من الذاكرة

الحنين إلى صُوَر من حكايا التراث بعدسة الإخوة صرافيان
إعداد: جان دارك أبي ياغي

اشتهر الإخوة صرافيان بتوثيق الصور التاريخية والشخصية والمعالم التراثية، فخلّدوا بعدساتهم محطات راسخة في الوجدان الثقافي اللبناني. تميزت أعمالهم بالجودة الحرفية العالية، والاستخدام المبتكر للضوء والظل، مع عناية فائقة بأدق التفاصيل، ما جعلها مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين بتاريخ لبنان مطلع القرن العشرين.

 

من أعمال الإخوة صرافيان مئات البطاقات البريدية التي تتضمن صورًا التُقطت في مناطق لبنانية مختلفة بين عامَي 1900 و1930، وجسّدت مواضيعها أوجهًا مختلفة من التراث اللبناني شملت: تقاليد زراعية، كبس الزيتون، جرش البرغل، تجفيف التين، تشميس القمح، فنون الموقدة… إضافةً إلى أسواق بيروت ومشاهد من الحياة اليومية من البحر والصيادين إلى رجال الدين والعسكر… وبرع الإخوة في تصوير عادات الضيعة، وهندسة البيت اللبناني، ووثّقوا تطوّر البلدات والمدن عبر السنوات، كما خلّفوا صورًا فنية لوجوهٍ وأشخاص ومعالم من لبنان في تلك الحقبة.

الباحث في التراث اللبناني إدي شويري من أبرز المهتمين بإرث الإخوة صرافيان (له في هذا المجال عشرة مؤلفات)، وهو يروي لنا سيرتهم استنادًا إلى كتاب الشيخ سامي طوبيا، الذي فُقد للأسف من المكتبات.

 

من هم الإخوة صرافيان؟

ينحدر الإخوة الثلاثة، إبراهيم (1873)، وبوغوص (1876)، وصموئيل (1884)، من عائلة أرمنية، تعود أصولها إلى ديكراناغريت. تلقّى إبراهيم وبوغوص تعليمهما الابتدائي في المدرسة الوطنية الأرمنية، ثم تابعا دراستهما العليا في المدرسة الثانوية الأميركية في ماردين – تركيا. حصل إبراهيم على دبلوم في العلوم في سنٍّ مبكرة، إلى جانب إتقانه اللغتين العربية والإنكليزية. أما بوغوص، فحاز شهادة دراسات عليا في اللغتين العربية والإنكليزية.

وانطلاقًا من شغفهما بالتصوير الفوتوغرافي، قام الأخوان، في العام 1894، برحلة استكشافية مدتها ثمانية أشهر إلى بلاد ما بين النهرين، وصولًا إلى الموصل، حيث قاما بتصوير الآثار القديمة للمدينة. شكّلت هذه الرحلة نقطة التحول في مسيرتهما، إذ بدأت موهبتهما تتبلور من خلال توثيق المواقع الأثرية والتعامل مع الاكتشافات التاريخية. وعلى خطى والدهما، أسّسا متجرًا لبيع البطاقات البريدية والسلع القديمة بعد عودتهما إلى أرمينيا.

 

الانتقال إلى بيروت

غيّرت أحداث العام 1895، التي شهدت مآسي للشعب الأرميني، مجرى حياة الشقيقين. فقد قرّرا بعد ذلك مغادرة وطنهما في العام نفسه متجهين إلى لبنان، الذي كان بالنسبة إليهما جسر عبور نحو أوروبا، لكنه سرعان ما أصبح مقر إقامتهما الدائم. وبفضل إتقانهما اللغة العربية قرّرا الاستقرار في بيروت، حيث استقدما عائلتهما في العام التالي.

في شباط 1896، تزوّج إبراهيم من يرانيك جارابيديان، إبنة رئيس الكنيسة الأسقفية الأرمنية في ديكراناغريت، فيما التحق شقيقهما الأصغر صموئيل في وقت لاحق، بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث نال شهادة في إدارة الأعمال.

 

ريادة في التصوير الفوتوغرافي

في العام 1895، أسّس إبراهيم وبوغوص استوديو «صرافيان إخوان» في منطقة باب إدريس في بيروت، ليصبح لاحقًا من أبرز استوديوهات التصوير في المنطقة. وقد استمر في العمل لعقودٍ طويلة بعد وفاتهما، إلى أن توقّف مع اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975. ومع تزايد شهرتهما، أطلقا شركة «صرافيان إخوان» للتصوير الفوتوغرافي وإنتاج البطاقات البريدية، ثم وسّعا نشاطهما فافتتحا فروعًا في مدن سورية وفلسطينية، وبذلك أصبح الأخوان صرافيان من أهم ناشري البطاقات البريدية في الشرق الأدنى، واعتُمد إبراهيم المصور الرسمي للكلية السورية البروتستانتية (الجامعة الأميركية في بيروت لاحقًا) ما أهَّله  للفوز بجائزة أفضل مصور في مسابقة نظَّمتها بلدة ضهور الشوير في العام 1925. أما الشقيق الأصغر صموئيل، فتولى مسؤولية بيع البطاقات البريدية والمنتجات الفنية داخل الشركة.

 

دور في مساندة مواطنيهم

خلال الأحداث الأليمة، أظهر الإخوان صرافيان التزامًا وتفانيًا استثنائيَّين في مساعدة مواطنيهم الأرمن وغيرهم من ضحايا تلك الفترة من التاريخ. ومع تدفّق الأرمن إلى بيروت بأعدادٍ كبيرة بدءًا من العام 1920 أدّى إبراهيم صرافيان دورًا أساسيًا في تحويل الخُطَب التي كانت تُلقى بالتركية في الكنائس الإنجيلية إلى اللغة الأرمنية.

