بيئتنا بيتنا

التسبيخ من المطبخ إلى التربة…
إعداد: باسكال معوّض بو مارون

النفايات العضوية فرصة للزراعة والاستدامة البيئية

عندما تتكدّس النفايات وتتعثّر الخطط، يبرز التسبيخ كحلٍّ بيئي فعّال وسهل التطبيق، قادر على تحويل ما نرميه يوميًا إلى موردٍ حيوي يعزّز صحة التربة ويحّد من التلوّث ويدعم الزراعة. هذا الخيار الذي بات يفرض نفسه على الأجندة البيئية في لبنان، لا يحتاج إلى تقنيات معقّدة أو ميزانيات ضخمة، بل يتطلّب وعيًا مجتمعيًا، ومبادرات محليّة مسؤولة.

التسبيخ، ببساطة، هو عملية طبيعية لتحويل النفايات العضوية إلى سمادٍ طبيعي (سواد)، من خلال التحلّل البيولوجي الذي تقوم به الكائنات المجهرية، والحشرات، والديدان، تمامًا كما يحدث في الطبيعة. وحين تُفرز النفايات العضوية من المصدر، أي في المنازل أو المطاعم أو الأسواق، يصبح بالإمكان تحويلها إلى سمادٍ غني يعزّز خصوبة التربة ويقلّل من تلوث المياه والهواء. أما حين تُجمع هذه النفايات عشوائيًا وتُضغط في الشاحنات قبل فرزها كما يحصل في العديد من المناطق، فإنّ السماد الناتج عن معالجتها يكون ملوّثًا ومعرّضًا لأن ينقل المعادن الثقيلة والمواد السامّة إلى البيئة وسلسلة الغذاء.

 

منافع تبدأ من البيت
تكمن أهمية التسبيخ في انطلاقه من المصدر، إذ يؤدي ذلك إلى تقليص حجم النفايات المرسلة إلى المطامر أو المحارق، ويحدّ من انبعاث الغازات الدفيئة كالميثان وثاني أوكسيد الكربون الناتجة عن التحلّل اللاهوائي. كما أنّ خفض عدد شاحنات نقل النفايات يقلّل من التلوث الهوائي، في حين يسهم السماد العضوي في تحسين قدرة التربة على امتصاص الكربون ومقاومة التصحّر.
في الزراعة، تؤدّي المواد العضوية دورًا أساسيًا. فالتربة الصحّية تحوي ما بين 5 و8 في المئة من المادة العضوية، وهي نسبة يمكن بلوغها عبر استخدام السماد الطبيعي، الذي يحسّن بُـنية التربة، ويُقلل من استهلاك المياه، ويمنح النباتات مناعة طبيعية بفضل تعزيز البيئة الحاضنة للكائنات المجهرية المفيدة.
كذلك يمكن للسماد العضوي أن يحلّ مكان الأسمدة الكيميائية أو على الأقل يخفف من استخدامها، كونه يُبطئ تسرّب العناصر الكيميائية ويحمي المياه الجوفية من التلوّث. ولا تقتصر فوائده على الزراعة فقط، بل إنّه يفتح بابًا نحو نظام بيئي أكثر توازنًا وصحة.

 

أنواع التسبيخ في لبنان
تُمارَس في لبنان عدة أنواع من التسبيخ، في المناطق والبلديات والمزارع، وتتم على الشكل الآتي:

  • التسبيخ البلدي (الحراري): تتبنّاه بلديات مثل بكفيا، بريح، الحازمية، كوكبا، الضاحية، وبيت مري، وتُعالج فيه كل أنواع المخلّفات العضوية، بما فيها الطعام المطبوخ واللحوم. يُنفَّذ هذا النوع في درجات حرارة تصل إلى 80 درجة مئوية، ما يسهم في القضاء على الجراثيم والبذور الضارّة.
  • التسبيخ المنزلي (البارد): يُعمَل به في المنازل ويقتصر على النفايات النباتية غير المطبوخة مثل بقايا الخضار والفواكه، تفل القهوة، وأكياس الشاي. أمّا اللحوم، ومشتقات الحليب والخبز، فلا يُنصح بإدخالها ضمن المواد المراد تسبيخها لما تسببه من روائح كريهة وجذبٍ للحشرات. لاقى هذا الأمر تشجيعًا كبيرًا من بلديات مثل سلعاتا، بشعلي، الدامور، والقرعون، إلى جانب عدد من المدارس والجامعات والجمعيات البيئية.
  • التسبيخ الزراعي: يُعتمد في المزارع لمعالجة روث الحيوانات ومخلّفات تشحيل الأشجار، ويُعدّ وسيلة فعّالة لحماية التربة والمياه الجوفية، والحد من الحرائق الناتجة عن الأعشاب الجافة.

يُذكر في هذا السياق، أنّ ضمان نجاح التسبيخ وفعاليته واستدامته، يستوجب توافر شروط معينة، أبرزها وجود مصدر مستدام للنفايات العضوية، وموقع يتمتع بالتهوئة الجيدة، إضافة إلى التوازن بين المكوّنات الجافة والرطبة، والرعاية المستمرة عبر التقليب والترطيب.

 

تجربة حيّة في قلب بيروت: من الحديقة إلى الناس
في حديقة اليسوعيين في الأشرفية، حيث تتعانق الفسيفساء البيزنطية القديمة مع شجر السرو المعمّر، نشأت تجربة بيئية نموذجية تنبض بالحياة. بالقرب من مكتبة السبيل، وتحت ظلال البوغانفيليا، يتم تحويل النفايات العضوية إلى تربة حيّة، ضمن مشروع تسبيخٍ جماعي يقوده ناشطون وسكان محليون.
توضح الناشطة البيئية أمال فرام، أنّ المبادرة أطلقتها مجموعة «لقاء جنينة اليسوعية» بالتعاون مع جمعية «السبيل» وبدعمٍ من بلدية بيروت في ربيع 2023، وهي تهدف إلى «معالجة النفايات العضوية بطريقةٍ مستدامة، من دون أي إزعاج بيئي أو بصري»، مشيرةً إلى أنّ عملية التسبيخ تتم إمّا من خلال كومةٍ على الأرض، أو عبر مستوعبات خاصة مصمّمة من قبل شركة «كومبوست بلدي»، ومزوّدة بنظام تهوئة ذاتي وفلتر فحمي لامتصاص الروائح.
وتضيف أنّ الحرارة داخل هذه المستوعبات ترتفع إلى نحو 50 درجة مئوية، ما يسمح بـ «بسترة» السماد. وعند امتلاء المستوعب، يُـترك السماد مدّة شهرٍ أو شهرين لينضج، ثم يُنظَّم يوم مفتوح للمواطنين لتفريغه وغربلته. وبينما يُوزّع قسم منه على المشاركين، يُستخدم قسمٌ آخر في الحديقة، ويُباع جزءٌ صغير للإسهام في تغطية التكاليف.
وتلفت فرام إلى أنّ السكان يخضعون لتدريب على الفرز ويشاركون في التعبئة والصيانة، ما يُحوّل المبادرة إلى تجربة مجتمعية شاملة. كما تحوّلت الحديقة إلى منصّة توعوية تستضيف ورش عمل ولقاءات بيئية تجمع الخبراء والناشطين والجمعيات، بهدف نقل التجربة إلى حدائق ومؤسّسات أخرى. وتشدّد على أنّ دور جمعيتَي «اللقاء» و«السبيل» يقتصر على الدعم والتوجيه، لا التنفيذ، حرصًا على تمكين المجتمعات المحلية من تولّي زمام المبادرة بأنفسها.

