آفاق العلوم

الجليد حفظها سالمة 5300 سنة
إعداد: رويدا السمرا

  Science & Vie Juin 2005

الإسم: أوتزي أو أيبرناتوس؛ الجنس: ذكر؛ الطول: 160 سنتمتراً؛ الوزن: 45 كيلوغراماً؛ العمر: 5300 عام؛ سبب الوفاة: إختراق جسم حاد للرئة اليسرى. هذه هي مادّة التحقيق "الجنائي" الذي يقوده منذ خمسة عشر عاماً، فريق من الخبراء المكلّفين بتشريح جثّةٍ بُعثت من العصر الحجري. ولم يُغلق الملف بعد...

مومياء من العصر الحجري تكشف اسراراً...

في ذلك الزمن عرفوا وخز الابر واحذية  متطورة للسير على الثلج.


مفاجأة... من العصر الحجري

في أعالي جبال الآلب، وعلى الحدود بين النمسا وإيطاليا، كانت مفاجأة غير سارّة تنتظر الزوجين الألمانيين أيريكا وهلموت سيمون، اللذين كانا يتمتّعان بالهواء المنعش والمناظر الطبيعية الرائعة. فقد وقع نظر الزوجين فجأة على جسم غريب الشكل، يطوف في حفرةٍ على سطح المياه الجليدية. والأغرب من الجسم الغريب، كانت الأشياء الغريبة التي تحيط به: قوسٌ تعود الى العصور القديمة ومجموعة من السهام. ولم تنته المفاجأة عند هذا الحد، لأن الجسم لم يكن جثّة رجل عادي حاصرته الثلوج فقضى من الصقيع، بل جثّة إنسان من العصر الحجري، عمره من عمر الزمن.
هكذا كانت ولادة أقدم "مومياء" بشرية عرفها العالم، فأطلق عليها النمساويون إسم اوتزي، نسبةً لوادي أوتزال، وأعطاها الفرنسيون لقب "أيبرناتوس". ومنذ ثلاثة عقود والمومياء أوتزي تعيش بين العلماء، يفحصونها بالأشعة، يفكّكون رموز جيناتها، يفتّشون بين أغراضها، يرقّعون ثيابها، يطاردون العث المعشّش في طيّاتها، يحلّلون محتوى أحشائها، يفحصون أسنانها ويدقّقون في أنواع غبار النبات العالق في ثيابها، وقد تحوّل العمل المخبري الى تحقيق بوليسي مشوّق، ينقُض بعض التأكيدات التاريخيّة، ويسمح بمعرفة الكثير الكثير عن حياة "أيبرناتوس"، هذا الشاهد الآتي من عمق الزمن، وعن نهايته المأساوية. وقد أظهرت مثلاً آخر الفرضيّات في هذا المجال، أن ما كان يبدو حتى الآن حذاءً من الجلد وقِطَعاً مسطّحة من الخشب، هو في الواقع خَفٌّ  متطوّر للسير على الجليد، كان يُعتقد أن الإنسان لم يعرفه قبل ألف وثمانمئة عام.


أيبرناتوس بثيابه و... بأعضائه الحيوية

أكثر ما يحيّر العلماء في ضيفهم القادم من العصر الحجري، هو عمره المديد. فصحيح أنه ينزل الآن في مختبر للآثار جنوب إيطاليا، في غرفة مبرّدة تنخفض حرارتها الى ست درجات تحت الصفر، ويصل معدّل الرطوبة فيها الى ثماني وتسعين في المئة، لكنه بقي قبل ذلك، محافظاً لمدة خمسة آلاف وثلاثمئة عاماً، على مظهر تحسده عليه مومياء الفراعنة العظماء. وقد خرج أيبرناتوس من سباته الألفي محتفظاً بثيابه كاملة وأيضاً بكامل أعضائه الحيوية،  وهي بحالة ممتازة. ولا بد أن مدفن الجليد، الذي بقي فيه آلاف السنين، هو الذي حفظه من آكلي الجِيَف، ومن الأجسام الميكروية التي تسبّب  تفسّخ الجثة وانحلالها. ولم يكن العمر الاسطوري للمومياء ايبرناتوس هو السؤال الوحيد الذي حيّر علماء الآثار. فقد تبعته أسئلة أخرى كثيرة: من كان هذا الرجل؟ من أين أتى؟ ما هي الحضارة التي كان ينتمي اليها؟ ما هي الأمراض التي كان يعاني منها؟ واخيراً ما هي الظروف التي قضى فيها؟
بعد فحوصات أجريت على هيكله العظمي  الذي يزن أربعة عشر كيلوغراماً تمكّن العلماء من تحديد قياسات أيبرناتوس: الطول 1.60 متراً، الوزن 45 كيلوغراماً. والملاحظ أن الرجل مثله مثل معاصريه، لم يكن ضخم البنية لكن عضلاته كانت مفتولة.

