الجيش والمجتمع

التزام واستدامة يجذبان المنظمات الدولية
إعداد: ندين البلعة خيرالله

«الالتزام المُطلق» هو عنوان ثابت يرافق أي مهمة تنفّذها المؤسسة العسكرية، أو أي مشروع تتولاه أو أي قدرة تعمل على تطويرها مرحبة بالمسؤولية وعاملة على ديمومتها. هذه هي حال مختلف الوحدات في الجيش، والتي يُشكّل فوج الأشغال المستقل نموذجًا لها. فعقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب ٢٠٢٠، أخذ على عاتقه مسؤولية حماية الممتلكات الثقافية، وراح يسعى جاهدًا إلى تعزيز قدراته وحرفية عناصره في هذا المجال. بعد ذلك أنشأ الفوج قدرةً لحماية هذه الممتلكات في حالات الطوارىء CPP –Culture Properties Protection، واستتبعها بإنشاء «مركز تدريب حماية الممتلكات الثقافية والاستجابة للطوارئ» CPPER وغرفة المحاكاة التابعة له، وبذلك حجز لبنان لنفسه مكانًا كرابع دولة في العالم تؤسس هذه القدرة ضمن القوى المسلّحة.

 

وها هو الفوج يشكّل اليوم محطةً للاجتماع السنوي لأهم الجمعيات الدولية G-HeP المتخصصة في هذا المجال، وهي تضم ثماني مؤسسات من الولايات المتحدة الأميركية J.M.Getty Institute وWhiting foundation، ومن ألمانيا Henkel institution Gerda، ومن المملكة العربية السعودية Jameel organization، ومن فرنسا ALIPH foundation، ومن المملكة المتحدة The British Council. كذلك، شاركت من النمسا Cultural Emergency Response - CER، التي تُعنى بحماية الممتلكات الثقافية، وذلك بالتعاون مع جمعية «بلادي» - الشريك الأساسي لفوج الأشغال في هذه المهمة. حضر الممثلون عن هذه الجمعيات إلى لبنان، ليعاينوا بقعة العمل التي أتوا إليها مباشرةً عقب الانفجار (منذ سنتَين تقريبًا)، فدُهشوا بالتقدّم المُحرَز في هذا المجال... بيروت لم تعُد كما كانت، والفوج انتقل إلى مستوى آخر!

 

وجه آخر للبنان

اختير مركز CPPER داخل الفوج لاستضافة اجتماع العام الحالي، وهو الاجتماع غير الافتراضي الأول بعد جائحة كورونا في بيروت، خصوصًا بعد أن أسهمت الجمعيات المذكورة أعلاه في دعم الجهود التي آلت إلى حماية المباني الأثرية في المدينة بعد انفجار المرفأ. وقد حضرت الجمعيات الدولية إلى لبنان لمعاينة مكان العمل بعد حالات الطوارئ، وللتعرف على مركز التدريب في فوج الأشغال، وهو فريد من نوعه في المنطقة، والوحيد المؤهل للتعاون مع المنظمات العالمية في التدريبات التي تُعنى بحماية الممتلكات الثقافية.

«وجود هذه المنظمات الدولية في الجيش يكشف عن وجه لبنان غير المعروف عالميًّا»، تقول السيدة جوان فرشخ بجالي، مديرة جمعية بلادي والمسؤولة عن مكتب CER في لبنان. وهي تشير إلى أنّ التجربة اللبنانية في الاستجابة لانفجار المرفأ تحوّلت إلى حالة تُدرَس وتُدرَّس، ومن أهم عناصرها الجيش ودوره في هذه المهمة، خصوصًا وأنّ عمله لم يقتصر على هذه المهمة فحسب، بل حقق استدامة لمتابعة المشروع وتطويره وتعزيز القدرات المرتبطة به.

وتشرح السيدة جوان أنّ الكلام وحده عن هذه القدرات التي باتت موجودةً عند الجيش، وعند فوج الأشغال المستقل تحديدًا، لا يكفي ليصدّق من يسمع أنّ الجيش، في ظل الأزمات التي يعانيها، ما زال مستعدًّا لتطوير قدراته في مجال قد لا تعدّه معظم الكيانات من الأولويات. وحين يعاين المعنيون هذه القدرات عن قُرب ويتعرفون إلى الفوج وما حققه، يُذهَلون ويُبدون كل الاحترام والتقدير لهذا الجيش الذي أبقى حماية الممتلكات الثقافية ضمن لائحة أولوياته، رغم المهمات المتشعبة والكثيرة التي ينفّذها!

 

مثال يُطبَّق دوليًّا

قائد فوج الأشغال المستقل، العقيد الركن يوسف حيدر، يوضح أنّ ما جذب الدول والمنظمات الدولية لزيارة لبنان والفوج تحديدًا، هي هذه الحالة التي أنشأها الجيش اللبناني عقب انفجار المرفأ، والقدرة التي بات يملكها لمواجهة أي حالة طوارئ مستقبلية، والاستدامة في التدريب. ويقول: «إنّها حقًا قيمة مُضافة وفخر لنا أن تأتي دول العالم لتستفيد من حالتنا كمثالٍ يُطبَّق في بلدان أخرى».

