتهم الثقافية, وعاداتهم الإجتماعية وتمايزهم, الأمر الذي يثير حساسيات سائر طبقات المجتمع.
لكن مشكلة الأقلية العربية هي الأكبر حدّة وتهديداً نظراً لكونها تعيش داخل مجتمع ذي أكثرية يهودية جعلته الإنتفاضة أكثر كرهاً للفلسطينيين وعداءً للعرب إجمالاً.
مساعي التهدئة السياسة
لم تهدأ المساعي السياسية الآيلة إلى وقف العنف وأعمال القتل. فبعد أيام عدّة على اندلاع الإنتفاضة عُقد في باريس في 5/10/2000 مؤتمر بين باراك وعرفات جرى خلاله البحث في اتفاق لوقف إطلاق النار كان من المفترض أن يوقّع عليه في شرم الشيخ. لكن الرفض الاسرائيلي لطلب الفلسطينيين تعيين لجنة دولية للبحث في مسألة على من تقع مسؤولية الأحداث, وعدم مجيء باراك إلى شرم الشيخ, أديا إلى فشل المساعي الديبلوماسية الغربية التي لعبت فيها فرنسا دوراً أساسياً.
في 16/10/2000 عُقدت قمة أخرى في شرم الشيخ بين الزعيم الفلسطيني ورئيس الحكومة الإسرائيلية وبرعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون, والرئيس المصري حسني مبارك وملك الأردن عبد الله. وكان أهم ما أسفرت عنه تلك القمة التوصّل إلى ثلاثة مقررات: وقف أعمال العنف, إقامة لجنة دولية لدراسة الأحداث, والعودة إلى المفاوضات السياسية بشأن الحل الدائم والتي كانت قد توقفت.
لكن ونتيجة استمرار الانتفاضة أعلن باراك في الأسبوع الأخير من تشرين الأوّل وقف المفاوضات مع الفلسطينيين مدعياً بأن عملية السلام قد ماتت ولم يعد هناك شريك فلسطيني فيها. وطلب باراك من حكومته الإعداد لمشروع فصل اقتصادي وسياسي كامل بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية. ومعنى ذلك عملياً التنكّر لكلّ ما نصّت عليه اتفاقات أوسلو, وجعل كلّ مستقبل المفاوضات السياسية في مهبّ الريح, لا سيما وأن أوساط السلطة بدأت تشيّع بأن عرفات قد يعلن قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة في 29 تشرين الثاني المقبل من دون تنسيق مع الأميركيين أو اتفاق مسبق مع إسرائيل.
ورغم قرار وقف التفاوض, فلقد كانت الصحف الاسرائيلية تتحدث عن لقاءات سرية تجري بين مسؤولين أمنيين إسرائيليين وفلسطينيين إلى أن جرى لقاء عرفات بيريس في غزّة في مطلع تشرين الأوّل وكان تحضيراً للقاءات الرئيس الأميركي بيل كلينتون في واشنطن في الأسبوع الأوّل لشهر تشرين الثاني مع كلٍّ من عرفات وإيهودا باراك على حدة. وقد إنصبّت المساعي الأميركية على إيجاد تفاهم بين الطرفين على وقف أعمال العنف. وتمحورت مطالب الفلسطينيين على المطالبة بمراقبين دوليين في الوقت الذي تركّزت فيه مطالب الإسرائيليين على ضرورة وقف النار قبل البحث في أي شيء آخر.
ولكن وبالإستناد إلى ما ذكرته صحيفة “يديعوت أحرنوت([15]), فإن اسرائيل باتت أكثر استعداداً الآن للقبول بإرسال مراقبين دوليين, وذلك بعد اتصالات جرت بين وفدي البلدين بهذا الشأن في الأمم المتحدة في نيويورك.
وهكذا قام رئيس السلطة الفلسطينية في 17/11/2000, بتوجيه نداءٍ دعا فيه إلى وقف إطلاق النار من المناطق الخاضعة له في منطقة (أ) في اتجاه الجنود الإسرائيليين والمستوطنين. ولقد لاحظت الصحف الإسرائيلية الصادرة بتاريخ 19/11/2000, تدنياً في حوادث إطلاق النار, وأشارت إلى أنّ الشرطة الفلسطينية بدأت تنفيذ تعليمات عرفات بعدم إطلاق النار. لكن القرار الأخير لا يعني وقف النار في المنطقتين (ب) و(ج) ولا توقف التظاهرات الشعبية. وفي الوقت ذاته بدا أن المندوب الفلسطيني في الأمم المتحدة يسعى إلى التوصّل لإرسال نحو 2000 جندي دولي غير مسلّح إلى المناطق التي احتلّتها اسرائيل عام 1967 لمراقبة وقف إطلاق النار بين الطرفين.
