الدولة الفلسطينية: بين التسويف الأميركي و الرفض الإسرائيلي و العجز العربي

الدولة الفلسطينية: بين التسويف الأميركي و الرفض الإسرائيلي و العجز العربي
إعداد: د. ميشال يمين
باحث

موجز البحث:
يتطرق البحث الحالي إلى مسألة الدولة الفلسطينية الموعودة والضائعة في مثلث من العناصر المتلاقية التي تحاصرها وتمنع ظهورها.
فالأميركيون يبحثون عن مصالحهم في الشرق الأوسط ولا يبالون بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه بعد أن جهدوا في السنوات الأخيرة لإضاعة الأسس والمبادئ التي بنيت عليها الأمم المتحدة ومن بينها حق الشعوب في تقرير المصير، والتضحية بهذه الحقوق على مذبح العولمة، أي هيمنة الاحتكارات العالمية الأميركية الجنسية على اقتصاد العالم وهيمنة حكومة الولايات المتحدة سياسياً على القرار العالمي. وهم حريصون على مكافحة "الإرهاب الدولي" أكثر من حرصهم على الحق والعدل. وبذا حولوا القضية الفلسطينية من قضية مركزية استقطبت قوى الصراع العالمي خلال ما يقرب من نصف قرن من الزمن إلى قضية ثانوية، محلية، يمكن الرجوع إليها بين الفينة والفينة فقط لتسهيل سير عجلة مصالحهم في المنطقة.
والإسرائيليون يعملون للاستفادة من توازن القوى العالمي الحالي ومن الحملة الأميركية على "الإرهاب" في أرجاء العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط الغني بالنفط والحابل بأسباب المقاومة وحججها ضد الإسرائيليين والأميركيين بعد أن استولى أولئك على فلسطين وهؤلاء على العراق، من أجل ضرب المقاومة الفلسطينية التي تطوّر عاماً بعد عام أساليب نضالها وتجذّرُها وتصفيةِ القضية الفلسطينية من خلال الموافقة، إذا ما أُكرهوا على ذلك، على دولة فلسطينية لا حول لها ولا طول، تكون تحت الخيمة الأميركية والخيمة الإسرائيلية معاً. وليست حدود العام 67 هي بأية حال الحدود التي يرتضونها لإسرائيل، إذ هم يريدون حدوداً تمكن حمايتها إذا ما تبدلت الظروف. وليست عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم هي ما يقبلون به لأنهم يخشون من انفجار ديموغرافي فلسطيني يكون أعتى من كل الانفجارات الحاصلة حتى الآن على أيدي المقاومين والاستشهاديين.
ولا يبدي الزعماء العرب إزاء هذا الواقع سوى اعتكافٍ عن القيام بما اعتبروه في الماضي واجباً قومياً حيال قضية الشعب الفلسطيني واكتفاءٍ بـ"أطباق" الحلول غير الشهية التي تقدمها لهم حيناً بعد حين الإدارة الأميركية. ولئن هم أضاعوا فرصاً كان فيها التوازن العالمي لصالحهم أكثر مما هو اليوم، فكيف يمكن لهم أن يعالجوا اليوم قضية مصيرية بهذا الحجم في ظل اختلال التوازن العالمي لغير صالحهم، وفي ظل العجز الحاصل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وفي ظل حاجةِ كبرى دولِهم إلى المساعدات المالية الأميركية على ضآلتها بالمقارنة مع ما تعطيه أميركا لإسرائيل من مساعدات، وذلك لأجل البقاء "على وجه الماء"، فيما الأموال العربية الوفيرة تدعم الاقتصاد الأميركي في مسيرته المظفرة نحو الهيمنة على العالم، في معركته التي يمكن تسميتها عن حق بـ"أم المعارك" الأميركية؟
بدلاً من المقدمة: تحولات السياسة الأميركية الداخلية وتأثيراتها الخارجية إسرائيلياً كانت إدارة كلينتون السابقة في الولايات المتحدة متداخلة شديد التداخل مع الأوساط اليهودية في هذا البلد، وكانت تضم عددا كبيرا من اليهود في الدوائر وسائر البنى الرسمية الرئيسية، ولها التزامات سياسية وأيديولوجية تجاه الحكومة والنخبة الصهيونية "اليسارية" في إسرائيل. ومن هنا كان النفوذ اليهودي، الصهيوني حكماً، يقرر إلى حد بعيد الرؤية السياسية الخارجية للولايات المتحدة في ظل حكم الحزب الديموقراطي. ولم تكن أيضا بعيدة عن مفاعيل هذا النفوذ السياسة الداخلية الأميركية ببرامجها وإصلاحاتها الاجتماعية. وحاول حزب العمل الإسرائيلي بالتعويل على هذا النفوذ أن يجر فلسطين وسوريا إلى اتفاقات كمب ديفيد التي كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر قد فرضها على مصر. فتسوية نزاع الشرق الأوسط كان مفترضا بالنسبة إلى الرئيس كلينتون أن تضحي عاملا هاماً من عوامل نجاح الحزب الديموقراطي في انتخابات العام 2001.
وسعى كلينتون إلى تأمين سلام مديد في المنطقة على أساس تسوية "شاملة" تضمن لإسرائيل الوجود الآمن وللولايات المتحدة علاقات تشارك متشعبة مع الدول العربية. هذه المقاربة ارتكزت على سياسة خارجية أميركية افترضت أن على الولايات المتحدة أن تتحمل المسؤولية عن كل أمر جلل في العالم.
