التحديات الاقتصادية والتنموية التي تواجه سوريا ولبنان في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية

التحديات الاقتصادية والتنموية التي تواجه سوريا ولبنان في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية
إعداد: د. ألبر داغر
كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال ­ الجامعة اللبنانية.

هل ثمّة ما يبرّر جعل لبنان وسوريا في موقع واحد تجاه التحدّيات الاقتصادية والتنموية التى تواجههما, كما يوحي بذلك العنوان؟ أي هل يواجه البلدان التحديات ذاتها؟ وهل أهدافهما التنموية والاقتصادية هي واحدة؟
سوف ننطلق من هذا التساؤل لتحديد أين يختلف البلدان, وأين يتشاركان في خصائصهما واهدافهما وسياساتهما, ولتبيان أين يمكن أن يعتمدا مواجهة مشتركة للتحديات المطروحة.
سنكرس الجزء الاول من النص لعرض الخصائص البنيوية للاقتصادين, التي اورثتهما اياها الطفرة البترولية. وكلّ من هذه الخصائص هو بمثابة عامل اضعاف, أو قد يشكل عامل اضعاف للقدرة الانتاجية الوطنية فيهما, يعول على السياسة الاقتصادية للحد من آثاره. أما الجزء الثاني من النص, فهو بمثابة عرض للتطور الذي ميز كلا منهما خلال العقود الاخيرة, وصولا إلى ما هما عليه اليوم. أما الجزء الثالث من النص, فهو مكرّس لتعيين وتعريف التحديات التي يواجهها الاقتصادان. أما الجزء الرابع منه, فهو مكرّس لعرض السياسات التي يفترض بالبلدين الأخذ بها, لمواجهة التحديات التي سبقت الاشارة اليها.
وسوف نرى انه رغم الاختلافات في الخصائص البنيوية للبلدين, فانهما يواجهان التحديات ذاتها, وهي تفترض منهما اعتماد سياسات يمكن ان تستند إلى خلفية واحدة, أو تنطلق من مقاربة واحدة.

I -­ الخصائص البنيوية للإقتصادين: التعريفات المتداولة
ثمّة طريقة متداولة في المقارنة بين البلدين لا مردود علمياً لها. وهي تقتصر على عرض حصص القطاعات الاقتصادية المختلفة في كلّ من الاقتصادين, ولا تنطوي على أكثر من تكرار لما يعرفه الكل.
أما الطريقة الاخرى الاكثر جدوى لجهة إثارتها النقاش حول التحديات التي يواجهها البلدان والسياسات المطلوبة لمواجهتها, فتتمثّل باظهار الخصائص البنيوية التى يتصف بها كلّ من الاقتصادين. وقد اكتسب كلّ منهما هذه الخصائص, أو اكتسب جزءا منها, خلال حقبة الفورة البترولية(1973-1984). ويمكن الحكم على هذه الحقبة سلبا أو ايجابا بالنظر لما انطوت عليه من نتائج على البلدين. فهي كانت ايجابية بمقدار ما اتاحت حفز القدرات الانتاجية فيهما. وكانت سلبية بمقدار ما اسهمت باضعافهما انتاجيا. ذلك ان البترول ومداخيله ظاهرتان موقتتان وزائلتان. أما ما يبقى, فهو ما اتيح بناؤه للمستقبل بهذه المداخيل.
الى أي مدى نجح البلدان في الاستفادة من الظرف الطارئ الذى مثلته الفورة البترولية. هذا ما تنبئ عنه الخصائص البنيوية التى ورثاها من تلك الحقبة.
 
1 - الإقتصاد شبه­الريعي Economie semi-rentière, أو التعويل على التدفقات المالية الخارجية
إستُخدم تعبير “الإقتصاد الريعي” أو “الدولة الريعية” على نطاق واسع منذ السبعينات للتعريف بالدول النفطية, العربية منها على وجه التخصيص.
والريع بحصر المعنى هو الدخل الذي تؤمنه ملكية مورد طبيعي ما, كالأرض والمناجم. لكن ثمّة تعريفاً اوسع لكلمة الريع, وهو الدخل الذي تؤمّنه منحة أو هبة من الطبيعة. وقد يؤمن احتلال موقع جغرافي ما مداخيل ريعية خارجية لبلد ما. ويحصل ذلك حين تكون أراضيه ممراً تجارياً دولياً (قناة السويس) أو حين تكون ممراً لانابيب البترول. ويميز الاقتصاديون بين الربح الرأسمالي وبين الريع. فالأّول وليد العمل والمبادرة والمخاطرة, في حين ان الثاني لا يفترض كلّ ذلك. وبالتالي فلا حظوة كبيرة لاصحاب الريوع لدى الاقتصاديين. أما الانتقاد الاساسي الذي يوجهه الاقتصاديون للاقتصاد الريعي, فهو انه يوفّر مداخيل للسكان, من غير أن يتطلّب ذلك مشاركة منهم في النشاط الإنتاجي, أي خلق الثروة. وهو بالتالي إقتصاد غير إنتاجي.
أما الدول النفطية فهي دول ريعية بامتياز. وهي تحقق مداخيلها من تصدير مورد طبيعي إلى الأسواق الدولية, أي ان الريع الذي تحصل عليه ذو مصدر خارجي. كما ان ما يميز هذه الدول هو مشاركة نسبة ضئيلة من سكانها (2 الى 3% منهم) في تحقيق هذا الريع, في حين ان مداخيله تمثل 90% من إيرادات الخزينة في هذه البلدان. كما تشكل صادراتها منه 95% من قيمة مجموع صادراتها, و 60 إلى 80% من قيمة ناتجها الوطني[1]. أيضاً تتميز هذه الدول بان الدولة هي التى تتولّى مركزة مداخيل النفط, مقدمة لتوزيعها على السكان. وبالتالي, فالإقتصاد الريعي اقتصاد ينشغل قسم ضئيل من سكانه بانتاج الثروة, في حين تهتم غالبيته الساحقة بتوزيع الريع واستخدامه.
ويحكم الإقتصاديون على تجارب الدول النفطية, على أساس المقدرة التى اظهرتها في الإستفادة من الفورة البترولية لتطوير قاعدتها الإنتاجية. وهو حكم ايجابي في حال أتاحت المداخيل الريعية التى توفرت لها, تنويع وتوسيع قاعدتها الإنتاجية. وهو سلبي حين تكون قد عجزت عن ذلك, وبقيت مرتهنة بالكامل في تحقيق مداخيلها لاستمرار تدفق الريع النفطي.


تتشارك كلّ البلدان العربية, نفطية وغير نفطية, بتأثرها بالفورة البترولية. ويمكن اعتبار الدول العربية غير النفطية دولاً شبه ­ريعية, انطلاقاً من تأثّرها غير المباشر, أو استفادتها غير المباشرة من الريع البترولي. فقد شكل النفط مصدر دخل غير مباشر لها. وكانت أوجه استفادتها منه على الأخص, من خلال:
1) المساعدات التى قدمتها لها الدول النفطية؛
2) المداخيل التى حققتها قواها العاملة من عملها في الدول النفطية, وانعكست تحويلات من قبلها لصالح دول المنشأ.
وإذا كان تصدير النفط يحدّد في الدول البترولية حجم الريع الخارجي أو التدفقات المالية الخارجية المتوفرة لتأمين اشتغال الاقتصاد الوطني, فان التدفقات المالية الخارجية التى تتوفر للدول شبه الريعية, تحدد هي الاخرى نمط اشتغال الاقتصاد الوطني وآفاقه.


أمّا سوريا, وهي التى تصدّر نفطاً بقيمة توازي 20% من الناتج الوطني, فلا يمكن اعتبارها اقتصاداً نفطياً. ولكن يمكن اعتبارها اقتصاداً منجمياً  miniére Economie, حيث ان حوالى 50% إلى 60% من صادراتها يوفّرها القطاع المنجمي[2]. كذلك يمكن اعتبارها اقتصادا شبه­ ريعي, بمعنى تأثر نمط اشتغال الاقتصاد الوطني وآفاقه بالتدفقات المالية الخارجية المتأتية من مصادر اخرى غير تصدير النفط[3]. وقد استفادت سوريا من الريع البترولي:
1) بسبب موقعها الجغرافي, أي مجاورتها للدول النفطية, الأمر الذي سمح لها بأن تكون ممراً لأنابيب النفط, والحصول على عائدات ترانزيت منه. وقد اقتصرت هذه العائدات على تلك التى كان يوفّرها مرور النفط العراقي إلى حين توقّفها, عام 1982؛
2) المساعدات العربية التى توفرت لها كدولة مواجهة, وتأمّنت لها بعد مؤتمرات الخرطوم(1967) والرباط (1974) وبغداد (1978). وقد حصلت سوريا على ثلث مجموع المساعدات التى وزعتها الدول النفطية العربية على الدول غير النفطية, خلال حقبة 1973­-1991. وبلغت قيمتها خلال الحقبة المذكورة 12,5 مليار دولار. وقد مثل هذا المبلغ حصة الاسد من المساعدات العربية للدول غير النفطية[4]. وقد حصلت سوريا, على سبيل المثال, على 1,8 مليار دولار عام 1981, و 1,3 مليار دولار عام 1983, و 1,06 مليار دولار عام 1986, تطبيقاً لمقررات مؤتمر بغداد لعام 1978 الذي أقرّ لها منحة سنوية تساوي 1850 مليون دولار لغاية عام [5]1988؛
3) تحويلات العاملين السوريين في الدول النفطية التى قدرها البنك الدولي بـ600 مليون دولار لعام [6]1993.
أمّا لبنان, فيمكن اعتباره هو الآخر اقتصادا شبه­ ريعي, بمعنى تأثره بالتدفقات المالية الخارجية المتولّدة عن الريع البترولي. وهو بالتالي يتماثل مع سوريا في هذا المجال. لكن وجه الإختلاف بينهما يكمن في الدور الثانوي الذى لعبته المساعدات العربية الرسمية في تمويل الإقتصاد اللبناني, خلال حقبة 1975­-1990. وبالمقابل, شكّلت تحويلات القوى العاملة اللبنانية في الدول النفطية المصدر الرئيسي للتدفّقات المالية الخارجية التى استفاد منها الإقتصاد اللبناني خلال الحقبة المذكورة. وقد أظهرت تقديرات تناولت حقبة أواخر السبعينات واوائل الثمانينات, ان تحويلات العاملين اللبنانيين في الخارج بلغت في حينه 1800 مليون دولار سنوياً, وانها مثّلت حوالى 45% من الدخل الوطني في ذلك الوقت[7]. وقد قدرت المصادر ذاتها عدد العاملين اللبنانيين في الخارج عام 1979 بـ200 ألف شخص, في حين قدرت مصادر أخرى اعدادهم خلال عام 1981, بـ 240 ألف شخص[8]. ويمكن الإشارة في مجال التأكيد على حفاظ التحويلات على دور مهم لها خلال كلّ حقبة الحرب اللبنانية, إلى أن عدد العاملين اللبنانيين الذين عادوا إلى لبنان بعد حرب الخليج بلغ 260 ألف شخص, كانوا يمثّلون في حينه أكثر من ربع القوى العاملة اللبنانية[9]. ويمكن بالتالي اعتبار ان الاقتصاد اللبناني أصبح “إقتصاداً قائماً على التحويلات” منذ النصف الثاني من السبعينات, وانه لم يفقد تماماً هذه السمة خلال حقبة ما بعد الحرب اللبنانية, أي خلال التسعينات.
وقد درجت العادة مؤخراً في لبنان على استخدام تعبير الاقتصاد الريعي لتوصيف الاقتصاد اللبناني, والحكم على تجربته, بما في ذلك تلك التى سبقت الحرب اللبنانية. وجاء ذلك في إطار النقد الذي وجّه للسياسات العامة القائمة على ربط النمو الداخلي بالتدفّقات المالية الخارجية. لكن هذا التعبير لم يحصل على تفسير واضح له في الإطار اللبناني.
ويصح اعتبار الاقتصاد اللبناني اقتصاداً شبه­ريعي خلال حقبة ما قبل 1975, إذا أخذنا بالاعتبار الدور النسبي المهمّ الذي لعبته التدفّقات المالية الخارجية على اختلاف مصادرها في تمويل الإستهلاك والاستثمار اللبنانيين خلال تلك الحقبة. لكن هذه الصفة تصح أكثر لتوصيف وضعه خلال حقبة 1975­- 1990, التى شهدت تحول التدفّقات الخارجية إلى مصدر رئيسي للدخل فيه. وتصح أيضاً لتوصيف وضعه بعد الحرب, وخصوصاً حقبة ما بعد 1993, حيث جرى التعويل بقوة على الرساميل المحوّلة من الخارج لتمويل الإنفاق اللبناني, وخصوصاً الانفاق العام. وقد حلّ الاقتراض من الخارج خلال الحقبة المذكورة محل ذلك الجزء من التمويل للإقتصاد الذي كانت تؤمّنه في السابق تحويلات العاملين في الخارج.
­ أما أهمية ابراز الطابع شبه­الريعي للاقتصادين بالنسبة لموضوع بحثنا, فهي في انها توضح دور المداخيل المحوّلة من الخارج في تحديد الاوضاع الاقتصادية أو الظرف الاقتصادي فيهما, أي انها توضح تبعيتهما النسبية لهذه المداخيل, وتأثرهما بالتغيّرات التى تطرأ عليها.
ويشكّل أي تغيير مهم يطرأ على مستوى المساعدات الخارجية أو مستوى التحويلات من العاملين في الخارج, نوعاً من صدمة خارجية external shock بالنسبة لكل من البلدين. ويمكن أن نضيف بالنسبة لسوريا, التقلّبات المناخية أو تقلّب أسعار النفط أو التغيير في القدرة على ولوج اسواق التصدير الخارجية, كعناصر اخرى تؤثر في مستوى التمويل الخارجي للاقتصاد.
وقد أدى تشابه الاقتصادين على هذا المستوى, إلى تشابه الظرف الاقتصادي فيهما. وكما شهد البلدان فورة اقتصادية قوية خلال العقد الذى تلا عملية رفع اسعار البترول عام 1973, كذلك تعرّض كلّ منهما خلال الحقبة التى تلت عام 1984 لتراجع في مستويات نموه, ولحركة هروب للرساميل منه. وثمة تشابه ايضا في اشكال التعبير التي اتخذتها الازمات فيهما. فقد بلغ معدل التضخم في لبنان خلال حقبة 1979­- 1982, 22% سنوياً. وبلغ خلال الحقبة ذاتها حوالى 30% سنوياً, في سوريا[10]. وجاء ذلك نتيجة ارتفاع الطلب الممول بالتدفقات الخارجية. كما بلغ معدل التضخم 100% في سوريا سنوياً, خلال فترة 1986- ­1987, وبلغ 291% سنوياً في لبنان خلال الفترة ذاتها, ونتج ذلك في كلّ من البلدين عن عجز ميزان المدفوعات ونقص العملات الاجنبية وهروب الرساميل والاقتراض من المصرف المركزي لتمويل عجز الموازنة.

2- ­ نموذج الدولة التوزيعية, أو الحصول على مداخيل من دون مقابل
إنّ العنصر الآخر الذى أثار اهتمام الاقتصاديين في دراستهم للاقتصاد الريعي هو ان هذا الاخير هو اقتصاد توزيعي Economie d'allocation , وانه يقف على طرفي نقيض مع الاقتصاد الانتاجي Economie de production . والبعض اعتبر ان الاقتصاد الريعي هو حالة نموذجية للاقتصاد التوزيعي[11]. وما يميز الدولة التوزيعية هو انها لا تستوفي ضرائب, وتغدق دعما باشكال مختلفة لصالح المواطنين. ويؤدي اقتصارها على ممارسة هذا الدور إلى حصول شريحة واسعة من السكان, بشكل مباشر أو غير مباشر, على مداخيل من دون مقابل. ويتم ذلك في حين يبلغ مستوى انخراط المجتمع في النشاطات الإنتاجية حدّه الأدنى[12].
كما ان ما يميز الدولة التوزيعية هو ان لا حاجة فيها لسياسة اقتصادية خارج إطار تلك التى تتناول توزيع الريع النفطي, وذلك لانبناء مداخيلها على ما تحصّله من الخارج. في حين ان الدولة المنتجة تحتاج لاعتماد سياسة اقتصادية تعزّز الإنتاج فيها, ليتاح لها استخراج موارد ضريبية من زيادة الإنتاج المتحققة.
أمّا الدولة شبه الريعية, فتكتسب من الموقع الذى تحتله ومن التطور الذى يطرأ عليها تعديلا في وظائفها:
1) لجهة تخفيض قدرتها على استخراج الضرائب؛
2) لجهة اعتمادها سياسة اغداق حكومي, تعبر عنها الاشكال المختلفة من الدعم الذي تقدمه للاستهلاك الوطني. وما يتيح ممارسة سياسة الاغداق هذه, هو توفر مداخيل من مصدر خارجي, تتجاوز ما يمكن ان يوفره الجهد الانتاجي الداخلي.
وقد اعتبر Luciani ان الدول التوزيعية هي تلك التي تتأمّن مداخيلها بنسبة 40% على الاقل من البترول أو من مصادر اخرى خارجية, ويمثّل إنفاقها جزءاً مهمّاً من الناتج الوطني[13]. وصنّف سوريا في خانة الدول التوزيعية, لانطباق هذا التعريف عليها في بعض السنوات على الاقل[14]. وتعتمد سوريا اشكالا مختلفة من الدعم للاستهلاك الوطني. وعلى سبيل المثال, فقد رصدت سوريا عام 1977 مبالغ لدعم السلع الاستهلاكية الاساسية وغيرها (سكر, أرز, شاي, قهوة, زيوت نباتية, طحين, معلبات مستوردة, ماد بناء) مساوية لقيمة الرواتب الحكومية كلها[15]. أيضاً, أشارت وزارة الكهرباء السورية عام 1996 إلى ان أسعار الكهرباء التى يدفعها المستهلكون لا تتجاوز ثلث كلفة انتاجها[16].
وتنطبق صفة الدولة التوزيعية على سوريا أكثر مما تنطبق على لبنان. فالاهمية النسبية للتحويلات من العاملين في الخارج التى عرفها هذا الاخير, مقارنة بغيرها من مصادر التمويل الخارجي للاقتصاد تجعل من الاصح اعتباره اقتصادا ريعيا لا دولة ريعية توزيعية. ففي الاقتصاد الريعي, تتضمن المداخيل الريعية جزءا مهما لا تستفيد الدولة منه مباشرة. وهذا الامر بالذات يبرر اقامة تمييز بين الاقتصاد الريعي وبين الدولة الريعية التوزيعية.

3 ­ آفة “المرض الهولندي”, أو ارتفاع الكلفة كعامل إحباط للنمو
في معرض دراستهم للفورة البترولية وتقويمهم لآثارها, حاول الباحثون رصد مفاعيلها على التنمية في الدول البترولية. واظهرت هذه الدراسات ان الاثر السلبي الاهم الذي تكشّفت عنه هذه الفورة, هو مسؤوليتها عن عرقلة النمو الطويل الأمد للبلدان التى تأثرت بها, وجعل هذا الاخير  “ وهمياً.
وقد أظهرت التجربة التاريخية حالات دول كان لاكتشاف مناجم فيها واستغلال مواردها كسلع للتصدير, أثر سلبي على تطوّر قدرتها على إنتاج وتصدير سلع اخرى غير منجمية, أي على تطوير صناعاتها التحويلية. وفسر ذلك بأن إيرادات تصدير سلع القطاع المنجمي أمّنت موارد للتمويل من مصدر خارجي وقدرة على الانفاق الداخلي رفعتا مستوى الاسعار بوجه عام. وترافق ذلك مع تحسن في سعر الصرف الاسمي للعملة الوطنية. وقد أصاب ارتفاع الأسعار على وجه الخصوص, السلع غير القابلة للتبادل الدولي أو للتصدير, بالمقارنة مع اسعار السلع القابلة للتصدير. وذلك لان الاولى لا تتعرّض لمزاحمة السلع الأجنبية المشابهة. أمّا ارتفاع أسعار السلع من الفئة الثانية وارتفاع كلفة انتاجها, فقد افقداها قدرتها على مزاحمة السلع الأجنبية المشابهة, ان في السوق المحلية أو في السوق الدولية. الأمر الذي كانت تعبر عنه زيادة حجم الواردات خلال الحقبة ذاتها, وزيادة حصتها في الاستهلاك الوطني.
وبكلام آخر, يؤدّي الإنفاق المترتب على تدفق موارد تمويل خارجية إلى ارتفاع نسبة التضخم التي يعرفها الاقتصاد الوطني. لكن هذا الارتفاع يصيب بالاذى على نحو أكبر, القطاعات الإنتاجية المعنية بالتصدير. فيتراجع الانتاج في القطاع الزراعي, إذا كانت السلع المصدّرة تقليدياً سلعاً زراعية. ويتراجع الإنتاج الصناعي حين تكون السلع القابلة للتصدير سلعا صناعية. ويشهد البلد المعني بالتالي, ضمورا لطاقته الانتاجية وهبوطا لمستوى نموه.
وحين يتعرّض بلد ما لتطور من هذا النوع, يقال عنه انه مصاب بحالة “مرض هولندي”. ويعبر ارتفاع مؤشر هو “سعر الصرف الحقيقي”[17] عن نشوء الحالة المذكورة.
وقد شهدت الدول البترولية بدرجات متفاوتة الحدة مظاهر “المرض الهولندي”[18] فيها. لكن نتائج الفورة البترولية التى يدلل عليها بتعبير “المرض الهولندي” لم تقتصر عليها, وانما عرفت الدول العربية غير النفطية التجربة ذاتها. فقد عزّزت المداخيل المحوّلة من الخارج, أكانت تحويلات من العاملين في الخارج, أم كانت مساعدات وهبات حكومية, أم الاثنين معاً, الإنفاق الداخلي فيها. الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع مستويات التضخم التى عرفتها, والى تضرّر قطاعاتها المنتجة, وتراجع حصتها في الناتج الداخلي.

