دراسات وأبحاث

التجارة والاقتصاد في العلاقات الدولية
إعداد: د.أحمد علّو - عميد متقاعد

حروب من دون نار.. ولكن قد تشعلها...

 

وفق العلوم السياسية لا تكون العلاقات الدولية سلميّة بشكل صرف أو حربًا صريحة يشنّها طرف على طرف آخر، فبين السلم والحرب عدة درجات. والحرب الاقتصادية هي إحدى الأدوات في الحروب بين الدول، وقد تكون بديلًا أو مقدمة للحرب الشاملة التي تتضمن استخدام القوة العسكرية. أما الحرب التجارية فهي وجه من أوجه الحرب الاقتصادية. وحاليًا يستخدم هذا المصطلح على نطاق واسع، خصوصًا بعد نشوب ما عرف بأزمة الرسوم الجمركية بين الولايات المتّحدة الأميركية والصين.


تعتبر الحرب التجارية ظاهرة قديمة في العلاقات الدولية، فالمبدأ الاقتصادي الشهير «دعه يعمل، دعه يمر» Laissez faire laissez passer ، كان في الأساس لمواجهة تدخّل الدولة في الاقتصاد، ولمواجهة الحمائية التجارية، وفرض القيود على حركة السلع بين الدول.
من الحروب التجارية التي شهدها العالم خلال قرون ماضية، الحرب الإنكليزية- الهولندية الأولى التي نشبت بسبب التنافس التجاري والبحري والعسكري المتزايد بين الدولتين. انتهت هذه الحرب بتوقيع اتفاقية وستمنستر (1654) واعتراف هولندا بقانون الملاحة الإنكليزي الذي يحصر التبادل التجاري مع المملكة بسفنها فقط أو بتلك التي تصل إلى موانئها من دون المرور بموانئ وسيطة.
وفي القرن التاسع عشر نشبت بين الصين والإمبراطورية البريطانية حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842) بسبب محاولة الصين الحدّ من زراعة الأفيون وتجارته أو استيراده، في حين كانت بريطانيا ترغب في الوصول إلى الأسواق الصينية وتصدير سلعها الصناعية الحديثة إليها. وبموجب اتفاقية «نان جنج» المبرمة بين البلدين في العام 1842، دفعت بكين للندن غرامات كبيرة، وفتحت الموانئ الصينية أمام السفن التجارية الإنكليزية، وأصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانية.
لم تستقرّ الأمور عند هذا الحدّ، فقد اندلعت حرب الأفيون الثانية (1857 – 1860) بسبب محاولات بريطانيا تمهيد الطريق للوصول إلى مناطق الصين الداخلية والاستيلاء على موانئها النهرية، ومطالبتها مع فرنسا والولايات المّتحدة بإعادة النظر في اتفاقيات مبرمة مع الصين، والحصول على الحق في التجارة غير المحددة على الأراضي الصينية والسماح رسميًا بتجارة الأفيون. بالنتيجة، وقعت الأطراف المتصارعة اتفاقية «تيان جين» ‏(1858) وفتحت الصين بموجبها 5 موانئ جديدة للتجارة الدولية.
أسباب حرب الاستقلال الأميركية (1775-1783)، التي أدّت إلى اعتراف بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة الأميركية، لم تكن بدورها بعيدة من العوامل التجارية والاقتصادية.
وخلال القرن العشرين، شهد العالم عدة حروب تجارية أميركية، منها: حرب الدجاج مع أوروبا (1930-1963)، حرب السيارات مع اليابان (1982) حرب الخشب مع كندا (1982)، وحرب الفولاذ مع أوروبا ودول أخرى (2002).

 

الحروب الاقتصادية
تتضمّن الحرب الاقتصادية كل الأدوات الاقتصادية التي يمكن أن يستخدمها طرف (أو أطراف) ضد آخر (أو آخرين). وهي تشمل الحرب التجارية مثل فرض الرسوم الجمركية، والحرب المالية كحظر الأنشطة المصرفية والتحويلات المالية، والمقاطعة الاقتصادية بالحظر الشامل على سلع الدولة ومنتجاتها المستهدفة، أو الحصار الاقتصادي (الشامل أو الجزئي)، وصناعة الأزمات الاقتصادية، كالتلاعب بالبورصة أو العملة المحلية والسندات، واحتكار سلعة استراتيجية (أو سلع) تطلبها الدولة المستهدفة، أو إغراق أسواق هذه الدولة بمنتج أو منتجات معينة لضرب منتجاتها الوطنية.

