شؤون دولية

الحرب الروسية – الأوكرانية كشفت ثغرات الدفاع الأوروبي

”القارة العجوز“ 27 جيشًا ومثلّث القوة ألماني – فرنسي – بولندي

 

تضم الصناعات الدفاعية الفرنسية نحو 2000 شركة متعددة الأحجام وتجني سنويًا نحو 30 مليار يورو، وتواجه نزاعات السيطرة الأميركية على الأسواق.
شكّل الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022 الشرارة الملتهبة داخل البيت الأوروبي، الذي شعر قادته فجأةً بأنّ طوفان النار يقترب من حافة أوطانهم، خصوصًا في ألمانيا ودول حوض البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، فضلًا عن بولندا التي لها تجارب مريرة مع قياصرة الاتحاد السوفياتي. هبّ الأوروبيون لمسح الغبار عن خطط دفاعية مشتركة قديمة، بعضها يرقى إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقرروا تخصيص صناديق بمليارات اليورو لاستنهاض صناعات دفاعية ملائمة لظروف المخاطر المستجدة.
في هذا السياق، لم تهدأ وتيرة الاجتماعات التعبوية في بروكسل، العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبي، كما في برلين وباريس ووارسو. ويرى الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون أنّ الخطر وجودي، وأنّ الاعتماد على مظلّة الحلف الأطلسي (الناتو) والغطاء الأميركي لم يعد كافيًا، ولا بدّ من هندسة جديدة للأمن الأوروبي. ولأنّ المصائب لا تأتي فرادى، فقد خرج الرئيس الأميركي العائد إلى المكتب البيضاوي في واشنطن، الرئيس دونالد ترامب، ليهدّد بالانسحاب من الناتو، ما دفع قادة القارة العجوز إلى استشعار خطرٍ داهم والتوجُّس من هواجس استراتيجية.
وقاد «صحوة السلاح»، بناءً على خططٍ دفاعية أوروبية ذات مصداقية، الثنائي الألماني – الفرنسي، المحرّك الفعلي للاتحاد الأوروبي، بالشراكة الطارئة مع بولندا التي أعادت صياغة معماريتها الأمنية لتماسّها الجغرافي مع غرب أوكرانيا، ولاحتضانها ملايين المهاجرين من مدن أوكرانية منكوبة. ويقول الرئيس ماكرون في حوارٍ مع صحيفة «فايننشال تايمز»: «إنّ قرار الرئيس ترامب بفصل أوروبا عن المظلّة الأميركية، يمثل صدمة كهربائية إيجابية تدفع الاتحاد الأوروبي إلى تسريع تحرّكه نحو المزيد من الاستقلالية الاستراتيجية…». فهل تنجح الدول الأوروبية الـ 27 في رفع التحدّي والتوجّه نحو «جيش موحّد» و«استقلال دفاعي» أم أنّها تبقى رهينة شروط الحليف الأميركي ومصالحه وتناقضاته؟

 

حرب بوتين على الأبواب
«إذا كانت أوروبا تريد البقاء والاستمرارية، فيجب عليها أن تتسلّح…» هذا الموقف الحاسم أطلقه رئيس وزراء بولندا، دونالد تاسك، أمام البرلمان الأوروبي في 22 كانون الثاني 2025، يوم تسلمت بلاده رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي. ويبدو أنّ قضايا الأمن والاستراتيجيات الدفاعية والإنتاج الحربي باتت، أكثر من أي وقت مضى، في طليعة الهموم والاهتمامات داخل مؤسسات الاتحاد والدول الأعضاء.
ويعبّر عن ذلك، الشعار الذي اعتمدته وارسو لرئاستها لـ«القارة العجوز»، وهو: «أمن أوروبا قبل أي شيء». ولا شك في أنّ الموقع الجغرافي لهذا البلد، على تماسّ مع أوكرانيا، وتَكبّده أهوال الاجتياح الروسي لأجزاءٍ منها، يدفعه إلى لعب دور «الدينامو» بالنسبة إلى هندسة منظومة أمنية جديدة واقتناء أحدث أنواع الترسانات العسكرية في البحر والبر والجو، فضلًا عن امتلاك مفاتيح الحرب السيبرانية وأدواتها، إلى الذكاء الاصطناعي والسيطرة على الفضاء. وتُلقّب بولندا بـ«التلميذ الشاطر» في أوروبا على مستوى التسلّح ونوعية جيشها ومنظوماتها الدفاعية، حتى أنّها باتت الضلع الثالث في مثلّث القوة الأوروبي، إلى جانب ألمانيا وفرنسا. ويذكّر قادتها باستمرار بأنّ «الحرب على الأبواب» وأنّ المخاطر تفاقمت وتفاعلت، وتحولت إلى كرة نار، لا سيما بعد عودة الرئيس ترامب وتهديداته بالانسحاب من الناتو، المظلة التقليدية لحماية أوروبا، مع نحو 200 طائرة أميركية من كل الطرازات تسهر على سلامة القارة العجوز وأمنها انطلاقًا من قاعدة رامشتاين الألمانية.

