- En
- Fr
- عربي
ضيف العدد
كنتُ أسلكُ طريق الجبلِ، عائدًا من العاصمةِ بيروت إلى زحلة، عبرَ ضهور الشوير، فلفتَ انتباهي، على مقربةٍ من مفترقِ كفرسلوان، جنديان ينصبان خيمة.
خيمةُ الجنديين، أعادتني إلى أسعدِ سنواتِ فتوَّتي؛ إلى أيَّام الكشفيَّة، يومَ كُنَّا نخرجُ من الخيمةِ باكِرًا نُلاقي فجرَ الغابةِ في غَمْرِ فرَحِهِ. في تلكَ الأيامِ شذَّبتِ الكشفيَّةُ طباعَنا، ولقَّنتنا فنَّ الابتسامةِ، ودرَّبتنا على توسُّلِها في المصاعِبِ. في مُخيَّماتِها ربينا على محبَّةِ الوطنِ والقريبِ، وعلى الصدقِ والنظافةِ في الفكرِ والعملِ، وفعلِ الوفاءِ ببساطةٍ وشجاعةٍ. لقد علَّمتنا الكشفيَّةُ، كما الجُنْدِيَّةُ، أن نكونَ أباةً، بواسل، نَنْصُبُ خيمَنا، برشاقةٍ، على الروابي، بشوشين، أحرارًا؛ نتذوَّقُ، بطريقةٍ سليمةٍ، لذَّةَ فتوَّتِنا، ونتصرَّفُ ونلعبُ بشرفٍ، محترمين قواعِدَ التعاطي واللعِبِ، فوضعتنا، بأسلمِ الطُّرُقِ، على الدَّرْبِ المُؤَدِّيةِ إلى الرجولة.
خيمةُ الجُنديين حرَّكت حنيني وأيقظت ذاكرتي فرأيتُ الخيمةَ تلك التي حمَلْتُها على ظهري، ذات عشيَّةٍ، وأنا بعدُ فتى، قاصِدًا الفرزل لقضاءِ ليلةٍ قربَ معابدها، تُرْشِدُني خارطةٌ بسيطةٌ، رَسَمها رئيسي بالحبرِ الخمريِّ، بغيةَ اجتياز امتحانٍ يُثْبِتُ جدارتي بتحمُّلِ مسؤوليَّةِ القيادة.
ردَّتني خيمةُ الجُنْدِيين إلى زمانٍ كانت فيه المُروءَةُ والبشاشةُ وسَعَةُ الخُلقِ، سماتٍ تُمَيِّزُ الفُرْسانَ، والخيامُ مراكِزَ عبادةٍ، قبلَ أنْ تُبنى المعابدُ والكنائسُ والجوامعُ؛ وفي ظنِّي أنَّ الخيمةَ استعيرت، في الحديثِ الشريفِ، للتعبيرِ عن ظِلِّ الله ورضوانه.. فتذكَّرْتُ أنَّ فِعلَ خيَّمَ يعني في اللاتينيَّةِ، في ما يعنيه، حاولَ بُغيةَ النجاحِ. ففي الخيمةِ تُمْتَحَنُ طاقةُ المُخيِّمِ على احتمالِ المصاعِبِ والمشقَّاتِ، وفي التعاطي معها، يُقاسُ ذكاؤه العمليُّ.
والخيمةُ، في الأدبِ، مكانٌ يركنُ إليه للاختلاء بالذاتِ؛ وقد يكون ذلكَ هربًا من إنسانٍ أو أمرٍ متوقَّعٍ، أو تعبيرًا عن غضبٍ، كما فعلَ أشيلُ، لشِدَّةِ نقمتِهِ من أغممنون، في إلياذة هوميروس..
