- En
- Fr
- عربي
بلى فلسفة
في بداية تعرّفي الى الموسيقى العربية دعاني صديق، شبل، لمرافقته الى اللاذقية من أجل أن يعرّفني الى باحث موسيقي يقيم هناك، يدعى جبرائيل، ويمتلك مكتبة كبيرة شاملة، وكان من أرشده هو اليه والده الذي يدير عملاً تجارياً هناك. وصلنا الى الرجل فإذا به قد خصص دارة بأكملها لمكتبته، عكس ما كنا نفعله نحن، ولا زلنا، بأن نجمع بعض الكتب والأشرطة في إحدى زوايا البيت، نربط فوقه عوداً، ونعتبر ذلك مكتبة نحدّث عنها الأهل والأصحاب، ونعود اليها كلما استعصى علينا حل، أو غابت عن عيوننا معلومة.
لم أكن أملك كتباً عن التراث الموسيقي آنذاك، كما أنني كنت أنسخ التدوينات الموسيقية بخط اليد، وكنت، مع أصحابي القلائل، أنسب لحناً أسمعه الى هذا الملحن أو ذاك، من خلال العودة الى أذنيّ وآذانهم، خصوصاً في ما يتعلق بالأغاني الصعبة وغير المشهورة، وكان في ذلك لحن «قضيت حياتي» لأم كلثوم الذي كنا نعيده الى القصبجي.
إذن، كانت مكتبة مضيفي موزعة على المنزل بأكمله، هنا غرفة لشؤون الآثار، كتباً وأوراقاً ومخطوطات ونماذج، وهنا للرسم، وهنا للخط، وهنا للأدب، وهنا للموسيقى... وهناك صالة كبيرة للمطالعة. وبدا أنه يمتلك شقة أو أكثر لسكنه في أماكن أخرى... إنه ممّن أنعم الله عليهم بالمال والثقافة وحسن التدبير.
توجّهت الى غرفة الموسيقى حيث كانت تتوزع الكتب والأشرطة والآلات الموسيقية، كما كانت هناك بطاقات صغيرة واضحة الترتيب، كل واحدة منها تخص أغنية: مَن كتبها ومَن لحّنها ومَن غنّاها... ما المقام الموسيقي... ومَن أبرز العازفين... وما سنة التسجيل...
المفاجأة كانت في أنني قرأت أن ملحّن «قضيت حياتي» هو السنباطي. لا، لا، قلت على الفور، وتوجهت الى السيد جبرائيل في صالة المطالعة لألفت نظره وأصحح علمه، لكنني لم أجده، وقيل لي إنه لا بد عائد. فكّرت بأن ألجأ الى قلمي وأدونّ اسم القصبجي بدلاً من اسم السنباطي، لكنني لم أفعل، وتذكرت أنني ضيف وأنّ احترام أمانة الورق واجب. عاد صاحب المكتبة ومضى اليّ مباشرة في غرفة الموسيقى مجدداً حسن استقباله، معبّراً عن اهتمامه، مستفسراً عن طلباتي.
قلت له: ولكن هذه الأغنية هي من تلحين القصبجي، وأنت كتبت هنا اسم السنباطي. قال مبتسماً: لن أحسبك كبير الخطـأ، وأنا في بدايتي ظننت ظنّك، كما أن مجموعة من الموسيقيين جلست هنا، عندي، الى هذه الأغنية محلّلة فاحصة، فوجدت أنها تحمل الكثير من عناصر القصبجي وخصوصياته. لقد بدا السنباطي قريباً من القصبجي في أغنية «النوم يداعب عيون حبيبي» (1933)، لكن ليس الى الحد الذي بلغه في «قضيت حياتي» (1936)، ولولا ان اسم الملحن مدوّن بشكل واضح على الاسطوانة الأصلية لكنّا ميالين جميعاً الى رأيك. ومدّ الأستاذ جبرائيل يده الى أحد الرفوف وأتى بالاسطوانة السوداء اللامعة التي طبعتها شركة أوديون لهذه الأغنية الجميلة، والتي تحمل اسم السنباطي منعاً لأي تأويل.
في طريق العودة شرحت لصديقي ما حصل، فسألني: وهل اقتنعت بما قيل لك؟ قلت: لقد اقتنعت ورضيت، وأقلعت عن العناد. وبقي شبل لشهور وشهور يقول لأصحابنا: لقد استطعت تغيير الكثير من آراء صديقكم بعد هذه الرحلة.