 

أمن القارة أميركي
ليس خافيًا أنّه لعقودٍ، كان حلف الناتو الضامن الديناميكي لأمن القارة الأوروبية. ومنذ تأسيسه، لعبت واشنطن دور المايسترو فيه، ليس فقط على المستوى المالي والعسكري واللوجستي، بل أيضًا من خلال نشر المظلّة النووية واستقطاب أدمغة التخطيط واستشراف الأحداث والتحولات. كما أنّ البنتاغون درج على تسديد 70 في المئة من إجمالي الإنفاق التشغيلي للحلف، ما منح واشنطن الموقع الأول في صنع القرارات العسكرية الكبرى في القارة الأوروبية. وتجلّى الدور الأميركي المهيمن على المقدرات الأوروبية، بشكلٍ خاص خلال الحرب الباردة حين نشرت آلاف الجنود ومئات المقاتلات وأنشأت عشرات القواعد الاستراتيجية، في كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا. واليوم، مدّت رقعة القواعد العسكرية إلى حوض البلطيق. وحدها فرنسا ما زالت ترفض أي انتشار أميركي على أراضيها. ويُجمع الفرنسيون على أنّ أميركا تتوسل حضورها العسكري الكثيف في القارة العجوز لضمان نفوذها السياسي والتحكّم في قرارات الاتحاد وتحديد أولوياته واستراتيجياته. وإذا كانت واشنطن تنفق سنويًا نحو 750 مليار دولار على مستلزمات دفاعها، أي ما يمثل 3.5 بالمئة من ناتجها المحلّي الإجمالي، فإنّ الإنفاق الأوروبي للدول الأعضاء في الناتو يصل كحدٍّ أقصى إلى 1.6 في المئة، ما يعكس عدم تكافؤ واضح دفع الإدارات الأميركية السابقة إلى الانتقاد المستمر.

 

الدفاع السيبراني.. ضيف جديد
تصدّر الرئيس دونالد ترامب جوق رؤساء البيت الأبيض الناقمين على الحلفاء الأوروبيين، متهمًا إياهم بالتقصير والتقاعس في الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه الحلف الأطلسي. وخلال حملته الانتخابية للعام 2024، رفع سقف مطالبه إلى مستوى غير مسبوق إذ اشترط تسديد 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل يتجاوز فاتورة الإنفاق الأميركي نفسه. وقال أمام جمهور من مؤيديه في ولاية أوهايو، «كيف لنا أن ندافع عن دول لا تدفع ما يتوجب عليها؟ وإذا لم يدفعوا، فليحموا أنفسهم، وأمنهم لا يعنينا…».
وأبعد من الموقف الساخن، تلمّس الخبير الفرنسي في الاستراتيجيات العسكرية، فرنسوا هيسبورغ (Francois Heisbourg) مشروعًا أميركيًا يقود إلى انقلاب في عقيدة المنظومة الأطلسية. ودعا دول الاتحاد الـ27 إلى استلال العبرة من مواقف الرئيس ترامب الانقلابية والشروع في خطط تسليحية تراعي التنسيق الجماعي والشراكة العملانية، مع رصد موازنات كفيلة بسدّ الثغرات الدفاعية.
وكانت فرنسا سبّاقة في هذا الإطار، إذ خطّطت لإنشاء صندوق إنفاق يبلغ 400 مليار يورو حتى العام 2030. وهي تسعى إلى تطوير قدراتها النووية وإنتاجها الحربي من خلال 200 شركة، إلى جانب توسيع قدراتها في الدفاع السيبراني. كما بدأت تعزيز صفوف عسكرييها فعليًا عبر تجنيد طاقات شبابية، في رهانٍ على أن تصبح القوة العسكرية الأولى في القارة العجوز.