والسؤال الذي يطرحه الإسرائيليون على أنفسهم اليوم هو: هل سينجح وقف النار أم أن الأمر هو مجرّد مناورة من عرفات؟ وفي رأي زئيف شيف المعلّق في “هآرتس”([16]) فأن ما دفع عرفات إلى الإعلان عن وقف النار هو الضغوطات الخارجية, لا سيما المصريّة منها, بالإضافة إلى اعتقاد عناصر فلسطينية بأن استمرار الإنتفاضة بصورتها هذه سوف يؤدي إلى إلحاق ضرر كبير بالمدن الفلسطينية, فاستمرار إطلاق النار على بلدة جيلو مثلاً سيؤدي إلى تدمير بيت جالا...” وأن ثمّة مصلحة في ضبط العنف.
وفي مطلق الأحوال فإن ثبات وقف إطلاق النار رهن بعدّة أمور, في طليعتها مدى اقتناع اسرائيل بضرورة إيجاد حل دائم يشمل تقاسم السيادة على القدس مع الفلسطينيين وتطبيق ما اتفق عليه سابقاً وتنفيذ الانسحابات. وكلّ هذا ما يزال في الوقت الراهن مؤجلاً في انتظار ما سيسفر عنه وقف النار من نتائج على الأرض.
في الوقت ذاته بات واضحاً أكثر من أي وقت مضى أن الانتفاضة الفلسطينية قد تكون منزلقاً إلى مواجهة وحرب إقليمية في حال تطوّرت المواجهات أكثر وجرى تصعيد كبير للوضع على الحدود مع لبنان. ومعنى ذلك أن ثمّة حـاجة إلى عملية سياسية شـاملة تؤدّي إلى تسوية للوضع بين إسرائيل ولبنان وسوريا والفلسطينيين. وهذا ما يجري الحديث عنه مؤخراً في أروقة الأمم المتحدة وبمبادرة من أمينها العام كوفي أنان.
4- الدروس الإسرائيلية للإنتفاضة
منذ الأسبوع الأوّل لإندلاع المواجهات في الضفّة وغزّة, عكف المعلّقون الإسرائيليون على استخلاص الدروس منها, محاولين استشراف الأفق السياسي الذي قد ينتج عنها وفي ما يلي
أهمّها([17]):
1- ما زال الفلسطينيون يحتفظون بمفتاح التغيير الاستراتيجي للمنطقة, وذلك رغم كونهم لا يملكون جيشاً حقيقياً. من هنا تنبع أهمية الإتفاق معهم.
2- أثبتت الأحداث عجز إسرائيل والفلسطينيين عن الاحتفاظ كلّ على حدة, بالسيادة على الأماكن المقدّسة للطرف الثاني.
3- سيكون لمشاركة عرب اسرائيل في الإنتفاضة, ودعمهم للفلسطينيين في الضفّة وغزّة, تأثيرهما المباشر على المفاوضات بشأن مشكلة اللاجئين. وإذا كانت اسرائيل قد أظهرت حتى الآن استعدادها لإيواء عشرات الآلاف منهم على مراحل, فإن ذلك يبدو الآن ضرباً من الجنون من الزاوية الأمنية والديموغرافية.
4- برهنت المواجهات, أنه رغم قدرات اسرائيل العسكرية, فإنه من السهل أن تنزلق إلى حروب أهلية جديدة من طراز حرب 1948. والثابت الآن ان اسرائيل ما زالت أمّة “في حالة حرب” وانطلاقاً من ذلك عليها أن تبحث مصالحها وهامش التنازلات القادرة على تقديمها.
5- من الدروس الأساسية التي تعلّمتها اسرائيل هو دور وسائل الإعلام, التي تشكّل نوعاً جديداً من “السلاح المدفعي”, وحاجة كل جيش أن يعرف كيف يستخدم الاعلام الذي يلعب دوراً أساسياً في الداخل والخارج.