ومضت بي الأيام حياً أرزق الى السنة الماضية 2006، حين وصل اليّ في عقر داري في بيروت هذه المرة، صديق آخر هياف، متثاقل الخطى وبرفقته ضيف لا أعرفه، والاثنان يافعان. لدى وصول الضيف المجهول الى الكرسي، واستعداده للجلوس عرفت انه لا يرى بالعينين، لكن، لا بد أنه راءٍ بغيرهما! وكانت في يمينه محفظة وضعها بهدوء على مقربة منه، وقد بدت عزيزة عليه من خلال عنايته الفائقة بها، وتجنيبها الارتطام القاسي بأرض الغرفة. بعد قليل عرفت أنه موسيقي وافد من مصر، وانّ اسمه مصطفى. دار الحديث عن الطرب بأعلامه وأركانه من صالح عبد الحي رجوعاً الى سيد الصفتي الى علي محمود الى يوسف المنيَلاوي الى احمد ندا الى محمد عثمان الى عبده الحمولي، وقد عرّجنا على العازفين من الشوا الى القضابي الى العقاد الى سهلون الى علي صالح الى البُزري الى الليثي والجمركشي العوّادَين، ورحنا نطلق النعوت ونقيم المقارنات بين الأصوات المنشدة والأصابع «المرنّة»، وقد مضى بنا الكلام الى عبده الحمولي... وهنا تركت الضيف يحكي منفرداً إذ انني لم أسمع الحمولي، وأجزم وأؤكد أن لا تسجيلات بصوته، وأنا سمعت عنه ولم أسمعه، وما موجز الكلام عليه إلا العبارة المشهورة التي قالها الأدب: «إذا غنّى الحمولي يا ليل، شق الليل قميصه ووقف مستمعاً»، وذلك لحلاوة صوته وحسن أدائه ووسع سيطرته على السامعين.
لكن السيد الضيف قال ببساطة وثقة وهدوء: أصبح بإمكانك أن تسمع صوت الحمولي. قلت: لكن الموسيقى العربية عرفت الاسطوانة سنة 1903، أي بعد رحيل الحمولي بسنتين. قال: العلم قادر على إعادة صوته إلينا يا أستاذ. قلت: يقولون إن ذرات الأصوات، جميع الأصوات، بجميلها وقبيحها، باللازم منها والمتعدي، متناثرة في الفضاء، وقد يتوصل العلم الى تجميعها وضبطها، وفرزها وتحديد أصحابها... لكن هذا أقرب الى الخيال منه الى الواقع حتى لو كان العلم قادراً على أن يأتي بالعجيب العجاب في كل يوم جديد. قال: لا يزال الوقت مبكراً بالنسبة لهذه الفكرة، وهذه دِقّة بعيدة المنال حالياً وأنا أعتقد أن العلم لا يستطيع أن يدرك ذلك، وما أحدّثك عنه الآن هو أبسط من ذلك، إلاّ أنه أسمعنا صوت الحمولي. عدت لأقول: صوت الحمولي، الحمولي يغني بصوته أم أن صوتاً جميلاً آخر ينشد ويذكّرنا بلياليه؟ وهنا قال صديقنا المشترك آمراً بمحبة: أسمِعنا صوت الحمولي يا أستاذ مصطفى.
وتناول الضيف المصطفى محفظته وأخرج منها «كومبيوتر» صغيراً وأطلق الأصابع بين أرقامه وتفاصيله، مستعيناً بعينين، أو بعيون لم أرها، وإذا بي أسمع، وببساطة مطلقة: آه يا سي عبده... يا سلام عليك... وانطلق صوت الحمولي يكرّ كالماء في الجدول، وكانت تواكبه ضربات على عود قد يكون عوده... دقيقتان من الدور الغنائي المشهور «كادني الهوى». استعدت سكوتي القديم في اللاذقية، وأوقفت فوق رأسي طيراً.. ورحت أستمع. سلّمت وأيقنت وصدّقت. استسلمت للتصديق. هل من غشّ يواجه أذني هنا؟ لقد وقعت في شباك الكذب مراراً، فهل أنا الآن أمام كذبة طربية لا تشبه إلا نفسها؟ قلت بعد ختام الجزء الذي تيسر من الأغنية: لقد صدّقتك يا مصطفى، لكن، قل لي، ما هي حدود انتشار هذا الخبر الأسطوري؟ قال: إنه ليس أسطورياً، إنه موثوق كما تسمع. لقد حضر فريق عمل حضاري متقدم الى سراي القبة والى قصر عابدين في القاهرة معايناً البقايا الجمالية فيهما، وقد تم العثور على عدد من الاسطوانات القديمة التي كانت تصنع من الشمع والتي كانت تحمل الشكل الأسطواني كما يجب أن يكون، من هنا كان اسم الاسطوانة الذي استمر لاحقاً بطريق التوارث مع الأشكال المسطحة: أسطوانة الزفت القديمة ذات السرعة 78، أسطوانة البلاستيك المتوسطة، والاسطوانة الالكترونية المدمجة الحديثة.