غير أن الثمانينات من القرن الماضي أخذت تشهد تأزم وضع الأوساط اليهودية الأميركية فكرياً وسياسياً، وكان مرد هذا إلى فقدان اللوبي اليهودي احتكاره للنفوذ على الإدارة الأميركية، إذ بدأت تظهر مجموعات نفوذ أخرى تمثل مصالح براغماتية وترتبط بكبرى الشركات الأميركية، كما أخذت تتوسع شقة التناقض فيما بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول مسائل جوهرية مثل وجود الدولة العبرية ومصالحها الحيوية الجذرية، وتبرز علائم معاداة "جديدة" للسامية! في الولايات المتحدة. وقد زاد في تفاقم هذا الاتجاه أيضا موقف الاتحاد الأوروبي "الموالي للعرب" وانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي. ذلك أن هذا الأخير جعل الاهتمام الأنغلو-سكسوني بالعامل "اليهودي" كمحارب على جبهة الصراع مع الاتحاد السوفياتي ينحسر انحسارا كبيرا. كما اشتد التنافس اليهودي العربي على خطب ود الولايات المتحدة ومحاولة التأثير في الرأي العام الأميركي والإدارة الأميركية مع اشتداد ساعد بعض العرب اقتصادياً واغترابياً. فبرز في هذا المجال عدد من الدول العربية كالسعودية (بقدراتها المالية النفطية) ومصر ولبنان (بمبادراتهما الدبلوماسية وبالاستفادة من الوجود الاغترابي والتنظيمات الإسلامية في الولايات المتحدة).
وقد جهدت النخبة السياسية اليهودية في ظل هذا الوضع لتصحيح مسار أنشطتها في المجتمع الأميركي ولتغيير المرتكزات الأيديولوجية للسياسة الإسرائيلية، ما عنى تحولاً نحو اليمين في الثمانينات في إسرائيل على صعيد السياسة والمجتمع، وتخلياً عن الأفكار "الاشتراكية" الصهيونية التقليدية (المتمثلة في حزب العمل)، وفسح الطريق أمام وصول حزب الليكود واليمين الصهيوني إلى السلطة ليحدد مدى سنوات عديدة، لا تُعرف لها نهاية بعد، نوعيةَ القرارات الاستراتيجية التي تغيرت تغيرا جذرياً بعد اغتيال رابين. وأظهر تشكيل حومة إسرائيلية برئاسة أرييل شارون أن فترة ولاية بنيامين نتانياهو القصيرة لم تكن سوى حدث طارئ، وأن نظاماً يمينياً وقومياً متعصباً سيسود في إسرائيل لفترة طويلة.
ولعبت توجهات السياسة الأميركية دوراً هاماً في إعادة توزيع القوى السياسية في إسرائيل. ففي ظل هيمنة الجمهوريين واليمين المديدة في الولايات المتحدة كانت تتخذ في إسرائيل الإجراءات الآيلة إلى "إنهاء" حقبة الليبراليين اليساريين و"الاشتراكيين" الصهاينة (حزب العمل وغيره) الذين أسسوا دولة إسرائيل وبدءِ حملة إصلاحات يمينية جذرية في الاقتصاد والسياسة وإجراء تغيير على صعيد الوعي الاجتماعي في إسرائيل. وسعى اليمين الإسرائيلي، بدعم من الأوساط اليهودية اليمينية في الولايات المتحدة، إلى تعزيز مواقعه في الكنيست والحكومة مستفيداً من المشاكل الاقتصادية الداخلية التي خلفها حكم حزب العمل في فترة الثمانينات المعتبرة مثابة "الوقت الضائع" بالنسبة إلى الاقتصاد الإسرائيلي.
وجاءت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2001 التي جرت في ظل أجواء مناهضة لإسرائيل (في خارج الولايات المتحدة أكثر مما في داخلها، إذ إن استطلاعاً للرأي العام في بريطانيا، مثلا، بين أن أغلبية البريطانيين يعتبرون إسرائيل أخطر قوة على السلام العالمي) لتبين أن يهود الولايات المتحدة أعطوا أصواتهم بنسبة 87 بالمائة إلى مرشح الحزب الديموقراطي آل غور. وهنا لا بد من أن نلفت إلى أن "العداء للسامية" غير منتشر في أوساط الأميركيين الذين يؤيدون الحزب الجمهوري. فحتى البروتستانت البيض من مختلف الطوائف والشيع البروتستانتية، وفي الولايات الجنوبية بالذات، يؤيدون التشارك مع إسرائيل والأوساط اليهودية وينظرون دينياً إلى اليهود نظرتهم إلى "شعب الله"، ويشككون، بالمقابل، في صحة وضرورة التعاون مع الدول العربية والإسلامية. ومن نافل القول أن الأجواء المعادية للإسلام والمسلمين تتعزز في بيئة كهذه.


ولئن كان الصراع خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2001 بين أنصار الليبرالية اليسارية والكوسموبوليتية (الحزب الديموقراطي والنخب اليهودية) وأنصار النزعة التقليدية الأميركية والتعصب القومي ذي الحلة الجديدة والتمسك بأولوية المصالح الأميركية (الحزب الجمهوري) قد أسفر عن فوز الجمهوريين، فإن هؤلاء على رغم تمسكهم بالأصولية المسيحية يتسم موقفهم من إسرائيل بالازدواجية. فهم على الرغم من موقفهم الديني المتعاطف معها يُبدون مزيدا من البراغماتية تجاهها إذ ينظرون إليها كمشكلة لا حل لها من حيث المبدأ، ومن شأنها أن تضر أيما إضرار بالمصالح القومية الأميركية في المدى البعيد.
وقد لجأ الرئيس بوش الأصغر إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية في الولاية الأولى له إلى إحداث "تطهير" في وزارة الخارجية والبنتاغون ومعاهد التحليل السياسي الأساسية العاملة لصالح الحكومة والمساهمة في تكوين السياسة الأميركية. وقد جاء هذا التطهير بأشخاص يمينيين ذوي أفكار محافظة إلى أعلى المناصب. واتسم بأهمية كبيرة معهد سياسة الشرق الأوسط في واشنطن المتعاطف جدا مع إسرائيل ولكن ذو التوجهات اليمينية المتشددة.