ولكن كيف نشرح للناس عن هذه العلاقة بين الجيش وحماية الآثار؟

يؤكد العقيد الركن حيدر أنّ الجيش هو دائمًا رأس الحربة في حالات الطوارئ، يستجيب لحاجات شعبه ويهبّ إلى مساعدته. عقب الانفجار، وفي ظل الأزمات الحالية التي تعصف بلبنان، بات الجيش معنيًّا بكثيرٍ من تفاصيل حياة الوطن. هذا الأمر أنشأ علاقة أقوى مع المجتمع المدني، وخصوصًا الجهات التي تتدرب مع الفوج في مجال حماية الممتلكات الثقافية، من الدفاع المدني، والصليب الأحمر، والمديرية العامة للآثار، إلى الجامعات اللبنانية، وحاليًّا نعمل مع الإنتربول من أجل مكافحة تهريب ثروتنا الثقافية.

 

شهادات نعتزّ بها!

جال ممثلو المنظمات الدولية الثماني في أرجاء فوج الأشغال المستقل، واطّلعوا على كل التحديثات التي أجراها لتعزيز قدراته، وغادروا وفي نفوسهم دهشة وتقدير لما حققه الجيش في ظل هذه الظروف الصعبة، من استدامة وتطوّر.

 

مثال يُحتذى به بين كل جيوش العالم:

أبرز ما لفت البروفيسور Antoine Wilmering من معهد Getty، الرؤية الطموحة لدى العقيد الركن حيدر، وبُعد نظره، وهذا ما تجلّى بشكلٍ خاص في العمل على إعادة تدوير المواد واستخدامها، وهذا الأمر أي الاستدامة، يحظى بأهميةٍ متزايدة في الحياة عمومًا. وأبدى دهشته بالقدرة والمعرفة والمهارات التي يملكها الفوج للاستجابة بسرعةٍ ومرونة لأي حالة طوارئ، «وهذا أمر لم نسمع بوجوده في أي جيش آخر. أضف إلى ذلك تأسيسه لمركز تدريب فريد من نوعه وفاعل لاكتساب الخبرات التدريبية، ليشكّل الجيش اللبناني مثالًا يُحتذى به بين كل جيوش العالم».

 

انفتاح على الموارد الدولية:

تقول Vanessa Fraga Prol من جمعية CER: «كنا هنا في شهر شباط الماضي، مع مؤسسة Prince Claus، وقد كان تطوير هذه القدرة في بداياته. وها نحن اليوم نرى هذا الطموح يتحقق ويصبح واقعًا، إذ بات لدى الجيش اللبناني وحدة تعمل على حماية الممتلكات الثقافية في حالات الكوارث والطوارئ. ومن اللافت كيف تمكّن هذا الفوج أن يفتح حوارًا مع القطاع الثقافي، ويطور رؤيته لبناء استجابة طارئة تهدف إلى حماية الممتلكات الثقافية». وأشادت بالتعاون القائم بين مؤسسة أمنية كالجيش والمنظمات والجمعيات المدنية، وخصوصًا بهذا النموذج الرائع الذي تقدّره باقي الدول وتثمّنه كحالةٍ للاستفادة من دروسها. وهذا التعاون والشراكات هو ما يمد الجيش بالموارد والمعارف، ويسهّل تنفيذ المهمة بالشكل المطلوب. وأكّدت أنّ «تعاوننا مع الجيش سيؤمّن له المعرفة، كما الانفتاح على شبكة واسعة من الموارد الدولية، وما يحفّزنا على ذلك هو هذا الشعور بالفخر الذي لمسناه لدى الجيش لتحمّله هذه المسؤولية الجديدة».

 

فرص ملهمة للمستقبل:

أهم ما لفت William Reynolds من مؤسسة Kaplan J.M. هو تمكّن الفوج، وفي ظل كارثة كانفجار المرفأ، من التحرك سريعًا لوضع تصوّر للاستجابة، وتوسيع مجال عمله ليشمل حماية الممتلكات الثقافية، الأمر الذي لم يكن مُدرجًا ضمن مهماته في الأصل. وكناشطٍ في هذا المجال، فرح بمعاينة الجهود المبذولة لإعطاء أولوية لموضوع حماية الممتلكات الثقافية. ويقول: «بصراحةٍ، لم أشهد أبدًا، طوال مسيرتي المهنية وعملي مع مختلف دول العالم، هذا الدور المهم والأساسي للجيش. وانطلاقًا من خبرتي يمكنني أن أؤكّد أنّ هذا المثال اللبناني لافت جدًّا ويستحق أن يشكل نموذجًا يُطبّق عالميًّا».

أما أهم رسالة سيحملها معه إلى بلاده والدول الأخرى التي يعمل معها، فمفادها أنّه من وسط هذا الدمار وهذه الكارثة التي ألمّت بشعب لبنان، وُلدت فرص وتعاون ملهم للمستقبل، ونشأت قدرة يجدر بنا مشاركتها مع العالم أجمع. وهو يدعو كل مَن انخرط في هذه المهمة والمسؤولية إلى الشعور بالفخر لما أُنجز حتى الآن، آملًا أن يتعلّم الجميع من المثال الذي يشكّله لبنان والذي يعطينا حافزًا لتعزيز جهودنا في مجال حماية هويتنا الثقافية.

نعم... إنّه جيشنا الذي لا ينفكّ يجذب العالم إليه، مشكّلًا مثالًا يُحتذى في كل ما يقوم به. كيف لا وهو الذي يرحّب بكل مهمة تُضاف إلى مسؤولياته، منفتحًا على المجتمع المدني، ومدعّمًا شعار الشرف والتضحية والوفاء، بمبدأَي الالتزام والاستدامة!