 

الحرب الاقتصادية الحصرية
هو مصطلح يُستخدم لوصف السياسة الاقتصادية التي يتم اتّباعها كجزء من عملية عسكرية خلال زمن الحرب. وهي تهدف إلى الاستيلاء على عصب الموارد الاقتصادية في الدولة المستهدفة لتمكين الجيش المهاجم من العمل بكفاءة عالية، أو لحرمان العدو من هذه الموارد. وتشمل الحرب الاقتصادية الاستيلاء على الأصول المالية للعدو ومنع التصدير والحصار. وقد تمتد الحرب الاقتصادية إلى زمن السلم من خلال المنافسة على الأسواق.


العقوبات الاقتصادية
هي جملة التدابير والإجراءات الاقتصادية والمالية التي تفرضها دولة أو دول أو منظّمات أو هيئات دولية أو إقليمية، على دولة أو تنظيم أو شركة أو غيرها، على خلفية القيام بأعمال عدوانية أو تهديد السلم الدولي، أو لحمل ذلك الطرف على تقديم تنازلات ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية.
تشمل هذه العقوبات فرض مجموعة من القيود على التجارة الدولية مع البلد المستهدف ، وقد تشمل حظر أنواع معينة من الأسلحة أو الغذاء والأدوية، أو المواد الخام، والحدّ من التصدير إلى هذا البلد أو الاستيراد منه، بهدف الضغط عليه لتغيير سياساته في مجال ما، أو لإرغامه على تقديم تنازلات في قضية ما، أو للقضاء على إمكاناته العسكرية.
لقد أصبحت العقوبات إحدى أدوات السياسات الخارجية للدول الكبرى، تستخدمها هنا وهناك عوضًا عن الانخراط في حملات عسكرية مكلفة وغير مضمونة العواقب.
وتمثّل المادتان 39 و41 من ميثاق الأمم المتّحدة الإطار القانوني الذي تستند إليه المنظّمة الدولية (مجلس الأمن تحديدًا)، في فرض عقوبات اقتصادية على دولٍ معينة. فوفق المادة 39، يقرّر مجلس الأمن إذا كان ما أقدمت عليه إحدى الدول يشكّل تهديدًا للسلم أو إخلالًا به أو عملًا من أعمال العدوان، فيقدّم توصياته، أو يقرّر ما يجب اتّخاذه من التدابير. وتنصّ المادة 41 على أنّه لمجلس الأمن أن يقرّر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا يتطلّب تنفيذها استخدام القوات المسلّحة، وله أن يطلب من أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ومن بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات، وقفًا جزئيًا أو كلّيًا، أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة المعنية.
شهد العالم استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية في حقبٍ غابرة، وأيضًا في العصر الحديث، فقد استخدمته عصبة الأمم ضد إيطاليا بعد غزوها إثيوبيا في العام 1935. أمّا خلال العقود الأربعة الأولى التي أعقبت قيام الأمم المتّحدة، فلم تصدر قرارات عن مجلس الأمن الدولي بشأن العقوبات الاقتصادية إلّا في حالتين، هما: روديسيا (1966) وجنوب أفريقيا (1977). ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة، لجأ مجلس الأمن بصورة متزايدة إلى فرض العقوبات الاقتصادية والتي شملت، العراق ويوغسلافيا سابقًا وهاييتي والصومال وليبيا وأنغولا ورواندا والسودان.
من أبرز الحالات التي فرضت فيها عقوبات اقتصادية على بعض الدول ما يأتي:
- كوبا: فرضت عليها الولايات المتّحدة عقوبات اقتصادية في العام 1962، بهدف الإطاحة برئيسها (الراحل) فيدل كاسترو الذي كان يُعتبر عدوًا للولايات المتحدة وللنظام الرأسمالي الغربي.
- روديسيا الجنوبية (زيمبابوي): فُرضت عليها عقوبات في العام 1966 بعد إعلان الأقلّية البيضاء فيها الاستقلال من جانبٍ واحد، ورُفعت العقوبات في العام 1969 بعد مباحثات أدّت إلى وصول حكومة ذات غالبية سوداء.
- جنوب أفريقيا: فرضت الأمم المتّحدة سلسلة خطوات للضغط على نظام «الأبارتايد» (التمييز العنصري) في جنوب أفريقيا، وشملت تلك الخطوات أنواعًا من العقوبات استمرّت حتى انتخاب وتنصيب حكومة غير عنصرية فيها (أيار 1994).