وهذا الرأي سائد في أوروبا أيضاً. فالرئيس السابق للبرلمان الأوروبي أوتو هابسبورغ-لوثرينغن Otto Habsburg-Lothringen يرى مثلا أن "المواقع القيادية في وزارة الدفاع الأميركية يحتلها يهود. فالبنتاغون هو اليوم مؤسسة يهودية" كل همها حماية إسرائيل".[1]
غير أن البلدان العربية لا تميل  إلى إعطاء أهمية كبيرة لما يظهر وكأنه تباعد بين إدارة بوش والأوساط اليهودية. فالولايات المتحدة، برأيها، سوف تواصل حيال إسرائيل سياسة التشارك الاستراتيجي القديمة معها. وإسرائيل، الشريك التقليدي الوفي للولايات المتحدة، مستعدة للمضي قدماً في القيام بدور جغراستراتيجي هام في المنطقة. وإلى جانب ذلك، ليست هناك دولة عربية واحدة، أيا تكن "تضحيات" الولايات المتحدة المادية والسياسية تجاهها، قادرة على أن تصبح كمثل هذا الشريك وفاء وإخلاصاً لها. ففيما عدا القضية الفلسطينية وقضية هضبة الجولان ومزارع شبعا يبقى للعالم العربي الذي هو نموذج مصغر عن العالم الإسلامي عدد من المآخذ على الولايات المتحدة في غير المسألة الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي. فمن بين مآخذ النخبة السياسية والمالية النفطية مثلا تلك المتعلقة بسياسة الولايات المتحدة في مجال الطاقة والاقتصاد وبتنافس الرساميل وباللامساواة في التعاون الاقتصادي، ويأخذ المثقفون العرب على الولايات المتحدة محاولة فرضها بالقوة طرقاً ونماذج للتطور الاجتماعي تندرج في إطار العولمة الأميركية الطابع، ولكنها لا تنسجم، حسب اعتقادهم، مع التقاليد السياسية العربية، كما يأخذون عليها محاولاتها الدؤوبة في السنوات الأخيرة، بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن في أيلول علم 2001، لوصم العرب والمسلمين بنشر الإرهاب في العالم، وهو ما يحدوهم على معاداتها حتى اعتبارها مثابة الشيطان الأكبر الذي لا بد من مقاتلته في كل رقعة من رقاع العالم. فلن يكون إذاً أمراً ذا معنى، من وجهة النظر الأميركية، أن تتخلى الولايات المتحدة عن إسرائيل كبلد يقدم لها الخدمات الجغراستراتيجية الجلّى في ظل تعذّر العثور على دولة عربية تكون لها طوعاً مثابة الشريك الاستراتيجي الحقيقي. وإسرائيل المسالمة المسامحة المتعاونة مع الدول العربية ليست الولايات المتحدة بحاجة إليها البتة. فهي، على عكس ذلك، بحاجة إلى إسرائيل مقتدرة مقاتلة تساعدها على أن تسيطر على المنطقة، إلى إسرائيل تكون مثابة ميدان جغراسياسي وقلعة عسكرية للغرب، ليس ينقصه لأجل اعتبارها جزءا منه يدافع عنه في كل محنة سوى القدرة والقحة السياسية وحسب.
ولذا كثرت المشاريع التي طرحتها الإدارة الأميركية الحالية لتسوية نزاع الشرق الأوسط حتى الآن فيما تدور رحى حرب عربية إسرائيلية جديدة اسمها الانتفاضة الفلسطينية. إلا أن كل هذه الصيغ والمشاريع والأفكار ليست لها إلا أهمية دعائية وحسب. ويمكن زعم أن عدم تطابق المواقف الأميركية مع مصالح العرب هو الذي وضع حداً للحوار المتّسم بالتسامح بين الغرب والعالم الإسلامي، وليس أحداث الحادي عشر من أيلول، وهو ما اتخذ شكل صراع حضارات يجلبب صراع العالم المتقدم على ثروات العالم المتخلف، وإن كان صراع الحضارات هذا يطمسه تفرد الولايات المتحدة بدور يعتّم على دور أوروبا وروسيا ويزيحهما "من الدرب"، مثلما "تطمسه" الفرقة والخلافات القائمة بين مختلف البلدان العربية منذ زمن بعيد والتناقضات بين الدول الإسلامية التي تنتمي إلى مجموعة حضارية واحدة، وكذلك احتمالات أن تصبح إسرائيل مستقبلا- ويا لسخرية القدر!- شريكاً لدول عربية أرغبَ إلى أفئدة حكام هذه الدول من التشارك مع دول عربية أخرى.

 

تغير أولويات السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط
تعزى بداية تبلور المصالح والأغراض الحالية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط في عهد جورج بوش الأصغر عادة إلى أحداث 11 أيلول عام 2001. والحقيقة أن السياسة الأميركية حيال مشاكل الشرق الأوسط بدأت تأخذ منحى جديدا منذ أواخر عهد كلينتون دون أن يتسنى لهذا المنحى البروز لقصر الوقت في نهاية الولاية وعدم وجود المتسع الضروري من الحرية للإعلان عن إعادة النظر في هذه السياسة، نظراً لحلول موعد الحملة الانتخابية بين نهاية عام 2000 وبداية عام 2001 وما تفرضه من قواعد لا بد من مراعاتها في مجال استجداء عطف اللوبي اليهودي. وقد جاءت سياسة بوش وفريقه وخطابهما السياسي حيال الشرق الأوسط أوضح في الإعلان عن مُثل المجموعة السياسية الراديكالية المحافظة التي تعكس مصالح ذوي النزعة القومية والتقليدية الجديدة في المجتمع الأميركي.
فتسوية نزاع الشرق الأوسط لم تعد تهم كثيرا الولايات المتحدة للأسباب الآتي ذكرها:
أ- تحولت إسرائيل بنتيجة أدلجة السياسة الخارجية الأميركية في عهد كلينتون من عامل يضمن حماية المصالح الأميركية إلى كيان يحتاج هو نفسه إلى حماية وضمان لأمنه، وإلى جهود وموارد سياسية ضخمة غير مبررة. فإسرائيل لم تعد تقوم بوظيفة الشريك الاستراتيجي المكتفي بذاته، بل أضحت عامل بلبلة شاملة للأوضاع وتقويض للمبادرات الأميركية الاستراتيجية.
ب- بات العامل الإسرائيلي ومشكلة الشرق الأوسط عموما وسيلة تستخدمها القوى السياسية النافذة في الولايات المتحدة المشكّلة جزءا من الحزب الديموقراطي في الصراع السياسي ضد الخصوم الجمهوريين. ولئن كان الإجماع قائما خلال العقود الثلاثة السابقة بين مختلف القوى السياسية في الولايات المتحدة حيال دور إسرائيل ونزاع الشرق الأوسط، فإن الآراء والمواقف في هذا المجال أخذت الآن تلحظ افتراقا واستقطاباً، ربما تجاوز القطبين إلى ما هو أكثر.