 

خيار عملي قابل للتنفيذ
في بلدة بيت مري، يشكّل مركز معالجة النفايات بإشراف المهندس البيئي زياد أبي شاكر نموذجًا متقدّمًا في الإدارة المستدامة. ويوضح أبي شاكر أنّ المشروع يعتمد مبدأ «لا حرق، لا طمر، لا هدر»، مستندًا إلى تحليلٍ دقيق أظهر أن نحو 78% من نفايات البلدة عضوية.
يطبّق المركز تقنية التسميد الهوائي داخل أوعية مغلقة، تُعالج فيها النفايات على مدى 72 ساعة بدرجات حرارة تصل إلى 75 درجة مئوية. بعدها، تُنقل إلى مرحلة إنضاج تمتد إلى 60 يومًا قبل أن تُغربَل وتُعبّأ في أكياسٍ مصنوعة من موادٍ معاد تدويرها.
ويؤكّد أبي شاكر «أنّ التحاليل المخبرية أثبتت أنّ السماد المنتج يصنّف من الدرجة الأولى وفق معايير الاتحاد الأوروبي، مشيرًا إلى أنّه يُعرف بين المزارعين بـ «الذهب البنّي»، لتركيبته الغنية التي تشمل سماد الدجاج وروث الخيول والبقر، إلى بقايا الأسماك، وأوراق التبغ، والألياف النباتية، بالإضافة إلى مكوّنات عضوية أخرى تُستخدم في مختلف أنواع الزراعة. وفي ظل الأزمة الاقتصادية، يشكّل هذا السماد المحلي موردًا حيويًا، يعزّز الإنتاج الزراعي ويوفّر بديلًا فعّالًا عن الأسمدة الكيميائية، كما يؤسّس لسيادة غذائية وبيئية».
في المحصّلة، لم يعد التسبيخ ترفًا بيئيًا، بل ضرورة وطنية، خصوصًا في ظل التحديات الراهنة. فهو خيار عملي قابل للتنفيذ، يربط بين المطبخ والتربة، ويجمع بين وعي الفرد ومسؤولية المجتمع. وبين تكدّس النفايات وفرص المعالجة المستدامة، يفتح التسبيخ بابًا واسعًا للتغيير، يبدأ من حبّة خضار ذابلة، وينتهي بترابٍ ينبض بالحياة من جديد.


خطوات التسبيخ المنزلي

  1. اختيار الحاوية المناسبة:
  • يُفضّل أن تكون مثقوبة للتهوئة.
  • توضع في مكان مظلّل وجيّد التهوئة (مثل الشرفة أو الحديقة أو الزاوية الخلفية للمطبخ).
  1. تجميع المواد العضوية:
  • مواد «خضراء» (رطبة): بقايا خضار وفواكه، تفل قهوة، أكياس شاي، قشور البيض.
  • مواد «بنّية» (جافة): ورق كرتون ممزّق، مناديل ورقية، أوراق شجر يابسة.
  1. تحقيق التوازن:
  • يُفضل خلط جزءَين من المواد البنية مع جزء واحد من المواد الخضراء لتجنّب الروائح والرطوبة الزائدة.
  1. التقليب والتهوئة:
  • يُقلّب الخليط مرّة أو مرّتين أسبوعيًا ليدخل الأوكسجين ويسرّع التحلّل.
  1. المراقبة:
  • إذا ظهرت رائحة كريهة، أضف مواد بنية (جافة).
  • إذا بدا الخليط جافًا جدًا، يمكن رش القليل من الماء.
  1. المدة:
  • بعد 6 إلى 8 أسابيع (حسب الحرارة والمواد)، يتحوّل الخليط إلى تربة داكنة، ذات رائحة ترابية لطيفة. لا تضع في الحاوية:
  • اللحوم والأسماك.
  • الحليب ومشتقاته.
  • الطعام المطبوخ أو الدهني.
  • البلاستيك والمعادن.
    ينتج عن التسبيخ المنزلي سمادٌ عضوي يمكن استخدامه في تغذية تربة النباتات المنزلية، الحدائق والشرفات، والأراضي الزراعية الصغيرة.

 

مرجع: www.lb.undp.org