وقد عرف الاقتصاد اللبناني خلال حقبة 1975­- 1990, تراجعاً كبيراً لقدرته الانتاجية عبّر عنه التغيير البنيوي الذي طرأ عليه. فقد تحوّل من اقتصاد منتج للخدمات والسلع إلى “اقتصاد معتمد على التحويلات”. ولا يصح ارجاع هذا التردي في قدرته الانتاجية فقط إلى الدمار المادي الذي تعرضت له بنيته الانتاجية بسبب الحرب, بل أيضاً إلى التحويلات التي اسهمت مباشرة في إضعاف القدرة الانتاجية اللبنانية. فقد رفعت هذه التحويلات مستوى الإنفاق الإجمالي, ورفعت في الوقت عينه الاجور والأسعار, أي انها رفعت كلفة الانتاج اللبناني إلى درجة بات معها هذا الاخير غير قادر على منافسة السلع الاجنبية المماثلة, لا في السوق الداخلية ولا في الاسواق الخارجية. وبدل ان تكون الحقبة التي تلت حرب السنتين (1975- ­1976) حقبة استرجاع للطاقة الإنتاجية التى اصابها الدمار, فإنها كانت حقبة تأكيد لسيرورة تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد غير منتج.
أمّا حقبة ما بعد الحرب, وخصوصا سنوات 1993­- 1998 التي شهدت تزايدا كبيرا للإنفاق العام المموّل بشكل رئيسي عن طريق الاستدانة, فبدت كما لو انه استعيض خلالها عن نقص التحويلات بالاقتراض من الخارج. وافضى ذلك إلى النتائج ذاتها التي أدّت اليها هيمنة التحويلات خلال حقبة الحرب. وهي كانت بهذا المنظار حقبة تأكيد لدور عناصر زيادة كلفة الانتاج التي ورثها لبنان من حقبة الحرب. بكلام آخر, بقيت الكلفة المرتفعة, العائق الرئيسي أمام تطوّر القدرة التنافسية للقطاعات المنتجة الوطنية وتطوّر طاقاتها خلال الحقبة المذكورة[19].
أما بالنسبة لسوريا, فقد اعتبر الدكتور عبد القادر سيد أحمد[20] ان الاقتصاد السوري لم ينزلق إلى فخ “المرض الهولندي”, وانه أمكن له ان يتلافى تراجع الصناعة وتراجع الزراعة وارتفاع التضخّم, وهي الآثار التقليدية لـ “المرض الهولندي” المرتبطة بالتمويل الخارجي للاقتصاد. وقد تأمن له ذلك من خلال تطبيق رقابة حازمة على اسعار السلع غير القابلة للتبادل الدولي وأسعار السلع القابلة للتبادل الدولي وأسعار المدخلاتinput الصناعية الستراتيجية. أي ان مسار النمو الذي عرفه بقي بعيداً عن أشكال “النمو الوهمي” التي خبرتها دول بترولية أخرى.

II - ­ تطور الاقتصادين اللبناني والسوري خلال العقود الماضية
1 - ­ سوريا, كاقتصاد انتقالي
أ - ­ تطور الاقتصاد السوري وواقعه الحالي
أُطلق تعبير الاقتصاد الانتقالي على الإقتصادات التي كانت تعتمد نظام الاقتصاد المدولن والتخطيط المركزي, وبات عليها ان تدخل, أو انها دخلت في مرحلة انتقال إلى اقتصاد السوق, من خلال الإصلاحات البنيوية التي اعتمدتها. والدول المعنية بهذا التعبير هي دول أوروبا الشرقية بشكل أساسي. ويصنّف الاقتصاد السوري بدوره كاقتصاد انتقالي.
وتنطبق على الاقتصاد السوري صفة الاقتصاد المدولن. لكن الحديث عن اقتصاد مخطّط أمر غير دقيق. أوّلاً, لان الخطط التي اعتمدتها سوريا منذ الستينات لم تكن تملك صفة الإلزام, وثانياً, لانها توقفت عن اعتماد خطط رسمية منذ العام 1985, بحيث بقيت الخطة الخمسية السادسة (1986­1990) مجّرد مشروع خطة.

تنظيم الاقتصاد
أمّا دولنة الاقتصاد السوري, بمعنى تملّك الدولة لأجزاء أساسية من القطاعات الانتاجية, وتوجيه النشاط الاقتصادي العام من قبلها, فقد بدأت مع تجربة الوحدة مع مصر عام 1958. وفي حين لم يكن ثمة قطاع عام في سوريا عام ,1951 فان نهاية الخمسينات شهدت تأميم قطاعي الكهرباء والسكك الحديدية. وشهدت حقبة الوحدة مصادرة الدولة لثلث الاراضي الزراعية من الملاّكين الكبار وتوزيع جزء منها على الفلاحين لاحقا[21], وحصول تأميمات في القطاعين المصرفي والصناعي, نقلا عن التجربة المصرية.
لكن القطيعة الفعلية مع نظام تسود فيه المبادرة الخاصة انتظرت حتى عام 1964 لكي تستنفد. وهو العام الذي شهد تأميم مؤسسات صناعية تبلغ حصتها ثلثي الانتاج وثلاثة أرباع الاستثمار الصناعي. وكان عام 1963 قد شهد تأميم المصارف الخاصة التي دمجت في مؤسسة مصرفية واحدة هي المصرف التجاري السوري. وكان سبق ذلك تأميم التجارة الخارجية وإرساء نظام رقابة على القطع.
ويمكن اعتبار انه مع بداية عام 1965 باتت الدولة تتحكم بمحركات النشاط الاقتصادي من خلال:
1) الدور الرئيسي للقطاع الإنتاجي المؤمم في الإنتاج والإستثمار؛
2) احتكار القطاع العام لغالبية تجارة الاستيراد والتصدير. فاستيراد السلع الأساسية بات من اختصاص مؤسسات تجارية حكومية. كما ان تصدير السلع (البترول والفوسفات ابتداء من عام 1968) والحاصلات الأساسية (حبوب وقطن) باتت تتولاه مكاتب حكومية؛
3) التسعير, الذي تتولاه وزارة التموين. وقد اعتمدت سوريا نظاما كاملا من الرقابة على الأسعار يغطي غالبية السلع الاستهلاكية والخدمات وكل المدخلات الاساسية المستعملة من قبل القطاعين العام والخاص, والسلع المنتجة من القطاعين العام والخاص؛
4) الرقابة على القطع, من خلال مكتب القطع الذي يتناول نشاطه كلّ الصفقات على الخدمات والرساميل؛
5) إعتماد سياسة تجارية تقوم على تقييد الإستيراد والتصدير. وكانت وزارة الاقتصاد والتجارة تقوم بمنح إجازات الإستيراد. كما اعتمدت سوريا رسوماً جمركية مرتفعة, وقيودا اخرى من غير فئة الرسوم تتناول طرائق الدفع لتقييد الإستيراد. كذلك وضعت قيوداً على تصدير السلع الزراعية, كالرسوم علي صادرات القطن والزيوت النباتية وغير ذلك.

الستينات
إلا ان حقبة الستينات التي اعقبت التأميمات كانت حقبة ركود اقتصادي. وذلك بسبب انخفاض الفوائض التي حققتها المؤسسات الصناعية العامة التي كانت تتولى انتاج اكثر من ثلثي الانتاج الصناعي, ولضعف نمو القطاع الزراعي( 1% بالاسعار الثابتة خلال 1966­- 1970). فقد تم تركيز استثمارات القطاع العام خلال الحقبة المذكورة على مشروعين كبيرين:
1) إنشاء سد الفرات لانتاج الطاقة والري, وهو الذي استقطب ثلاثة ارباع الاستثمار العام في الزراعة في حينه؛
2) إنتاج البترول, الذي استنفد حتى عام 1968 نصف الاستثمار الصناعي لتحقيقه. علماً ان الحقبة ذاتها شهدت هروبا للرساميل الخاصة إلى الخارج وظروفا مناخية غير مؤاتية وتضاؤلاً لحجم الإستيراد وانخفاضاً لمستوى الاستثمار بوجه عام. أما التدفقات المالية الخارجية, فلم يكن متاحا لسوريا منها في حينه غير عائدات ترانزيت النفط العراقي[22].

السبعينات
وقد جرى عام 1971, الأخذ بمجموعة إجراءات لمواجهة حالة الركود الاقتصادي. واعتبرت هذه الاجراءات اول تجربة “إنفتاح” للاقتصاد السوري. وكان الهدف منها فتح مجال أكبر أمام القطاع الخاص للمشاركة في حركتي الإستيراد والإستثمار. وقد صدر عفو عن الرساميل التي هربت سابقا, وأجيز استيراد سلع من قبل القطاع الخاص كانت ممنوعة, وجرى تخفيض سعر صرف العملة السورية لتشجيع التصدير.
إلا ان التغيير الأهم الذي سوف يتأثّر به الاقتصاد السوري خلال السبعينات, هو زيادة اسعار النفط عام 1973. وسوف يتيح ذلك رفع حجم التدفقات المالية الخارجية من مساعدات حكومية(550 مليون دولار سنوياً, أقرّها مؤتمر الرباط عام 1974) وتحويلات من العاملين في الخارج(750 مليون دولار سنوياً في اواخر السبعينات) وعائدات ترانزيت (للنفط العراقي), أضيفت إليها عائدات تصدير النفط السوري(58% من الصادرات عام 1977). وقد عبر تطور حجم الانفاق العام خلال الحقبة عن هذا التغيير. وقد ارتفعت ارقام الموازنة بالاسعار الثابتة تسع مرات بين عامي 1970 و.1978 وارتفعت الاستثمارات الانمائية المبرمجة من 3,9 مليار ل.س. في خطة(1966­- 1970) إلى 50,5 مليار ل. س. في خطة (1976­- 1980). ايضا كانت حقبة السبعينات في الوقت عينه حقبة نمو كبير للاستهلاك والاستيراد. وقد زادت الواردات خلاله من 1,3 مليار ل. س. عام 1970 إلى 16,2 مليار ل. س. عام 1980.
وبنهاية العقد, كانت قد تحققت تغييرات كبيرة في مجالات عدة. فقد حصلت الصناعة على حصة الاسد من الاستثمار في النصف الثاني من السبعينات. أما حصتها في التكوين الراسمالي الثابت فقد بلغت 45% منه خلال فترة 1972 ­-  1978. وبلغ اسهام الدولة في الاستثمار الصناعي 80% منه. وقد نما القطاع الصناعي بمعدل 10% سنويا بين عامي 1970 و 1981, تبعاً لأرقام البنك الدولي. فقد الحق بالخطة الثالثة برنامج كبير لانتاج المدخلات الصناعية. وتم شراء مصانع عديدة على طريقة “مفتاح باليد” منها 10 مصانع ترابة و3 مصانع أسمدة ومصفاة بترول و4 مصانع سكّر ومصنع ورق ومعمل لإنتاج الطاقة ومصانع الومنيوم وكابلات ومواد بناء وزجاج , والعديد من معامل النسيج والصناعات الغذائية[23]. وجرى تنفيذ هذه المشاريع خلال الخطتين الرابعة والخامسة. وقد هدفت الاستثمارات المحققة إلى:
1) دمج واستخدام الموارد المحلية, بخلق صناعة اسمدة تستخدم الفوسفات والبترول, وبتطوير صناعة النسيج والصناعات الغذائية التي تستخدم موارد الزراعة؛
2) خلق صناعة تعدين؛
3) تأمين حاجات الطلب المحلي وبدائل عن الاستيراد (مواد بناء, سلع استهلاكية معمرة, أدوية). وفي عام 1983, أتت الصناعة الكيماوية (اسمدة وترابة بناء) في المرتبة الأولى من حيث حصتها في الإنتاج الصناعي (37%) وتبعتها صناعة النسيج (25%) ثم الصناعات الغذائية (21%). وقد أسهم القطاع الخاص في خلق مصانع صغيرة لتجميع الأدوات الكهربائية والميكانيكية. وفي بداية الثمانينات كان قد امكن الاستغناء عن الاستيراد في مجال مواد البناء ومجال السلع الميكانيكية والكهربائية[24]. وقد اعتبر البعض في معرض تقويمهم للسياسة الصناعية التي طبقت حينذاك, انها لم تكن سياسة صناعة ثقيلة, كما لم تكن سياسة تصنيع بديل للاستيراد, وانها استندت إلى “فرص” أو خيارات بالصدفة اكثر مما عبرت عن ستراتيجية فعلية[25].


أما الزراعة, فلم تتجاوز حصتها نسبة 10% من الإنفاق المبرمج في الخطتين الثالثة والرابعة. ومثلت هذه الحصة مبلغاً يساوي  7/1 من الذي حصلت عليه الصناعة خلال فترة 1974­- 1980. وقد عزا المراقبون بطء نمو القطاع الزراعي, أوّلاً إلى تأخر انجاز مشاريع الاستصلاح, وثانياً إلى إفراط الدولة في التدخّل في نشاط هذا القطاع, عبر تحديد انواع المحاصيل, وتوفير المستلزمات, وشراء المحاصيل, الخ[26].
وقد زاد اسهام القطاع الخاص في النشاط الانتاجي في ظل الوضع الجديد. وزاد الاستثمار الخاص بمعدّل 400% بالاسعار الثابتة بين عامي 1970 و1980. وقد شكلت الواردات التي موّلها القطاع الخاص مباشرة خلال السبعينات ربع مجموع الواردات. كما اسهمت الاستثمارات العامة التي تحققت في القطاع الصناعي بتوسيع السوق الداخلية, الامر الذي أمن أسواقاً للتصريف استفاد منها القطاع الخاص السوري[27]. كذلك استفاد القطاع الخاص من المجال الذي افسح له للاستثمار في القطاع السياحي عبر المشاركة مع الدولة في مؤسسات مشتركة تمتلك فيها هذه الأخيرة حصة محدودة, وذلك بموجب القانون رقم (56) لعام 1977, والقانون رقم (41) لعام 1978.
وقد استمرّ قطاع البنى التحتية باستقطاب جزء مهم من الاستثمار العام. وقد انطبع الاقتصاد السوري منذ 1960 بطابع إعطاء الافضلية للبنى التحتية. وبين عام 1970 وعام 1976, كانت شبكات الطرقات قد زادت بنسبة 25% والسكك الحديدية بنسبة الثلث وطاقة المرافيء بنسبة20%. ومع الشروع باستخدام سدّ الفرات ابتداء من عام 1973, كان إنتاج الطاقة الكهربائية قد تضاعف حتى عام 1977. لكن هذا الانتاج بقي في حينه مقصرا عن الاستجابة للحاجات المتزايدة, ولم يعد قادراً في نهاية العقد على تأمين اكثر من 60% من هذه الحاجات[28].
إلاّ انه وبمقدار ما كانت حقبة السبعينات حقبة نمو كبير للاستثمار في القطاعات الانتاجية, فانها كانت ايضا حقبة نمو للتوظيفات في قطاع البناء وتوسع لقطاعات الخدمات. وسوف تنمو بعد عام 1973 حصة البناء والتجارة والادارة الحكومية[29] بسرعة كبيرة. والبعض يعتبر ان نموّ السبعينات كان عائدا في جزء كبير منه لأداء قطاعي البناء والخدمات, الذي فاق مثيله في القطاعات المنتجة للسلع[30]. وقد فاق الاستثمار في قطاع البناء مثيله في قطاع الزراعة بثلاثة اضعاف. وكان قطاع بناء المساكن هو الاكثر ديناميكية خلال الحقبة, واتى مباشرة بعد الصناعة من حيث حجم الاستثمار العام والخاص فيه. كذلك نما استهلاك القطاع العام بين عامي 1970 و1976 بنسبة 15% في السنة, مقابل نمو للاستهلاك الخاص بمعدل 10% ونمو للاستهلاك الاجمالي بمعدل 11,5% خلال الحقبة ذاتها. أي ان هذه الأخيرة شهدت توسعا اكبر من المتوقع للنشاطات التجارية والمالية والحكومية[31]. وقد بلغ معدل التضخم السنوي لحقبة 1970­- 1976, 18,8% وفقاً للبنك الدولي, وارتفع إلى مستوى 30% خلال فترة 1979- ­1982, كما سبقت الاشارة, علماً انه لم يتجاوز الـ 1,8% خلال الستينات.

الثمانينات
أما عقد الثمانينات, فيعتبره المراقبون عقداً ضائعاً بالنسبة للتنمية في سوريا. وسيشهد الناتج الداخلي للفرد تراجعا بين عامي 1980 و1990 بمعدّل 20%. وسيلعب تراجع المداخيل المحوّلة من الخارج دوره في خلق ازمة عملات صعبة خلال العقد, كما انه سيكون العنصر المحدد لمستوى النشاط الاقتصادي خلاله. وسوف يترتب على ذلك تراجع لمستوى الإنفاق العام وتشدد من قبل الدولة في تعاطيها مع نشاط القطاع الخاص خلال السنوات الأولى من العقد.
وابتداء من عام 1981, ستعمد الدولة للحدّ من الاستيراد ولاعتماد موازنة تقشفية. كما ان المصرف التجاري السوري سيخفف ابتداء من عام 1982 التسهيلات الممنوحة للمستوردين بالعملات الصعبة. وابتداء من عام 1984 ستتعمق ازمة العملات الصعبة في البلاد. الأمر الذي سيجعل المصرف التجاري السوري يتوقّف عن فتح اعتمادات للمستوردين.
أما أزمة العملات الصعبة, فانها تعود إلى:
1) توقف تصدير البترول السوري وتوقف عائداته؛
2) انقطاع المساعدات الحكومية العربية, بسبب حرب إيران والعراق؛
3) عدم قدرة القطاع الصناعي العام على توفير إيرادات كافية من العملات الصعبة تتيح تعويض تراجع حجم التدفقات المالية الخارجية وتتيح قطف ثمار الاستثمارات الهائلة التي توفرت لهذا القطاع منذ عام 1973. وسيتبين ان المشاريع التي جرى ابتياعها على طريقة “مفتاح باليد” ستبقى عاجزة تماما عن تحقيق النتائج المتوخاة منها. فالى كونها ذات درجة ترسملية عالية في غالبيتها, وافتقارها لليد العاملة المحلية المؤهّلة لتشغيلها, فان مستوى نشاطها كان مرتبطا كليا بما يتاح استيراده لها من المواد الأولية والمدخلات الصناعية وقطع الغيار. ذلك ان نشاط الغالبية منها كان يقتصر على تحقيق المرحلة الاخيرة من الانتاج, الامر الذي يعني تبعية مفرطة من قبلها تجاه الخارج لاستيراد ما تحتاجه من مدخلات[32]. وسيبرز عنصران رئيسيان في أداء هذه المؤسسات:
1) ضعف استخدام امكاناتها؛
2) ضعف انتاجيتها. وسوف يؤدي نقص العملات الصعبة لاحقا لعدم التمكن من توفير العناصر التشغيلية لها, ولتوقف البعض منها عن الإنتاج بشكل كامل, وهو ما سوف يعبر عنه تراجع مؤشر الإنتاج في الصناعة التحويلية من 109 عام 1984 إلى 93 عام 1988.

مراحل “الانفتاح الثاني”
وفي حين سيتوقف المصرف التجاري السوري عن فتح اعتمادات للمستوردين عام 1984, فانه سيسمح للقطاع الخاص بالاحتفاظ بجزء من ايراداته بالعملات الصعبة واستخدامها لشراء مستورداته. وسيكون ذلك اول الغيث من سلسلة اجراءات لتحرير الاقتصاد سوف تتوالى حتى عام 1991, ضمن مراحل اربعة, مشكّلة ما يسمى بتجربة “الانفتاح الثاني” في الاقتصاد السوري. وستتضمن تدابير:
1) لتوسيع نشاط القطاع الخاص؛
2) لتحرير التجارة الخارجية؛
3) لتصحيح سعر الصرف؛
4) لتشجيع التصدير؛
5) لتحرير الاسعار؛
6) لتخفيض الدعم[33].
وبمقدار ما سوف تتخلى الدولة خلال الفترة المذكورة عن نشاطات كانت تقوم بها لصالح القطاع الخاص, بمقدار ما سوف تستمر بالعمل على تطوير مصادر خارجية للعملات الصعبة, عبر تطوير انتاج البترول بالاشتراك مع شركات اجنبية اوروبية واميركية.
وستمتد أوّل مرحلة من الانفتاح حتى عام 1987­- 1988, وتتضمن:
1) السماح للقطاع الخاص باستيراد السلع التي يحتاجها لنشاطه؛
2) اصدار القانون رقم (10) الذي يبيح انشاء مؤسسات مشتركة بين القطاع الخاص والقطاع العام في القطاع الزراعي, أي فتح المجال امام القطاع الخاص للاستثمار في الزراعة على شاكلة ما تحقق في مجال السياحة خلال السبعينات؛
3) إصدار القانون رقم (24) حول التداول بالعملات الاجنبية, كاجراء زجري امام تفاقم المضاربة ضد العملة السورية وما نتج عنها من ضغوط جعلت سعر صرفها يتراجع من 10 ل. س. إلى 18 ل. س. مقابل كلّ دولار, خلال عام 1985.
أما المرحلة الثانية من الانفتاح فستشهد تخفيض سعر الصرف الرسمي للعملة السورية من 3,95 ل. س. إلى 11,2 ل. س. مقابل كلّ دولار بنهاية عام ,1987 وتخفيض عدد اسعار الصرف المعمول بها من 8 إلى 4 تراوحت بين حد ادنى هو 11,25 ل.س. كسعر صرف رسمي و42 ل. س., هو سعر صرف ““الدول المجاورة”“, وهو الذي سوف تعتمده وزارة التموين في معاملاتها. وبوازاة تخفيض سعر الصرف للعملة السورية والذي حصل تدريجيا أخذا بالاعتبار لآثاره التضخمية, جرى تحرير التجارة الخارجية, أي ازالة احتكار القطاع العام لاستيراد العديد من السلع والسماح للقطاع الخاص بالاستيراد لصالح بعض المؤسسات العامة. كما ألغي احتكار الدولة لشراء المحاصيل, في حين ابقت هذه الاخيرة على احتكارها لتجارة السلع المسماة ستراتيجية(قطن وقمح خصوصاً).
أما الحقبة الثالثة من الانفتاح فتضمنت اجراءات لتحرير الاستثمار وتشجيعه. وبعد ان كانت الحكومة قد وسعت لائحة الصناعات التي يحق للقطاع الخاص الاستثمار فيها عام 1986, عادت عام 1988 وحددت 30 صناعة ينبغي ان تبقى احتكارا للقطاع العام, معتبرة اياها ستراتيجية, ينبغي حمايتها من المنافسة. كما فتحت المجال امام القطاع الخاص للاستثمار في كلّ الصناعات الباقية. وترافق ذلك مع:
1) الأخذ بمبدأ “التعددية الاقتصادية” الذي حلّ محل مبدأ “الدور المسيطر للقطاع العام”, للتعريف بالستراتيجية الحكومية الجديدة؛
2) إعتماد مبدأ تشجيع الصادرات. واعتمدت أيضاً خطوات في مجال تحرير الأسعار, بحيث تعكس على نحو أفضل أكلاف الانتاج, وتتغيّر تبعاً لتغير هذه الأخيرة. وقد بات واضحاً منذ أواسط الثمانينات ان الأسعار الإدارية التي تعتمدها الدولة للسلع الزراعية على وجه الخصوص, لم تعد تغطي أكلاف الانتاج. وسيتناول التغيير أسعار الكهرباء والماء والتلفون وأسعار السلع الصناعية والزراعية. كما ستخفض كميات السلع التي تشملها إجراءات دعم الاستهلاك المطبقة.

