شعوب وحضارات

الحضارة السومرية: مبتكرات ما زالت في خدمة الإنسان
إعداد: د.شادية علاء الدين

تعتبر الحضارة السومرية أقدم الحضارات التي ظهرت في بلاد ما بين النهرين وفي بلدان آسيا الغربية جميعها (4000-2350 ق.م). وكان لمبتكرات السومريين ومنجزاتهم الحضارية تأثير بارز في تطور الحضارة العالمية. وبعض ما توصّلوا إليه ما زال معتمدًا حتى يومنا هذا. فالسومريون هم الذين خرجوا بالبشرية - في بلاد ما بين النهرين - من طور الهمجية إلى عهد التمدّن والحضارة.
 

الدولاب
ابتكر السومريون الدولاب الذي أحدث ثورة عظيمة في وسائل النقل والصناعة ولا يزال العالم ينعم بفائدته حتى الآن. وقد طوّر السومريون الدولاب واستخدموه بطريقة عملية مفيدة ونشروه في أرجاء العالم القديم.

 

المحراث
اخترع السومريون المحراث الذي يحرث الأرض ويبذر في آن معًا.إذ أضافوا إلى المحراث العادي جهازًا يتألف من وعاء بشكل قمع مركّز في القسم الأوسط الأعلى من المحراث، ومنه يمتد أنبوب إلى أسفل. وعندما يشق المحراث الأرض برأسه الدقيق، توضع الحبوب في القمع فتنزل واحدة واحدة في الأنبوب إلى الأرض وتطمر في الثلم الذي يكون المحراث قد حدّده. ولا يزال هذا المبدأ يُطبّق اليوم في المحاريث الآلية الحديثة.

 

الطب والكيمياء
من إنجازاتهم العلمية أيضًا ممارستهم بعض الصناعات الكيماوية، فقد تعلّم السومريون تقطير العطور وتركيب الأدوية. ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد وضع طبيب سومري لوحة دوّن عليها أكثر من اثنتي عشرة وصفة طبية لمعالجة الأمراض المختلفة. وشرح الطبيب كيفية استعمال الأدوية، وحدّد ما يؤخذ منها بالفم وما هو للاستعمال الخارجي. كما ذكر المواد التي تتركّب منها تلك الأدوية، ومن بينها القرفة والآس والزعتر والصفصاف والإجاص والتين والتمر والحليب وجلد الحية وصدفة السلحفاة والملح ونيتــرات البوتــاس.
هذا الإنجاز السومري، المدوّن على تلك اللوحة في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، سار بعلم الكيمياء شوطًا بعيدًا في التقدم والتطوّر.
 
الصناعة
تألفت البيوت السومرية، في أول الأمر، من عدد قليل من الغرف المبنيّة من اللّبن ثمّ تطوّرت صناعة البناء تطوّرًا كبيرًا وتعلّم السومريون تحويل اللّبن الى آجر بِشَيّه بالنار، فأصبحت صناعة الآجر رائجة مثل صناعة قوالب الإسمنت للبناء في زماننا الحاضر. وتمكّن السومريون بفضل صلابة الآجر من بناء بيوت من طابقين أو أكثر، واشتهروا ببناء الهياكل المؤلفة من عدّة طبقات.

 

الهندسة
برع السومريون في حقل الهندسة، وحوّلوا الصحراء إلى جنائن خضراء. فقد خطّطوا الترع والأقنية بمهارة فائقة وحفروها بإتقان عظيم لنقل الفائض من مياه الفرات ودجلة إلى المناطق العطشى. وكان هذا العمل من أروع الأمثلة على نجاح الإنسان في العصور الحجرية في السيطرة على عناصر الطبيعة وتغيير أحوال البيئة المادية بواسطة العلم.

 

الكتابة السومرية
كانت الكتابة السومرية من أروع ما خلّفه السومريون. ويعتبر الشعب السومري من أقدم الشعوب التي ابتكرت طريقة خاصة لكتابة لغتها المحكيّة بين الألفين الرابع والثالث ق.م. كتب السومريون على ألواح من الطين الطريّ بأقلام من قصب أو خشب أو معدن أو غير ذلك من المواد القاسية. وسمّيت كتابتهم بالكتابة المسمارية أو الأسفينية لأنّ الكاتب كان يضغط بقلمه على الطين ويجرّه فيبدو أوّل الخط عريضًا، ثم يرق تدريجيًا ويصبح محدّد الرأس عند نهايته فيظهر كأنه مسمار أو أسفين.
وعند الانتهاء من الكتابة كان الكاتب يضغط على الطين ويعيد تسوية سطحه إذا أراد أن يمحو ما كتبه. أمّا إذا رغب في الاحتفاظ بما كتبه إلى أمد طويل فقد كان يعمد إلى شيّ اللوحة في فرن خاص، فتتحوّل إلى آجرة قاسية لا تتفتّت أو تنكسر بسهولة. ودوّن السومريون أساطيرهم وملاحمهم ورسائلهم وصكوكهم ولوائح البضائع والأسعار وغير ذلك مما يحتاج إلى تدوين على لوحات من هذا النوع.
بفضل هذه المادة الليّنة استطاع كُتّابهم الماهرون الاحتفاظ بالسجلات وكتابة الوثائق وتسجيل الممتلكات والأحكام القضائية. وكانت الكتابة السومرية تُقرأ من اليمين إلى اليسار، وابتدأت تصويرية ثمّ تطوّرت وأصبحت مقطعية.
اهتم السومريون كثيرًا بتعلّم الكتابة كونها من أهم الفنون وأجلّها عندهم. وكان الكَتَبَة والنُسَّاخ يعلّمون الأولاد الكتابة إلى جانب أعمالهم الكتابية الأخرى. ووُجِدَت في مدن سومر مئات المدارس وآلاف المعلمين الذين كرّسوا حياتهم لهذا العمل في النصف الثاني من الألف الثالث. وكان السومريون المثقّفون يهتمون بالأدب والشعر واللغة ويتفنّنون في التعبير عن مشاعرهم بمختلف الأساليب ويبتدعون الملاحم والأساطير والقصص وأناشيد الحب والمديح والرثاء والأمثال والقواميس وغير ذلك. وقد عالجوا المواضيع المتعلّقة بعقائدهم الدينية التي تتحدّث عن الآلهة والحياة والموت والهياكل وما يتّصل بذلك.
وتعتبر ملحمة جلجامش التي ترجمها إلى العربية الدكتــور أنيــس فريحــة، من أشهــر مــا وصلنــا من تراثهـم الأدبــي.