6- طرحت الإنتفاضة بحدّة مشكلة المستوطنات اليهودية في الضفّة, ولا سيما المعزولة منها, والتي لم يعد باستطاعتها متابعة دورة حياتها الاعتيادية من دون حماية الجيش الإسرائيلي لها.
7- أثار نشوب الإنتفاضة وإرتفاع حدّة المواجهات وتحوّلها إلى إشتباكات بالسلاح, تساؤلات عدّة حول مدى دقّة وصحّة التقديرات التي أعدّتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بهذا الشأن. إذ يبدو أن التحذيرات التي صدرت عن هذه الأجهزة حول إمكانية حدوث مواجهات في الضفّة لم تكن متطابقة مع الواقع ولا متفقة فيما بينها. ففي الوقت الذي يحمّل جزء من هذه الأجهزة عرفات المسؤولية الكاملة عن الأحداث, هناك من يشكك في ذلك, وينيط المسؤولية بجهات فلسطينية أخرى مثل “فتح” والمنظّمات الأصولية. كلّ ذلك أثار الجدل بشأن عمل الأجهزة الأمنية ودقّة معلوماتها.
5- عودة التوتر إلى الحدود مع لبنان ومدى إرتباط ذلك بالوضع في الضفّة والقطاع
على الرغم من ميل إيهود باراك إلى الفصل بين ما يجري على الحدود اللبنانية الإسرائيلية وما يجري في الضفّة والقطاع, فإن إسرائيل تدرك أن توقيت خطف الجنود الإسرائيليين الثلاثة في مطلع شهر تشرين الأوّل على يد “حزب الله”, إنما أتى ليزيد من التضييق على إسرائيل ويدعم الإنتفاضة الفلسطينية, وذلك بفتح جبهة توتر جديدة في الشمال. وإذا ما كان باراك فرض على حكومته وقيادته العسكرية إلتزام ضبط النفس وعدم الرد على عملية الخطف عسكرياً, وترك المجال للمساعي الديبلوماسية من أجل إطلاق الأسرى, فإن القيادة العسكرية لجيشه لها موقف آخر.
وهكذا, وبدءاً من أواخر تشرين الأوّل الماضي, وتحديداً بعد عملية التسلّل الفاشلة التي قامت بها مجموعة فلسطينية الشهر الماضي من الحدود مع لبنان, تغيّر التعامل الإسرائيلي مع الوضع, وبدأت موجة تهديدات وتحذيرات بلغت حدّ إعلان حالة الإستنفار القصوى على الحدود مع لبنان تحسّباً لهجمات جديدة قد ينفذها “حزب الله”, وسيكون الردّ عليها قاسياً وقوياً ممّا قد يؤدّي بحسب الإسرائيليين إلى الإنزلاق نحو مواجهة عسكرية إقليمية.
أتى هذا التبدّل في السياسة الإسرائيلية إزاء لبنان اثر نشوء الإنطباع الإسرائيلي بأن قدرتهم على الردع على الحدود مع لبنان تضررت بعد عملية الأسر التي حدثت في مزارع شبعا وعدم الرد عليها, نتيجة انشغال اسرائيل بالمواجهات في المناطق الفلسطينية. وهذا كان رأي صحيفة “هآرتس” في افتتاحيتها يوم الثلاثاء (31/10/2000): “مع بدء أعمال العنف مع الفلسطينيين في المناطق, وتغيّر سلّم الأولويات الاسرائيلية, لم تعد اسرائيل مهتمّة بتنفيذ تهديداتها على الجبهة الشمالية, وباتت معنية بوقف انجراف القتال من المناطق إلى بقية العالم العربي, ومنع التدهور إلى حرب واسعة. لقد ضبط باراك الرد على “حزب الله” لعلمه أن هدف الحزب هو إثارة حرب شاملة”.
تعلم إسرائيل أنها مع قدراتها العسكرية غير قادرة على حسم المعركة لصالحها في مواجهات شعبية كتلك التي تخوضها في المناطق الفلسطينية ولا في “حرب عصابات” مثل التي خاضها “حزب الله” ضدّها طوال الأعوام الماضية, لذا فهي تحاول اليوم رفع درجة التصعيد على الحدود مع لبنان, وتحويل أي عملية بسيطة قد تقوم بها المقاومة إلى مواجهة عسكرية شاملة تهدّد كلاً من لبنان وسوريا في آنٍ معاً.