أما الحقبة الرابعة, فستبدأ بعد ثلاثة أعوام, مع إصدار قانون الاستثمار رقم (10) لعام 1991. وسيدخل هذا الأخير تغييرا نوعيا على اوضاع الاستثمار في سوريا, من خلال فتحه المجال امام الاستثمارات الخاصة للمشاركة في المشاريع الخاصة والمشتركة في كلّ ميادين الاقتصاد السوري. وسيسبق إصدار هذا القانون, اقرار قانون يخفض ضريبة الدخل على الشريحة العليا منه, من92% إلى 60%. كما سيترافق اصداره مع إقرار قانون آخر يخفض الضريبة على أرباح الشركات.

حقبة 1988- ­1991
وسوف تشهد نهاية العقد, وبالتحديد حقبة 1988­- 1991, تحسنا كبيرا في الوضع الاقتصادي عبر عنه الفائض الذي سجله ميزان المدفوعات خلالها. ويمكن ارجاع هذا التحسن إلى:
1) الشروع بتصدير الانتاج الجديد من البترول ابتداء من عام 1988 الذي سيوفر للدولة مداخيل مهمة, علما ان سوريا كانت قد تحولت إلى بلد مستورد للنفط ابتداء من عام 1983؛
2) تزايد صادرات القطاع الخاص الذي سيستفيد من فتح اسواق الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية بشكل عام امام منتجاته, والذي عززته اتفاقية المدفوعات التي وقعت بين سوريا والاتحاد السوفياتي. وبين عام 1978 وعام 1992, سترتفع حصة القطاع الخاص من الصادرات السورية غير البترولية من الربع إلى الثلثين. كما سوف يتجاوز حجم الرساميل الخاصة المستثمرة عام 1990 حجم الرساميل العامة, وذلك للمرة الاولى منذ عام 1963. وبنهاية عام 1990 ستكون حصة القطاع الخاص في مختلف النشاطات قد باتت, تبعا لغرفة تجارة دمشق, على النحو التالي: 98% في الزراعة, 72% في النقل,62% في التجارة, 59% في القطاع المالي, 50% في البناء, 37% في الصناعات التحويلية. أما حصته في القوى العاملة فستبلغ 75% من المجموع عام [34]1991. وبالتالي فانه يمكن اعتبار ان تجربة الانفتاح الثاني بمراحلها الاربعة قد أدت لتخفيض وجود الدولة في الاقتصاد, ان في الانتاج أو في التجارة الخارجية لصالح القطاع الخاص, كما ادت لتخفيض درجة تدخلها فيه. كذلك تبين ان هذه الإجراءات التي بدأ الأخذ بها حين كانت الظروف صعبة, قد تم دفعها إلى الأمام لا النكوص عنها حين تحسنت الأوضاع.
وقد اتيح للدولة من جهة أخرى, ان تستمر على امتداد الفترة كلها بمتابعة الجهد المبذول لتطوير البنى التحتية. الأمر الذي أتاح زيادة شبكة الطرقات بنسبة الثلثين خلال فترة 1979­- 1986, وزيادة السكك الحديدية بنسبة السبع خلال الفترة ذاتها[35].
 
بداية حقبة التسعينات
أما حقبة التسعينات فسوف تشهد بدايتها تطورا سلبيا لجهة تراجع دور احد مصادر التدفقات المالية الخارجية. فقد اقفلت اسواق اوروبا الشرقية امام الصادرات السورية ابتداء من عام 1992. وقد بلغت حصتها خلال السنة المذكورة 6% من مجموع الصادرات السورية. في حين انها كانت تستوعب 42% منها عام 1990, بقيمة 2,2 مليار دولار[36].
وسوف يأتي إصدار الحكومة لقانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991, الذي يفتح القطاعات الاقتصاديّة كافّة أمام الاستثمار الخاص كخطوة مكمّلة لعمليّة توسيع نطاق نشاط القطاع الخاص التي شرعت بها الحكومة منذ منتصف الثمانينات. وقد جاء إصدار هذا القانون قبل حرب الخليج, وفي ظلّ عدم القدرة على التنبّؤ بنتائجها[37].
إلاّ أنّه سيترتّب على حرب الخليج الثانية نتائج إيجابيّة بالنسبة للاقتصاد السوري, لجهة عودة المساعدات الرسميّة العربيّة كمصدر تمويل للاقتصاد. وسينتج عن هذه التطورات الثلاث, أي ارتفاع حجم صادرات البترول وعائداته, وزيادة الاستثمار من قبل القطاع الخاص, وزيادة المساعدات الرسميّة العربيّة, نموّ قوي للاقتصاد السوري خلال النصف الاول من التسعينات.
مصادر التمويل للاقتصاد خلال النصف الأول من التسعينات
وقد بيّنت السنوات الأولى من التسعينات الدور المحوري للبترول وصادراته كمصدر رئيسي للعملات الصعبة, وكعنصر تحقيق لتوازن ميزان المدفوعات السوري. وقد أمّن هذا القطاع 60% من الصادرات عام 1996, ووفر 1,5 مليار دولار في العام ذاته. علما ان هذا الوضع غير مرشّح للاستمرار اكثر من فترة عشر سنوات, في حال عدم العثور على آبار جديدة.
وجاءت المساعدات العربية ابتداء من عام 1992 لتكمل دور المداخيل النفطية. وقد حصلت سوريا بين عامي 1992 و1997 على 4 مليارات دولار كمساعدات تنمية أمنتها صناديق التنمية العربية المختلفة. وقد أنفقت هذه المساعدات لتحقيق مشاريع تطوير للبنى التحتيّة على وجه الخصوص[38].
وقد انضافت إلى هذين المصدرين من التدفّقات الماليّة الخارجيّة مداخيل قطاع السياحة التي بلغت وفقًا لصندوق النقد الدولي 1 مليار دولار عام .1995 أما المصدر الرابع للتدفقات المالية الخارجية فمثّلته تحويلات العاملين في الخارج, أي في الخليج تقليديا, وفي لبنان لاحقًا. وقد قدّرها البنك الدولي ب 600 مليون دولار لعام .1993 وقدرتها الإحصاءات الرسميّة بـ 629 مليون دولار لعام .1994 أمّا الصادرات من السلع والخدمات فأمّنت أقل من 600 مليون دولار عام 1996.

تطور القطاعات المختلفة
وقد أتاحت مصادر التمويل المختلفة هذه تمويل نشاطات القطاعين العام والخاص, وتطوير البنى التحتيّة. وقد تحقّق في ميدان البنى التحتية, رفع مستوى إنتاج الطاقة من2 ألف ميغاواط عام 1991 إلى 6 آلاف ميغاواط عام ,1999 وزيادة عدد خطوط الهاتف من 500 ألف خط عام 1991 إلى 1,6 مليون خطّ عام 1998, وزيادة شبكة الطرقات من 31 ألف كلم عام 1988 إلى 42 ألف عام [39]1998.
وزادت حصّة القطاع الخاص في مجالات الخدمات أيضًا. ففي مجال الخدمات الطبية على سبيل المثال, بلغت حصّة القطاع الخاص 3/1 عدد الأسرة عام [40]1995.
وقد ارتفع الاستثمار والإنتاج في القطاع الزراعي:
1) بسبب زيادة المساحات المرويّة بنسبة 58% بين عامي 1990 و1995, وهي الّتي تحقّقت إلى حدّ كبير, بفضل إنشاءات الري التي أقيمت في مختلف المناطق؛
2) بسبب ارتفاع الإنتاج ضمن إطار المؤسّسات الزراعيّة الجديدة (القانون رقم 10 لعام 1986والرقم 10 لعام 1991) التي تنتمي إلى القطاع المختلط وتشارك فيها الدولة بالأرض التي تقدّمها, وبما يوازي 25% من قيمة رأسمالها؛
3) بسبب الأسعار التشجيعيّة التي وفّرت للمزارعين, وكنتيجة لتخلي الدولة عن التسعير في قطاعات الخضار والفواكه والمواشي لصالح القطاع الخاص. وإذا أخذنا بالاعتبار إنتاج القطاع الخاص وإنتاج القطاع الخاص التعاوني, فان حصّة القطاع الخاص باتت تمثل نسبة 98% من الوحدات الانتاجية في القطاع الزراعي, كما سبقت الاشارة[41].

القطاع الصناعي
أمّا الصناعة فقد باتت في منتصف التسعينات موزّعة بين خمسة أنشطة رئيسيّة. وقد جاء قطاع الغزل والنسيج والحلج والجلود في المرتبة الأولى من حيث إسهامه في القيمة المضافة للقطاع, عام 1994. وهو يعتبر الأهمّ بين الأنشطة الصناعيّة من حيث عدد وحداته والعاملين فيه. كما يعتبر الأهمّ بين القطاعات النسيجيّة في دول الاسكوا, ويمثّل 45% من القيمة المضافة للصناعة النسيجيّة في المنطقة كلها. ويأتي بعده قطاع الصناعات الغذائيّة والمشروبات والتبغ. ويؤمن هو الآخر ثلث القيمة المضافة للصناعات الغذائيّة في منطقة الاسكوا. ثمّ يأتي قطاع الصناعات الكيماويّة (أسمدة ومنظفات وأدوية وبلاستيك...) وتكرير النفط في المرتبة الثالثة, ويمثّل 21% من القيمة المضافة في الصناعات التحويليّة. ويأتي قطاع الصناعات المعدنيّة المصنّعة (محرّكات كهربائيّة, برادات, تلفزيونات, ...) في المرتبة الرابعة من حيث حصته في القيمة المضافة. ويتبعه أخيرًا قطاع المنتجات غير المعدنيّة (إسمنت, زجاج, خزف جص...).

القطاع الصناعي الخاص
وقد ارتفعت استثمارات القطاع الخاص في الصناعة بمعدّل 3 مرّات بين عامي 1991 و1995. وارتفع عدد المنشآت الصناعيّة الخاصّة من 31 ألف وحدة إلى 36 ألف وحدة بين عامي 1990 و1995. وبات العاملون في القطاع الصناعي الخاص يشكّلون 4/3 اليد العاملة الصناعيّة البالغين 1,1 مليون شخص يعملون في القطاع الخاص والمشترك ويؤمّنون 72% من الناتج الصناعي[42].
وقد بات إسهام القطاع الخاص في القيمة المضافة للقطاع الصناعي موزّعًا على النحو التالي: 65% منها في قطاع الغزل والنسيج والحلج والجلود, و74% منها في الصناعات المعدنيّة المصنّعة أو الهندسيّة, و61% منها في قطاع المنتجات غير المعدنيّة, و35% منها في الصناعات الغذائية والمشروبات والتبغ و16% منها في الصناعات الكيماوية ومنتجاتها وتكرير النفط. وقد استأثرت الصناعات النسيجية بـ 46% من المنشآت التي أضيفت خلال الحقبة, وتلتها من حيث الأهمية, الصناعات الهندسية ثم الكيميائية ثم الغذائية. هذا علمًا أن هذه المنشآت كانت صغيرة وذات مستوى تكنولوجي منخفض, حيث تراوح وسطي عدد العاملين بالمنشأة بين 3 و5 عمّال[43].

القطاع الصناعي الحكومي
أما بالنسبة للقطاع الصناعي الحكومي, فان الدولة لم تنفكّ تعلن تمسّكها به, ولو أن حقبة 1990­ 1995 شهدت تراجع حصّة الصناعات التحويليّة في الاستثمار الحكومي بسبب إعطاء الأولويّة لتمويل نشاطات أخرى. وقد تابعت الحكومة انشاء المشاريع الصناعية المموّلة بقروض عربية وأجنبية. ومن بين هذه المشاريع, الشروع عام 1997 ببناء أكبر مصنع نسيج في الشرق الأوسط عهد بتنفيذه للصين. كما ان الحكومة أظهرت إرادة تنظيمه بطرق جديدة بغية تفعيل دوره. وتجسد ذلك بالمرسوم الاشتراعي رقم 20 لعام 1994 الذي نصّ على إعطاء مزايا وتسهيلات وصلاحيّات أوسع لإدارات القطاع العام, واضفاء الطابع التجاري على تعاملها مع الغير. علمًا أن التعليمات التنظيميّة العائدة له لم تعمّم رغم مرور سنوات عدّة على صدوره. وقد جاءت حصّة القطاع العام في القيمة المضافة لمختلف النشاطات الصناعية عام 1994 على النحو التالي: 82% منها في الصناعات المعدنيّة الأساسيّة و81% منها في الصناعة الكيماويّة ومنتجاتها وتكرير البترول و77% منها في المواد الغذائيّة والمشروبات والتبغ و51% منها في الغزل والنسيج والحلج والجلود. كما بلغت حصّة القطاع العام 56% من مجموع القيمة المضافة في الصناعات التحويلية.
وتظهر هذه الأرقام ان القطاع العام يحتفظ بالغلبة ليس فقط في قطاعي التعدين والكيماويات وهي صناعات “ثقيلة”, بل انه موجود بقوة في قطاعي انتاج السلع الغذائية والنسيج. في حين أن القطاع الخاص موجود بقوّة في الصناعات الهندسية والمنتجات غير المعدنية, وبدرجة أقل في قطاعي النسيج والصناعات الغذائية.

ضعف القدرة التصديرية لقطاع الصناعات التحويلية
إلا أن نمو القطاع الصناعي خلال النصف الاول من التسعينات لم يكن بالمستوى الذي يتيح زيادة حصّته في الناتج وفي الصادرات السوريين. فمن جهة, تراجعت حصّة قطاع الصناعة والتعدين (صناعات استخراجيّة + تحويليّة + كهرباء وماء) من 30% من الناتج عام 1990 إلى 28% منه عام 1995, وتراجع إسهام القيمة المضافة لهذه الصناعات في الناتج خلال الحقبة ذاتها. ومن جهة أخرى, زاد معدل انكشاف الاقتصاد السوري في الفترة ذاتها, بسبب الزيادة الكبيرة للواردات خلال الحقبة, وبسبب ضعف نمو صادرات الصناعات التحويليّة, التي انخفضت نسبتها إلى مجموع الصادرات من 63% عام 1989 إلى 29% عام 1995.
ويشكّل صغر حجم السوق الداخلية السورية ومحدودية قدرتها على الاستيعاب عائقًا أمام نمو القطاع الصناعي السوري. إلا أن العائق الأكبر أمام هذا النمو يتمثل بعدم قدرة المنتجات السورية على المنافسة في الأسواق الخارجية, وبعدم قدرة هذا القطاع على التصدير.
وتأتي الكلفة المرتفعة للمنتجات السورية في رأس لائحة الأسباب التي تفسر ضعف مقدرة القطاع الصناعي على التصدير. ويعود ارتفاع الكلفة هذا إلى:
1) انخفاض نسبة الانتفاع من الطاقات الانتاجية القائمة لأسباب عدّة من بينها, التبعيّة للخارج لتوفير مستلزمات الإنتاج. ومعظم المؤسّسات في القطاع العام وفي القطاع الخاصّ تعمل دون طاقتها. وعام 1995, كانت هذه النسبة في القطاع الصناعي العام تتراوح بين حد أدنى يساوي 8% في صناعة الورق وحد أقصى يساوي 71% في الغزول القطنية, في حين كان متوسّط التشغيل في 14 فرع صناعي آخر يساوي 41%. ولا تقتصر هذه الظاهرة على مؤسسات القطاع العام بل تعاني مؤسسات القطاع الخاص من المشكلة ذاتها, وتتراوح نسبة التشغيل فيها بين 25% و50%[44]؛
2) إرتفاع كلفة مستلزمات الإنتاج؛
3) إرتفاع الكلفة الذي يرتبه التضخم الإداري والعمالة الزائدة وضعف إنتاجية العمل في القطاع الصناعي العام, الخ. وتجعل هذه العوامل مجتمعة الإنتاج الصناعي السوري غير قادر على المنافسة بالسعر في الأسواق الخارجية. كما أن مستوى تأهيل القوى العاملة في الصناعة والمستوى التكنولوجي للصناعات السورية يجعلانها غير قادرة على المنافسة بالنوعيّة.

الصادرات النسيجية
وقد أتت المنسوجات في رأس قائمة الصادرات الصناعيّة السوريّة عام 1990 مشكلة نسبة 35% منها. وبالنظر لكون هذا القطاع الأهمّ بين الأنشطة الصناعيّة من حيث حجم الرساميل المستثمرة وعدد العاملين فيه وإمكانيّات التطوير والتصدير التي يوفّرها, اضافة لكون سوريا تظهر في موقع مسيطر بهذه الصناعة في منطقة الأسكوا من حيث حصّتها في مجموع القيمة المضافة للمنطقة, فقد اعتبره تقرير اليونيدو القطاع الأكثر قابليّة للتطوير والحلول محلّ النفط كسلعة رئيسيّة للتصدير بعد نضوب هذا الأخير[45]. والحكم نفسه يتكرّر لدى مراقبين آخرين, إذ يعتبر الدكتور عبد القادر سيد أحمد أن الستراتيجية الصناعية السورية يجب أن تركز على هذا الأمر[46].
ويظهر العرض السابق أن حقبة النصف الأوّل من التسعينات كانت حقبة نمو قوي نسبيًا للاقتصاد السوري, عبر عنه معدل النمو الذي سجله الناتج خلالها, والذي بلغ 7% سنويا. لكنه يظهر أيضًا نموا محدودا لقطاع الصناعات التحويلية خلال الحقبة ذاتها, وذلك بسبب ضيق السوق المحلية من جهة, ولضعف القدرة على التصدير, من جهة ثانية.
 

النمو خلال النصف الثاني من التسعينات
لكن النصف الثاني من التسعينات سيشهد تراجعًا لمعدل النمو الاقتصادي في سوريا. وهناك توافق على اعتبار هذه الحقبة, حقبة ““ركود وانكماش”“. وقد أشارت بعض التقديرات إلى تراجع معدل النمو في سوريا من 6,5% عام 1995 إلى 2,2% عام 1996 و 0,5% عام 1997 و­ 1,5% عام [47]1998. في حين أظهرت أرقام المجموعة الإحصائية السورية لعام 1998 أن معدل نمو الناتج المحلي بلغ عام ,1997 1,8% بالأسعار الثابتة. وعزي هذا التراجع إلى:
1) انخفاض مستوى الاستثمارات؛
2) انخفاض إنتاج القطاعين العام والخاص؛
3) إنخفاض الصادرات.

الاستثمار والانتاج
وقد نمت الاستثمارات بأقلّ ممّا كان متوقعًا خلال الحقبة المذكورة. وحتى عام 1999 بلغت التكلفة التقديريّة
لـ 1613 مشروع استثماري جرى ترخيصها على أساس قانون الاستثمار رقم (10) لعام 1991, 8,5 مليار دولار, توفّر 100 ألف فرصة عمل جديدة. وبلغت حصّة المشاريع الصناعية منها 85%, وحصّة قطاع النقل 12% وحصّة الزراعة 3%[48], لكن الاستثمارات الفعلية لم تتجاوز الـ 3 مليارات دولار[49].
أمّا الإنتاج فقد تراجع أوّلاً بسبب تراجع الإنتاج الزراعي. ذلك أن مستوى هذا الأخير مرتبط بالتقلبات المناخية. وقد شهدت سوريا حقبة جفاف لأكثر من سنة. وثانيًا بسبب تراجع الإنتاج الصناعي.كذلك شهد قطاع البناء توقفا لنموه منذ عام 1995.