 

هل كان يعالَج بواسطة الوخز بالإبر؟

يشير الحمض النووي لمومياء العصر الحجري أنه كان أوروبيّاً، الأمر الذي يبدو بديهياً بالنظر إلى اكتشافه في اوروبا، لكن الاحتمال كان وارداً أن يكون "أيبرناتوس"، من شعوب الشرق الأوسط المقيمة قريباً من الجنوب. وكان "أيبرناتوس" في سن السادسة والأربعين عندما قضى، وهو عمر متقدّم بالنسبة لعصره. هذا، وقد توصّل العلماء خلال متابعتهم الأبحاث، الى تحديد مكان ولادته في بلاد التيرول. اما الوسيلة لذلك فقد كانت عبر فحص معادن الرصاص والسترونتيوم وغازات الأوكسجين والكربون الموجودة في عظامه وأسنانه، ومن ثم مقارنتها بعشرات النماذج المستخرجة من التربة والماء في المنطقة.

 

كان يأكل الخبز.

يؤكد جيم ديكسون عالم النبات الأثري في جامعة غلاسكو في المملكة المتحدة، أنه تمكّن من تحديد المكان الذي قضى فيه أيبرناتوس نهاره الأخير. كيف ذلك؟ لقد وجد ديكسون الكثير من بقايا النبات والحشائش التي بقيت عالقة في ثيابه. وحيث أن هذا النوع من النبات موجود بكثرة في المنطقة، فالمكان الذي يفرض ذاته هو واحد: جنوب وادي أوتزال، حيث اكتشف علماء الآثار بقايا منشآت بدائية من العصر الحجري. وقد أيّد نظرية عالم النبات الأثري في تحديده للمكان الذي قضى فيه أيبرناتوس، زميله في علم النبات، الذي "نقّب" في أمعاء  "أيبرناتوس"، فوجد فيها كميّة وافرة جداً من بوغ غبار الطلْع نبتة الزان، الذي كان يدخل عرضاً في جسم صاحبنا من العصر الحجري بينما كان يأكل أو يشرب. والجدير بالذكر ان نبات الزان موجود بشكل حصري في جنوب جبال الآلب حيث مكث "أيبرناتوس" مع مجموعة قروية.  هذا وقد تبيّن أن ثلاثة أرباع البقايا النباتية التي وُجدت في أمعائه هي من الحبوب التي لا بد أن إنسان ذلك العصر، كان يتناولها كنوعٍ  من الخبز اليومي. وهكذا فإن كل الدلائل تشير الى أن "أيبرناتوس" عاش في سن الرشد ضمن مجموعة، اختبرت زراعة البقوليّات، كما تشير الفحوصات التي أجريت لأسنانه المبريّة والمسطّحة من جراء طحن الحبوب.

أما في ما يتعلّق بنشاطات "أيبرناتوس"، فالأمور تصبح هنا أقل وضوحاً. والشيء الوحيد الثابت في هذا المجال هو أنه لم يكن من الخيّاطين البارزين في مجتمعه. فبقدر ما تبدو مُتقَنة، حياكةُ ملابسه بواسطة أوتارٍ حيوانية، بقدر ما تدلّ طريقته في ترقيع ثيابه بخيوط عشبيّة، على انعدام مهارته في هذا  المجال. ومن جهة ثانية، هل كان "أيبرناتوس" يشتغل بالمعادن  يا ترى، نظراً لاحتواء ما تبقى من شَعره، على كميّات وافرة من النحاس والزرنيخ؟
ليس بالضرورة يقول أحد علماء الفيزياء، فقد تكون كميّة النحاس والزرنيخ آتية من الموقع الذي وجد فيه، حيث تنمو فطريّات على الصخور، تحتوي على هذين المعدنين. وفي كل الأحوال، فإن الفأس النحاسية التي وُجدت بالقرب من "أيبرناتوس"، تُظهر أن إنسان ذلك العصر، قد عرف معدن النحاس، الأمر الذي جعل علماء الآثار يضيفون خمسمئة عام الى عمر اكتشاف هذا المعدن في إيطاليا. إكتشاف آخر لم يكن متوقّعاً، وهو مجموعة من الأعشاب الطبيّة، كان يحملها "أيبرناتوس"، وُجدَت من ضمنها كميّة من الفطر المجفّف الذي يخفّف من أعراض المرض الطفيلي الذي كان يعاني منه هذا الرجل في أمعائه. والجدير بالذكر أيضاً الأوشام الفريدة من نوعها التي وجدت على جسمه، وهي أوشام ليست للزينة فقط إذ أن ثمانين بالمئة منها، تمّ نقشه في مواضع من الجسم لا تزال تُعتمد حتى اليوم في التأبير، أو المعالجة بوخز الإبر. الأمر الذي يعيدنا ألفي سنة الى الوراء في مجال الاستخدام الأول لعلاجٍ بديل عرفه "أيبرناتوس" ومعاصروه.