ت- بعد اتفاقات كمب ديفيد المصرية الإسرائيلية عامي 1977-1978، أي في خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة حصل تعجيل في تكامل النخبتين السياسية والاقتصادية الأميركية والعربية. فبات عدد كبير من الدول العربية بنتيجة ذلك مثابة شركاء اقتصاديين وحلفاء سياسيين أمناء للولايات المتحدة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي راحت الدول العربية الأشد تأدلجاً والأكثر تقرباً منه، ولا سيما سوريا وليبيا، تتقرب من الغرب وتبدي حرصاً على إقامة علاقات ثقة متبادلة مع الولايات المتحدة. ولقد أودع في الولايات المتحدة قسم كبير من رأس المال العربي الرسمي والخاص (قرابة 900 مليار دولار)، وهو ما يتوقف عليه إلى حد بعيد ازدهار الاقتصاد الأميركي واستقرار نموه. وكان الصلح المصري الإسرائيلي هنا مثابة نقطة انطلاق لهذا التكامل. ولا تشكل حيثيات النزاع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية حاليا أي عقبة عملياً في وجه المزيد من التقارب الأميركي الإسرائيلي. ولربما كانت مخاوف الجزء الراديكالي من النخبة السياسية العربية حيال تسارع تقارب النخب العربية عموما مع الولايات المتحدة عاملا حاسماً في مجال تدبير أحداث الحادي عشر من أيلول.
ث- لا تربط إدارة بوش تسوية نزاع الشرق الأوسط (وبالأخص القضية الفلسطينية) بالتكامل لزاماً فيما بين إسرائيل والدول العربية. فلعل فريق بوش يرى أن كمّاً هائلا من المال والجهود السياسية قد وظِّف في إسرائيل، فلا يسع الولايات المتحدة أن تفسح المجال لإسرائيل كي تستنفد وظيفتها التاريخية والجغراستراتيجية (أي كي "تحيل نفسها إلى التقاعد"). فإسرائيل يجب أن تواصل القيام برسالتها ودورها في المنطقة كهراوة تهدد عرب السيادة والاستقلال وصون الثروات العربية، بل ليس فيها فقط، فربما في كل منطقة أوراسيا الممتدة من الشرق الأوسط وتركيا غرباً حتى شواطئ المحيط الهادئ شرقاً، كممهدة ومسوِّقة لإنفاذ السياسات والمصالح الأميركية في هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة. في هذا السياق تخلت الولايات المتحدة عن مبدإ الاعتكاف عن إقامة أحلاف سياسية وعسكرية إقليمية في المنطقة بعد انهيار أحلافها المعروفة في الخمسينات والستينات في المنطقة بفعل تعزز حركة التحرر الوطني العربية آنذاك بدعم سوفياتي، وراحت تسعى إلى قيام حلف إسرائيلي تركي أردني يبقى مفتوح الأبواب لانضمام آخرين إليه. ومعلوم ما قامت وتقوم به إسرائيل من نشاط سياسي محموم في منطقة جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وحتى في أفغانستان (حتى في ظل حكم "الطالبان" أيضا). ومن بين البدائل التي تسعى إليها الولايات المتحدة إقامة حلف موالٍ لها يشارك فيه عدد من الدول العربية. وقد كانت تتوالى الضغوط حتى على سوريا في كل الاتجاهات قبل احتلال الأميركيين للعراق من أجل أن تنضم إلى هذا الحلف، وذلك بغية منع نشوء حلف خطر جدا على الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا كان مفترضاً أن يضم إيران والعراق وسوريا وأن تدعمه بهذه الطريقة أو تلك بلدان أخرى مثل لبنان واليونان وقبرص وأرمينيا وغيرها. ومن هنا نفهم أهمية احتلال العراق بالنسبة إلى الأميركيين كوسيلة لقطع التواصل الإيراني العربي الراديكالي، بعد أن كان احتلال فلسطين في عام 1948 وسيلة لقطع حبل التواصل العربي فيما بين مشرق العالم العربي ومغربه.
ج- تدنت إلى الحد الأدنى عمليا مواقع روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط بعد أن وجهت في بداية التسعينات جل اهتمامها نحو العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، وحجمت علاقاتها مع كل "العالم الثالث" تقريبا باعتبارها علاقات "مؤدلجة" موروثة من سياسة الاتحاد السوفياتي الخارجية سابقاً. ولن تستطيع الصين طبعاً أن "تحل محل" الاتحاد السوفياتي، خصوصاً لما تبديه من حرص على الحصول على تقنيات عسكرية وغير عسكرية من إسرائيل، ناهيك بالتوظيفات الأميركية والغربية الضخمة في اقتصادها. ومن مفارقات الأمور أن يدنّي خسران روسيا لمواقعها في الشرق الأوسط من أهمية الدور الإسرائيلي بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وهذا ما يغير في الوظيفة الاستراتيجية لإسرائيل ويحدو الأميركيين على إعادة النظر في تلك الوظيفة.
ح- ليست الولايات المتحدة مهتمة بتسوية القضية الفلسطينية، وبتسوية نزاع الشرق الأوسط عموما، بقدر ما هي مهتمة بضمان الأمن الإقليمي، ومن خلاله "الأمن القومي الأميركي" في المنطقة. ولعل فريق بوش لا يربط مفهوم تسوية النزاع (الإسرائيلي الفلسطيني مثلا) بالتوصل إلى تعايش آمن ومستقر في المنطقة. وإذا أخذنا في الحسبان بروز القضية العراقية بعد احتلال أميركا لهذا البلد العربي، والدعوات الخطرة لمكافحة الإرهاب في كل مكان من العالم، فإن القضية الفلسطينية أخذت تبدو وكأنها قضية خاصة، جزئية، وباهتة على عِظَم أهميتها. ذلك ان قضية فلسطين والقدس والقضية العراقية، باتتا الآن حجة لمبادرات وتصرفات هدامة وخطرة جدا أحياناً بالنسبة إلى الأميركيين في العالم الإسلامي. بينما لا نرى سوى عدم اكتراث من قبل النخب الحاكمة في معظم البلدان العربية بفكرة استرجاع العرب للقدس وبالأخص إنشاء الدولة الفلسطينية. ولا بد من القول إن أفكارا مماثلة منتشرة جدا بين أوساط المثقفين والساسة العرب من ذوي التوجه المغربن.