أزمة الصادرات
أمّا الصادرات فقد تراجعت بدرجة كبيرة خلال الحقبة المذكورة. وقد أشارت الصحف السوريّة إلى أنّ الصادرات قد تراجعت في مطلع عام 2000 بنسبة 20% عمّا كانت عليه في الفترة نفسها من العام السابق, بعدما كانت تراجعت بنسبة 29% عن العام الذي سبقه[50]. كذلك شهدت الحقبة ذاتها أزمة تصريف للإنتاج السوري. وفي نهاية الفصل الاول من العام 2000, بلغت قيمة منتجات الغزول والنسيج غير القابلة للتصريف 12 مليار ل.س, وقيمة المنتجات الغذائية المكدسة 800 مليون ل.س[51].
وقد أثار ممثّلو القطاع الخاص السوري مسألة ضعف قدرة السلع السوريّة على منافسة السلع العربية المنشأ في أسواق التصدير, أو في السوق المحليّة[52]. وانحو باللاّئمة على الأعباء والتكاليف التي يتحملها الانتاج السوري. كما اعتبروا أن رفع كفاءة الاقتصاد الوطني وإعادة بنائه على أسس أكثر تنافسية يمثلان التحدّي الأهم الذي يواجهه هذا الأخير. أما تباطؤ النمو بوجه عام خلال النصف الثاني من التسعينات فقد عزاه المراقبون إلى سببين رئيسيين:
1) عدم كفاية المناخ الاستثماري القائم, الأمر الّذي جعل القطاع الخاص يحجم نسبيا عن الاستثمار؛
2) عدم إصلاح القطاع العام[53]. وبدا أن ثمّة قناعة لدى الجميع بان مهمّة الحكومة تكمن في اعتماد اجراءات على هذين المستويين, تتخذ على وجه الخصوص شكل تعديل وتجديد القوانين والأنظمة القائمة المحددة للنشاط الاقتصادي.

اجراءات الاصلاح المقترحة
ومع مجيء الحكومة السورية الجديدة في أوائل نيسان 2000 كان ثمّة ورشة تعديلات على القوانين والأنظمة القائمة المتعلقة بالاستثمار والتجارة الخارجية والقطع والضرائب والقطاع المالي ونشاط القطاع العام والتسعير, قد باتت قائمة. وهي تتناول: تعديل قانون الاستثمار رقم 10 لعام 91 باتّجاه منح إعفاءات وتسهيلات إضافية للمشروعات التي تقام في الأرياف, وإحداث هيئة عليا للاستثمار لدراسة ومتابعة المشروعات الاستثمارية, تعديل الرسوم الجمركية على المواد الأولية المستوردة باتجاه خفضها, إلغاء الضرائب والرسوم على الصادرات كالتفاح والحمضيات, علمًا أنّه كان قد صدر في تموز 1999 قانون أعفيت بموجبه صادرات القطن والغزول من رسم التصدير والإنتاج, توحيد أسعار صرف العملات الأجنبية, إلغاء قانون القطع رقم 24 لعام ,1986 إحداث سوق للأوراق الماليّة, إعادة النظر بقانون ضريبة الدخل لجهة خفضها على نحو إضافي, إصدار التعليمات التنظيميّة للمرسوم رقم 20 الصادر عام ,1994 إعادة تحديد الشرائح المستفيدة من الدعم للسلع الاستهلاكية, تعديل قانون التموين والتسعير رقم 123 لعام 1960, تعديل قانون الغشّ والتدليس رقم 158 لعام 1960, تعديل قانون التجارة السوري لعام 1949, حصر التسعير بجهة واحدة, اعتماد آليّة تتيح إدخال مرونة أكبر على حركة الأسعار, تطوير جهاز الرقابة التموينية[54].

وقد صدرت بتاريخ 22 نيسان 2000 ثلاثة مراسيم اشتراعية, اهمها المرسوم الاشتراعي رقم 6, الذي حل محل القانون رقم 24 لعام 1986, وجعل حيازة العملات الاجنبية امرا لا يعاقب عليه القانون, بعد ان كانت حيازتها غير قانونية[55].

ب- ­ التجربة السورية بالنظر لمفهوم الاقتصاد الانتقالي ولتجربة أوروبا الشرقية في هذا المجال:
يتضمّن العرض السابق مجموعة من الوقائع تسمح بتعريف وتصنيف التجربة السوريّة في الانفتاح أو التحرير الاقتصادي, بالاستناد إلى مفهوم الاقتصاد الانتقالي وإلى تجارب دول أوروبا الشرقية في هذا المجال.
وقد تميّزت تجربة الانتقال من الاقتصاد المدولن والمخطط إلى اقتصاد السوق في دول أوروبا الشرقيّة إبتداءً من عام 1989 بخصائص أسهمت في تحديدها عناصر الواقع الدولي في حينه والتصوّر الّذي أخذت به نخب هذه الدول لمسألة الانتقال. وقد تميّزت حقبة الثمانينات بهيمنة صيغة متطرّفة من الليبراليّة في حقلي النظرية والسياسة الاقتصاديتين, وتأثر مؤسّسات بروتون وودز, أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, بهذا الأمر, وانعكاس ذلك في سياسات التثبيت الاقتصادي وسياسات التصحيح الهيكلي التي وضعتها هاتان المؤسستان برسم التطبيق في الدول المحتاجة, ومنها دول أوروبا الشرقية. ويمكن اختصار المقاربة الليبراليّة لموضوع الانتقال إلى اقتصاد السوق هذه بنقطتين:
1) التعويل بالكامل على قوى السوق في النشاط الاقتصادي, وفي إعادة هيكلة هذه الاقتصادات ورفض أي دور تدخلي للدولة في هذا المجال؛
2) اعتماد مبدأ حريّة التبادل في علاقات هذه الدول مع بقيّة العالم, وتحرير علاقاتها مع الخارج من أية عوائق كانت قائمة.
أما مقاربة الانتلجنتسيا في دول أوروبا الشرقة لموضوع الانتقال إلى اقتصاد السوق فقد تأثرت هي الأخرى بهذا الجو, وتميزت بخاصيتين أساسيتين:
1) الانطلاق من موقف مسبق يقوم على رفض الأرث السابق بكامله؛
2) إعتماد تصوّر لاقتصاد السوق الذي ينبغي بناؤه يستوحي نماذج الرأسمالية السائدة خلال القرن التاسع عشر, وإنبناؤه بالتالي على تصوّر أسطوريّ لنظام ““دعه يعمل”“ الذي عرفه القرن الماضي[56].


وقد عكست السياسات التي طبقتها هذه الدول هذين الأمرين:
1) من خلال رفض الإبقاء على كلّ ما يذكّر بالماضي الاشتراكي, بما في ذلك مؤسسات القطاع العام الناجحة, ومراكز الأبحاث التابعة لهذا القطاع والتي كانت ذات مستوى مشابه لمثيلاتها في الغرب؛
2) من خلال اجترارها للشكل البدائي والمتطرّف لاقتصاد السوق الذي يمثّله نظام “اليد المرفوعة” الذي ساد في أوروبا القرن الماضي.


وقد اعتمدت هذه الدول طريقة فوريّة وشاملة في وضع الإجراءات التي أخذت بها موضع التنفيذ, سمّيت طريقة ““العلاج بالصدمة”“ Thérapie de choc. وتناولت الإجراءات المطبّقة:
1) تحرير الأسعار وإزالة كلّ أشكال الرقابة عليها؛
2) تحرير التجارة الخارجية, وخصوصًا تجارة الاستيراد؛ 3) فتح المجال أمام الخصخصة الشاملة للمؤسسات الإنتاجية القائمة. وتوقعت هذه الدول أن يتيح الأخذ بهذه الإجراءات تدفقًا للإستثمارات الاجنبية يحمل معه التكنولوجيا الحديثة التي تحتاجها مؤسّساتها لاعادة هيكلة نفسها, الامر الذي يعزّز طاقتها الإنتاجيّة ويجعلها قادرة على المنافسة في الأسواق الدوليّة.
لكن النتيجة جاءت في كلّ الدول المعنيّة على عكس المتوقّع. وبدل أن تؤدي المقاربة المعتمدة لزيادة الاستثمار ورفع مستوى النمو في هذه الاقتصادات, فانها على العكس, تسبّبت بنشوء حالات ركود وانكماش اقتصادي فيها, وأدّت لتراجع مستويات التصنيع التي تعرفها. وترافق ذلك مع ارتفاع لمستويات التضخم, ولمعدلات البطالة فيها, ومع ترد هائل لمستويات المعيشة لمواطنيها. وقد اعتبر الكثيرون أن المشكلة كانت في اعتماد “العلاج بالصدمة” بدل الأخذ بالمقاربة “التدريجية” gradualisme في التحرير لهذه الاقتصادات. لكن التجربة أثبتت أن الدول التي أخذت بالمقاربة التدريجية (هنغاريا), عرفت هي الأخرى تراجعًا في نموّها وتراجعًا لمستوى التصنيع فيها. وبالتالي فإن المشكلة كانت في مكان آخر, أي في:
1) تعويل هذه الدول المفرط على قوى السوق لإعادة هيكلة اقتصاداتها؛
2) رفض أي تدخّل للدولة لمساعدة المؤسسات الإنتاجية على إعادة هيكلة نفسها.
والحقيقة أن هذه الاقتصادات كانت قد هيّأت نفسها لاستقبال الاستثمارات من خلال التخفيضات الكبيرة التي طرأت على الأجور الفعليّة فيها, على وجه الخصوص. إلا أن تخلّف هذه الاستثمارات جعل المؤسسات الإنتاجية لهذه الدول غير قادرة على تحسين مستوى إنتاجيتها وتحسين قدرتها التنافسيّة وزيادة قدرتها على التصدير. وجعلها انعدام الدعم لها من قبل الدولة عاجزة عن إعادة هيكلة نفسها بإمكاناتها الذاتية. وقد أدّى انهيار القدرة الشرائية للمداخيل الذي أدى إليه انخفاض الأجور الفعلية, وانكشاف المؤسسات المحلية أمام المنافسة الأجنبية بسبب إزالة العوائق على الاستيراد, إلى تراجع مبيعاتها وتراجع إنتاجها بشكل كبير, وإلى انحسار موقع الصناعة في كلّ الدول المعنية. وإذا كان ثمّة دروس يمكن استخلاصها من هذه التجربة, فهي باختصار:
1) خطورة التعويل المفرط على قوى السوق لتحقيق إعادة الهيكلة للاقتصاد؛ 2) الحاجة للإبقاء على دور أساسيّ للدولة في مجال تقديم العون للمؤسسات الإنتاجية لمساعدتها على إعادة هيكلة نفسها.
لقد صنف المراقبون تجربة التحرير الاقتصادي التي عرفتها سوريا منذ ““الانفتاح”“ الثاني على أساس أنها تمثّل مقاربة “تدريجيّة مراقبة” في مجال التحرير الاقتصادي. كما اعتبروا أن التحول القائم منذ سنوات يتجه بالاقتصاد السوري نحو نظام من الاقتصاد الحر, وأنه يمثل سيرورة لم تعد معرّضة للنكوص عنها[57].
كما جرى تعريف الاقتصاد السوري بأنه اقتصاد انتقالي انطلاقًا من الدور المحدود للسوق فيه, ومن اعتماده سابقًا للتخطيط المركزي, ومن الإصلاحات التي يتوجّب عليه اعتمادها والتي من شأنها تعزيز اقتصاد السوق فيه وتعزيز انفتاحه على الخارج. ومن هذا المنظار, اعتبر المراقبون أن الإصلاح الذي يجب أن يعتمده يشابه ذلك الذي أخذت به الاقتصادات ذات الطبيعة المشابهة, أي الدول الاشتراكية سابقًا[58].
لكن أوجه الشبه التي سبقت الإشارة إليها بين الاقتصاد السوري وبين اقتصادات أوروبا الشرقية لا تنفي وجود تمايز أساسي بينهما. فدول أوروبا الشرقيّة كانت حين ولوجها المرحلة الانتقالية اقتصادات نصف صناعية بالفعل. وتميزت في حينه بهيكلية انتاجية متطورة وبرأسمال بشري من مستوى أرقى من ذلك الذي توصّلت إليه دول أميركا اللاتينية وحتى دول جنوب شرقي آسيا[59]. الأمر الذي كان من شأنه تسريع إعادة هيكلتها وتسريع سيرورة لحاقها بالدول المتقدّمة في ميدان تحقيق القدرة التنافسيّة الدوليّة, لو توفرت لها السياسة الاقتصادية المناسبة. أما بالنسبة لسوريا, فان الامر مختلف بعض الشيء. ويترتب على ذلك نتائج بخصوص السياسة الصناعية التى يتوجب عليها ان تأخذ بها, وخصوصا السياسة التكنولوجية وسياسة تأهيل رأس المال البشري, والتى ينبغي ان تتناسب مع موقعها كدولة نامية.

2- ­ الاقتصاد اللبناني, كاقتصاد سوق
أ - ­ تطوّر الإقتصاد اللبناني وواقعه الحالي
تنظيم الاقتصاد
لم ينتظر التباين في الخيارات الاقتصادية بين لبنان وسوريا أواخر الخمسينات لتتضح معالمه. بل ان حقبة الاربعينات والخمسينات, حيث كان نظام المبادرة الحرة قائماً في كلّ من البلدين, شهدت هذه الاخرى ظهور هذا التباين. وقد أدى الاختلاف في وجهات النظر بين البلدين خلال حقبة الاربعينات بشأن سياسة الاستيراد التي يتوجب اعتمادها إلى انهيار الوحدة الجمركية التي كانت قائمة بينها, والتي عبرت عنها القطيعة الشهيرة عام 1950. وقد تأكدت خلال عقدي الاربعينات والخمسينات ملامح النظام الاقتصادي اللبناني كنظام يؤمن حرية المبادرة للقطاع الخاص ويجعله قيماً على تحديد وتوجيه النشاط الاقتصادي. وفي أوائل الستينات كان لبنان يطبق نظاماً يقع على طرفي نقيض مع ذلك السائد في سوريا. ومن ذلك أنه كان يقوم على:
1) التعويل بالكامل على القطاع الخاص في النشاط الانتاجي وفي نشاطات التصدير والإستيراد. فلقد بقيت نشاطات انتاجية محدودة تصنف في فئة الخدمات العامة, في عهدة القطاع العام. وأهمها انتاج الطاقة وتوزيعها, وتوفير مياه الشفة, والاتصالات السلكية واللاسلكية, ألخ. وقد اشترت الدولة أغلبها من الشركات الاجنبية التي تخلت عن إمتيازاتها بعد انقضاء عهد الإنتداب.
2) إمتناع الدولة عن الإستيراد مباشرة الا بشكل ثانوي ومحدود. وقد تكفلت الدولة باستيراد القمح والمشتقات النفطية خلال الحقبة كلها حتى عام .1975 وفشلت محاولات خلال حقبة السبعينات لجعلها تستورد سلعاً أخرى كالأدوية وغير ذلك. أما في مجال التصدير فقد اقتصر دور القطاع العام على تصدير مادة التبغ الخام.
3) منح القطاع الخاص حرية كاملة في مجال تسعير السلع والخدمات. علما أن التشريعات اللبنانية الموروثة من حقبة الحرب العالمية الثانية كانت تعطي الدولة, ممثلة بوزارة الاقتصاد التي حلت محل وزارة التموين, الحق بتسعير عدد كبير من السلع والخدمات. لكن الدولة اللبنانية لم تشأ ممارسة هذا الحق. ولم تؤدي إجراءات محدودة اعتمدت خلال حقبة 1970­- 1975 لأي تغيير على هذا الصعيد.
4) أخذ الدولة اللبنانية بمبدأ حرية التعامل بالعملات الأجنبية. وبالرغم من وجود سعر صرف رسمي للعملة اللبنانية, بنتيجة انضمام لبنان إلى إتفاقيات بروتون وودز لعام 1944, فإن سعر الصرف الذي اعتمد خلال فترة ما قبل الحرب اللبنانية كلها, كان يعكس حركة العرض والطلب في سوق القطع, كما لو كان لبنان يعتمد نظام الصرف المعوم. وعام 1973, وجد المسؤولون أن لا حاجة لتحديد سعر صرف رسمي جديد للعملة اللبنانية, واعتمد سعر صرف متحرك, يصار لتحديده بنهاية كلّ شهر, ويعكس حركتي العرض والطلب للعملات الاجنبية في سوق القطع اللبنانية.

الخمسينات
أمّا حقبة الخمسينات التي أعقبت القطيعة مع سوريا فكانت حقبة نمو للاقتصاد اللبناني عززت مواقع القطاعات المنتجة للخدمات فيه. وقد تحققت الفورة الاقتصادية لحقبة الخمسينات بفضل التدفقات المالية الخارجية التي استفاد منها الاقتصاد اللبناني, وتمثلت على وجه الخصوص بالرساميل الوافدة من باقي الدول العربية. كذلك تميزت هذه الحقبة بالدور الرئيسي للقطاع الخاص في تحقيق فورة النمو المعنية. في حين أن الانفاق العام, والتنموي منه على وجه الخصوص, بقي محدودا وضعيفا, بدليل ظهور فوائض في الموازنات السنوية للدولة, على امتداد حقبتي الأربعينات والخمسينات كلها. وقد انتهت فورة الخمسينات مع نشوب أحداث صيف عام 1958.

حقبة الرئيس شهاب
أما الحقبة التالية التي بدأت مع تبوء الرئيس شهاب سدة الحكم, وامتدت بين عامي 1958 و1964, فقد شهدت تطوراً مهماً على مستويين:
1) وضع أسس إصلاح وتحديث الادارة العامة والقطاع العام, عبرت عنه المراسيم الإشتراعية حول الإصلاح الإداري لعام 1959. وقد أخذت هذه المراسيم طريقها للتطبيق خلال السنوات اللاحقة, عبر المؤسسات الجديدة التي نشأت بناءً عليها, وأهمها المؤسسات الرقابية والمصرف المركزي ووزارة التصميم العام التي وسعت مهامها وصلاحياتها, واعادة تنظيم المؤسسات العامة المنتجة للخدمات, كمصالح الكهرباء والمياه, ألخ.
2) الشروع إبتداءً من عام 1962 بتطبيق سياسة إنفاق عام تنموي توسعية, تحققت عبر إصدار سلسلة من القوانين­البرامج التي رصدت مبالغ للانفاق على امتداد سنوات عدة, في مجالات إنمائية شتى. وتناول الاستثمار الإنمائي العام على وجه الخصوص مجالات تطوير وتوسيع شبكات الري والطرق والطاقة الكهربائية ومياه الشفة والأبنية العامة, ألخ. أما الموارد التي استخدمت لتحقيق هذا الإنفاق فقد تأمنت من الفوائض المتراكمة التي حققتها الموازنات السنوية للدولة منذ الأربعينات[60].

حقبة الرئيس حلو
إلا أن سياسة الإنفاق العام التوسعية ستشهد تراجعاً جزئياً عنها إبتداءً من عام 1964 نتيجة نفاذ المبالغ المأخوذة من احتياطي الموازنة, ولعدم اقتناع الحكومة بضرورة اللجوء للإستدانة لمتابعة إنفاقها الإستثماري بالوتيرة نفسها. وسيجري الإقتصار خلال عهد الرئيس حلو (1964­- 1970) على متابعة تنفيذ المشاريع التنموية التي تمت بلورتها وبدأ تنفيذها خلال العهد السابق.

الإنجازات في مجال البنى التحتية
ولقد أتاح الإنفاق العام خلال حقبة الستينات تحقيق جملة من الإنجازات في عدد من الميادين. وعلى سبيل المثال, كان قد تم عام 1970 ربط 600 قرية نائية بشبكة الطرق العامة وإضافة 810 كلم جديدة إلى هذه الأخيرة, مقارنة بما كانت عليه عام 1958. كذلك باتت 1496 قرية وبلدة لبنانية تمثّل 97% من قرى وبلدات جبل لبنان و89% من قرى وبلدات البقاع موصولة بالشبكة العامة للكهرباء عام .1970 وأوصلت في التاريخ ذاته مياه الشفة إلى 1300 قرية وبلدة لبنانية تمثل91% من مجموع القرى والبلدات اللبنانية. أيضا زاد عدد المشتركين بالهاتف من 30 ألف عام 1958 إلى 132 ألف عام [61]1969...

الستينات كحقبة نمو ضعيف
لكن حقبة الستينات كانت من جهة ثانية, حقبة نمو متواضع لتأثرها بانهيار مصرف إنترا عام 1966, الذي جرّ معه في إفلاسه مجموعة من المصارف. ونتج عن ذلك خروج للرساميل من لبنان للتوظيف في الخارج, الأمر الذى جعل من حقبة الستينات بمجملها حقبة نمو منخفض للاستثمار الخاص.

التشريعات الخاصة بالقطاع الصناعي
إلا ان الحقبة التى اعقبت ازمة عام 1966, شهدت صدور سلسلة من التشريعات لتنظيم وتشجيع الاستثمار الصناعي ولتشجيع الصادرات الصناعية. وقد حدد المرسوم الاشتراعي رقم 30, الصادر بتاريخ 5 آب 1967 أطر وشروط ممارسة النشاط الصناعي. وصدرت تشريعات عقب أزمة إنترا حددت شروط إنشاء مصارف متخصصة بالتسليف الصناعي. وأعيد خلال عام 1967 إقرار قانون سابق ينص على إعفاءات من ضريبة الدخل للمؤسسات الصناعية الجديدة. كما صدر المرسوم الإشتراعي رقم 31, بتاريخ 5 آب 1967 محدّداً شروط فرض رسوم إضافية على الواردات لحماية السلع المحلية من الممارسات الإغراقية. كذلك صدر المرسوم الإشتراعي رقم 63, بتاريخ 5 آب 1967 بهدف تشجيع الصادرات النسيجية. ونص على إنشاء “صندوق دعم للصادرات النسيجية” يمول بعائدات رسم إضافي على الواردات النسيجية.ولاحقا, أي في عام 1972, صدر المرسوم 3249, بتاريخ 17 أيار 1972, الذي منح أفضلية للسلع الوطنية على السلع الأجنبية في المشتريات الحكومية, بنسبة 10%.