أضاف مصطفى: تم تسجيل تلك الاسطوانات سنة 1885 وسنة 1903، وقد عرفت العبث والتخريب غداة سقوط النظام الملكي سنة 1952، وأُلقي معظمها من على الشرفات فاستقرّ بين الأشجار واختلط بالتراب، وقد عثر على حوالى عشرين منها في بعض الخزائن الداخلية، تم اخضاعها لوسائل علمية متقدمة جداً فاستعيد بذلك بعض الأصوات الجميلة النائمة في داخلها، ومن بين تلك الأصوات صوت عبده الحمولي الذي اعتبر مفقوداً على مدى القرن العشرين بكامله.
رحت أستعيد الاستماع الى «كادني الهوى» بصوت الحمولي مقارناً أداءه مع ما تحفظه ذاكرتي من أداء الآخرين الذين أتوا بعده: صالح عبد الحي، ماري جبران، عباس البصيري... غناءً، وسامي الشوا عزفاً على كمانه، فوجدت أن الشوا هو أقرب القريبين الى أسلوب الحمولي وذلك لأن روحه الموسيقية نشأت في عصره، وتأسست على روح والده أنطون، الذي كان يعزف على الكمان في تخت الحمولي نفسه، إضافة الى أن عائلة الشوا بأكملها تقريباً إخوة وأهلاً وأعماماً وأجداداً، كانت موسيقية، وكان أفرادها في طليعة العاملين للأصالة والطرب في القرن التاسع عشر.
إذن، هذا هو صوت سي عبده زعيم الطرب في زمانه الذي كانت تتسابق فيه الألقاب وتُطرح الأوصاف وتُروى الروايات، والتي ليس أقلّها ما ذكره قسطندي رزق في كتابه «الموسيقى الشرقية» (1936) من أنّ نخلة المطرجي الحلبي، وكان من أكبر العازفين على القانون في مصر، طرح قانونه أمام الحمولي على المسرح، قائلاً: «خلاص يا سي عبده، أجيب لك منين؟»، وذلك حين تعذّر عليه اللحاق به لقوة صوته وغريب تصرّفه وسعة حيلته الفنّية... كما أن محمد العقاد القانونجي الشهير كان يكتفي أحياناً بتوقيع الوحدة الإيقاعية المسماة «ميزان البحث» من دون أن يواصل تصوير نغمات الغناء، وهذا ما كان يشير به الحمولي مبتسماً حين ينوي الصعود بصوته الى درجات لا تبلغها أوتار القانون. وكان الليثي العواد يحكي أنه كثيراً ما كان يضطر الى رفع دوزان أوتار عوده ثلاث مرات لبلوغ بعض الطبقات الصوتية التي صال فيها صوت الحمولي وجال.
ولم تكن من منافسة حقيقية أمام الحمولي سوى منافسة المطربة ألمظ التي حاربته ردحاً من الزمن، خصوصاً حين كانا يتجاوران في حفل واحد، هو في «سلاملك» الرجال، وهي في «شكمة» الهوانم، فما كان منه إلاّ أن تزوجها، ومنعها من الغناء، واضعاً بذلك الحد النهائي لتلك المنافسة.
أعود وأقول: هذا هو صوت الحمولي أمام أذنيّ الإثنتين، إنه حلو من دون شك، لا بل في طليعة الحلاوات، لكن هل كان من الأحلى لو أنه بقي في حدود التمني والخيال، وهل أن الحلم أغنى من الواقع مهما زاد غناه؟