وفي الحقيقة فإن الوضع الصعب الذي تعانيه اسرائيل في المناطق يجعلها غير مهيّأة لتعريض جيشها إلى تصعيد آخر على حدودها الشمالية يتمثّل في عودة عمليات “حزب الله” إنطلاقاً من مزارع شبعا, وذلك بعد الضربة القاسية التي أنزلها الحزب بهذا الجيش في أعقاب نجاحه في أسر الجنود الإسرائيليين الثلاثة.
لذا فقوّاتها اليوم على الحدود في حالة تأهّب, تنتظر إشارة للتحرّك. والمؤكّد أن إسرائيل الآن لا تريد أن تظهر بأن مواجهتها للإنتفاضة الفلسطينية صرفتها عن التصدي للمحاولات الفلسطينية وغيرها في العودة إلى العمليات إنطلاقاً من الحدود اللبنانية.
6 توقعات وخلاصات
إن بلوغ العنف حدّه الأقصى في الفترة الأخيرة, وتحوّل المواجهات في المناطق الفلسطينية إلى حرب بين الجيش الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية, يعني أن الأمور بلغت ذروتها. ولكن وبما أن كلّ حرب, كما يقول كلوزفيتش, إنّما تكون لتحقيق غايات سياسية, فإن “إنتفاضة الأقصى” تسعى إلى ذلك أيضاً, على الرغم من تعدّد الشعارات. والراهن اليوم أن لا مجال للعودة إلى الوراء, والمطلوب إعتراف اسرائيلي بسيادة فلسطينية كاملة على سائر أراضي الضفّة وغزّة, والبحث عن حلّ عملي لمسألة المستوطنات اليهودية المعزولة والتي أثبتت الأحداث صعوبة بقائها واستمرارها.
وربما كان الأهم من ذلك كلّه أن لا سلام مع الفلسطينيين, وتالياً مع الدول العربية (التي قطعت في غالبيتها علاقاتها مع اسرائيل في أعقاب القمّة العربية) إلا في حلّ عادل لمدينة القدس يضمن سيادة فلسطينية على المقدّسات, واعترافاً بحق الفلسطينيين بإعلانها عاصمة لدولتهم.
ومرّة أخرى يثبت أن لا سلام حقيقياً من دون إنسحاب اسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام 1967. وهذا يصح على الفلسطينيين كما يصح على السوريين وأيضاً على اللبنانيين.
[1] Sylvain, cyal: “Dc l’espoir d’Oslo au blocage de Camp David”, “Le Monde 17/10/2000.
[2] للمزيد من التفاصيل تمكن العودة إلى :خالد عايد: “محصلة الإستيطان منذ اتفاق أوسلو 1995” مجلّة الدراسات الفلسطينية عدد 21, شتاء 1995.
[3] ألوف بن: “هآرتس”, 12/9/2000.
[4] تقرير أعدّته المراقبة الاقتصادية والإجتماعية في مكتب التنسيق الخاص بالأمم المتحدة في الأراضي المحتلّة بتاريخ 29/10/1996.
[5] Silles Paris: “La Palestine en miettes”, “Le monde”, 20/10/2000.
[6] داني روبنشتاين؛ “هآرتس”, 29/5/2000.
[7] “هآرتس” 2/10/2000.
[8] لمزيد من التفاصيل تمكن العودة إلى مقالة عاموس هرئيل: “الحرب على طرق المواصلات”, هآرتس 12/10/2000.
[9] “معاريف”: 23/10/2000.
[10] عميرا هيس: “هذا ليس ضبطاً للنفس”, “هآرتس”, 15/11/2000.
[11] “هآرتس” 15/11/2000.
[12] نشرت فقرات منه صحيفة هآرتس بتاريخ 19/11/2000.
[13] “هآرتس”: 10/10/2000.
[14] معاريف: 6/10/2000.
[15] يديعوت أحرونوت: 16/11/2000.
[16] “هآرتس” 16/11/2000.
[17] تستند هذه الملاحظات إلى سلسلة مقالات كتبها زئيف شيف في “هآرتس” حلقات بتاريخ (6/10 و10/10 و27/10/2000).