بداية السبعينات كحقبة فورة نمو
أما بداية عقد السبعينات فقد جرى وصفها بأنها حقبة ““عودة الثقة”“ بالاقتصاد اللبناني. فهي شهدت عودة للرساميل التي كانت موظفة في الخارج. وتعزز تدفق هذه الرساميل خلال السنوات اللاحقة. وكانت أول نتائجه حدوث فورة إعمارية قوية بلغت مداها خلال أعوام 1972­- 1974. كذلك أتاحت وفرة الرساميل زيادة التسليف المصرفي إبتداءً من عام 1973 بشكل لم يسبق له مثيل. واستفاد القطاع الصناعي بدوره من نمو التسليفات المصرفية, خصوصاً وأن عام 1973 شهد نشوء عشرة مصارف متخصصة بالتسليف القطاعي والصناعي, عملاً بقوانين تنظيم القطاع المصرفي التي صدرت عام 1967. وحقق القطاع الصناعي نمواً كبيراً خلال النصف الأول من السبعينات. وجاء نموه تلبية لحاجات أسواق الخليج بشكل رئيسي. وقد عبر ارتفاع معدل نمو الصادرات عن هذا الواقع. ففي حين كان معدل النمو السنوي للصادرات اللبنانية يساوي 11% وسطياً خلال حقبة 1951­- 1970, فإنه بلغ 40% كمتوسط سنوي خلال حقبة 1970- ­1974. واستوعبت أسواق الخليج عام 1973, 50% من الصادرات اللبنانية, بعد أن كانت حصتها منها لا تتجاوز الـ 5,7% عام [62]1951.

تعامل الدولة مع الفورة القائمة
إلا أنه وبمقدار ما ستكون حقبة 1970­- 1975 فترة فورة إقتصادية وارتفاع لمعدل النمو, بمقدار ما ستترتب على الدولة أعباء هي وليدة هذا الواقع بالذات. وستبدو الدولة عاجزة عن مواكبة التطور الحاصل خلال الحقبة بالفعالية اللازمة. وسيظهر نقص الفعالية هذا في التخبط الذي ميز إدارتها للأعباء الناشئة عن الفورة الإقتصادية. فالحقبة المذكورة, بقدر ما كانت حقبة “عودة للثقة” وعودة للرساميل وارتفاع لحجم الودائع المصرفية وتوسع للتسليف, فإنها كانت أيضاً فترة إرتفاع لمعدل التضخم وزيادة لغلاء المعيشة. وستعمد الدولة لاتخاذ إجراءات متنوعة لمواجهة غلاء المعيشة يمكن وضعها تحت ثلاثة عناوين:
1) دعم السلع الإستهلاكية,
2) اتخاذ تدابير مختلفة لضبط ارتفاع الأسعار,
3) محاولة إيجاد موارد إضافية للدولة اللبنانية تتيح لها تحمل الأعباء المنوطة بها.
وسوف يشكل إرتفاع أسعار المحروقات عبئاً على الدولة بحكم كونها المستورد الوحيد لهذه المواد ولتحملها بدلاً عن المستهلكين عبء زيادة الأسعار. كذلك ستتحمل الدولة عبء سياسة تثبيت أسعار عدد من السلع الأساسية كالسكر والقمح. وستعمد لرفع الأجور والمرتبات أكثر من مرة لتعويض تراجع القدرة الشرائية لهذه الأخيرة بسبب ارتفاع معدل التضخم.
أيضاً ستلجأ الحكومة إبتداءً من عام 1972 لاعتماد إجراءات مختلفة في ميدان تحديد الأسعار لمواجهة واقع الغلاء المتفاقم. وسيعبر تنوع هذه الإجراءات عن حجم الضغط الذي كانت تتعرض له الحكومات المتعاقبة لمواجهة مشكلة الغلاء. وستتناول الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة في هذا المجال: تخفيض الرسوم الجمركية على الواردات لتخفيض أسعارها, وإيقاف العمل بإجازات الإستيراد لبعض السلع للهدف ذاته, وتحديد سقوف أسعار ونسب أرباح للسلع الإستهلاكية الأساسية, وتجميد أسعار بعض السلع المصنعة محليا, وإنشاء ““المجلس الوطني لسياسة الأسعار”“, وبلورة مشروع يخضع التجارة الداخلية لرقابة لا سابق لها من قبل وزارة الإقتصاد, واعتماد نظام البطاقة التموينية بالنسبة لبعض السلع, ألخ.. وستبدو هذه الإجراءات إما عديمة الفعالية, أو غير قابلة للتطبيق. وسينتج عن ذلك حكم سلبي من قبل المواطنين على دور الدولة في هذا المجال.
كذلك ستكون حقبة 1970­- 1975 حقبة نقاش حافل بخصوص السياسة الضريبية التي ينبغي ان تعتمدها الدولة والتي من شأنها توفير موارد إضافية لها. وستحصل المحاولة الأولى في هذا المجال عام 1971, في ظل الحكومة الأولى للعهد الجديد. وستتمثل بمحاولة رفع الرسوم الجمركية على الواردات (المرسوم رقم 1943). وستواجه برفض حاد من قبل القطاع التجاري, بقيادة جمعية تجار بيروت. الامر الذي سيجعل الحكومة تعدل عن مشروعها. وستبرر محاولة الحكومة هذه بأنها جزء من مشروع أشمل لتحديث الإطار التشريعي والإداري للدولة اللبنانية ولتعزيز موقع القطاعات الإنتاجية, وخصوصاً الصناعة في الناتج المحلي. أما التعديلات الضريبية التي سيصار لاقتراحها لاحقا, فستكون محكومة بهاجس توفير موارد إضافية للدولة لتمويل الأعباء المتزايدة الملقاة على عاتقها. لكن الحقبة كلها لن تشهد أي تعديل على النظام الضريبي القائم.

وستشهد السنتان اللتان سبقتا إندلاع الحرب اللبنانية إرتفاعاً في الأعباء التي تتحملها الدولة والتي رتبتها عليها طريقتها في التصدي لمسألة غلاء المعيشة. وإزاء العجز عن إقرار ضرائب مباشرة إضافية سيصار في نهاية الحقبة لرفع الرسوم الجمركية لتأمين موارد تكفي لسد عجز الموازنة. وفي أي حال, ستشكل قضيتا الأسعار والضرائب محوري تجاذب بين أطراف النخبة السياسية إبان الحرب اللبنانية.
أما الإنفاق التنموي للدولة فسوف يكون محكوماً بهذا الواقع الداخلي خلال الحقبة المذكورة. وقد شهدت بدايتها بلورة خطة تنموية سداسية (1972­- 1977). لكن تنفيذها سيكون محدوداً لعدم توافر الموارد الحكومية اللازمة لهذه الغاية, ولاستمرار العمل بقاعدة الحفاظ على مستويات عجز ضعيف في الموازنة. وقد حققت ثلاث من الموازنات العامة الست للحقبة فائضاً مالياً.

الحقبة الأولى من الحرب والهجرة وتحوّل الاقتصاد إلى “إقتصاد قائم على التحويلات”
وإلى الدمار المادي الذي سوف تتسبب به الحقبة الأولى من الحرب اللبنانية, فإن نتيجتها الكبرى الثانية ستتمثل بالإرتفاع الكبير في حجم القوى العاملة اللبنانية المهاجرة إلى الخارج الذي أدت إليه. وقد عززت الزيادة الثانية لأسعار البترول عام ,1978 قدرة الإقتصادات الخليجية على استيعاب اليد العاملة المهاجرة.وبحسب إحصاء لمكتب العمل الدولي, فإن عدد اللبنانيين العاملين في الخارج بلغ عام 1975, 98 ألف شخص, 52% منهم في الدول العربية. وأظهر تحقيق أجري عام 1979, أن عدد اللبنانيين العاملين في الخارج كان يتراوح خلال السنة ذاتها بين 187 ألف و 225 ألف شخص[63]. وإذا قارنا الرقم الأخير بمجموع القوى العاملة اللبنانية لعام ,1975 البالغ 538 ألف شخص, يتبين لنا أن العاملين في الخارج مثلوا نسبة قد تصل إلى 42% من مجموع القوى العاملة اللبنانية في حينه.
ولقد سبقت الإشارة إلى أن تحويلات العاملين في الخارج كانت تمثل في مطلع الثمانينات نسبة قد تصل إلى 45% من الدخل الوطني في حينه. وسيترتب على هذه التحويلات رفع لمستوى الطلب الداخلي سيكون لمصلحة الواردات بشكل رئيسي. كما ستستفيد منه بعض القطاعات الداخلية, كالقطاع التجاري وقطاع البناء. أيضا ستستفيد منه الزراعات المعدة لتلبية حاجات الإستهلاك المحلي كالخضار والفاكهة, وبعض الصناعات الخفيفة التقليدية المعدة هي الأخرى لتلبية حاجات السوق المحلية, كالصناعات النسيجية والغذائية ومواد البناء. وقد أظهر المسح الصناعي الذي أجري عام ,1986 أن عدد العاملين في الصناعة في منتصف الثمانينات, والذي بلغ 62464 ناشط, تراجع بنسبة 34% عما كان عليه عام 1970. كما أظهر أن الصناعات الغذائية جاءت في مقدمة القطاعات الصناعية من حيث حصتها في عدد العاملين (24%). وتبعتها صناعات النسيج والجلد (22%), ثم صناعة الخشب والمفروشات (13,5%).
أيضاً سبقت الإشارة إلى كون التحويلات قد تسببت برفع كلفة الإنتاج المحلي القابل للتصدير, أي خلقت حالة “مرض هولندي”, خصوصاً وأن هذا الإنتاج بات معرضاً أكثر من السابق للمنافسة الخارجية, بفعل ضمور دور الدولة وانهيار إمكاناتها. وبالتالي, فقد تأكدت خلال حقبة 1975­- 1984 سيرورة تحوّل الإقتصاد اللبناني إلى “إقتصاد قائم على التحويلات”, أي إلى إقتصاد شبه­ريعي غير منتج.

الحقبة الثانية من الحرب والانهيار الاقتصادي
أما الحقبة الثانية من الحرب, التي بدأت عام 1982, وتزامنت مع التغيير الذي طرأ على الظرف الإقليمي, وتمثل بتراجع المداخيل النفطية, فقد كانت حقبة انهيار اقتصادي حاد. وقد تضافرت عوامل عدة, بدءاً بتراجع حجم المداخيل المحولة من الخارج وازدياد الإنفاق العام ونشوء موجة من هروب الرساميل إلى الخارج دفع إليها إنسداد أفق الحل السياسي, لجعل عام 1983 بداية حقبة انهيار اقتصادي عميق الأثر. وقد سجل ميزان المدفوعات اللبناني عام 1983 عجزاً بلغ 933 مليون دولار, هو الأول من نوعه خلال حقبة الإستقلال كلها. وتفاقم العجز خلال عام ,1984 بحيث بلغ 1262 مليون دولار.
وسيكون إنهيار سعر صرف العملة اللبنانية خلال حقبة 1982­,1990 أداة ومسببا للإنهيار الإقتصادي الذي ميزها. وسينتقل من 3,81 ل.ل لكل دولار أميريكي في آخر عام 1982 إلى 8,8 ل.ل/د عام 1984 و87 ل.ل/د عام 1986. وسيتفاقم هذا الإنهيار خلال عام 1987, إذ سيبلغ سعر الصرف بنهاية كانون الأول منه 455 ل.ل/د, بعد أن كان بلغ مستوى 600 ل.ل/د في آخر شهر تشرين الثاني من العام ذاته. وسوف يستمر هذا التراجع لسعر صرف العملة اللبنانية خلال السنوات التالية, لكن بوتيرة أخف. وسيبلغ 530 ل.ل/د بنهاية عام 1988 و 503 ل.ل/د بنهاية عام 1989 و 842 ل.ل/د بنهاية عام 1990.
وإذا كان يصح إعتبار ندرة العملات الأجنبية والتنافس بين القطاع العام والقطاع الخاص على حيازتها سبباً لتراجع سعر صرف العملة اللبنانية خلال السنوات الأولى للحقبة, فإن استمرار موجة الهروب من النقد اللبناني خلال السنوات اللاحقة هي التي تفسر ترسخ هذا الإتجاه.
وبصرف النظر عن الإعتبارات الموضوعية التي يمكن سوقها لتبرير ““التصحيح الإنكماشي”[64] ajustement de recession الذي اعتمد للإقتصاد اللبناني, فإن سيرورة التراجع الكبير لسعر صرف العملة اللبنانية على امتداد الحقبة كلها أظهرت محدودية الإمكانات الحكومية في التعاطي مع الأزمة, مقارنة بما أتاحه نظام القطع المعوم للقطاع الخاص في هذا المجال.

نتائج “التصحيح الإنكماشي” على الميزان التجاري والأجور والانفاق العام
ويمكن الإكتفاء ببضعة مؤشرات لإظهار الآثار التي نتجت عن ““التصحيح الإنكماشي”“ للإقتصاد اللبناني خلال الحقبة المذكورة. فقد تراجعت قيمة الواردات, التي بلغت 3,5 مليار دولار عام 1983, إلى النصف تقريباً عام 1987. وبلغت المستوى ذاته عام .1990 في حين لم يطرأ تغير كبير على حجم الصادرات خلال الحقبة نفسها, إذ بلغت قيمتها 571 مليون دولار عام 1983 و495 مليون دولار عام .1989 كذلك تراجع عجز الميزان التجاري بين السنتين نفسيهما بمقدار النصف[65]. أيضاً بلغ معدل التضخم الوسطي لحقبة 1986­- 1990, 168% سنوياً. وتراجع الحد الأدنى للأجور من 242 دولار عام 1982 إلى 19 دولار بنهاية عام 1987 و 57 دولار بنهاية عام 1990.
أما بالنسبة للإنفاق العام, فبعد ان كان قد بلغ 2,4 مليار دولار عام ,1982 لم يعد يمثل عام 1985 سوى 58% من مستواه لعام 1982. اما خلال اعوام 1986- ­1988, فلم يعد يتجاوز نسبة 17% من مستواه لعام 1982. وقد مثلت الإيرادات الجمركية نسبة 5% من مصادر تمويله خلال حقبة -1985­- 1990, وبلغت نسبة العجز إلى الانفاق العام خلال الحقبة ذاتها, 85,5%. وتوزعت غالبية هذا الإنفاق على ثلاثة بنود رئيسية: الأجور والرواتب, وخدمة الدين العام, وتمويل شراء المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان. وكانت حصة كلّ منها على التوالي: 18,5% و 26,9% و 20,2%, خلال الحقبة نفسها.
وإلى كونها تبرز مدى جسامة الكلفة الإجتماعية التي ترتبت على اعتماد ““التصحيح الإنكماشي”“ لحقبة 1984- ­1990, فإن الأرقام السابقة تظهر مدى الوهن الذي أصاب القدرات الحكومية خلال الحقبة المذكورة, وما ترتب على ذلك من فرص جرى تفويتها في مجال الإنفاق الإستثماري وتطوير البنى التحتية للإقتصاد الوطني.

التسعينات
أما حقبة ما بعد الحرب في لبنان, أي عقد التسعينات, فيمكن تجزئته لجهة السياسات الاقتصادية التى اتبعت خلاله إلى ثلاثة فترات متمايزة, أولها فترة 1990­- 1992, ثم فترة 1993­- 1998, وفترة 1999- ­2000.

انهيار سعر صرف العملة اللبنانية بنهاية حقبة 1990­- 1992
وقد تميّزت الحقبة الأولى منها بجمود النشاط الإعماري للدولة خلالها, وبحفاظ الحكومة على مستويات نمو للإنفاق العام محدودة نسبيا. إلا أن نهاية الحقبة المذكورة ستشهد نشوء ازمة إقتصادية حادة تسبب بها إنهيار سعر صرف العملة اللبنانية مجدداً وبشكل كبير خلال الأشهر الأولى من عام 1992. وقد انتقل سعر صرف العملة اللبنانية من 842 ل.ل/د بنهاية عام 1990, إلى 879 ل.ل/د بنهاية عام ,1991 وإلى 1838 ل.ل/د بنهاية عام ,1992 بعد أن كان قد بلغ أعلى مستوى له, أي 2825 ل.ل/د خلال شهر أيلول من العام ذاته.
أما بداية انهيار سعر صرف العملة اللبنانية إبتداء من شهر شباط من العام ذاته فقد تسببت بها موجة هروب من النقد اللبناني نشبت في ذلك الحين. وقد واجه المصرف المركزي هذه الموجة بالإعلان عن توقفه عن التدخل في سوق القطع, أي بتسليمه بعجزه عن تلبية موجة الطلب العاتية على الدولار التي كان يتعرض لها. الأمر الذي ترك تحديد سعر صرف العملة اللبنانية بالكامل في عهدة قوى السوق. ويمكن وضع الأزمة التي نشأت في سياق عملية احتجاج قادها القطاع الخاص على السياسة الأجرية للحكومة. وكانت هذه الأخيرة قد أقرت عام 1991 زيادة على أجور العاملين في القطاع العام بنسبة 120%. واعتبر القطاع الخاص أنه غير معني مباشرة بهذا الأمر. وتمكنت الحكومة بالفعل من تسديد كامل المبلغ للمستحقين في بداية عام .1992 لكنها عادت واتخذت قرارا في بداية شهر شباط بإلزام القطاع الخاص على دفع زيادة على أجور العاملين فيه بنسبة 40%. وهو ما رفضه هذا الأخير. وعبر عن رفضه هذا من خلال افتعال موجة طلب على الدولار لم يكن المصرف المركزي قادرا على مواجهتها. وقد ادى ارتفاع سعر الدولار إلى مستوى 1725 ل.ل/د خلال شهر نيسان و 2010 ل.ل/د خلال شهر أيار إلى ارتفاع كبير في الأسعار ونشوء موجة احتجاجات أدت لذهاب الحكومة المعنية.

ركني السياسة الاقتصادية لحكومات الرئيس الحريري والتعويل على التدفقات المالية الخارجية
وقد اعتبرت الحكومة الأولى التي شكلها الرئيس الحريري بعد إجراء الإنتخابات النيابية لصيف 1992, أن تحسين سعر صرف العملة اللبنانية وتثبيته وتحديث البنى التحتية وتطويرها يشكلان ركني السياسة الإقتصادية التي تأخذ بها. كما اعتبرت أن النجاح في إجتذاب رؤوس أموال من الخارج على شكل ودائع وقروض, هو المدخل لتحقيق هذين الهدفين.

رفع أسعار الفائدة لاجتذابها
وبالفعل فقد أتاح الإرتفاع في معدلات الفوائد الذي عرفته حقبة 1993­1998 تأمين تدفق قوي للتمويل الخارجي. أي أن ارتفاع متوسط معدلات الفوائد على الودائع في لبنان قياساً إلى الخارج فسر هذا التدفق. وقد ارتفع متوسط معدلات الفوائد على الودائع بالدولار بدرجة قوية بين عامي 1995 و 1998, كما فاقت الفوائد على الودائع بالليرة تلك المعتمدة على الودائع بالدولار بـ 7 نقاط مئوية, عام [66]1998.
وقد استطاعت المصارف أن تجتذب ما لا يقل عن 25 مليار دولار إبتداءً من عام 1992 على شكل ودائع وقروض من الخارج. كما استطاعت الدولة أن تقترض من الخارج خلال الحقبة ذاتها نحو 5,5 مليارات دولار. وقد أتاحت التدفقات المالية الخارجية التي أفاد منها لبنان خلال الحقبة:
1) تحسين سعر صرف العملة اللبنانية؛
2) إفتعال فورة بناء قام بأعبائها القطاع الخاص؛
3) تمويل الإنفاق العام.

أثر الرساميل المجتذبة في تحسين سعر صرف الليرة اللبنانية
وقد انتقل سعر صرف العملة اللبنانية من 1838 ل.ل/د بنهاية عام 1992 إلى 1596 ل.ل/د بنهاية عام 1995 و 1516 ل.ل/د بنهاية عام .1998 وقد عبر هذا التحسن البطيء والمحدود لسعر الصرف عن اعتماد السلطات النقدية لنظام القطع المعوم الزاحف في إدارتهم لسعر صرف العملة اللبنانية.
أثرها في افتعال فورة البناء
أما فورة البناء التي تحققت, فقد استنفدت مبالغ قدّرت بـ 8 مليارات دولار. وأتاحت التوظيفات في هذا القطاع إضافة ما لا يقل عن خمسة عشر ألف مبنى جديد في نطاق بيروت الكبرى فقط, بين عامي 1991 و[67]1995وشكل إعمار وسط بيروت من قبل شركة خاصة هي شركة سوليدير, معلماً رئيسياً من معالم إعادة الإعمار التي يتولاها القطاع الخاص.

أثرها في تمويل الانفاق العام
كما وفّرت الإكتتابات في سندات الخزينة الجزء الأهم من مصادر تمويل الإنفاق العام خلال الحقبة ذاتها. وقد تبين أن حجم الإنفاق العام قد بلغ خلال فترة 1993­- 1998, 28 مليار دولار. وقد أسهمت في تمويله الإيرادات الجمركية التي ارتفعت بقوة بفعل ارتفاع حجم الواردات, والمساعدات الخارجية, والإكتتابات في سندات الخزينة. علما ان هذا الانفاق اعتمد بنسبة 59% منه على الإستدانة.

الانفاق الاستثماري والانجازات المتحققة
وقد اعتبر المراقبون أن الإنفاق العام انقسم إلى شقين: الشق الإستثماري والشق التوزيعي. وقد أشارت القراءة لحقبة 1993­- 1998 التي انطوت عليها الدراسة التي أعدتها الحكومة الحالية, تحت عنوان “برنامج عمل الحكومة للتصحيح المالي”, أنّ جزءاً محدوداً للغاية من الإنفاق العام خلال الحقبة المذكورة تنطبق عليه صفة الإنفاق الإستثماري. وقد بلغت نسبة هذا الأخير إلى مجموع النفقات العامة, من داخل الموازنة ومن خارجها 12,5% فقط[68]. علماً أن الحقبة ذاتها شهدت تحقق عدد من الإنجازات على صعيد إعادة إعمار وتطوير البنى التحتية. وقد ظهرت هذه الإنجازات على وجه الخصوص في مجالات الطاقة والإتصالات والنقل والأبنية العامة والصحة والتعليم. وبالضافة لاعادة تأهيل المنشآت القائمة, أضيفت منشآت جديدة في مجال إنتاج الطاقة, في البداوي وبعلبك والزهراني وصور, أتاحت زيادة الطاقة الكهربائية الموزعة[69]. وتمت إضافة مليون خط هاتفي ثابت, وعهد للقطاع الخاص بتأمين 550 ألف خط خليوي. وتمّ تحديث وتطوير مطار بيروت الدولي. واستكملت أجزاء إضافية من الأتوسترادات والجسور. كما أجريت عملية توسيع وتطوير لشبكة الطرق القائمة. أيضاً اعيد تأهيل كلّ المباني الحكومية وعدد من المباني الرسمية, كالجامعة اللبنانية والمتحف وقصر الأونيسكو. وتمّ تأهيل 1280 مدرسة. وأنشئت 15 مستشفى جديدة و 26 مركز صحي[70].