والخيمةُ حبيبةُ الطبيعةِ وصديقتُها والمروِّجَةُ لجمالاتها؛ وإكرامًا لها، اعتُبِرت الشَّجرةُ الغضَّةُ الرَّطْبَةُ، خامَةَ الزَّرعِ بل سُنبلَتهُ؛ والخيمةُ، أنَّى رأيتها، تشدُّكَ شدًّا إلى الرِّيفِ، إلى حقولِهِ وأوديته، إلى ينابيعِهِ وأشجارِهِ ونجومِ سمائه. فالمدينةُ، رُغْمَ إغراءاتها وكُلِّ سرابها، تبقى بدونِ نجومٍ غارقَةً في الضجيجِ، يُسمِّمُ أهْلَها التلوُّثُ، وتُضنيهم الغُفْلَةُ. صُبْحُها يَفْتَقِرُ إلى الرونقِ ونضارةِ الفجرِ؛ فيها يشُحُّ النورُ في الوجوهِ، وتَكْثُرُ الأضواءُ حولَ الأشخاصِ وتتكاثفُ، حتى تكاد تُضاعِفُ أحْجامَ ظلالهم، فيُصْبِحُ الإنسانُ مُزدوِجًا، بل إنسانًا مُلتبِسًا هوَ وظِلُّهُ، ولا نعودُ نُميِّزُ بين الاثنين، ولا نَعْرِفُ، بالتالي، أيَّهُما هوَ ظِلُّ الآخر!
في المدينةِ نعي عبوديَّتنا ونَتَقَبُّلُها، طوعًا أو قَسْرًا، أمَّا في الرِّيفِ، فنستعيدُ حُرِّيَتَنا الضائعةَ ومعها عافيتنا وكرامتنا. لهذا يطيبُ لبَعضِنا الهرَبُ من المدينةِ إلى الطبيعةِ، إلى الخيمةِ، للتحرُّرِ من عبوديَّةِ الظلِّ. ففي الهواءِ الطلْقِ، علاوةً على الحُرِّيةِ، ثَمَّةَ سعادةٌ تختصِرُها عافيةُ الجسدِ وهناءةُ النفسِ، ويوجِزُها صفاءُ الذِّهْنِ وتيقُّظه، ويُنعشُها ترقُّبُ القلبِ وحيويَّتُهُ؛ فيسعَدُ الكائنُ، كُلُّ الكائنِ، بألحانِ الفرحِ تنسِجُها أشجارُ الصَّنَوبرِ والسَّرْوِ والشربين، من النسائمِ الوافدةِ لتوِّها من أعالي الجبلِ.
في الطبيعةِ، الوقارُ والمهابةُ والصَّمْتُ تحتضِنُ الإنسانَ، كما تَحْتَضِنُهُ الخيمةُ، وتخترِقُ نسماتُها مسامَّهُ فيخفقُ قلبُهُ، على وقعِ نَبْضِ الكونِ، شريكًا أساسيًّا في التياراتِ التي تحمِلُ الحياةَ. لهذا كُلِّهِ يرى الجُنديُّ والكشَّافُ في الطبيعةِ عملَ اللهِ، فيُحِبَّان النباتَ والحيوان ويُحافظان عليهما، كما يُحافظانِ على الوطن ويفتديانه بأغلى ما لديهما.
تركت الخيمةُ آثارَها الحلوةَ في نفسي،ويقيني أنَّ الجُنْدِيَّةَ أدركت أهميَّةَ هذا الأمرِ وقدَّرت دورَهُ في صَقْلِ النفوسِ وترقيةِ العلاقةِ بينَ الناس، فركَّزت عليه، ثُمَّ جاءت الكشفيَّةُ، ببادِرةٍ من بادن باول، فوضعت المُغامرةَ، عبرَ المُخيَّماتِ، في مُتناولِ الفتيانِ والفتياتِ، وأثارت حمِيَّتهم إلى درجةٍ أمست معها أهمَّ حركةٍ تَرْبَوِيَّةٍ عرفها القرنُ الماضي، ما يَسَّرَ للشبابِ الاستمتاع بالطبيعةِ، على مدارِ الفصولِ الأربعةِ، فصارت الفصولُ، وتعاقبُ الليلِ والنهارِ، مَصْدَرَ توازُنِهم واتزانِهم وعافيتِهم الإنسانيَّة.
لقد خبرتُ، على مدى عُمري، أنَّ الخيامَ الأبْسَطَ والأكثرَ تواضُعًا، تغدو في قلبِ الطبيعةِ، رِياضَ عافيةٍ وعيشٍ رغيدٍ وغنى نَفْسٍ، إلى مِثلِها، يفتقِرُ أفخمُ القصورِ في المُدُن