- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
يرفض غالبية قادة العدو الإسرائيلي، بكثير من التعجرف والحماقة، تقبّل الوقائع المريرة التي أفرزتها الحرب في قطاع غزة. ويأتي هذا فيما بات جيش العدو مقتنعًا، بناءً على أسباب عملانية مجرّدة، بأنّ العملية العسكرية قد استنفدت نفسها إلى حدّ بعيد...
بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على الحرب الدامية والمعقدة، يقف العدو الإسرائيلي أمام ورطة الانتقاء من بين ثلاثة خيارات صعبة لا رابع لها، وهي: إمّا الاستمرار بخوض حرب استنزاف طويلة الأمد على جبهة غزة تُثقِل كاهله بمزيد من الخسائر الجسيمة ماديًا وبشريًا ومعنويًا وسياسيًا، أو توسيع نطاق هذه الحرب على أكثر من جبهة والغرق أكثر فأكثر في رمالها المتحركة وصولًا إلى العراق وباب المندب وجنوب لبنان، أو الرضوخ لمفاوضات هابطة مع حركة حماس تحت سقف رغباته وأمنياته وقدراته، تنهي الحرب بشروط لا قدرة له على تحمّل تبعاتها داخليًا وخارجيًا.
الغرق في الدوامة
أمام هذه الدوامة المستعصية، كان لزامًا على دولة الاحتلال إمّا أن تعمل على فصل الجبهات، أو أن تخوض حربًا شاملة عليها معًا. ولكي تستطيع خوض حرب استنزاف طويلة الأمد في قطاع غزة فقط، للحفاظ على حياة شبه طبيعية لمجتمعها، وجدت نفسها بحاجة إما إلى عقد اتفاق منفرد يُحيّد الجبهة اللبنانية بأي ثمن، أو إلى الرضوخ لشروط وقف إطلاق النار على الجبهتين معًا، الأمر الذي يُنهي حرب غزة ويشعل حربًا داخلية أكثر شراسة بين قادتها المتطرفين والبراغماتيين. لكن بدلًا من أن تقدم على كسر نطاق هذه الدوامة المغلقة وتتخذ قرارًا بمواجهة الواقع كما هو، مهما كان صعبًا ومؤلمًا، في ظل الإحباط العسكري ومحدودية قدرة شعبها على التحمل والصمود، قررت حكومة نتنياهو المماطلة وعدم الاختيار، أي إنّها اختارت خوض حرب استنزاف، أولًا لكسب الوقت الذي يحتاجه نتنياهو شخصيًا، وثانيًا لتفادي سلبيات تطور الصراع الداخلي المرير بين قادتها السياسيين والعسكريين والأمنيين، مما يهدد مستقبلهم الشخصي.
دور نتنياهو
إنّ العامل الأبرز في هذا المشهد، هو سعي نتنياهو الخبيث والدائب لمحاولة استنقاذ نفسه سياسيًا عبر المماطلة والدفع بعجلة الحرب إلى الأمام، ليبقى هو، بذريعة ضرورات الوحدة الداخلية في أثناء القتال، ملك إسرائيل بلا منازع.
في المقابل، وأمام سلبيات الواقع الميداني المستمرة، ترسّخ لدى المجتمع الاستهلاكي الصهيوني أكثر فأكثر مستوى متدنٍ من القدرة على التحمل وإرادة التضحية، وذلك بنتيجة العمليات القتالية الاستنزافية المتلفزة وتأثيرها السلبي على سمعة ومعنويات الجيش والدولة والقيادة، والقلق الشديد الذي زرعته قضية الأسرى المعقدة في نفوس أهاليهم والمستوطنين، الأمر الذي استوجب بذل جهود مضنية ومستعصية لتعزيز الصمود النفسي وترسيخ مفهوم ضرورة التضحية بالأبناء وتحمّل الأعباء الاقتصادية من أجل الدولة. فهذا المفهوم يفرض استعدادًا لحرب طويلة الأمد، شمالًا وجنوبًا، لا سيما على ضوء الجدل العلني الذي دار ويدور بين أقطاب اليمين المتطرف الذين يرون أنّ الدولة ونجاتها أهم من عودة الأسرى، بينما يريد أهالي هؤلاء ومؤيدوهم وقف الحرب وعودة أبنائهم السريعة على قيد الحياة، حتى لو كان ذلك على حساب الدولة وسمعتها وسمعة قادتها.