خ- إن نزاع الشرق الأوسط والساحة السياسية لتسويته قد كفّ عن أن يكون أداة تأثير أميركي فاعل في المنطقة، وبالأخص في السياسة النفطية. فبعد فقدان روسيا لمواقعها في الشرق الأوسط واستبعاد آفاق تنامي نفوذ الدول الأوروبية والصين فيه، وهو ما كان وراء رفضها المشاركة في الحرب الأخيرة على العراق (باستثناء بريطانيا، حليف الأميركيين الدائم في القارة الأوروبية، والبلد الذي استعمر العراق في الماضي واستولى على بتروله من خلال شركة "نفط العراق"، فعندها لذلك "نوستالجيا" خاصة تجاه العراق)، وما نجم عنه تاليا من تثبيت لهذا الإخراج، أخذت سياسة الولايات المتحدة في المنطقة ترتبط بقضايا النفط وموارده في منابعه الأصلية. فالمهام الجغراستراتيجية الصرف باتت ذات مضمون جديد، وهو ما جعل الأهداف العامة للولايات المتحدة ذات الصلة بضمان أمنها في مجال الطاقة تكتسب ملامح أشد وضوحاً وسفوراً، ولا تحتمل اللف والدوران. فالولايات المتحدة بحاجة إلى استقرار تدفق النفط من المنطقة بأسعار مقبولة، وكل ما تقوم به يصب في خانة احتلال منابع النفط، وهو الحلم الأميركي منذ خمسينات وستينات القرن الماضي. ولذا نرى أن مواقف ومبادرات الولايات المتحدة في شأن القضية الفلسطينية خصوصا وقضية الشرق الأوسط عموما، في تباطؤها حيناً وتظاهرها العجلة حيناً آخر، لا بد من النظر إليها وتقييمها انطلاقا من المصالح النفطية. حيال هذه المصالح تبدو أمور أخرى كالسيطرة على السوق العربية وعلى التدفقات المالية العربية وعلى مصادر الخامات الأخرى الموجودة في المنطقة، وحتى على طرق المواصلات أمورا ثانوية أو على الأقل أدنى أهمية.
انطلاقاً من هذه اللوحة لتطور الأحداث السياسية في الشرق الأوسط لا بد من استعراض عدد من المسائل التي تعكس أوجهاً مختلفة لتغير الأولويات في السياسة الأميركية وفي الوضع ككل.

 

"محاربة الإرهاب" وتغير الخطاب الاجتماعي العالمي
لقد أثرت أحداث الحادي عشر من أيلول فعلا في مسار السياسة الدولية، سواء أكانت مفتعلةً أم حقيقية. غير ان تأثيرها الفعلي لم يغير في الوقائع الاقتصادية والمالية والسياسية، بل فسح المجال لاستفادة نخب سياسية واقتصادية معينة من الوضع المستجد بغية كسب مواقع جديدة أفضل. فقد حصلت تغيّرات أساسية ومبدئية في الخطاب العالمي الشامل. ولئن كانت مقولات من مثل الأخطار والتهديدات "الجديدة" من جانب "الإرهاب الدولي" وغيره من الحركات "الهدامة" والنزاعات الإقليمية مطروحة أصلاً في أهم الوثائق الرسمية الصادرة في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من كبريات الدول، فهذه التهديدات بقيت بالنسبة إلى الرأي العام العالمي أموراً محلية وحزئية لا تعنيه بقدر ما تعني المجموعة الغربية. ولقد جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 لتغير هذا الواقع تغييرا جذريا ولتجعل من محاربة "الأخطار الجديدة" حاجة راهنة شاملة تعلو على غيرها من الأولويات، ولتوجد "الأسس" و"البراهين" و"الحجج" العاملة لصالح إزالة مفاهيم ومبادئ السيادة الوطنية المثبتة في المواثيق الدولية منذ نشوء عصبة الأمم. واستطاعت الولايات المتحدة أن "تسحب" موضوع النقاش العالمي في هذا المضمار من بؤر النزاعات الإقليمية المحلية خارج حدودها هي إلى داخلها لتضحي هي المركزَ والقلب من مشكلة مكافحة الإرهاب. ولهذا تحول نزاع الشرق الأوسط الذي بقي فترة طويلة محط اهتمام الرأي العام العالمي كمركّم لنزعات التصارع العالمي إلى نزاع جزئي تائه في بحر النزاعات العالمية. ولا شك في أن عوامل وظروفاً أخرى أيضا كانت وراء هذا، وفي طليعتها انهيار نظام التنافس والتصارع الثنائي القطبية في العالم بانهيار الاتحاد السوفياتي، غير أن تفجيرات الحادي عشر من أيلول حوّلت نزاع الشرق الأوسط إلى مرتبة النزاعات المحلية العادية بتحويلها الأنظار كل الأنظار إلى مشكلة "الإرهاب الدولي" ورأسه المدبر منظمة القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن. وهذا ما خفض من أهمية هذا النزاع بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية. والشيء نفسه يحصل بالنسبة إلى نزاعات أخرى في العالم كتلك التي في جنوب القوقاز أو في إفريقيا مثلا. وهذا ما مكن الولايات المتحدة سواء من تجاهل النزاعات إذا لم تكن تمثل تهديداً لمصالحها، أو من إحيائها إحياء مصطنعاً وتركيز الأنظار عليها إذا ما استجاب هذا الأمر لمصالحها. وهكذا بات في يد الولايات المتحدة مفتاح تقرير أولوية التدخل في هذا النزاع أو ذاك وتوتيره أو إخماده بصورة اعتباطية، وامتلكت هي "الحق" في احتكار تقرير موضوع الجدال العالمي وأولويات السياسة العالمية.

 

تغير الموقف من الحلفاء القدامى وبروز حلفاء جدد.