 

مختبرات Saclay المستقبلية
في منتصف نيسان الماضي، كلّف وزير الدفاع الفرنسي Sebastien Lecornu، شركة «رينو» بإنتاج مسيّرات انتحارية – انقضاضية، مخصّصة للجيوش الفرنسية وللتصدي، في إطار تعزيز القدرات الهجومية الحديثة. وتحتفظ باريس بنحو 290 رأسًا نوويًا، ما يجعلها الأولى على مستوى الاتحاد الأوروبي في حقل الأسلحة الإشعاعية التي تشكل قوة ردع ضاربة. في السياق، أبلغت كل من برلين ووارسو العاصمة الفرنسية برغبتهما في التعاون النووي مع فرنسا والاستفادة من خبرتها في هذا المجال. وتتجه الأنظار إلى المعاهد البحثية العليا في حرم Saclay الجامعي، على بعد 20 كيلومترًا جنوبي باريس، وهو بمثابة وادي السيليكون الأميركي، إذ يضم مختبرات المستقبل المدنية والعسكرية التي تُعنى بتطوير تطبيقات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، فضلًا عن مفاهيم المنظومات الدفاعية الجديدة.

 

أول قاعدة ألمانية خارج الحدود
من جهته، يتطلّع المستشار الألماني الجديد فريدريك ميرتز إلى اقتفاء الخطوات الفرنسية وبناء قوة عسكرية متكاملة قادرة على الدفاع عن ألمانيا وعن حدود حلف الناتو الشرقية. وقد نسجت برلين تحالفات خاصة مع دول حوض البلطيق، وخصوصًا ليتوانيا، إذ احتضنت ضواحي العاصمة فيلنيوس أول قاعدة عسكرية ألمانية خارج حدود ألمانيا، في خطوة تمثّل تحوّلًا بارزًا في العقيدة الدفاعية الألمانية وبداية لتشكيل منظومة ردع أوروبية أكثر استقلالًا عن الولايات المتحدة والحلف الأطلسي.
واتضح من معلوماتٍ متطابقة، أنّ ليتوانيا تستثمر أكثر من مليار يورو في القاعدة، وهو أكبر استثمار دفاعي في تاريخها، فيما أنفقت برلين ما بين 6 و9 مليارات يورو لاستيعاب زهاء 5000 جندي وتغطية نفقات تشغيلية سنوية. ومن المنتظر أن تصل القاعدة إلى ملء قدرتها التشغيلية في العام 2027.
وفي السياق ذاته، أقرّ البرلمان الألماني مشروع إنشاء أول مجلس للأمن القومي لرعاية تنفيذ الاستراتيجيات الدفاعية – العسكرية ومتابعتها، وتطوير الشراكات الصناعية مع الحلفاء الأوروبيين. وتُنتج برلين الآن مع باريس مقاتلة المستقبل scaf، ومع كوبنهاغن وأوسلو غواصات غير نووية تمتلك نظامًا قتاليًا جديدًا يدعى «أوركا». والهدف من هذه الترسانة البحرية مواجهة الروس في أعالي البحار وأعماقها، خصوصًا بعد انضمام فنلندا والسويد إلى المنظومة الأطلسية.
ولا يقف الأمر عند حدود الغواصات فقط، إذ تسعى برلين إلى تحديث أسطولها البحري، ولا سيما فرقاطات «سارلاند» (F126 ) المخصصة للمهمات الخاصة، وذلك بالتعاون مع هولندا. ويعتمد الطراز الجديد على نظام «إيجيس» القتالي الأميركي، وعلى صواريخ ترويجية دقيقة التوجيه وقادرة على المناورة والتخفّي.

 

F-35أميركية لوارسو
كيف يبدو المشهد التسليحي البولندي الجديد على أساس أنّ وارسو هي الضلع الثالث في معادلة القوة العسكرية داخل الاتحاد الأوروبي؟
تقف القوات المسلحة البولندية على خط الدفاع الأول عن دول حلف الناتو، بامتلاكها أطول حدود مع بيلاروسيا أو روسيا البيضاء، أقوى حلفاء موسكو. ومنذ الشرارة الأولى للاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022، تحوّلت وارسو بحكم موقعها الجغرافي، إلى الممر الأكثر موثوقية لقوافل السلاح الغربي إلى كييف. لكنّ بولندا تطمح إلى ما هو أبعد من دور حارس ممرات السلاح، إذ تسعى لأن تكون رأس حربة الحلف الأطلسي في مواجهة روسيا، وهي تستضيف معسكرات تدريب لضباط أوكرانيين منذ عامين على الأقل، تشارك في عملية تدريبهم، قواعد أميركة وبريطانية في ضواحي وارسو وكراكوفيا.
وجدير بالذكر، أنّ الجيش البولندي يضمّ اليوم زهاء 602 ألف عسكري، يمثل نحو 202 ألف منهم النخبة الحديدية (قوات خاصة، مجوقلة، وتدخل سريع). وفي ترسانته تشكيلات متنوعة من المقاتلات الحديثة أميركية المنشأ بشكلٍ خاص. وهو يستعد لاستقبال سرب من مقاتلات F-35 الأميركية من الجيل الخامس. غير أنّ مقاتلة F-16 Falcon هي العمود الفقري في مخزونه القتالي، في مواجهة سوخوي 35 وميغ 29 من الطراز الرابع المحدّث. ووفق موقع Global fire، تمتلك بولندا نحو 612 دبابة قتال رئيسة، وتنشط في بناء فرقاطات حديثة عبر تحالف يضمّ شركة PEZ المملوكة للدولة، وأحواض بناء السفن العائدة أيضًا للدولة، خصوصًا في مدينة Gdansk الواقعة على البلطيق.
وتعقد وارسو شراكات تسليحية مع: كوريا الجنوبية، بريطانيا، فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية. ومع اشتداد الخطر الروسي على كييف، دعت وارسو الأميركيين إلى نشر أسلحة نووية على أراضيها.