 

التقويم والمقاييس
ارتكز التقويم السومري، كالمصري، على الشهر القمري، إذ تبدأ شهورهم بظهور الهلال الجديد، وتتألف سنتهم من اثني عشر شهرًا. وكان نظام العدّ عندهم مبنيًا على الوحدة «ستين» فبدلًا من أن يقولوا مثلًا، ستمئة كانوا يقولون عشر ستينات. وعلى أساس هذه الوحدة جُعلت الساعة ستين دقيقة، والدقيقة ستين ثانية، وقُسّمت الدائرة إلى ثلاثمئة وستين درجة. وكانت «المينا» وحدة الأوزان عندهم تنقسم كذلك الى ستين جزءًا يدعى الواحد منها «شاقلًا».
اعتقد السومريون أنّ مصير الإنسان مرتبط بمراقبة الكواكب والنجوم، وأنّه يمكن التنبُّؤ بمستقبله برصد الأجرام السماوية ومراقبة حركاتها، لذلك، راقبوا النجوم مراقبة دقيقة واهتموا بزيادة معرفتهم بطبيعتها وكل ما يتّصل بها.
وقد نشأ عن ذلك علم التنجيم (أسترولوجي) الذي لعب دورًا مهمًا في الحضارات الأخرى. وما زال بعض ما توصّلوا إليه في هذا العلم معتمدًا حتى الوقت الحاضر. ثم تطوّر علم التنجيم فكان السابق لعلم الفلك الحديث.

 

الماورائيات
عرفت بعض المجتمعات السومرية ظاهرة التضحية البشرية حيث عُثِر على آثار مهمة في المقابر السومرية. وهناك تفسيران لهذا التقليد السومري:
- مشاركة أفراد الحاشية لملكهم في مصيره بعد موته، فقد عثر في المقابر على الهياكل العظمية الخاصة بأفراد الحاشية من الرجال والنساء، وكذلك المركبات وهياكل الثيران التي كانت تجرّها، هذا بالاضافة إلى تواجد الكؤوس بجوار أصحابها والتي كانوا يستخدمونها في شرب المخدر طواعية قبل الموت الجماعي.
- ارتباط التضحية البشرية بعقيدة الخصوبة في صورتها الأوّلية، بمعنى أن يتقدّم بعض الكهنة والكاهنات بتقبّل الموت ممثّلين في ذلك دور الإله والآلهة في الزواج المقدّس الذي يؤدي إلى خصوبة البلاد وخيرها في بداية كل عام.
تميّزت المجتمعات الأفريقية والمصرية خصوصًا بظاهرة التضحية البشرية في المراحل الأولى لبداية العصر التاريخي، وكذلك في نهاية عصور ما قبل الأسر، ولكن على أساس عقيدة الخلود ومشاركة الملك في العالم الآخر. وشهد المجتمع القرطاجي تلك الظاهرة التي استمرت حتى العصر الروماني. كما مارست شعوب الألطاي عادة قديمة وهي «تأمين الخدم للمتوفى في الدار الآخرة»، لذلك عندما توفّي الإمبراطور المغولي «جانكيزخان»، عمد الحرس إلى قتل كل غريب قاده سوء طالعه إلى المرور أمام الموكب الجنائزي الإمبراطوري، فذبحوا جميع الغرباء الذين صادفوهم وذبحوا خيولهم وثيرانهم قائلين: «اذهبوا لتخدموا سيدنا الخان في الدار الآخرة».


المراجع
- شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان: حضارات العالم في العصور القديمة والوسطى، دار العلم للملايين بيروت، ط 14، 1987.
- رشيد الناضوري: المدخل في التحليل الموضوعي المقارن للتاريخ الحضاري والسياسي في جنوبي غربي آسيا وشمالي أفريقيا، دار مكتبة الجامعة العربية بيروت، 1968.
- حسن المبيض: تاريخ الشرق الأدنى القديم، دار ومكتبة الجامعة اللبنانية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1991-1411 هـ.
- خالد اسعد عيسى: جنكيزخان قاهر العالم، دار حسان للطباعة والنشر، ط1، دمشق 1982.