لقد جرى تضخيم خطر الإرهاب العالمي في السنوات الأخيرة على خلفية تطورات أخرى غير مؤاتية للولايات المتحدة. ولا بد هنا أولاً من أن ننوه بتنامي استقلالية الشركاء الأوروبيين وخروجهم خروج القاصر الذي بلغ سن الرشد من تحت الوصاية وصيرورة القوات المسلحة الأوروبية والخطوات الفرنسية والألمانية وحتى البريطانية غير المسبوقة نحو تكوين مقاربات أوروبية موحدة حيال هذه أو تلك من القضايا الدولية. بديهي أن لا تكون هذه التوجهات قد أنجزت الإنجاز التام، فهي لا تزال محدودة، غير أن من أهم ما أنجزه الأوروبيون ويمكنه أن يمس المصالح القومية الجذرية للولايات المتحدة هو إنشاء العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وقوات الرد السريع والتقارب مع روسيا ومحاولة طرح مبادرات على صعيد السياسة الخارجية تكون بديلا عن المبادرات الأميركية ونقيضا لها في أحيان كثيرة. ولذا افترض تغييرُ سلم الأولويات في العالم وفي السياسة الإقليمية "تدقيقَ" دور ومكان الحلفاء التقليديين "الراشدين" للولايات المتحدة وتوليدَ حلفاء وشركاء جدد من بين القاصرين. ولئن اتضح بعد 11 أيلول أن بين الولايات المتحدة وبريطانيا علاقات خاصة، ليس فقط على الصعيد غير الرسمي، بل أيضا علاقات رسمية (تعاهدية) تقضي بالقيام معاً بعمليات عسكرية مشتركة في مختلف مناطق العالم تتجاوز نطاق التزامات الحلف الأطلسي (الناتو)، فقد أبدت الولايات المتحدة، بالمقابل، عدم حرصٍ على مشاركة فرنسا وألمانيا وغيرهما من بلدان حلف شمال الأطلسي في الحملة الأفغانية مثلا. وهي لم تلح أيضا على مشاركة هذه البلدان في الحرب على العراق لاحقاً وإن سعت عبثاً من خلال مجلس الأمن الدولي إلى تغطية سياسية من قبلها لا أكثر. وبذلك حَدّدت مكانة هذه البلدان في السياسة الدولية كدول غير عظمى وإن كانت دولاً كبيرة، وهمشتها نسبياً. وتعاون الولايات المتحدة مع روسيا خلال الحرب الأفغانية كان من شأنه، عدا ضرورته فعلاً للأميركيين، أن يظهر للأوروبيين أنهم مبعدون عن أهم ساحات السياسة العالمية وأنّ بوسع الولايات المتحدة أن تتعاون مع من "لا يمكن توقعه" من الشركاء. ولقد تم عموما إحراز هذا الهدف بكليته عمليا وعلى أفضل نحو. فالمجموعة الأوروبية وجدت نفسها محصورة في رقعة جغرافية صغيرة جداً لا تتجاوز حدود أوروبا والبحر المتوسط و"المنطقة الفرنسية" في إفريقيا الضئيلة الأهمية على صعيد السياسة العالمية. وفي الوقت نفسه أهدرت الولايات المتحدة نهائيا دور الأمم المتحدة وأسفّت من قيمة قرارات هذه المنظمة الدولية. زد على ذلك أن الولايات المتحدة سيّرت، بعد تهميش دور الأمم المتحدة وبلدان أوروبا الرئيسية، سيناريو خفض الأهمية الدولية لحلف الأطلسي. فالعملية الأفغانية أظهرت مدى التجاهل لحلف الناتو ومحدودية هذا الحلف على صعيد الجغرافيا السياسية.
وفي الوقت نفسه حرصت الولايات المتحدة على تكوين رهط جديد من الحلفاء والشركاء، خاصة من بين البلدان التي لم تبلغ بعد سن الرشد ولا تزال بحاجة إلى وصي يؤمن لها أسباب العيش و"الخرجية"، والتي يمكن أن يكون التعاون معها أكثر فاعلية وأقل هدراً للوقت الثمين وللموارد السياسية. والمطلوب من هؤلاء الحلفاء ليس القدرة على القيام بمهام عسكرية قتالية ذات شأن بقدر ما هو أن يقدموا أراضيهم وبناهم التحتية ويؤمنوا الاستقرار والتجاوب في مناطقهم والغطاء السياسي والمعنوي في المناطق الأخرى. وتنظر الولايات المتحدة إلى روسيا كشريك رئيسي "جديد" على الرغم من كل ما تبديه أوساطها الإعلامية والسياسية من عدم ثقة بحكم الرئيس بوتين بين الفينة والأخرى. وهي حتى الآن لم ترسم خطة للمضي في التعاون مع روسيا، وإن كان تنفيذها قد يمر عبر "ثورة مخملية" على شاكلة "الثورة البرتقالية" مؤخراً في أوكرانيا، أو حتى "عنفية" تطيح بوتين وتجيء بمن هو أكفأ منه في الحفاظ على مصالحها في المجال السوفياتي السابق. غير أن مهمة الولايات المتحدة هي الحد من التعاون الروسي الأوروبي وجر روسيا إلى مشاريع مكافحة الإرهاب، ولا سيما في أطراف أوراسيا: وسط وجنوب آسيا. وبهذا يحصر دور روسيا الدولي ضمن مناطق غير مستقرة سياسيا وأمنيا ومغلقة من ناحية الجغرافيا السياسية. وقد اتضح للولايات المتحدة في سياق قيامها بالحملة العسكرية على أفغانستان أن من الصعب جدا القيام بمثل هذه الحملات في ظل عدم وجود قواعد عسكرية لها في الأقاليم المعنية. ولذا كان من بين أهداف الولايات المتحدة المهمة أيضا إقامة علاقات تعاون عسكري مديد مع عدد من دول المنطقة كأوزبكستان وكازاخستان وجورجيا وأذربيجان وقرغيزيا وأرمينيا وغيرها. غير أن الإنجاز السريع للجزء الرئيس من الحملة الأفغانية أفضى إلى إعادة النظر في ثوابت الوجود العسكري الأميركي في وسط أوراسيا. فتركيا حليف الولايات المتحدة وشريكها التقليدي ينظر إليها الأميركيون بالدرجة الأولى لا كشريك في الحلف الأطلسي، بل كشريك من خارج هذا الحلف. والشيء ذاته يمكن قوله في إسرائيل. فالمهام التي تعمل الولايات المتحدة على معالجتها في الشرق الأوسط وفي منطقة أوراسيا تفترض ابتعاد تركيا عن الحلف الأطلسي وإقامة علاقات أشد وثوقاً مع الولايات المتحدة مباشرة. بهذا المعنى يمكن أن ينظر إلى تركيا أيضا كحليف "مستجد" للولايات المتحدة، أي قائم بدور جديد. وقد تعزز هذا الدور الجديد لتركيا على امتداد التسعينيات. (هناك من يزعم أنه إذا لم تُقبل تركيا في الاتحاد الأوروبي، فإنها بعد مضي 10 سنوات ستختفي كدولة موحدة).[2]
غير أن وضع إسرائيل، هذا الحليف الثابت والتقليدي للولايات المتحدة، سائر إلى تغير أيضا. فإسرائيل سوف ينظر إليها لا كما من قبل، أي انطلاقا من دورها فقط في منطقة وجودها، بل ضمن إطار الهدف "العام" للحلفاء والشركاء الذين لا تتسم منطقة الشرق الأوسط عموما، وبالأخص القضية الفلسطينية، بأهمية تذكر بالنسبة إليهم. ويمكن أن نجد في العالم العربي عددا لا بأس به من مثل هذه الدول، كما يمكن أن ننسب إلى مثلها عمليا كل دول جنوب القوقاز ووسط آسيا.