 

سراب الجيش الموحّد
تنبّه الأوروبيون باكرًا إلى ضرورة إنشاء قوة دفاعية مشتركة للذود عن بلدانهم في ما لو تعرّضت لأيّ اعتداء، من دون استنفار مظلّة الحماية الأميركية. كان الخطر في البداية سوفياتيًا منذ الحرب الباردة، ثم تحوّل إلى روسي بعد العام 1990. وترقى محاولات بناء نواة جيش أوروبي موحّد إلى زمن الحليفين الفرنسي الجنرال ديغول، والألماني المستشار كونراد أديناور، وقد تكررت مرارًا مع العديد من المسؤولين، غير أنّها بقيت في خانة الحلم الذي ترافق مع وهن أو تراجع في فعالية الجيوش الأوروبية. وثمة أسباب عدة، داخلية وخارجية، بنيوية وتقنية، حالت دون بلوغ المعمارية الدفاعية الموحدة.
رغم ذلك، ارتسمت محاولات جادة وجديدة منذ خمسينيات القرن الماضي بقوة دفع من الشطر الغربي من ألمانيا. أولى المحاولات كانت معاهدة بروكسل (17 آذار 1948)، وضمّت: فرنسا، المملكة المتحدة، بلجيكا، هولندا ودوقية لوكسمبورغ، وتعكس المادة الرابعة منها اهتمامًا مبكرًا بإرساء تعاون دفاعي بين الدول الخمس الموقّعة عليها. والتقطت الولايات المتحدة رأس الخيط، وسرّعت وتيرة إنشاء حلف الناتو في 4 نيسان 1949، بمشاركة 12 دولة أوروبية، ثم كانت معاهدة باريس (27 أيار 1952) المؤسِّسة لـ«مجموعة الدفاع الأوروبية». رفض البرلمان الفرنسي المصادقة على هذه المعاهدة متذرعًا بمخاوف من فقدان السيادة. وأعيد العمل بإطار أمني جديد هو «اتحاد أوروبا الغربية» (23 تشرين الأول 1954)، وغابت فكرة الجيش الموحّد عن الرادارات الأوروبية، فيما تركّز العمل على المسارات الاقتصادية (الفحم والصلب)، إلى أن أيقظها من سباتها كلٌّ من الرئيس فرانسوا ميتران، والمستشار هلموت كول، فنجحا في العام 1984 في تشكيل «الفيلق الأوروبي» المكوّن من ألف جندي يتمركزون في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، واعتُبر نواة لقوة أوروبية موحّدة.

 