الإنفاق التوزيعي
إلا أن غالبية الإنفاق الذي تم خلال الحقبة المذكورة جرى تصنيفه في خانة الإنفاق التوزيعي[71]. وهو الذي أريد به إرضاء مختلف أطراف الطبقة السياسية. أي أنه خضع لمنطق تأمين المنافع والمغانم على أسس سياسية وطائفية ومناطقية, لأطراف الطبقة السياسية. وهو ليس فقط كان إنفاقا غير منتج, بل أنه فاقم أزمة القطاعات الإنتاجية بمفعول الإنفاقEffet de dépense الذي أدى إليه. ويمكن بالتالي اعتباره سببا لتباطؤ النمو الذي شهده لبنان منذ منتصف التسعينات.

الانفاق العام وارتفاع الطلب وارتفاع الكلفة
فقد تسبب هذا الإنفاق بارتفاع مستوى الطلب الداخلي. وهو ما انعكس إرتفاعاً لأسعار المنتجات اللبنانية. ولقد شهدت حقبة 1993­- 1998 إرتفاعاً لأسعار السلع والخدمات المنتجة محلياً, بمعدل 168%, أي بمعدل 17,9% سنوياً[72]. وقد عبرت زيادة الأسعار هذه عن ازدياد أكلاف الإنتاج اللبناني. ولعب هذا الازدياد دوراً مباشراً في منع القطاعات الإنتاجية من زيادة صادراتها, ومن الإحتفاظ بحصتها في السوق الداخلية, خصوصا وان هذه الأخيرة هي سوق مفتوحة أمام منافسة السلع الأجنبية. ويمكن اختصارا القول بأن الإنفاق العام, بمفعول الإنفاق الذي ترتب عليه, أدى لزيادة أكلاف القطاعات المنتجة اللبنانية, وجعلها غير قادرة على النمو, بل وأدى إلى تقهقرها. ويعبر عن هذا الواقع, كما سبقت الإشارة لذلك, بتعبير “المرض الهولندي”.
لكن إظهار مسؤولية سياسة الإنفاق العام عن إرتفاع كلفة الإنتاج وتباطؤ النمو هو جزء من الحقيقة. فالمعطى البنيوي, أي تحول الإقتصاد اللبناني إلى “إقتصاد قائم على التحويلات” منذ حقبة الحرب, وحفاظه على هذه السمة خلال حقبة ما بعد الحرب[73], يمثل هو الآخر عامل ارتفاع لأكلاف الإنتاج الداخلي. ذلك ان المداخيل المحولة من الخارج, برفعها لمستويات الإنفاق والإستهلاك والأسعار في الداخل تجبر العاملين في مختلف القطاعات الإنتاجية على المطالبة بأجور قد تتجاوز إنتاجيتهم. الأمر الذي يرتب إرتفاعاً في كلفة الإنتاج الداخلي. وقد تضافر دور السياسة الإقتصادية من جهة, مع دور المعطى البنيوي من جهة أخرى, للتسبب بارتفاع أكلاف الإنتاج اللبناني وتباطؤ نموه.

الإنكماش الاقتصادي لحقبة 1996­- 1999
وقد اعتبر المراقبون أن سيرورة تباطؤ نمو الإقتصاد اللبناني بدأت في مطلع النصف الثاني من التسعينات. وفي حين عرف النصف الأول من العقد نمواً ملحوظاً عبرت عنه معدلات النمو المسجلة خلال سنوات 1993 و 1994 و 1995, والتي كانت على التوالي 7% و 8%

 و 6,5%, فإن النمو انخفض بعد ذلك إلى مستوى 4% خلال عامي 1996 و ,1997 و 3% عام 1998. ثم عاد وانخفض مجددا إلى مستوى 1% عام ,1999 وفقا لأرقام مصرف لبنان.
كما اعتبر المراقبون أن أزمة القطاع العقاري هي المسبب الأول لتباطؤ النمو إبتداء من عام 1995. ذلك أن العقارات المبنية التي اضافتها الفورة المتحققة لم تجد طلبا كافيا عليها. والأمر الذي جعل أزمة القطاع العقاري أكثر حدة, هو أن الإستثمارات التي حصلت فيه انبنت بشكل رئيسي على الطلب الآتي من الخارج, أو بالأحرى على توقعات متفائلة بشأن هذا الطلب. وقد ترتب على إخفاق هذه التوقعات بقاء نحو 220 ألف شقة فارغة. كذلك هبطت أسهم سوليدير لأن هذه الأخيرة انطلقت من المراهنة نفسها على دور الطلب الخارجي, وتبين أن هذا الرهان لم يكن صائبا.
وقد لعب عدم التمكن من الإستمرار بسياسة الإنفاق العام التوسعية إبتداء من عام ,1997 دور العامل الثاني في تعميق أزمة تباطؤ النمو. وشكلت أزمة القطاعات الإنتاجية العامل الثالث في تعميق هذه الأزمة.
وهكذا, ففي حين شهدت حقبة 1995­- 1998 بلوغ حجم الواردات ما يوازي 6544 مليون دولار سنويا[74], بقي متوسط حجم الصادرات في حدود ال 800 مليون دولار وسطيا كلّ سنة. أي أن معدل تغطية الواردات بالصادرات كان بحدود الـ 12% سنوياً. علماً أن هذا المعدل لم يتجاوز الـ 10% خلال فترة 1990­- 1998 كلها, بعد أن كان يوازي 60% خلال النصف الأول من السبعينات. وقد أظهرت التصنيفات التي تصدرها المؤسسات الدولية أن لبنان احتل عام 1996 المرتبة 151 من بين 152 بلداً فيما يخص تغطية الواردات بالصادرات.
وإذا شئنا إبداء رأي مختصر بشأن العقد بكامله, فإنه يمكننا القول بأن الإنفاق العام الذي ميزه لم يكن معنيا بتطوير القدرة الإنتاجية للإقتصاد الوطني. في حين استقطب القطاع الرئيسي للسلع الغير قابلة للتصدير, أي القطاع العقاري, معظم استثمارات القطاع الخاص. وقد نشأت عن ذلك أزمة لعدم قدرة الطلب الداخلي على شراء السلع المعروضة, وذلك لضعف الإنتاج الداخلي وعجز القطاعات الإنتاجية المحلية عن توفير قدرة شرائية كافية تتيح ملاقاة العرض المتحقق. ويمكن وضع هذا الواقع تحت عنوان كبير واحد, هو سوء استخدام الموارد المتاحة.


سنة 1998, كسنة مفصلية
أما نهاية العقد فستشهد تأكدا للسيرورة الإنكماشية للإقتصاد اللبناني. وقد شكلت سنة 1998 نقطة مفصلية في سيرورة تباطؤ نمو الإقتصاد اللبناني. فهي من جهة, شهدت بلوغ الدين العام نسبة 113% من الناتج الوطني, وتجاوزه بالتالي وبفارق كبير, السقوف المقبولة من وجهة نظر المؤسسات الدولية المعنية بإصدار أحكام على الأداء الإقتصادي للدول المختلفة والتي تلعب أحكامها دوراً مؤثراً في تمكين هذه الدول من استدراج التدفقات المالية الخارجية. وسيكون عام 1998 عاما مفصليا أيضا, لجهة ظهور عجز في ميزان المدفوعات اللبناني. وذلك للمرة الأولى منذ عام .1990 وقد بلغ هذا العجز 488 مليون دولار, وجاء على وجه الخصوص, نتيجة تراجع حجم التمويل الخارجي للإقتصاد.
 

الحكومة الجديدة و”التصحيح الإنكماشي”
وقد فرض واقع تفاقم الدَّين العام, وما اصطلح على تسميته بال”“تركة”“ على الحكومة الجديدة تعاطيا مع الوضع الإقتصادي يغلب عليه هاجس تدارك المخاطر التي يمكن أن تنجم عن تزايد الإنفاق العام وتفاقم عجز الموازنة. وهي بالتالي عمدت لتطبيق سياسة تقشفية لا تترك مجالاً لأي توسع لهذا الإنفاق.
وقد ترادف تطبيق هذه السياسة مع تراجع إضافي لحجم الواردات أدت إليه حالة الإنكماش القائمة. الأمر الذي سمح بظهور فائض في ميزان المدفوعات بنهاية عام .1999 إلا أن معدل نمو الإقتصاد اللبناني لم يتجاوز خلال السنة المذكورة نسبة الـ 1%. أي أنه بات مدعوا مرة أخرى لاختبار مرحلة “تصحيح انكماشي” كالتي عرفها إبتداء من عام 1984, وإن يكن ثمة اختلاف بين الحقبتين لجهة حدة الإنكماش الحاصل وكلفته الإجتماعية.
ويظهر تكرس واقع الإنكماش منذ عام 1998 أن ما ينقص السياسة الحكومية هو الجانب الآخر منها, أي جانب تحفيز الإنتاج. ويظهر هذا النقص على وجه الخصوص, من خلال عدم قدرتها على وضع سياسة إقتصادية فعالة موضع التنفيذ, تحقق هذا الهدف. وتبدو المشكلة الأساسية لدى الحكومة في المقاربة التي تعتمدها لموضوع السياسة الإقتصادية بوجه عام, والسياسة الصناعية على وجه الخصوص, أي في المقاربة الليبرالية المعتدلة التي تعتمدها, أو المقاربة “الودية تجاه السوق”.

III ­- التحدي المشترك: النمو والتصدير والاندماج الستراتيجي في السوق الدولية
إنّ العرض الذي سبق للخصائص البنيويّة للبلدين ولتطورهما ولوضعهما الراهن, يظهر أنهما يعانيان من مشكلة رئيسية مشتركة تتمثّل بضعف صادراتهما. وهو ضعف ينبيء عن ضعف قطاعاتها الإنتاجية المنتجة لسلع قابلة للتصدير, كما ينبيء عن عدم امتلاكهما للميزات التنافسية التي تجعلهما قادرين على الخروج بقوّة إلى الأسواق الدولية. وتكفي الاشارة هنا إلى ان الصادرات السورية خارج البترول, لم تتجاوز عام 1996 على سبيل المثال, مبلغ 600 مليون دولار, كما ان الصادرات اللبنانية لم تتجاوز الـ 716 مليون دولار عام 1998, في حين بلغت قيمة الصادرات الاسرائيلية للعام ذاته 22 مليار دولار.
ويجد المتتبع للنقاش العام أن الكل يتحدث عن تحديّات كثيرة, داخلية وخارجية, عالمية وإقليمية, الخ. الأمر الذي من شأنه إضاعة الهدف الذي يفترض أن تنصب كلّ الجهود لتحقيقه, وهو كيفية بناء الطاقة الصناعية القادرة على فرض نفسها في الأسواق الدولية, وكيفية بناء الميزات التنافسيّة المطلوبة لتحقيق هذا الغرض. هذا هو التحدّي الأساسي المطروح على البلدين.
وتتطلّب مواجهة هذا التحدي, اعتماد ستراتيجية تقوم على التوجه نحو الخارج والتصنيع بغاية التصدير. وتقف هذه الستراتيجية على طرفي نقيض مع ستراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات التي راجت سوقها خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الدول النامية. كما تتطلب مواجهة هذا التحدي اعتماد مبدأ الاندماج الستراتيجي في السوق الدولية, بما يؤمن انخراطا افضل للاقتصادين في الاقتصاد الاقليمي والعالمي, وبما يتيح لهما الاستفادة إلى الحد الاقصى من المنافع التي يوفرها التبادل الدولي. ويتطلب تحقيق هذه الأهداف, إعتماد سياسات محدّدة في مجالات خمسة, هي مجالات: السياسة الصناعية, والسياسة التجارية الستراتيجية, والاصلاح المالي, وإعادة تحديد دور الدولة والقطاع العام, والاتفاقيات التجارية مع الخارج.
وإن أفضل الحجج التي يمكـــن تقديمهـــا لصالح ستراتيجيـــة التصنيع بغايــة التصدير هي:
1) إظهار الطريق المسدود الذي أدّت إليه ستراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات؛
2) إظهار منافع ستراتيجية التصنيع بغاية التصدير بحدّ ذاتها.


أ- ­ مأزق التصنيع باستبدال الواردات
إن القاسم المشترك الذي جمع بين الكثير من تجارب التنمية خلال حقبة ما بعد الحرب في العالم الثالث, هو اعتمادها ستراتيجيات تصنيع باستبدال الواردات. وقد اتخذت هذه الستراتيجيات تعبيرات مختلفة باختلاف البلدان التي اعتمدتها, لكنها قامت في كلّ الأحوال على تملّك الدولة لجزء مهم من وسائل الإنتاج, وعلى التخطيط واعتماد التسعير الإداري ووضع عوائق على المبادلات الخارجية واعتماد أشكال عدّة من الدعم للإنتاج والتسليف, وعلى التنظيم المفرط من قبل الدولة للنشاط الاقتصادي, الخ[75]. وكان عنوانها الأساسي التصنيع بالاعتماد على السوق الداخلية.
وقد وجدت هذه الستراتيجيات جذورا لها في الحقبة المركنتيلية ما قبل الرأسمالية في اوروبا والغرب. وعبّرت عن مقاربة ترفض مبدأ حرية التبادل على مستوى العلاقات الاقتصادية الدولية, وترفض الركون لقوى السوق بمفردها في الداخل لتحقيق النشاط الاقتصادي, وتعطي بالتالي للدولة دورا أساسيا في تحديد وقيادة النشاط الاقتصادي. ويمكن اعتبار الألماني فريدريش ليست List من أهم المنظرين لهذه المقاربة المعادية لحريّة التبادل والمحبّذة لتدخّل الدولة في آنٍ, خلال القرن التاسع عشر. وكان الروماني ميخائيل مانوليسكو ManoÏlesco أحد كبار منظّريها خلال حقبة ما بين الحربين.
إلا أن اعتمادها على نحو واسع خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان مردّه بشكل رئيسي إلى ما يسمّى بـ ““التشاؤم بخصوص الصادرات”“, أي التشاؤم بخصوص قدرة الصادرات على الإسهام بعملية التنمية. وكان هذا التشاؤم وليد الاستنتاج:
1) بأن ثمة تدهور كبير لحدود التبادل للدول النامية في علاقاتها التجارية مع الدول المتقدمة[76], ضمن شروط التقسيم الدولي للعمل لذلك الوقت, حيث كانت الأولى تنتج وتصدر سلعًا مصنّعة, في حين كانت الثانية تنتج وتصدر موادًا أولية, منجمية وزراعية؛
2) بأن الأسواق الغربية ستبقى مقفلة أمام السلع المصنّعة من قبل الدول النامية. وشكل هذا التشاؤم المعمّم منطلقا لاعتماد ستراتيجيّات التنمية المستندة إلى السوق الداخلية.
وسوف تجـــد هذه الستراتيجيّة أكمـــل تعبير عنها في أعمال الأرجنتيني راوول بريبيش Prebisch, وأعمال لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لدول أميركا اللاتينية ECLA/CEPAL التي ستمحض تبريراً نظرياً متكاملاً لتدخّل الدولة من أجل تشجيع عملية التصنيع المستندة إلى السوق الداخلية[77]. كما ستجد دعمًا لها عند مجموعة من مشاهير اقتصاديي القرن العشرين.
وفي غالبية الأحيان, كان اعتمادها ينطلق من موقف مواجهة مع السوق الرأسمالية ومن إقامة تعارض حاسم بين دول “المركز” ودول “الأطراف”. وسوف يدفع التركيز على هذا التعارض ممثلي التيارات الأكثر راديكاليّة في ميدان العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة, من مثل المفكر الاقتصادي سمير أمين, إلى اقتراح ستراتيجيات تنمية تقوم على فك ­ الارتباط Déconnexion مع السوق الدولية من قبل دول الأطراف. وقد وجد هؤلاء في تعاطي دول المركز تاريخياً مع تجارب التصنيع في دول الأطراف ما يبرر موقفهم. وليس أقلّ هذه التجارب ما نطقت به محاولة محمد علي للتصنيع في مصر في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر. وقد اجبر هذا الاخير على النكوص عنها بضغط مباشر من المتروبولات الغربية.
وستجد هذه الستراتيجية من جهة أخرى, دعمًا لها ابتداء من حقبة خروتشوف في الاتحاد السوفياتي. وسيعبر هذا الدعم عن نفسه من خلال الاتفاقيات التي كان يعقدها هذا البلد مع دول العالم الثالث. وهي تقوم على دعم ستراتيجيات التصنيع فيها, على أن تسدّد أثمان هذا الدعم بواسطة السلع المنتجة.
وسوف تتيح قروض المصارف الغربية الخاصة خلال السبعينات تمويل الاستمرار بهذه الستراتيجية لدى الأكثر تصنيعًا بين دول العالم الثالث, ومنها على الاخص دول اميركا اللاتينية. لكن الاستمرار بها سيصل بسرعة إلى طريق مسدود كانت تعبر عن نفسها بالطريقة ذاتها في كلّ الدول التي اعتمدتها, من خلال تفاقم أزمة ميزان المدفوعات, الناتجة عن عدم القدرة على التصدير مقابل تبعية كبيرة تجاه السلع المستوردة, وصولاً إلى الوقوع في أزمات مديونية خارجية مرتفعة, وتوقف للنمو يترافق مع ارتفاع كبير في معدلات التضخم لدى الدول التي اعتمدتها. وسوف تبرر حدة هذه الأزمات اعتماد سياسات تصحيح هيكلي, طبقت على نحو واسع خلال الثمانينات, واستندت للمقاربة النيو­ليبراليّة, الّتي أخذت بها مؤسّسات بروتون وودز, واختصرت بتعبير توافق واشنطن.Washington Consensus


ب -­ “التوجّه نحو الخارج” outward orientation والتصنيع بغاية التصدير
لقد سبقت الإشارة إلى ان “التشاؤم بخصوص الصادرات” هو الذي حكم تجربة دول العالم الثالث في علاقتها مع الدول الصناعية خلال حقبة ما بعد الحرب, وأملى عليها الأخذ بسياسات استبدال الواردات. إلا ان حقبة السبعينات والثمانينــات أفسحت المجال لتحقيق دراسات اظهرت العكس, أي الاسهـــام الايجابي للصادرات في نمــو الدول المتخلفـــة. ونجد على رأس هــذا التيـــار مفكرين اقتصاديين ليبراليين كـ بلاّ بلاسا Balassa, الذي اعتبر ان تراجع حصة دول العالم الثالث في التجارة الدولية خلال حقبة ما بعد الحرب يعود للسياسات الحمائية التي اتبعتها هذه الاخيرة, وعبرت عنها الرسوم الجمركية والعوائق المختلفة التي فرضتها على الواردات كما على الصادرات. ويحمّل بلاسا المفكرين الاقتصاديين من أمثال نوركسهNurkse وبريبيش Prebisch وميردالMyrdal مسؤولية ذلك, لأن الدول المعنية اعتمدت اقتراحاتهم في هذا المجال[78] .
أيضاً, وفي حين أكدت الدراسات التي قام بها بريبيش وغيره ان ثمة تغيّراً يصيب في المدى الطويل حدود التبادل بين الدول الصناعية وبين الدول النامية, ويكون لمصلحة الاولى منها, نقضت دراسات أخرى أجريت خلال السبعينات والثمانينات هذه التأكيدات, وأظهرت عكس ذلك, أي تحسّن حدود التبادل للدول النامية في مبادلاتها مع الدول المتقدمة خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية[79].
وقد اعتمد الاقتصاديون الليبراليون تعريفاً محدداً لستراتيجية التوجه نحو الخارج والتصنيع بغاية التصدير. وهو ينطوي وفقا للمقاربة الليبرالية على اعتماد نظام حوافز حيادي, أي غير متحيّز ضد نشاطات التصدير, لمصلحة النشاطات القائمة على استبدال الواردات. وهذا يعني أنه لا يكفي وجود نشاطات تصديرية في بلد ما ليصح الاعتبار انه انما يعتمد ستراتيجية تشجيع للصادرات. ويمكن الاشارة على سبيل المثال, إلى ان ستراتيجية “تصدير الفائض” التي أخذت بها بلدان عديدة من العالم الثالث خلال حقبة ما بعد الحرب كانت جزءاً لا يتجزأ من ستراتيجية استبدال الواردات التي كانت تعتمدها. وهي انطوت على موقف مناهض لنشاطات التصدير, أذ انها غالبا ما تعمّدت الإبقاء على اسعار منخفضة للسلع الوطنية لتوفير حاجات الاستهلاك المحلي. الأمر الذي كان يجعل المنتجين المحليين يتمنّعون عن زيادة إنتاجهم لهذه السلع ويجعلهم غير قادرين على تصديرها.
وقد أكدت الدراسات, على اختلاف المنهجيات التي اعتمدتها, الأثر الايجابي على النمو الذي يرتبه اعتماد ستراتيجية “التوجه نحو الخارج”. ويمكن جمع الحجج المختلفة التي قدمت في هذا الاطار تحت عنوانين:
1) إظهار قدرة الستراتيجيات القائمة على التوجه نحو الخارج على تحسين انتاجية الاقتصاد الوطني, في حين ان ما يحصل هو العكس في ظل اعتماد سياسة استبدال الواردات؛
2) التخفّف من الأعباء التي يرتبها اعتماد الحماية للاقتصاد الوطني[80].
ويتيح “التوجّه نحو الخارج” زيادة الفعالية الانتاجية للمؤسسات الانتاجية. فهو يجعلها تعزز تخصصها وانتاجها على قاعدة الميزات النسبية التي يفترض انها تمتلكها أساساً. كما يتيح لها تحقيق وفورات الحجم التي يؤمنها التعويل على السوق الدولية, بدل الانحصار ضمن حدود السوق المحلية. ونعني بوفورات الحجم, انخفاض كلفة الإنتاج المترتبة على زيادة حجم المنشأة. ويتيح لها من جهة ثالثة, استخداما اوفى لطاقاتها الانتاجية. ويتيح لها أخيرا, ادخال تغييرات تكنولوجية على عملياتها الانتاجية بوتيرة أسرع.
ويمكن باختصار القول ان اهمية ستراتيجية التوجه نحو الخارج والتصنيع بغاية التصدير تكمن في انها تلزم المنتجين على العمل على الدوام, لتحسين انتاجيتهم ولتحقيق قدرة تنافسية دولية تسمح لهم بالبقاء في الاسواق الدولية. الامر الذي يفترض منهم العمل على استيعاب التكنولوجيا الجديدة وتحسين الانتاجية المستمر وعدم الاكتفاء بحيازة مواقع احتكارية في الاقتصاد الوطني تؤمن لهم اقتطاع اجزاء من الدخل الوطني بدون تعب.
واذا كانت كلفة الأخذ بستراتيجية استبدال الواردات بدت باهظة, فلانها اعتمدت مبدأ الانتاج ““بأي ثمن”“, أي قبلت بوجود مؤسسات انتاجية ضعيفة الفعالية تدين باستمرارها للحماية القوية التي تستفيد منها. ولأن هذه الستراتيجية كانت بشكل ما, تدعو المنتجين للاغفاء في ظل الحماية. وغالبا ما جيّرت الحماية غير المشروطة التي انطوت عليها لمصلحة احتكارات بليدة غير تحديثية وغير مبالية بالمنافسة, أو قادرة على المنافسة في الاسواق الدولية.
وقد أوصلت هذه الستراتيجية كلّ البلدان التي طبقتها إلى طرق مسدودة والى توقف النمو فيها, لانها حصرت نفسها بالاسواق المحلية, واشاحت عن قبول تحدي المنافسة والعمل لتحقيق الغلبة في الاسواق الدولية.
وإذا أخذنا سياسة التصنيع التي اتبعت في سوريا ابتداء من الستينات, وأخذنا الشعار المعمول به فيها, القائل بالتصدير “بعد تأمين الحاجات الداخلية”, نصل إلى نتيجة, وهي ان التصنيع البديل للاستيراد هو الذي حكم تجربتها طوال العقود الأربعة الماضية, وان التأكيد على الرغبة بتشجيع التصدير ابتداء من منتصف الثمانينات لم يغيّر كثيراً في واقع الحال.
أما بالنسبة للبنان, وبالرغم من عدم وجود سياسة عامة معلنة منحازة ضد الصادرات, فان عدم نمو الصناعات التصديرية فيه, يعود إلى حد كبير لغياب سياسة تدخلية من قبل الدولة اللبنانية لصالح الصناعة.