 

جريمة قتل متعمَّدة!

من أجل معرفة كل شيء عن الحال الصحيّة لرجل العصر الحجري "أيبرناتوس"، قبل ستّة أشهر من مماته، استفاد فريق العمل من الظُفر الوحيد في يده الذي نجا من التفسّخ والتحلّل، وقد زيّحته خطوطٌ دقيقة تشير الى الأمراض التي كان يعاني منها: فبالاضافة الى التهاب في أمعائه، كان "أيبرناتوس" يعاني من اعتلال مفصلي في الرقبة والورك، والرجلين والقدمين، وهو مرض شائع بين سكان الجبل.
الاّ أن "أيبرناتوس" لم يمت من الشيخوخة أو من أي مرض أصابه، ولا حتى من الجوع أو التعب. فالبحث في أمعاء هذا الأخير أظهر أن آخر وجبتين تناولهما قبل أن يموت، كانتا واقيتين لإبعاد أي خطر للإصابة بفقر الدم، لاحتوائهما على موادٍ مغذّية كالحبوب ولحم الغزال البرّي. فما الذي سبب موته  إذن؟ يؤكّد الفريق الباحث أن "أيبرناتوس" تعرّض للقتل  المتعمّد. فمن اين جاؤواا بهذا الاستنتاج؟ في معرض فحصهم للجثة، وجد الباحثون أثراً لضربة سهم، بالقرب من الرئة اليسرى. من هنا جاء السيناريو الآتي: عندما اخترق السهم الكتف اليسرى، قطع أحد الشرايين، وأدّى ذلك الى التهاب بكتيري قاتل. وهذا ليس كل شيء. فقد توصّل العلماء الى التأكيد بأن هذه الجريمة التي حدثت منذ خمسين قرناً، وقعت أحداثها في فصل الربيع، بين شهري أيار وحزيران. فحبيبات البوغ التي وُجدت على المومياء، كانت سليمة وكاملة الأمر الذي يدلّ على أن "أيبرناتوس" قد التقطها مباشرة بعد الإزهار قبيل فصل الصيف.

 

من قتله ولماذا؟

من قتل "أيبرناتوس" ولماذا؟ كل شيء يشير الى أنه كان مهدّداً. فقد كشفت الفحوصات عن وجود جرح عميق بطول 3.7 سنتمتراً في اليد اليمنى وأضرار في إحدى العظام، وكسرٍ في المعصم، سببها سكين حاد أصابته قبل موته بثلاثة أو ثمانية أيام. وقد تبيّن من تحليل بقايا الدماء الموجودة على السهام التي حملها "أيبرناتوس"، أنها تعود الى شخصين مختلفين، بينما يعود الدم الذي يلطّخ سكينه، إلى شخص ثالث، والدم الموجود على معطفه إلى شخص رابع. وخلاصة القول أن "أيبرناتوس" ربما دخل في نزاع مسلّح عنيف، إشترك فيه عدّة فرقاء، أدّى به في النهاية إلى الإصابة برمحٍ أودى بحياته. يبقى أن فريق البحث قد رجّح أن "أيبرناتوس" لم يكن رجلاً من العامة، بل كان زعيماً أو على الأقل له شأنه في محيطه. فالفأس النحاسية التي كان يحملها ليست عادية، ولا بد أن يكون مالكها شخصاً مميّزاً.