ارتهان للموارد الدفاعية الأطلسية
الواضح في سياق هذا التسلسل الزمني وجود قطبة مخفية أميركية لفت إليها عدد من قادة القارة، وفي طليعتهم الفرنسيون، أصحاب الحساسية المفرطة إزاء مفاهيم السيادة والاستقلالية والدفاع الذاتي خارج الاصطفافات والارتهانات. وتبدّى اللغم الأميركي الخفي بشكلٍ فاقع خلال نقاشات «برج بابل» الأوروبي حول مستلزمات «معاهدة أمستردام» للعام 1999 التي طرحت فرضية أنّ «الصياغة المتدرجة لسياسة دفاعية مشتركة قد تفضي إلى إقامة دفاع مشترك». يومها، انقسم الأوروبيون بين مؤيدٍ ومعارض. وإذ ركزت أطراف بقيادة فرنسا على الهوية الأوروبية، اعترضت أطراف أخرى على هذا المنحى، مدّعية أنّ أمنها ما زال مرتبطًا بحلف الناتو وبموارده العسكرية وتوجيهاته الاستراتيجية ودفق مسحه الاستخباري.
وبقي الحال من المحال حتى تشرين الثاني 2025، عندما دعا الرئيس ماكرون في خطاب شامل في جامعة السوربون الباريسية إلى تأسيس جيش أوروبي موحّد مستقل عن الناتو، وقدّم خطة عملانية لتشكيل فيلق قوامه 5000 عسكري، تدعمهم مقاتلات وسفن حربية ودبابات، غير أنّها لم تحصد إلّا موافقة 13 دولة من أصل 27، في طليعتها ألمانيا التي بدا مستشارها الجديد – ميرتز- متضايقًا من تصريحات الرئيس ترامب الفجّة حول الحماية الأطلسية للقارة العجوز.
وعلى الرغم من الجهود الماكرونية المتكررة، لم تتم ترجمة هذه المبادرات إلى استراتيجية أمنية أوروبية مستقلة. فالقارة ترزح، وإن في شكل غير مباشر، تحت وطأة الضغوط الناتجة عن «عقيدة الأمن القومي الأميركي» التي فرضت إجراءات وتدابير محددة على الأوروبيين على مستوى مواجهة روسيا في أوكرانيا. وكشفت هذه المواجهة عن قصور أو تقصير أوروبي فاضح وفادح، وارتهان «اتحاد الـ27» للقدرات الدفاعية الأطلسية. وتقود كل من بولندا ورومانيا ودول حوض البلطيق تيار الاصطفاف تحت الراية الأميركية على حساب مشاريع أوروبا.

 

خوف مستدام من الدبّ الروسي
هذا الركام من الإخفاقات في إنشاء جيش أوروبي موحّد، مردّه إلى حزمة من الأسباب والدوافع، أهمها غياب عقيدة عسكرية موحدة، وتحفّظ دول أعضاء أساسية تجاه مشروع استبدال المظلّة الأمنية الأميركية بمظلة دفاعية أوروبية ما زالت غير مكتملة المعالم، وفق ما يؤكد الخبراء والمعاهد البحثية. ويعزز الخوف من مفاجآت الدب الروسي مسار التوجه نحو العم سام الأميركي، كما هو حال بولندا ودول البلطيق والدول التي كانت خاضعة سابقًا لهيمنة القياصرة.
ولعل السبب الثالث الحاسم، يتمثل في انخراط عدد من دول الاتحاد في تحالفات ثنائية، على غرار باريس وبرلين، وهما كالتوأم السيامي داخل أروقة القارة. لذلك يرى المفوض السامي الأوروبي السابق، الإسباني جوزيف بوريل أنّ «الاتحاد هو نظام قوى منقسمة على ذاتها»، ما يؤدي إلى إشكالات وتعقيدات كبيرة تشل أو تكبّل عملية اتخاذ القرار ضمن مجموعة الـ27.
ونتيجةً لهذه الإخفاقات والنكسات، تراجعت فكرة «الاتحاد – النموذج» أو «الاتحاد – القدرة» لمصلحة تكتلات ومنظمات إقليمية لها وزنها على الساحة الدولية. يعزز هذا التراجع، البروز القوي للنزعات القومية والحركات الشعبوية، فضلًا عن الاختراقات الواسعة لأحزاب اليمين المتطرف، مثل «التجمع الوطني» الذي تتزعمه مارين لوبن في فرنسا، و«البديل من أجل ألمانيا» (AFD) و«الحزب من أجل الحرية» في هولندا و«حزب إخوة إيطاليا» الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوي وغيرها. هذه القوى تستقطب الناخبين تحت شعار الدفاع عن السيادة الوطنية، وعلى حساب المنحى الاتحادي المشكوك في تماسكه وفعاليته.
ويتوقف الخبير الفرنسي في استراتيجيات الدفاع الأوروبية باسكال بونيفاس عند تنوع التقاليد السياسية-العسكرية وتعددها لدى دول الاتحاد. وينعكس الاختلاف على المقاربات الدفاعية، سواء من حيث التخطيط الاستراتيجي أو نوعية المعدّات، وحتى التسلسل القيادي والتراتبية العسكرية، فلكل دولةٍ نموذجها الخاص، وعقيدتها، وهواجسها وأولوياتها. في فرنسا مثلًا، يتمتع رئيس الجمهورية بصلاحياتٍ هائلة في توجيه القوات المسلحة والموافقة المسبقة على خططها العملانية. أما في ألمانيا، فالبرلمان هو «المايسترو» الحاسم في إعطاء ضوء أخضر أو أحمر قبل الدخول في أي مغامرة عسكرية. وسط هذه التعقيدات والخصوصيات، ثمة أربع دول أوروبية تتبنى مبدأ الحياد، وهي النمسا، إيرلندا، مالطا وقبرص علمًا أنّ الأخيرة ليست عضوًا في الناتو.