- كوريا الشمالية: تفرض الأمم المتّحدة عقوبات على كوريا الشمالية منذ العام 2006 بسبب اختباراتها النووية والصاروخية. وقد وضع مجلس الأمن أسماء عددٍ من الكوريين ومن الهيئات على القائمة السوداء، ممّا يُخضِعُهم لمنعٍ دولي من السفر فضلًا عن تجميد الأصول، بسبب دورهم في برامج كوريا الشمالية النووية والمتعلّقة بالصواريخ البالستية.
- إيران: منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبعد ظهور المعلومات الأولى عن شروع إيران في برنامجها النووي، بدأت الدول الغربية تتّخذ تدابير لثنيها عن المضيّ في هذا البرنامج عبر محاولة حرمانها مصادر التمويل والتكنولوجيا. وقد فرض مجلس الأمن الدولي أربع مجموعات من العقوبات ضد إيران في: كانون الأول 2006، آذار 2007، آذار 2008 وحزيران 2010. كما فرضت الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي مجموعة أخرى من العقوبات على إيران، بدأت بتلك التي فرضتها أميركا عقب اقتحام الطلاب الإيرانيين سفارة الولايات المتّحدة في طهران، واحتجازهم دبلوماسيين رهائن في العام 1979.
بدأ رفع العقوبات عن إيران عقب إقرار الاتفاق النووي الذي توصّلت إليه مع مجموعة «5+1» في العام 2015. لكنّ الولايات المتّحدة عادت وانسحبت من الاتفاق (2018)، وفرضت على طهران أشدّ العقوبات الاقتصادية متّهمة إياها بالتدخّل في شؤون بعض دول الشرق الأوسط، وبتطوير برنامجها الصاروخي والبالستي، إضافة إلى دعم كيانات سياسية وعسكرية تتّهمها الولايات المتّحدة بالإرهاب.
- العراق: فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على العراق بعد غزوه الكويت في العام 1990 إبّان عهد الرئيس الأسبق صدام حسين، كما فرضت عليه الولايات المتّحدة وحلفاؤها الغربيون عقوبات اقتصادية موازية. واستمر خضوع العراق لتلك العقوبات حتى العام 2010 حين أقرّ مجلس الأمن إلغاءها رسميًا رغم أنّ بعضها ألغي عمليًا في الفترة التي تلت الغزو الأميركي للعراق في العام 2003.
- السودان: فرضت الإدارات الأميركية المتعاقبة في البيت الأبيض سلسلة عقوبات اقتصادية على السودان صدرت إمّا بأوامر تنفيذية من الرئيس أو بتشريعات من الكونغرس الأميركي، وهدفت إلى الضغط على هذا البلد المتّهم برعاية الإرهاب. ففي تشرين الثاني 1997، فرض الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون عقوبات مالية وتجارية على السودان، تمّ بموجبها تجميد الأصول المالية للسودان، ومنع تصدير التكنولوجيا الأميركية إليه، فضلًا عن منع الشركات الأميركية والمواطنين الأميركيين من الاستثمار في هذا البلد. استمرت تلك العقوبات حتى أعلن البيت الأبيض في 13 كانون الثاني 2017 رفعًا جزئيًا لبعضها نتيجة لما وصفه بالتقدّم الذي أحرزه السودان، لكن الإدارة الأميركية أبقته على لائحة الدول الداعمة للإرهاب.

 

العقوبات الذكية
نتيجة للأزمات الإنسانية العديدة التي سبّبتها العقوبات الاقتصادية الشاملة في أكثر من دولة، بدأت القوى الكبرى تتّجه نحو «العقوبات الذكية» التي تعتبر أكثر «منطقية» و«أخلاقية» من العقوبات الشاملة. ويُقصد بالعقوبات الذكية تلك التي تستهدف القادة السياسيين والعسكريين أو بعض المؤسسات الخاصة ذات العلاقة، وتتجنّب غيرهم، وتتعمّد الإضرار بالمتسبّبين في الحوادث أو القضايا التي على أساسها فُرضت العقوبات دون غيرهم من المدنيين الأبرياء. تشمل العقوبات الذكية أنواعًا متعددة من التدابير، من بينها، منع الحصول على تأشيرات للسفر أو السفر، وتجميد الأصول المالية، وغيرها.