وهكذا سوف يفقد كل من إسرائيل والفلسطينيين الساحات الأخرى التي تعالج مشاكلهم (كأوروبا أو روسيا)، كما ستتجاوز إسرائيل عزلتها التقليدية في آسيا. وربما يمكننا في ظل هذا الوضع الجغراسياسي الجديد أن نتوقع قيام دولة فلسطينية قريبا، ولكن بشروط لا تستجيب لا لمطامح إسرائيل، ولا لمصالح الفلسطينيين، بل لأمن الولايات المتحدة.


 
مواقف الولايات المتحدة وإسرائيل وخططهما في مجال تسوية نزاع الشرق الأوسط، ومواقف الأوروبيين.

يخال المرء أن لدى الولايات المتحدة خطة محددة ما لتسوية القضية الفلسطينية. فهي شكلت فريقا يبدو ذا شأن يهتم بمسألة تسوية هذه القضية. فعينت الجنرال الأميركي اللبناني الأصل إنتوني زيني (الزعني)، وهو من بين أكثر الجنرالات نفوذا سياسياً، ممثلا خاصا لها في الشرق الأوسط ليمارس الضغوط على كل من إسرائيل والفلسطينيين. وسلمت ديفيد ساترفيلد، أحد أعتق الدبلوماسيين وأخبرهم في المشاكل الإقليمية، السفير الأميركي سابقا في لبنان، مهمة تنسيق سياسة الولايات المتحدة الشرقأوسطية في وزارة الخارجية الأميركية. وانخرطت في عملية تسوية القضية الفلسطينية الطاقاتُ السياسية للاستخبارات المركزية الأميركية والبنتاغون. غير أن الجهود المختبئة وراء هذه الأسماء الفضفاضة كانت خلَّبية أكثر منها مؤتية للثمار. فالولايات المتحدة لا تستخدم عمليا تلك الأساليب السياسية المعروفة التي تستخدمها عادة في سياساتها الإقليمية من عقوبات اقتصادية وضغوط دبلوماسية حقيقية على طرفي النزاع. وهي بـ"تأكيسها" على عرفات، بعد أن حصلت منه إسرائيل في حينه على تنازلات أوسلو وغيرها، اعتبرت أن لا وجود لمن يمكنه أن يتفاوض ويتوصل إلى اتفاقيات ولو على الشروط الأولية للتسوية. فثمة خطط شتى لدى الأميركيين لتسوية المشكلة، من بينها خطة السيناتور ميتشل، وخطة رئيس الاستخبارات تينيت، وبعض المقترحات المتناقضة لأنتوني الزعني. وكانت أخيرا "خارطة الطريق" التي اتخذت طابع الخطة الدولية المنبثقة عن رباعي الشرق الأوسط: الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الأمم المتحدة. غير أن ما يزال بعيدا عن الفهم هو: ما أهمية خطط التسوية هذه؟ أي منها يمكن اعتباره المفضَّل بالنسبة إلى الولايات المتحدة؟ الأقرب إلى الخطة الرسمية الأميركية هو ما يتماشى في "خارطة الطريق" مع خطة ميتشل القاضية باستئناف عملية التسوية انطلاقا من النقطة التي وصلت إليها عند انقطاعها، ولكن بشرط وقف العنف والإرهاب في فلسطين.
من الواضح تماما أن الولايات المتحدة التي لم تكن تأمل بحوار بناء، كما تراه هي وإسرائيل، في ظل الظروف الحالية، قد وقفت عملياً إلى جانب شارون وأسلوبه في التعاطي مع القضية، أسلوب ضرب الانتفاضة الفلسطينية وتدمير الجماعات المسلحة الفلسطينية واغتيال قادتها ومن ثم تشكيل جهة متفاوضة جديدة من بين الفلسطينيين. وهناك بين بوش وشارون اتفاقيات توصلا إليها خلال زيارات شارون للولايات المتحدة. فإبان زيارة شارون لواشنطن في آذار عام 2001 اعترفت الولايات المتحدة عمليا بحق إسرائيل في استخدام القوة العسكرية الفظة لضرب انتفاضة الفلسطينيين وضد التنظيمات العربية الأخرى التي تقاوم إسرائيل. وفي الوقت عينه منحت الولايات المتحدة إسرائيل ضمانات أمنية، لا سيما في شكل مساعدات عسكرية، تضمن تفوقا عسكريا استراتيجيا إسرائيلياً في منطقة الشرق الأوسط. غير أن تلك الزيارة كانت "تمهيدية" إذ إن كثيرين من المراقبين كانوا مجمعين على أن حكومة شارون لن تعمر أكثر من 6 أشهر. بيد أن مواقع شارون في إسرائيل تعززت في الواقع. وحتى عندما يشكل حكومة ائتلافية مع حزب العمل يبقى القسم اليميني من الحكومة هو الحاسم في اتخاذ القرارات. وقد تشكلت في إسرائيل عمليا "طغمة" من الوزراء والجنرالات اليمينيين تراعي أقل ما أمكن من القواعد الدستورية وتمارس عمليا أساليب دكتاتورية في الإدارة. وقويت شعبية شارون وفريقه كثيرا حتى بلغت أحياناً 70 بالمائة وأكثر. وهذه الشعبية تقوى ولا تضعف مع اتساع رقعة القتال ضد الفلسطينيين ومناضليهم وزعمائهم. وفي هذا السياق أصبحت زيارات شارون اللاحقة لواشنطن تتم من مواقع أقوى وأثبت، وهو ما اضطر الأخيرة إلى الإقرار بفاعلية سياسة شارون وقدرتها على حشر القيادة الفلسطينية في الزاوية. وأكد جورج بوش لإسرائيل غير مرة ضماناته الأمنية لإسرائيل ووافق من حيث المبدأ على ما يقوم به شارون حيال الفلسطينيين. وكانت من الأهمية بمكان أيضا زيارة شارون لواشنطن في تشرين الأول عام 2002 عندما حظي زعيم اليمين الإسرائيلي بالدعم قبيل الانتخابات النيابية المبكرة في إسرائيل، ولم يعد بعدها يُسمَع في إسرائيل سوى الصوتِ اليميني المتعصب المتطرف. وبات الخيار فقط بين شارون ونتانياهو. ويمكن القول إن الوضع في إسرائيل بات يتقرر بعد خريف العام 2000 على قاعدة الخطاب السياسي. فهذا الخطاب لا بد أن يكون قاسيا جافيا متطرفاً يفترض استخدام القوات المسلحة استخداما دائماً عمليا، فيجعل من دولة إسرائيل ومن المجتمع الإسرائيلي "قلعة محاصرة" يتنازل في داخلها السياسيون للعسكر على صعيد اتخاذ القرارات المصيرية.