 

كوابح بريطانية
لا يغيب عن بال الخبراء والباحثين الأوروبيين في برلين وباريس، كما في روما ومدريد، أنّ بريطانيا شكّلت على الدوام حاجزًا عاليًا أمام مشروع الجيش الأوروبي الموحّد. فمن منظور قادتها، يؤمّن الاتكاء إلى «صخرة» الولايات المتحدة و«جدار» الناتو مظلّة حماية وارفة الظلال لأمن القارة، ما جعل لندن تلعب دور الكابح لمسار البناء المشترك، مع الاستفادة القصوى من مزايا السوق الموحّدة، قبل منعطف «البريكست» وبعده. والدليل عدم انضمامها إلى منطقة اليورو، وحفاظها على عملتها الوطنية والبقاء خارج اتفاقية شنغن (shengen). ولعلّ المرأة الحديدية مارغريت تاتشر التي حكمت ما بين 1979و 1990، كانت من ألد أعداء الاتحاد الأوروبي، إذ عملت بحنكةٍ ودهاء على نسف فكرته وفلسفته التكاملية، وأشعلت حربًا باردة ضد باريس وبرلين بصفتهما «دينامو» و«حزام الدفع» في ميكانيكية جسم الـ27. وبادلتها فرنسا الميزانية العدائية ذاتها.
ويشير أحد كتّاب افتتاحية أسبوعية «لوبوان» لوك دو باروشيز (Barochez) إلى أنّ الجنرال ديغول، وقبل ميتران بسنواتٍ، رفع الفيتو في وجه بريطانيا يوم أرادت، في العام 1963 الانضمام إلى «المجموعة الاقتصادية الأوروبية لجني فوائد وأرباح، واعتبر أنّها غير مؤهلة للعضوية، وتكرر الأمر مع الحكومة العمالية في العام 1967، وكان الاعتراض الديغولي نفسه. ورفع الجنرال العملاق الصوت الهادر، مندّدًا بحكومات 10 داونينغ ستريت لأنّها تظهر عداءً متجذّرًا إزاء المشروع الأوروبي. ولم يُفتح الباب أمام انضمام التاج البريطاني إلّا بعد خروج ديغول من السلطة عقب استفتاء 1969. وهكذا أصبحت لندن عضوًا منذ العام 1973، وحتى انسحابها الكبير في31 كانون الثاني 2020.
منذ هذه اللحظة الانعطافية، حصل تقارب ألماني – فرنسي متقدّم. وفي أول زيارة له إلى قصر الإليزيه بعد انتخابه مستشارًا، في 6 أيار 2025، أكد فريدريتش ميرتز التزامه بناء قوة موحدة أوروبية والانفكاك عن الحلف الأطلسي والمظلة الأميركية، معلنًا موافقته على رصد 100 مليار يورو لهذا المشروع.

 

حجر الزاوية الألماني – الفرنسي
ثمّة من يتحدث عن انطلاقة جديدة للدفاع الأوروبي بعد قمة مدينة Toulon الفرنسية، التي جمعت في 27 – 28 آب الماضي بين حكومتي برلين وباريس برئاسة المستشار ميرتز والرئيس ماكرون، وبحضور ثلة من الخبراء والمستشارين الاستراتيجيين. ذلك أنّ التهديدات الجيوسياسية تتعاظم، والتهديدات الروسية تتفاقم، والدولة الأوكرانية تعاني صداعًا وتصدعات في خطط احتوائها للهجمات البوتينية. من هنا دعت قمة طولون إلى تطوير صناعة دفاع أوروبية، وإطلاق ورشة جيش أوروبي قادر على مواجهة موسكو وحماية الأوروبيين بشكلٍ سيادي ومستقل عن الولايات المتحدة الأميركية. وقد أسندت القمة الثنائية إلى فريق من القانونيين والمحللين الاستراتيجيين مهمة صوغ تصور جديد للسياسة الخارجية الأوروبية، من أولوياته تجاوز حالة الترهل والشلل الناجمة عن «قاعدة الإجماع» في القرارات الحساسة، واعتماد آلية بديلة تسمح بتحييد الدول الأعضاء التي تتهرب من تبنّي مواقف سياسية حاسمة، على غرار مالطا وقبرص وإيرلندا، فيما المجر تغرّد دائمًا خارج السرب الأوروبي، وتهادن إسرائيل واعتداءاتها. أما بولندا وإيطاليا ودول البلطيق والرباعي الاسكندينافي (السويد، الدانمارك، النروج وفنلندا)، فهي أكثر انشدادًا إلى لعبة الإيحاء الأميركية. لذلك لا يبقى في الساحة الأوروبية كلاعبين أساسيين سوى باريس وبرلين، تدعمهما كل من بلجيكا وهولندا والنمسا وسلافينيا وتشيكيا وسلوفاكيا. وقد تتغير لعبة الشطرنج السياسي، وفق سباق المصالح والتحالفات والتحوّلات. لكنّ الثابت هو البحث عن آلية تسمح باتخاذ قرارات سريعة وتشجيع الدول الأعضاء، التي تسخو في الإنفاق العسكري – الدفاعي، على غرار بولندا إذ إنّها تتصدّر الموقع الأوروبي الأول في مراكمة الأنظمة القتالية وترسانات السلاح، تليها إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وجميعها في الجوار الجغرافي الروسي المباشر. وهذا يعني أنّ البعبع الروسي سبب وجيه للتسلّح.