 

هل تتدحرج كرة الثلج؟
 يعتمد نمو الاقتصاد العالمي على التبادلات التجارية في كل أنحاء الكرة الأرضية. لذلك، أدى فرض الرئيس الاميركي رسومًا جمركية على العديد من السلع والمنتجات الصينية والأوروبية والهندية وغيرها، إلى موجة من المخاوف عبرت عنها مراجع وهيئات اقتصادية عالمية. وقد حذّر صندوق النقد الدولي عدة مرات منذ تولّي الرئيس ترامب مهماته بأنّ أيّ محاولة حمائية سيكون لها انعكاسات عالمية. كما أقرّ الرئيس الجديد للاحتياطي الفدرالي الأميركي جيروم باول والذي عيّنه ترامب، بأنّ حربًا تجارية ستمثّل «خطرًا أكبر على الآفاق الاقتصادية»، وهو ما شدّد عليه رئيس المصرف المركزي الأوروبي ماريو دراغي معتبرًا أنّ «الميل نحو الحمائية يشكّل خطرًا جدّيًا على نمو الإنتاجية والنمو المحتمل للاقتصاد العالمي». ونقلت وكالة «فرانس برس» عن خبراء اقتصاديين لدى «اوكسفورد ايكونومكس» أنّ «تباطؤ اقتصاد الصين بسبب الرسوم الجمركية سينعكس سلبًا على الاقتصادات الأخرى في آسيا، وخارجها، وعلى ألمانيا».
ويدعو الخبراء إلى التوقّف عند ما تمثّله التجارة من أهمية بالغة في نقل التكنولوجيا والسلع وتوفير أجواء المنافسة ومقاومة الاحتكار، ما يؤدّي إلى تقديمها للمستهلك بأسعار تنافسية. ففرض الضرائب على الواردات سيؤدّي حتمًا إلى زيادة في الأسعار في مختلف القطاعات، وهو ما أكّدته شركة «تويوتا» لتصنيع السيارات التي نبّهت إلى أنّ ارتفاع أسعار الصلب سيرفع حتمًا أسعار سياراتها. كما حذّرت الصين من أنّ فرض الرسوم سيؤذي بشكلٍ مباشر مصالح المستهلكين الأميركيين. فزيادة أسعار المواد الاستهلاكية ستؤدّي إلى إبطاء الاستهلاك، ما يشكّل خطرًا على النمو الأميركي الذي يعتمد عادة على استهلاك الأُسر.
ويقول صندوق النقد الدولي إنّ أضرار القرار الأميركي بفرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألمنيوم ستشمل أيضًا الاقتصاد الأميركي نفسه، بما في ذلك قطاعات التصنيع والبناء.
الأمر الأخطر أنّ فرض رسوم على منتج أو أكثر أو على سلع، يمكن أن يفتح الباب أمام إجراءات بالردّ، ستؤثّر بشكلٍ كبير على قطاعات أخرى، ومن ثم تتدحرج كرة الثلج من حرب تجارية محدودة إلى عالمية تهددّ اقتصادات العالم، وربما تنشأ حروب عسكرية بسببها.
أمّا المصطلح الأحدث في إطار السجال الدائر عالميًا حول الرسوم الجمركية فهو «الترهيب الاقتصادي»، والذي استخدمته الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية. ويُفهم من تصريحات المسؤولة الصينية أنّ الصين وربما غيرها من التكتّلات الاقتصادية، تخشى التحوّل من «الحرب التجارية» إلى «الترهيب الاقتصادي»، وهو لا يشمل فرض الرسوم فقط، بل ربما يتعدّاه إلى سياسات وقيود أخرى، بهدف «ترهيب» الطرف المستهدف من تحوّل الحرب التجارية إلى حرب اقتصادية أشمل، وربما الى حروب نارية يصبح من الصعب تفاديها...

 

مراجع:


• https://arabic.rt.com/world
• https://ar.wikipedia.org/
• https://en.wikipedia.org/wiki/Economic_sanctions_
• http://www.aljazeera.net/encyclopedia/conceptsandterminology
• https://www.cfr.org/backgrounder/what-are-economic-sanctions
• https://en.wikipedia.org/wiki/China-United-States-trade-war