هذا المستوى من المرونة في تقبّل التضحيات هو ما سعت القيادتان السياسية والعسكرية بعجز لتحقيقه والحفاظ عليه، ما دفعها نحو شن حرب نفسية وإعلامية مخادعة وموجّهة داخليًا، تُعلي من شأن الإحصاءات الرقمية المزعومة لخسائر العدو وتسعى جاهدة لإخفاء كلفة المعركة في صفوف الإسرائيليين أنفسهم ماديًا وبشريًا.
متلازمة غزة
السردية آنفة الذكر جعلت «متلازمة غزة»، مقارنة بـ «متلازمة فيتنام» والخوف من الحرب البرية المستدامة، تبدأ بالترسخ في الوعي الصهيوني، الأمر الذي تجلّى في العجز عن تحقيق انتصار مطلق منشود وسريع، من خلال واقع عسكري لا يمنح سوى الهزائم أو الانتصارات التكتيكية النسبية. وهذا ما أوجد حالة دائمة من الإحباط الداخلي لأنّ «النصر المثالي» المطلوب غير قابل للتحقق، وبالتالي امتزجت خيبة الأمل الإسرائيلية بعدوانية مفرطة ودموية متوحشة، جعلت القائد السياسي نتنياهو يصاب بعمى الألوان وغير قادر على رؤية الواقع الميداني والسياسي السلبي الذي لا يريد تصديقه، وفي الوقت نفسه غير قادر على تحقيق عكسه، فيبقى ويُبقي الدولة معه في حالة معلّقة من الترنُّح والضياع والخوض في الدماء.
معضلة استراتيجية
خلاصة الواقع الذي تتخبّط فيه «إسرائيل» إلى الآن إذًا هي أنّها تغوص في معضلة استراتيجية، لأنّها غير قادرة على حسم المعارك في غزة بما تتمناه، وما زالت تؤجل معظم القرارات السياسية المطالبة بها محليًا ودوليًا. وهي لا تستطيع إنقاذ الأسرى ولا ترغب في إيقاف الحرب كشرط لإطلاق سراحهم عبر التفاوض. ومن جهة أخرى، لا تقدر على وقف القصف التدميري من قبلها على غزة لإرضاء حلفائها وتخفيف وطأة التحولات الكبرى في الرأي العام العالمي، بما في ذلك في الولايات المتحدة، حيث أصبحت معاداة الصهيونية جزءًا من وعي جيل أميركي وعالمي جديد. وهي من ناحية أخرى، لم تتخذ قرارًا جديًا بتوسعة الجبهة الشمالية حتى الآن والدخول في حرب مفتوحة مع لبنان، وتستقر في إدارتها للحرب على أرقام مصطنعة، تخفي فيها خسائرها وتدّعي في المقابل قتل أعداد مبالغ بها من المقاتلين. والشاهد على ذلك أنّها تعلن مرارًا وتكرارًا سيطرتها على شمالي القطاع، ثم تعلن انسحابها من هناك تحت وابل من الصواريخ المنهالة عليها، فضلًا عن استمرار الاشتباك على الجبهة اللبنانية. وهذا كله يحصل في مقابل خوف معارضي نتنياهو من أن تكون الحرب طويلة الأمد، هي الضامن الوحيد لاستدامة حكمه وتجنب المحاكم القضائية ولحظة محاسبته على فساده والتقصير المشين الذي لحق به ما قبل الحرب وما بعدها.