 

اندماج أم تعاون ظرفي؟
رشح في حصيلة المناقشات والمداولات والسيناريوهات التي يعود بعضها إلى بدايات الولاية الأولى للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أيار 2017- أيار 2022)، وزمن التفاهم مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (2000- 2018)، أنّ مشروع الجيش الأوروبي الموحّد «حلم بعيد المنال» كما جاء في الكتاب المرجعي عن الدفاع الأوروبي «عصر المواجهات» لـThierry De Montbrial، رئيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI). ولذلك استعاض عنه الثلاثي الفرنسي – الألماني – البولندي بشراكات عملياتية على الجبهات، الأمر الذي يفترض تنسيقًا عالي المستوى، وتوزيعًا للمهمات وتكاملًا في بلوغ الأهداف المحددة. وحسب De Montbrial، فقد راوحت الخطط الدفاعية بين صيغتين، الأولى هي الصيغة الاندماجية، والثانية هي الصيغة التعاونية أو التشاركية، على غرار ما هو قائم داخل حلف الناتو. في الحالة الأولى التي بدا أنّها صعبة التطبيق ميدانيًا، يُفترض إنشاء قوة عسكرية دائمة، تتكوّن من عناصر محترفة، ومزوّدة تجهيزات ومنظومات أوروبية. ووفق هذا التصوّر، تحلّ هذه القوة مكان الجيوش الوطنية، ما يعني دمجها في قالب عسكري واحد مع كل الهيكليات الرديفة الملحقة بها، مثل: إدارة الاستخبارات، الإمداد، الموارد، اللوجستية، التخطيط، والاستشراف. وهذا أمر شبه مستحيل في الظروف الراهنة، ولا تقبل به حتى أصغر دول الاتحاد، التي تُعرف بـ «ذات وزن الريشة» عسكريًا، على غرار مالطا واللوكسمبورغ وقبرص، وقريبًا جمهورية مولدافيا المرشحة للانضمام إلى مجموعة الـ27، لتصبح الرقم الـ28. فلا أي طرف، مهما كان وزنه وحجمه يقبل بالتخلّي عن جزء أساسي من سيادته، ويفتح خزائن أسراره وداتا معلوماته الاستخبارية أمام الآخرين. يُضاف إلى ذلك رفضٌ مبدئي للاندماج في صيغٍ عسكرية قسرية وبعيدة المدى. يمثل هذا المنحى دولة المجر، السويد واليونان، التي تطرح الحد الأدنى من التنسيق العسكري وشدّ الأحزمة أطلسيًا وأميركيًا. من هنا العمل منذ سنوات على الصيغة التعاونية – التشاركية التي تحظى بشبه إجماع بين دول الاتحاد.

 