أما بوغوص صرافيان، فقد استثمر علاقاته الواسعة في الصحافة وحسّه الوطني لإرسال كميات كبيرة من القمح والدقيق إلى دير بزمار للأرمن الكاثوليك، حيث لجأ عديدٌ من النازحين والرهبان، مساهمًا في إنقاذهم من موت محتم. كما عُرف بتدخّله لإنقاذ ثلاثة سجناء محكوم عليهم بالإعدام (واحد أرمني واثنان من المسلمين العرب) بسبب فرارهم من الخدمة العسكرية، ما ساعد على إطلاق سراحهم.

إلى ذلك، سعى صموئيل، بمساندة إخوته، إلى الحصول على الأرض التابعة لجمعية إغاثة الشرق الأدنى في أنطلياس مجانًا، وبفضل جهودهم، أصبحت هذه الأرض مقرًّا لكاثوليكوسية الأرمن الأرثوذكس لبيت كيليكيا.

 

عمالقة البطاقات البريدية

شكّل الأخوان صرافيان علامة فارقة في عالم البطاقات البريدية، إذ أنتجا وحدهما خُمس البطاقات البريدية المطبوعة في لبنان بين العامين 1895 و1930، من بين 120 ناشرًا معروفًا، ما أكسبهما لقب «عملاقَي البطاقات البريدية» بفضل غزارة إنتاجهما وتنوع موضوعاتهما، ودقة أعمالهما وفرادة أسلوبهما.

عاش الأخوان صرافيان في لبنان لفترة طويلة (1895 – 1975) وتميّزا بعبقرية جعلتهما جزءًا من أبرز الفعاليات والمناسبات، حيث وثّقا بعدستهما محطات مفصلية من تاريخ لبنان، ومنها:

– افتتاح الطريق الرسمي لمحطة القطار في مرفأ بيروت (1900).

– تشغيل ساعة السراي الكبير (1900).

– تشغيل نافورة الحميدية بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني العرش.

– تصوير الشيخ إبراهيم اليازجي، مؤسس مجلة البيان.

– توثيق افتتاح مدرسة الفنون والمهن بحضور والي المدينة وأعيانها (1907)، والتي أصبحت لاحقًا المكتبة الوطنية ومقرّ وزارة الداخلية.

– افتتاح مكتب البريد العثماني قرب خان أنطون بك (1908).

– تصوير مستشفى الأمراض النفسية (1906).

كما شملت أعمالهما صورًا فوتوغرافية بارزة، منها:

– أنطاكيا (1910)، جامع مرسين الكبير وميناء المدينة.

– إطلاق سراح السجناء الوطنيين العائدين من المنفى (1908).

– قصف مدينة بيروت من قبل بارجتين تابعتين للأسطول الإيطالي (1912).

– غرق السفينة «عون الله» في مرفأ بيروت (1912).

– صور مؤثرة للأطفال ضحايا مجاعة العام 1916.

– بيروت مغطاة بالثلوج (1920).

رحل إبراهيم صرافيان في 16 حزيران 1926 إثر نوبة قلبية عن عمر 56 عامًا، وتوفي شقيقه بوغوص في 11 آب 1934، فيما توفي صموئيل في العام 1941.

 

الشيخ طوبيا والإخوة صرافيان

تعود القصة إلى العام 1975 عندما كان الشيخ سامي طوبيا المولع بجمع البطاقات البريدية، يتجوّل في شوارع برج حمود. وبالصدفة، لفتت انتباهه واجهة أحد المحلات التي كانت تعرض صورتين بريديتين تحملان توقيع الإخوة صرافيان. مدفوعًا بفضوله، دخل المحل وسأل صاحبه عن هاتين الصورتين، فأجابه أنهما من أعمال الإخوة صرافيان. عندها سأله طوبيا مجددًا: «وأين يمكنني أن أجد مزيدًا من هذه الصور؟»

كانت المفاجأة عندما أخبره صاحب المحل قائلًا: «عندي»، ثم صعد إلى الطابق العلوي ليعود ومعه خمسة صناديق مليئة بالبطاقات البريدية. أدرك طوبيا حينها أنه أمام كنز حقيقي، فقام بشراء المجموعة بالكامل، تقديرًا لأهميتها كمصدر يوثّق تراث لبنان وتاريخه العمراني، وكيف يمكن لبطاقة بريدية واحدة أن تنقل لنا مرحلة تاريخية كاملة.

لاحقًا، اشترى هذه المجموعة فيليب جبر، وهو أيضًا من جامعي البطاقات البريدية، ويملك واحدة من أضخم المجموعات في هذا المجال. أما الشيخ سامي طوبيا، فقد ألّف كتابًا باللغة الفرنسية عن الإخوة صرافيان بعنوان: «SARRAFIAN-LIBAN 1900-1930» منشورات دار ألف (ALEPH)، لم يعد موجودًا في المكتبات أو في الأسواق، إلّا أن البعض يبذل مساعيَ لإعادة طبعه إلى جانب المجموعة التي يكتنزها فيليب جبر.

لا يمكن النظر إلى البطاقات البريدية التي أبدعها الإخوة صرافيان، كمجرّد توثيق للأماكن والأحداث، بل هي نافذة على زمن مضى، تأخذ مقتنيها في رحلةٍ عبر التاريخ، فيلامس تفاصيله، ويشهد على ملامحه التي ما زالت تنبض بالحياة، ويعيش لحظاته وكأنّه في قلب الحدث، وكأن تلك التفاصيل ترفض أن تذوب في غبار الزمن…