ج -­ الاندماج الستراتيجي في السوق الدوليّة
يمثّل الاقتصاد اللّبناني والسوري كلّ بمفرده, أو حتّى مجتمعين, ما يصح اعتباره اقتصادات صغيرة. ولا يمكن لبلدان من هذا الحجم أن تحقّق نموا فعليا إلاّ باختراق الأسواق الخارجيّة. لكن إذا انطلقنا من الإقرار بأنّ التوجّه نحو الخارج والتصنيع بغاية التصدير يجسّدان الستراتيجيّة الّتي يفترض بهما الأخذ بها لتحقيق هذه الغاية, أفهل يفترض ذلك منهما انفتاحًا كاملاً على السوق الدوليّة, على النحو الّذي تعبّر عنه المقاربة اللّيبراليّة في هذا المجال؟
إنّ الأمر الأكيد هو أنّه يتوجّب على البلدين اعتماد ستراتيجيّة إيجابيّة للمشاركة في حركة العولمة, أي ستراتيجيّة تتيح لهما الاستفادة من الإمكانات الّتي توفّرها هذه الأخيرة, وتتيح لهما في الوقت عينه تجنّب الأخطار الّتي تنشأ عنها[81].
كما ينبغي أن يتمّ هذا الاندماج على قاعدة إجراءات تتيح تعزيز ديناميكيّة داخليّة للنموّ. الأمر الّذي من شأنه تخفيف التبعيّة القائمة تجاه الخارج, وتخفيف قابليّة التعرّض للأذى بسبب التغيّرات الّتي يمكن أن تطرأ على الظرف الإقليميّ والدولي.
كذلك ينبغي أن تنبني المشاركة على قاعدة اندماج ستراتيجي يتوافق مع المشروع التنموي لكلّ من البلدين. وقد أثبتت التجربة أن ليس ثمّة علاقة مباشرة بين اعتماد دولة بعينها لنظام قائم على حريّة التبادل وبين ارتفاع مستوى الفعاليّة الاقتصاديّة فيها. وقد جاء نموذج الانفتاح الّذي اعتمدته دول أوروبا الشرقيّة ليؤكّد هذا الأمر. وفي مطلق الأحوال, فإنّ اعتماد ستراتيجيّة “التوجّه نحو الخارج” لا يعني بالضرورة الأخذ بحريّة التبادل الكاملة. وهو ما أثبتته تجربة دول شمال­شرقي آسيا, وخصوصًا كوريا الجنوبيّة وتايوان. وهي دول باتت قدوة ونماذج تحتذى لجهة نجاحها في تحقيق تنمية وطنيّة فعليّة جعلتها ترتقي إلى مصاف الدول الصناعيّة الحديثة. وهي دول اعتمدت ما يتفق على تسميته بالاندماج الستراتيجي, أي المتوائم مع أهداف النمو والتنمية الوطنية التي وضعتها. وقد استعاضت بذلك عن الاندماج الضيّق وغير المشروط في السوق الدوليّة[82].
وبالنسبة للبنان, فإنّ المهمّة المطروحة عليه هي إعادة النظر بانفتاحه, نحو اعتماد انفتاح ستراتيجي غير سلبي, أي غير متلق فحسب.
أمّا بالنسبة لسوريا, فالمطروح أيضًا بالنسبة لها هو اعتماد اندماج ستراتيجي, يخرج الاقتصاد من القوقعة, ويعزّز إمكانات الاستفادة من السوق الدوليّة. وبالتالي فنحن نرى, أنّه رغم الخصائص البنيويّة المختلفة الّتي يتميّز بها البلدان, فإنّهما يواجهان التحدّيات ذاتها. وهي تفترض منهما اعتماد سياسات تستند إلى خلفيّة واحدة, أو تنطلق من مقاربة واحدة.


د -­ السياسات المطلوبة
سنكتفي في هذه الفقرة باستعراض الأسئلة الّتي سيصار لطرحها والإجابة عليها في الجزء الرابع والأخير من هذه الدراسة. وهي تتناول المجالات الخمسة الّتي سبقت الإشارة إليها. ويتناول العرض أهداف السياسة التي يفترض اتّباعها في كلّ من المجالات الخمسة المذكورة, ودور الدولة والمقاربة التي تقف وراء هذه السياسات وتبرير هذه المقاربة والإجراءات التي ينبغي الأخذ بها.
ويمكن أن نعترف سلفًا, بأنّ السياسات المقترحة للتطبيق لا تستوحي المقاربة اللّيبراليّة الصرف في العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة. بل إنّها تستوحي المقاربات المسمّاة غير أرثوذكسيّة
 hétérodoxes, الّتي تقوّم نقديا المقاربة اللّيبراليّة الصرف, والمقاربة اللّيبراليّة المعتدلة الّتي يعمل على هديها البنك الدولي. كما أنّ هذه السياسات المقترحة تستوحي إلى حدّ كبير, نموذجًا بعينه مثلّته دول شمال شرق آسيا, أي اليابان أساسًا, ثمّ كوريا الجنوبيّة وتايوان. وهي تنطلق من مقاربة نقديّة ومتحفّظة تجاه سياسات التحرير الاقتصادي التي أخذت بها دول أوروبا الشرقيّة.
1- ­ وبالنسبة للصناعة, فإنّ السؤال المطروح يتناول ماهيّة السياسة الصناعيّة الّتي ينبغي الأخذ بها ضمن إطار ستراتيجيّة قائمة على ““التوجّه نحو الخارج”“ والتصنيع بغاية التصدير. وتتناول الإجابة عليه دور السياسة الصناعيّة في خلق ميزات تفاضليّة للصناعة الوطنيّة, أو الأصح خلق قدرة تنافسيّة بنيويّة ديناميكيّة للاقتصاد الوطني, أي قابلة للتكيّف مع الوقت وتغيّر الظروف. وهكذا, فان أهداف السياسة الصناعيّة ضمن إطار ستراتيجيّة التصنيع بغاية التصدير تختلف حكمًا عن تلك التي تميّزها ضمن إطار ستراتيجيّة التصنيع باستبدال الواردات. كما تبدو الدولة ضمن هذا الإطار معنيّة قبل كلّ شيء بتعزيز قوى السوق, لا الحلول مكانها.
أيضًا تطرح إشكاليّة السياسة الصناعيّة ضمن إطار ستراتيجيّة التصنيع بغاية التصدير مسألة المقاربة الّتي تعبّر عنها هذه السياسة. ويتطلّب الأمر التمييز بين مقاربات ثلاث في هذا الإطار: المقاربة اللّيبراليّة الصرف والمقاربة اللّيبراليّة المعتدلة أو “الوديّة تجاه قوى السوق”, والمقاربة البنيويّة. وتبدو المقاربة البنيويّة للسياسة الصناعيّة الأكثر تكيّفًا مع واقع وظروف الدول النامية, لأنّها الأكثر قدرة على تحديد إخفاقات السوق market failures والتعاطي معها بنجاح. ويؤدّي الأخذ بهذه المقاربة لاعتماد خيار الانتقائيّة séléctivité, أي تشجيع صناعات بعينها بهدف جعلها قادرة على ولوج ميدان المنافسة الدوليّة, كبديل عن الأخذ بالمقاربة الحياديّة, التي تكون غير منحازة, وتتعامل مع كلّ القطاعات الصناعيّة بالمنطق ذاته.
وانطلاقًا من اعتماد خيار الانتقائية, يصبح دور السياسة الصناعيّة تشجيع الصناعات التصديريّة والصناعات الناشئة والعمل على ““خلق رابحين”“, أي على خلق صناعات ذات فعاليّة تسمح لها بمواجهة تحدّي المنافسة الدوليّة.

وبما أن هدف السياسة الصناعيّة هو خلق صناعات ناشئة تصديريّة, فإن الأمر يتطلّب اتّخاذ إجراءات مناسبة تتناول عوامل الإنتاج, أي التكنولوجيا ورأس المال البشري. ويفترض بالسياسة الصناعيّة ألاّ تكون متلقية على صعيد نقل التكنولوجيا, أي ألاّ تكتفي بأن تكون منفتحة أمام نقل التكنولوجيا الّذي تتكفّل به الشركات المتعدّدة الجنسيّة. بل يطلب منها أن تكون أكثر تطلبًا على هذا الصعيد, فتعمل لخلق مقدرة تكنولوجيّة وطنيّة, أو ما يسمّى بـ ““نظام وطني للتكنولوجياً, على شاكلة ما حصل في كوريا الجنوبيّة وتايوان, وقبلهما في اليابان, مع ما يرتبه ذلك من جهود في مجال دعم نشاطات الأبحاث والتطوير, وما يرتبه أيضًا من إجراءات انتقائية في مجال تكوين وتأهيل رأس المال البشري.
وإلى المبادئ الّتي سبق ذكرها والّتي تحدّد ماهيّة السياسة الصناعيّة ضمن إطار ستراتيجيّة تصنيع بغاية التصدير, فإنّ السير بهذه السياسة يفترض أيضًا تعيين القطاعات الأولى بالعناية والتشجيع والدعم, وتحديد المعايير الّتي اعتمدت للأخذ بهذه الخيارات.
وبالنسبة لسوريا بالتحديد, فإنّ المسألة المركزيّة الّتي يتوجّب التركيز عليها في مجال التنمية الصناعيّة تتناول فعاليّة الإنتاج الصناعي, والشروط الّتي ينبغي توفّرها لزيادة هذه الفعاليّة.
أمّا بالنسبة للبنان, فإنّ المسألة المركزيّة الّتي يتوجّب طرحها تتناول مدى صحّة وكفاية المقاربة اللّيبراليّة المعتمدة لحفز النشاط الصناعي.
2- ­ أمّا بالنسبة للسياسة التجاريّة, فإنّ المقاربات بصددها ضمن إطار ستراتيجيّة توجّه نحو الخارج وتصنيع بغاية التصدير تنحصر في الاختيار بين اعتماد نظام حريّة تبادل كاملة, أو اعتماد سياسة تجاريّة ستراتيجيّة ناشطة, تنطوي على تحرير جزئي وانتقائي للمبادلات مع الخارج.
وفي الحالة الأولى, يقتضي الأمر إزالة كلّ العوائق القائمة على التجارة الخارجيّة, وإرساء إطار من حريّة التبادل الكاملة. وتستوحي السياسة التجاريّة في هذه الحالة النظريّة اللّيبراليّة التقليديّة في العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة. وتقول لنا هذه النظريّة أنّ هذا الإطار هو الأمثل للعلاقات التجاريّة الدوليّة, لأنّه يتيح للميزات المقارنة أن تعبّر عن نفسها دون عوائق, ولأنّه يوفّر للمشاركين فيه أعلى مستوى من المنفعة.
أمّا في الحالة الثانية, فإنّ السياسة التجاريّة تكون موضوعة في خدمة السياسة الصناعيّة وترفد جهودها لتحقيق القدرة التنافسيّة الدوليّة للصناعة الوطنيّة. وتنطلق السياسة التجاريّة الستراتيجيّة من الإقرار بارتباط السياسات التجاريّة للدول المختلفة ببعضها البعض, وبأنّ كلّ سياسة تعتمد ضمن هذا الإطار تجد صدى لها وتستثير ردّات فعل لدى الآخرين, أي الدول والمؤسّسات الأجنبيّة, وإنّ الإطار الدولي للمبادلات هو إطار شبه­احتكاري, أي أنّ المنافسة على المستوى الدولي تتمّ بين احتكارات أو أقطار محدودي العدد.
وتبرّر هذه القراءة للواقع الدولي تدخّل الدولة عبرالسياسة التجاريّة الستراتيجيّة لدعم القدرة التنافسيّة للصناعات الوطنيّة المعدّة للتصدير. ويكون هذا التدخّل عبر أشكال مختلفة, اهمّها حماية الصناعات الناشئة والصناعات التصديريّة, وتوفير الدعم للصادرات, الخ. وتتيح أشكال التدخل المختلفة هذه تعديل أسعار السلع الوطنيّة بغاية جعلها أقدر على تحمّل المنافسة الدوليّة.
والى هدفي حماية الصناعات الّتي يشكّل تعزيزها هدفًا وطنيا وتشجيع الصادرات, فإنّه يعوّل على السياسة التجاريّة الستراتيجيّة لتأمين مداخيل للدولة تسمح لها بتمويل نشاطها هذا.
3- ­ تتمحور إشكاليّة الإصلاح المالي المطلوب ضمن إطار ستراتيجيّة توجّه نحو الخارج وتصنيع بغاية التصدير, حول كيفيّة جعل القطاع المالي يسهم على نحو أفضل في جهود التصنيع بغاية التصدير.
ونعني بالإصلاح المالي جملة الإجراءات الّتي تؤثّر على نشاطات التسليف ومعدلات الفوائد وتتناول خلق المؤسّسات المتخصّصة بالتسليف القطاعي. كما تتناول جملة القواعد الّتي تحكم علاقة القطاع المالي المحليّ بالرساميل الأجنبيّة والتمويل الخارجيّ للاقتصاد, وكيفيّة التعاطي مع موضوع الانفتاح المالي على الخارج, أو التحرير المالي.
وهناك مسألتان في موضوع الإصلاح المالي يمكن أن تختصر بهما عمليّة التشخيص للوضع المالي المحليّ واقتراحات الحلول المترتبة على ذلك. وتتناول المسألة الأولى دور القطاع المصرفي المحلي وكفايته في تعبئة الادّخار الوطني لتمويل الاستثمار الإنتاجي. أمّا المسألة الثانية فتتناول العلاقة الّتي ينبغي أن تقوم بين القطاع المالي المحليّ وبين الخارج, أي بكلام آخر مدى انفتاح الأسواق الماليّة المحليّة على الأسواق الخارجيّة وتأثّرها بها.
وتنطلق الإجابة على هذه الأسئلة من تقويم مدى قابليّة الجهاز المصرفي الوطني للعب دوره في تمويل الجهد الإنتاجي. وتتفاوت أسباب عدم القابليّة أو عدم القدرة على لعب هذا الدور بين بلد وآخر. فهي قد تعود لتخلف بناه, ولاعتماد سياسة القمع المالي أو سياسة الفوائد المنخفضة التى يأخذ بها, ما يجعله غير قادر على جذب المدّخرات الوطنيّة مقدمة لوضعها بتصرف المؤسّسات الإنتاجيّة. كما قد يكون السبب عدم رغبة القطاع المصرفي في تحمّل مخاطر التمويل الطويل الأجل الذي تتطلّبه الاستثمارات الإنتاجيّة, وتفضيله الاقتصار على العمليّات المصرفيّة ذات المردود السريع ونسبة المخاطر الأقل.
ويتّفق الكثيرون على أن الحاجة في سوريا هي للخروج من سياسة القمع الماليّ, أي من سياسة الفوائد السلبيّة على المدّخرات, وعلى الحاجة إن لم يكن لتخصيص القطاع المصرفي السوري أو أجزاء منه بهدف تحسين فعاليّته, فعلى الأقلّ لتحديثه وزيادة فعاليته, ليتاح له مواكبة حاجات نموّ الاقتصاد السوري. كما يتّفق على أن الحاجة هي أيضًا لخلق مؤسّسات جديدة تغطّي النقص القائم في مجال تعبئة الادّخار الوطني لتأمين حاجات الاستثمار.


أمّا بالنسبة للبنان, فالمسألة لا تتناول كفاءة القطاع المصرفي بقدر ما تتناول دوره الناقص في تعبئة الادّخار الوطني والأجنبي لتحقيق مهام الاستثمار الإنتاجي. ويجسّد هذا النقص حالة إخفاق للسوق بالفعل. وعلى عكس سوريا, فإنّ المشكلة فيه تختصر بارتفاع الفوائد, المرتبط بانفتاح كبير على الأسواق الماليّة الخارجيّة وعلى تدفّقات الرساميل من الخارج. لكنّه يتماثل مع سوريا في الحاجة إلى تطوير مؤسّسات وأدوات ماليّة تجعل القطاع المصرفيّ الوطني يلعب دوره في تمويل الاستثمارات الإنتاجيّة.
ومن جهة ثانية, فانه إذا كان التساؤل بالنسبة لسوريا يطرح من وجهة نظر مدى فاعليّة التحرير الماليّ, وهل يكون جزئيا أو انتقائيا, أو يكون بالتحرير الكامل للأسواق الماليّة, وإلى أيّ مدى يحقّق هذا أو ذاك مهمّة التمويل للتنمية على الوجه الأفضل, فإنّ الأمر يطرح في لبنان من وجهة مغايرة تمامًا, أي من وجهة الدور الغائب للدولة في تأمين التسليف الإنتاجي, كجواب على إخفاق السوق في هذا المجال. والسؤال الّذي يطرح بالنسبة للبنان أيضًا هو هل سيبقى من دون مصرف حكومي لتمويل الاستثمار والاستثمار الصناعي بوجه خاص. علمًا أنّ بعض الدول التي نجحت بتحقيق تنمية صناعيّة فعليّة ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير, أي بدأت بتأميم قطاعاتها المصرفيّة.
وفي مطلق الأحوال, فإنّ المطلوب من الإصلاح المالي في لبنان هو الوصول إلى حالة يعمل فيها القطاع المالي تحت مظلّة السياسة الصناعيّة.
4- ­ يمكن الاستفادة بشأن إعادة تحديد دور الدولة والقطاع العام ضمن إطار ستراتيجيّة تصنيع بغاية التصدير من النماذج الموجودة. ويمكن عرض المقاربات المختلفة لهذا الدور مقدّمة لاستخلاص أيّ منها هو الأفضل لجهة إنجاح عمليّة التنمية. وتتناول المقارنة ثلاثة مقاربات لهذا الدور, على الأقلّ.
وأوّل هذه المقاربات هي مقاربة البنك الدولي لدور الدولة في التنمية. وقد شهدت هذه المقاربة تطوّرًا خلال العقدين الأخيرين. وقد أخذ البنك الدولي ومؤسّسات بروتون وودز بالمقاربة الاقتصاديّة النيو­ليبراليّة خلال عقد الثمانينات وطبّقوها في إطار سياسات التصحيح الهيكليّ الّتي اقترحت لدول العالم الثالث. وكانت النقطة الرئيسيّة فيها تحجيم دور الدولة وتخفيض تدخّلها في النشاط الاقتصادي, انطلاقًا من التقويم السلبي لهذا الدور ومن التشخيص والمعاينة لإخفاقات الدولة Government failures. ثمّ شهدت مقاربة البنك الدولي لدور الدولة تطوّرًا منذ بداية التسعينات. وكان الدافع لذلك, القراءة الجديدة التي أخذ بها لدور الدولة في النموذج الشرق­آسيوي. وقد نتج عن هذه القراءة إقرار بفعاليّة دور الدولة الشمال­شرق آسيوية في التنمية. وسمح ذلك باعتماد صيغة نظرية معدّلة للمقاربة الّتي يعتمدها البنك الدولي, بشأن دور الدولة في التنمية, أطلقت عليها تسمية المقاربة اللّيبراليّة المعتدلة, أو المقاربة “الوديّة تجاه قوى السوق”.
إلاّ أنّ هذا التطوّر على صعيد النظريّة لم يتبعه تغيير في الاقتراحات التي يصوغها البنك الدولي في ميدان السياسة الاقتصاديّة. وقد بقيت هذه الأخيرة تنصّ على التعويل بالكامل على قوى السوق ورفض تدخّل الدولة. وإذا كان البنك الدولي بقي يفضّل الحلّ اللّيبرالي, ولو أنّ تجربة دول شمال­شرق آسيا تثبت العكس, فذلك لعدم ثقته بإمكانات الدولة في العالم الثالث وعدم ثقته بقدرتها على القيام بأعباء التنمية. وقد بيّن إصراره على اعتماد المقاربة اللّيبراليّة في مجال السياسة الاقتصادية, عن قناعته بأنّه إذا كان لا بدّ من الاختيار بين السوق أو الدولة, فالأوّل يبقى أقلّ الخيارين سوءًا. وضمن هذا الإطار بقي البنك الدولي يقترح عدم اعتماد سياسات صناعيّة, والاقتصار على منافع اقتصاد السوق لعدم ثقته بالدولة.
أمّا المقاربة الثانية لدور الدولة فهي تلك الّتي اعتمدتها دول أوروبا الشرقيّة إبّان المرحلة الانتقاليّة إلى اقتصاد السوق في نهاية عقد الثمانينات. وقد سبقت الإشارة إلى أنّ هذه المقاربة جسّدت الطرح النيو­ليبرالي السائد في ذلك الحين, والّذي يقوم على اعتماد حريّة التبادل بالكامل ورفض أيّ دور تدخلي للدولة في النشاط الاقتصادي. وكانت النتيجة أنّ الدول المعنيّة فشلت في تحقيق ما تصبو إليه, أي في إعادة هيكلة اقتصاداتها, مقدّمة للحاق بالدول الصناعيّة الغربيّة ومشاركتها في منافع الاندماج في السوق الدوليّة.
وتبقى المقاربة الثالثة وهي الّتي يمكن تصنيفها تحت عنوان الدولة التنمويّة.developmental state ويمكن أن نجد في الدولة الشمال شرق آسيويّة نموذجها الأكثر اكتمالاً. وتتميّز بخاصيتين رئيسيتين يجسّدهما أوّلاً, اعتناقها لمبدأ الكفاية في اختيار النخب الإداريّة المولجة بإدارة مشروع التنمية méritocratie, وثانيهما أخذها بحدّ من السلطويّة autoritarisme.