فيالق التدخل السريع
يستند النموذج التعاوني كما حدّده De Montbrial في كتابه «عصر المواجهات» (2025) إلى قواعد وآليات واقية مع الحفاظ على أسس السيادة الوطنية. وفي جوهره إسهامات طوعية وشراكات عملياتية يتحكم فيها نذر المخاطر المحدّقة. فالدول المجاورة لروسيا تستشعر تهديدات مثل سيف ديمقليس، لا تعانيها البرتغال أو إسبانيا، على سبيل المثال، حيث الجغرافيا هي درع الحماية الأولى. من هنا تغلّب الخيار التعاوني على الاندماجي. ومنذ احتلال موسكو لشبه جزيرة القرم في العام 2014، قام تعاون عسكري ثلاثي صلب، ضمّ كلًا من ألمانيا، فرنسا، بولندا، مع مساهمة رومانية وبلطيقية. وشكّل هذا النموذج السيناريو الأقرب إلى «الجيش الموحّد». فتمّ إنشاء كتائب وأفواج سريعة الحركة، انتشرت في الخاصرة الشرقية للاتحاد الأوروبي والتحالف الأطلسي، من أستونيا شمالًا إلى بلغاريا جنوبًا.
كما أنّ موافقة على مفهوم الردع والدفاع عن القارة العجوز، ارتسمت العام 2020، وترافق ذلك مع صياغة وتبنّي طراز جديد من القوى في العام 2022، يمزج بين العمليات التقليدية والحرب الحديثة. ومنذ عشرة أعوام، تشكّل الفيلق الأوروبي للتدخل السريع Eurocorps، وأسهم الأوروبيون في تدريبه وإعداده لمهمات الالتحام مع القوات الروسية ذات كثافة النيران العالية. ومرّ هذا الفيلق بثلاث مراحل أو أطوار. الأولى طرأت عند نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي إثر اتفاق أرساه كل من الرئيس فرنسوا ميتران والمستشار الألماني هلموث كول. وكان الأمر عبارة عن نواة عسكرية صلبة تخلّت عن التسليح الثقيل لمصلحة عربات تسير على إطارات، على غرار عربة VAB الفرنسية، والهدف إسقاط القوات خلف خطوط العدو، ومن هنا الطابع الخفيف والحركي للتجهيزات. وتفرعت أربعة فيالق للتدخل السريع، أولها بريطاني، والثاني ألماني – هولندي، والثالث بولندي – دانماركي، والرابع فرنسي بنسخةٍ جديدة.

 

2030 موعد ”القوة الأوروبية“ الجديدة
تزامنت المرحلة الثانية مع منعطف العام 2000. وشهدت قوات التدخل السريع الأوروبية تدريبات قاسية، واكتسبت قدرة على مواجهة ثورات وانتفاضات وكمائن وألغام متفجرة. وفي ضوء حرب أفغانستان ومصاعبها، بات لتركيا فيلق مع بنية قيادية. وبدءًا من العام 2020، بات للفيالق الثلاثة الرئيسة وهي فرنسية، بولندية وألمانية، مهمات ردع كبرى بالتعاون مع هيئة الأركان الأطلسية. وفي قمة مولدافيا الثلاثية (26 آب 2025) التي حضرها الرئيسان الفرنسي والبولندي والمستشار الألماني، ثم في قمة مدنية طولون (27 – 28 آب 2025) تبلور مفهوم «القوة الجديدة» بمكوناتها البرية – البحرية – الجوية، وهي تنطوي على ولادة الطائرة الأوروبية المستقبلية SCAF، وعلى أساطيل هجومية بحرية، مع جيل من الغواصات النووية والتقليدية وبنى استخبارية متكاملة. وتم رصد الميزانيات اللازمة لهذا التحديث الذي لعب دور «المهندس» و«العراب» فيه رئيس أركان الجيوش الفرنسية، الذي انتهت ولايته في أول أيلول 2025، الجنرال Thierry Burkhard. وقبل أيام من تركه المنصب، عقد حوارًا مطوّلًا مع صحيفة «ليبراسيون» وموقع «بوليتيكو» كشف فيه عن رؤيته للتوازنات الاستراتيجية ورهانات الأمن الأوروبي، داعيًا إلى المزيد من التلازم الاستراتيجي الأميركي الأوروبي ومحذرًا من التداعيات الخطيرة لتشظية البنى العسكرية، وتبعثر الوسائط والوسائل والأدوات التكتيكية. ولا يخفي تهديدات الخطط الصينية، خصوصًا بعد تحالف بكين مع روسيا وكوريا الشمالية. وإذا كانت الحرب، في شكل عام، تفرض تحوّلات وخيارات بديلة، فإنّ الأوروبيين باتوا يحاذرون الحديث عن «جيش موحد»، ويؤثرون الكلام على «التنسيق العملياتي» و«تقاسم أعباء الجبهات». وهذا ما يسميه الجنرال Burkhard «واقعية التزام المعايير الأساسية للقوة».

 

المراجع
1- André Dumoulin et Nicolas Gros-Verheyde, 2020- Edition Du Villard.
2- La politique européenne de Sécurité et de Défense: Quel bilan après 10 ans? Quelles nouvelles orientations, András István Türke, Edition L’Harmattan, 2012.
3- Qui gouverne la défense européenne?
Les réseaux de la Politique de sécurité et de défense commune.
Une étude réalisée par Sciences Po, le centre de recherches internationales – Paris 2022.
4- L’Ere des affrontements, les grands tournants géopolitiques: comment est on arrivé là? Thierry De Montbrial, Edition DUNOD 2025.
5- La boîte à outils de la défense européenne
Nouveautés 2020 – 2021-5 auteurs – préface Joseph Borrel
Edition du Villard, collection «Manuel».