ويعتبر أصحاب الطرح البنيوي أنّ اعتماد نموذج الدولة التنمويّة يتطلّب توفّر عناصر ثلاثة, يتناول أوّلها ميدان الأفكار, أي وجود قناعة مشتركة لدى النخب الاجتماعيّة بأنّ الحل لا يكون بالتعويل كليا على قوى السوق, وثانيها, استقلاليّة الدولة عن القوى الفاعلة ومجموعات الضغط في المجتمع, ليتاح لها لعب دورها التنمويّ خارج تأثير هذه الأخيرة, وثالثها, توفّر المقدرة التقنيّة لديها لصياغة مشروعها التنمويّ ووضعه موضع التنفيذ.
أمّا بالنسبة للقطاع العام ومؤسّساته, فقد ركّزت المقاربة اللّيبراليّة على ضرورة تخصيصه كشرط لتفعيله. في حين اظهرت تجارب أخرى, امكانية تفعيل مؤسّسات القطاع العام الإنتاجيّة عبر إعادة تحديد أهدافها وإيجاد حوافز لدى القائمين عليها ومنحها استقلاليّة في القرار تترافق مع رقابة عليها وتقويم لكفاءتها, ينطويان على المعاقبة أو المكافأة, تبعًا للنتائج المحققة.
وتشكّل جملة هذه العناصر ما يفترض توفّره لإعادة تحديد دور الدولة والقطاع العام في كلّ من لبنان وسوريا, ضمن إطار ستراتيجيّة “توجّه نحو الخارج” وتصنيع بغاية التصدير.
5- ­ ويمكن أن نختم العرض حول السياسات المطلوبة ضمن إطار ستراتيجيّة التصنيع بغاية التصدير, بالإشارة إلى المبادئ الّتي يفترض أن تحكم تعاطي كلّ من البلدين مع الاتفاقيّات الاقتصاديّة الخارجيّة المعروضة عليهما. وأوّل هذه الاتّفاقيّات تلك الّتي يتطلّبها الانضمام إلى منظّمة التجارة العالميّة. وثانيها اتّفاقيّة الشركة مع الاتّحاد الأوروبي. وثالثها الاتّفاقيّات الّتي تؤسّس لقيام تكتّلات اقتصاديّة بين دول الجنوب, ومنها مشروع التكتّل الاقتصادي اللّبناني­السوري.
وتشكّل عمليّة الانضواء في إطار منظّمة التجارة العالميّة تحدّيًا لأيّ بلد من بلدان العالم الثالث. فهي تستلزم منهم تخفيض التعريفات الجمركيّة الّتي يعتمدونها وإزالتها في وقت لاحق, وإزالة القيود من غير فئة الرسوم على مبادلاتهم, والقبول بقواعد أكثر إلزامًا لهم في مجالات الخدمات وأنظمة الاستثمار والملكيّة الفكريّة. وهي باختصار تفرض نظمًا انضباطيّة قاسية على دول العالم الثالث تجعلها غير قادرة على اعتماد سياسات صناعيّة وتجاريّة ناشطة تتيح لها تنفيذ ستراتيجيّات التصنيع بغاية التصدير خاصّتها.
أمّا بالنسبة لسوريا ولبنان, فثمّة أمر مؤكّد, وهو أنّ انضواء سريعًا من قبلهما في المنظّمة يرتّب عليهما أعباء وكلفة صافية أكبر من المنافع المنتظرة. وذلك لضعف البلدين أمام المنافسة العالميّة.
لكن ما ينبغي أن يحدّد علاقة البلدين بالغات الجديدة, هو تمكّنهما من الاستمرار باستخدام كلّ الوسائل الممكنة في ميداني السياسة الصناعيّة والتجاريّة لإنجاح ستراتيجيّة التصنيع بغاية التصدير خاصّتهما.
أمّا بالنسبة لاتّفاقيّة الشركة مع أوروبا المعروضة على البلدين, فهي تبدو, وبكلّ المعايير, أكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لهما. ويشكّل الاتّحاد الأوروبي الشريك التجاري الأوّل لسوريا كما للبنان. أي أنّ أسواق الاتّحاد الأوروبي تأتي في المرتبة الأولى كمصدر لواردات كلّ من البلدين وكسوق يستوعب جزءًا من صادراتهما.
لكن موقف كلّ منهما من اتّفاقيّة الشراكة لا ينبغي أن يستند إلى واقع المبادلات الحالي المشار إليه, بمقدار ما ينبغي أن يحدّده مدى ما توفّره هذه الشركة من إمكانات لتعزيز وترسيخ نموّهما القائم على ““التوجّه نحو الخارج”“ والتصنيع بغاية التصدير. ويشكل هذا النموذج من الاندماج شمال­جنوب, الّذي يعبّر عنه مشروع الشراكة عنصرًا جديدًا في الواقع الدولي. وهو في الحقيقة مطلب لدول الجنوب, لأنّه يعزّز قدرتها على اجتذاب الاستثمارات من دول الشمال, ويعزّز صادراتها إليها.
أمّا بالنسبة للتكتّلات الاقتصاديّة بين دول الجنوب, التي يمثل مشروع التكتّل اللبناني­السوري قيد الإنشاء واحدًا منها, فإن النظرية التقليدية والمحدثة للتكتلات الإقليميّة تتيح حصر منافعها لكلّ من المشتركين فيها.
وتتيح النظريّة التقليديّة إبراز المنافع الديناميكيّة لهذه التكتلات. وتتجسّد هذه المنافع أولاً, بتعزيز المنافسة ضمن إطار هذه التكتلات. الأمر الذي يشكل دافعًا لدى المؤسسات الإنتاجية القائمة لتطوير تقنياتها وتحسين فعاليتها كرد على ازدياد المنافسة


[1] أنظر Hazem Beblawi,”The rentier state in the Arab world,"Arab Studies Quarterly, Vol. 0, n. 4, 1987.

أنظــــر أيضاً: Michel Chatelus, “Revenus pétroliers et développement: leçons de l’expérience du monde arabe”, Revue Tiers-Monde, n. 107, juin-septembre 1986.

[2] أنظرEconomist Intelligence Unit, Country profile: Syria ,2000, p (22)

[3] أنظر Abdelkader Sid Ahmed, Economie politique de la transition dans les pays en développement: le cas de la Syrie, éd. Publisud, Paris, 1996, p. (177)

[4] المصدر نفسه, ص (179).

[5] أنظر المصدر نفسه, ص (179) وin,Huda Hawwa,” Linkages and constraints of the syrian economy”
Choueiri N. (ed.) , State and society in Syria and Lebanon, univ. of exeter press,1993 p.(146)

[6] نقلا عن Economist Intelligence Unit, “Country report: Syria”, 1998-1998 ,

[7] وهي تقديرات اوردتها النشرة الفصلية لمصرف لبنان, عدد كانون الاول1981, ص (8) و(9), وتناولت عام 1979. ويمكن مقارنة هذا الرقم بحجم المساعدات الرسمية التي استفادت منها سوريا خلال السنة ذاتها.

[8] أنظر,An Nahar Arab Report and Memo, 26 april, 1982, p. (5)

[9] أنظر بخصوص أرقام العائدين:

 Diwan I., Squire L., Economic development and cooperation in the middle east and north africa", World Bank, Discussion Papers Series, Nb. ,9, nov. 1993

 أما عدد الناشطين في لبنان, فقد بلغ عام 1987, 932 ألف شخص, بحسب دراسة:

R. Kasparian, A. Baudoin, La population déplacée au Liban 1975-1987, Beyrouth, univ. St Joseph, 1992.

[10] أنظر: Kasparian R., L'inflation est-elle importée?, Bulletin Trimestriel de la Banque du Liban, n. 13, 1982.

أنظر أيضاً, Volker Pertes, The syrian economy in the 1980s, Middle East Journal, Vol. 46, N. ,1, winter 1992, p. (39)

[11] أنظر, M. Chatelus, Revenus pétroliers...المذكور سابقا, ص (661).

[12] أنظر, J. Delacroix, The distributive state in the world system, in Studies in Comparative International Development, fall ,1980, p. (14)

[13] Giacomo Luciani, Allocation versus production states: a theoretical framework, in Beblawi, Luciani (eds.) , The rentier state in the arab world, Croom Helm, 1987, p. (70)

[14] المصدر نفسه, ص (72). عام 1979, مثلت الهبات 40,9% من مجمل الدخل, ومثل انفاق الدولة 38,8% من الناتج الداخلي. أما عام 1981, فكانت النسب على التوالي: 30% و 38,1%.

[15] أنظر, M. Chatelus, La croissance économique: mutation des structures et dynamisme du déséquilibre, in La Syrie d'aujourd'hui, éd. du CNRS, Paris ,1980, p. (256)

[16] نقلا عن EIU, Country report:Syria المذكور سابقا, ص ( 20).

[17] وهو يساوي: سعر الصرف الاسمي للعملة (أي 1500 ل. ل. مقابل كلّ دولار, أو 53 ل. س. مقابل كلّ دولار) x مؤشر اسعار السلع غير القابلة للتبادل الدولي / مؤشر اسعار السلع القابلة للتبادل الدولي. وحين يرتفع هذا المؤشر خلال حقبة ما, فذلك يعني: 1) ان اسعار السلع غير القابلة للتبادل الدولي قد ارتفعت أكثر من اسعار تلك القابلة للتبادل الدولي؛ 2) ان سعر الصرف الاسمي للعملة الوطنية قد شهد تحسنا, أو انه قد جرى رفعه.

[18] أنظر, W. M. Corden, Booming sector and Dutch disease economics: survey and consolidation, Oxford Economic Papers, 36, 1984.
 A. Sid Ahmed, Du Dutch disease a l'OPEP disease: quelques considération théoriques autour de l'industrialisation des pays exportateurs de pétrole, Revue Tiers-Monde, n. 112, oct.-dec. 1987.
 M. Roemer, زDutch disease in developing countries: swallowing bitter medicine, in Matts Lundhal(ed.) The primary sector in economic development, London, Croom Helm, 1985.

[19] أنظر بخصوص مسؤولية سياسة الانفاق العام عن نشؤ حالة ““مرض هولندي”“ في لبنان خلال حقبة ما بعد الحرب: البر داغر, ““مقاربة بنيوية للسياسة الصناعية في لبنان”“, مجلة الدفاع الوطني اللبناني, العدد 30, تشرين الاول 1999.

[20] أنظر, A. Sid Ahmed, Economie politique... المذكور سابقا, ص (205) و (206).

[21] أنظر, Bichara Khader, Structures et reformes agraires en Syrie, Magreb/Machrek, sep.-oct., 1974.

[22] أنظر, عبد القادر النيال, ““الانفتاح الاقتصادي في سوريا لماذا؟ .. والى أين؟”“ دراسات عربية, 1998,

 ص (71)؛ أنظر ايضا, H. Hawwa,”Linkages and المذكور سابقا, ص (86)"..

[23] أنظر, H. Hopfinger, Step by step to an open economic system: Syria sets course for liberalization, British Journal of Middle Eastern Studies, Vol. 23, nb. 2, 1996, p. (185)

[24] أنظر, E. Longuenesse, Syrie, secteur public industriel: les enjeux d'une crise, Magreb/Machrek, jui.-sep. 1985.

[25] أنظر, M. Chatelus, المصدر المذكور سابقا, ص (250).

[26] أنظر, عبد القادر النيال, ““الانفتاح ...”“ المذكور سابقا, ص (70).

[27] أنظر, Volker Perthes”The syrian private industrial and commercial sectors and the state” International Journal of Middle East Studies, Vol. 24, 1992, p. (215)

[28] أنظر, H. Hawwa, المصدر المذكور سابقا, ص (90).

[29] بين عامي 1970 و1980, سيزداد عدد العاملين في الادارة العامة والقطاع العام من 136 ألف إلى 475 ألف شخص. أنظر,

 Volker Perthes, Stages of economic and political liberalization in Syria in Eberhard Kienle (ed.), Contemporary Syria: liberalization between cold war and cold peace, British Academic press, Univ. of London, 1994, p. (158)

[30] أنظر, عبد القادر النيال, المصدر المذكور سابقا, ص (73).

[31] أنظر, M. Chatelus, المصدر المذكور سابقا, ص (245).

[32] أنظر, V. Perthes, The Syrian... المذكور سابقا, ص (46).

[33] أنظر, Nabil Succar, The crisis of and syria's plan for reform in E. Kienle(ed.) , Contemporary Syria... المذكور سابقا, ص (32).

[34] أنظر, V. Perthes, Stages المذكور سابقا, ص (61).

[35] أنظر, H. Hawwa المذكور سابقا, ص (89).

[36] أنظر, A. SidAhmed, المذكور سابقا, ص (189).

[37] أنظر,Sylvia Polling, Investment law no 10: Which future for the private sector? in E. Kienle, Contemporary Syria... p. (19)

[38] EIU (97-98) المذكور سابقًا ص (31).

[39] أنظر, EIU, Country profile, 2000 المذكور سابقا, ص (12) و(13).

[40] EIU (97-98) , ص (17).

[41] أنظر بخصوص تنظيم القطاع الزراعي,

 F. Métral, Le monde rural syrien a l'ère des reformes (1958-1978) ", in la Syrie d' aujourd' hui, CNRS, 1980

 وعدنان شومان, ““الاقتصاد السوري وآليات السوق”“ دراسات عربية, أيلول, 1998.

[42] أنظر, EIU (97-98)

ص (22) ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية UNIDO) ), ““الصناعة السورية والمستقبل”“, ورقة عمل للمناقشة في ندوة الصناعة السورية والمستقبل, دمشق, 13ـ14/4/1997, 55 صفحة, ص (15).

[43] المصدر نفسه, ص (7) و(8).

[44] المصدر نفسه, ص (22).

[45] المصدر نفسه ص (41). تجدر الإشارة أيضًا إلى أن 23% من سكّان سوريا يعملون في قطاع الغزل والنسيج وفي زراعة القطن.

[46] أنظر, A. SidAhmed المذكور سابقًا ص (220).

[47] نقلاً عن économiques du monde Images ص (282), انظر النهار, بتاريخ 31/1/2000.

[48] نقلاً عن مدير مكتب الاستثمار في رئاسة الوزراء, المستقبل, 26/2/2000.

[49] تقرير للـ A.F.P. , نداء الوطن, 14/3/2000.

[50] تشرين, بتاريخ 13/3/2000.

[51] تشرين, بتاريخ 8/4/2000.

[52] أنظر, راتب الشلاح, ““ القطاع الخاص في سوريا: الواقع والآفاق”“, محاضرة في كليّة الاقتصاد بجامعة دمشق في 24/11/1999, 25 صفحة, ص (10) و (11).

[53] أنظر, نبيل سكّر, ““الإصلاح الاقتصادي في سوريا”“, ندوة الثلاثاء الاقتصاديّة, 23/3/2000, نشرت مقتطفات منها في البعث بتاريخ 24/3/2000.

[54] أنظر, ““قراءة في المحور الاقتصادي والإداري في كلمة الرئيس الأسد أمام مجلس الشعب”“, البعث الاقتصادي, بتاريخ 7/3/2000.

[55] انظر, النهار, بتاريخ 26 نيسان 2000.

[56] أنظر, A. Amsden, J. Kochanowics, L. Taylor, The market meets its match: restructuring the economies of eastern Europe, Havard univ. press, 1994, p. (2)

[57] أنظر, H. Hopfinger المذكور سابقًا, ص (190).

[58] أنظر, A. Sid Ahmed, ص (287).

[59] أنظر, A. Amesden, The market... المذكور سابقا, ص (7).

[60] انظر بخصوص المعطيات المتعلقة بحقبة 1950­1975 :

Albert Dagher, L'Etat et l'économie au liban: action gouvernementale et finances publiques de l'Indépendance a 1975, Centre d'Etudes et de Recherches sur le Moyen-Orient Contemporain, Beyrouth 1995, 222 pages.

[61] المصدر نفسه, ص (77­81).

[62] انظر André Chaïb, Determinants of lebanese exports, 1951-1974", Bulletin Trimestriel de la Banque du Liban, n. 17, 1980.

[63] انظر , N. Khalaf, G. Rimlinger, The response of Lebanese Labour Force to Economic Dislocation, Middle Eastern studies, vol, 18, July, 1983, p (803)

[64] انظر, Albert Dagher, Instabilité monétaire et stratégies spéculatives: l'exemple de la livre libanaise, Cahier Monnaie et Financement, Lyon, 2, n 21, 1992, pp (175-195)

[65] كلّ الأرقام الخاصة بحقبة 1982­1990, مأخوذة من التقرير السنوي لمصرف لبنان, 1989, و Eco-chiffres (1986 ,,1987 1989), والتقرير السنوي لغرفة تجارة بيروت لعام 1990, ومنشورات صندوق النقد الدولي:I.F.S وD.O.T.S لأعوام 1988 و1991.

[66] اسكندر مكربل ومكرم صادر, ““مشكلات الإقتصاد اللبناني الرئيسية : وجهة نظر في الأسباب وإتجاهات الحلول, النهار 24 و 25 آذار, 1999.

[67] انظر, Charbel Nahhas, Economie financiére et immobiliére au Liban", Lettre d'information - CERMOC, n. ,12 ,2000, p (33)

[68] انظر, ““برنامج عمل الحكومة للتصحيح المالي”“, وزارة المالية, ربيع 1999, ص (5).

[69] وقد باتت المنشآت القائمة تتيح انتاج 2,315 ميغاواط عام 1998. أنظر, EIU, Country profile:Lebanon, 1999-2000, p (13)

[70] أنظر, رفيق الحريري, الحكم والمسؤولية : الخروج من الحرب والدخول في المستقبل, الشركة العربية المتحدة للصحافة, 1999, ص (30).

[71] انظر, ““ برنامج عمل ...”“ المذكور سابقاً, ص (23).

[72] المصدر نفسه, ص (21).

[73] قدر حجم تحويلات العاملين في الخارج عام 1998 بـ 2653 مليون دولار. أنظر, EIU, Country profile: Lebanon المذكور سابقاً, ص (29).

[74] ينبغي مقارنة هذا الرقم بحجم الواردات في سوريا, الذي بلغ اعلى مستوى له عام 1994, ومثل ما يوازي 4,6 مليار دولار. أنظر, EIU, Country..., 2000 المذكور سابقا, ص (26).

[75] أنظر,John Waterbury, The long gestation and brief triumph of import substituting industrialization, World development, vol. 27, no,2 ,1999 p (335)

[76] ويعبر عنها بالمعادلة التالية: قيمة الصادرات / قيمة الواردات. ويعني التدهور ان على الدول النامية ان تزيد صادراتها باستمرار ليتاح لها الحصول على نفس الكمية من الواردات.

[77] أنظر, H. Guillen Romo, De la pensée de la CEPAL ou néo-libéralisme, du néo-libéralisme au néo-structuralisme: une revue de la littérature sud-américaine, Revue Tiers-Monde, no 140, oct.- dec., 1994.

[78] أنظر, B. Balassa",Outward orientation” in H. Chenery, T.N. Srinivasan (eds.) , Handbook of development economics, Elsevier science publishers, B.V., 1989 p. (1649)

[79] المصدر نفسه, ص ( 1659).

[80] H. Burton, Import substitutrion, in H. Chenery, T.N. Srinivasan (eds.), Handbook

... المذكور سابقاً, ص (1614).

[81] Sid Ahmed ص (53).

[82] ­ أنظر, Sid Ahmed المذكور سابقاً, ص (24), و

Amsden, Taylor, The market... المذكور سابقاً, ص (5).