وهنا لا بد من القول إن من الخطإ الظن أن الولايات المتحدة تصطدم بمشاكل ذات شأن في العالم العربي من جراء عدم حل القضية الفلسطينية. فهي في هذه المرحلة حريصة وحسب على التخفيف من عدم رضى الأميركيين أنفسهم عن التكاليف الباهظة للعلاقات الأميركية الإسرائيلية أكثر من حرصها على إرضاء خاطر العرب. فكان لا يزال يجول في أوساط المجتمع الأميركي الواسعة رأي مفاده أن أحداث الحادي عشر من أيلول ما كانت لتحصل لولا وجود واقع عدم حل المشكلة الفلسطينية. غير أن حرب العراق التي أفضت إلى انهيار النظام العراقي بسرعة واحتلال هذا البلد العربي غيرت مزاج الأميركيين وأعطت الرئيس بوش فرصة جديدة للفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بولاية جديدة، لا سيما ان أنباء الخسائر الأميركية في العراق لا تزال محصورة ضمن أطر معقولة.
لقد جهدت الولايات المتحدة كثيرا لخفض مستوى المواجهة العسكرية في فلسطين لفترة طويلة نسبياً، ما أتاح لها التفرغ لإتمام السيطرة على أفغانستان وشن الحرب على العراق. وهكذا راهنت الولايات المتحدة على تمديد مسيرة تسوية النزاع ما أمكنها ذلك. وعلى الرغم من المواقف المتصلبة التي وقفها في حينه مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى الشرق الأوسط إنتوني الزعني، فإن واشنطن لم تحاول أن تفرض على الفلسطينيين أو الإسرائيليين أية خطة عمل إضافية، بل عبرت عن سعيها لوقف العنف وتهيئة الظروف لمواصلة التفاوض، مع علمها أن المواجهة لن تتوقف بين إسرائيل والقوى المتشددة في فلسطين، وأن على إسرائيل المضي قدماً في قتال التنظيمات الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه أعربت عن عدم السماح لإسرائيل بالانخراط في العملية العسكرية المقبلة ضد العراق. وبينت القمة الإسلامية في الدوحة (قطر) عام 2001 والقمتان العربيتان في عمان في آذار 2001 وفي بيروت في آذار عام 2002 مدى الارتباك السائد بين الدول العربية والإسلامية المشاركة وعدم قدرتها على اتخاذ قرارات فعالة وملموسة. وليس حتى الآن من أساس لتوقع تشكل جبهة فعلية موحدة ضد أميركا وإسرائيل.
ولا بد من تأكيد أن مواقف وتحركات الإدارة الأميركية بقيت قبل بروز مهمة احتلال العراق بعيدة عن التفكير في رسم خطة مبدئية لتسوية المشكلة الفلسطينية. فهي في وضعها ذاك لم يكن يسعها الانهماك في تسوية أي من النزاعات الإقليمية التي لا تنسجم مع خططها لمكافحة "الإرهاب الدولي" والدول الداعمة له. وإذا تمكنت الولايات المتحدة من الإبقاء على النزاع المسلح في فلسطين مستمرا فإنها سوف تحصل على أفضليات سياسية إضافية في المنطقة. فاستمرار المواجهة في فلسطين يعتقد كلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أنه في صالحه. ذلك أن شارون لا يسعى إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، خاصة ضمن الحدود التي يطالب بها الفلسطينيون وعلى قاعدة أن تكون القدس العربية عاصمة لدولة فلسطين المزمع إنشاؤها. فمن المفهوم أنه لا تناسب شارون وفريقه تسوية القضية الفلسطينية دون غيرها، أي تسوية العلاقات مع الفلسطينيين فقط. فإذا بقيت مسألة القدس مفتوحة بعد إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والاعتراف بها، فإن هذا سيعني استمرار النزاع الإقليمي فترة طويلة لا مع البلدان العربية وحسب، بل مع كل العالم الإسلامي أيضا. ولا تريد إسرائيل السماح بأي شكل من أشكال الرقابة الدولية على القدس، بل ترغب في حل هذه المشكلة فقط بينها وبين الدول العربية. وليست إسرائيل تستبعد مثلا أن تلجأ الدول العربية في حال إنشاء الدولة الفلسطينية إلى تقديم كل مساعدة مالية لهذه الدولة، وإلى وقف كل علاقة مع إسرائيل في الوقت نفسه. وإن وضع الحصار الدائم لإسرائيل في المنطقة لهو شرٌّ عليها من الانتفاضة المستمرة. فهي وإن اصطدمت بصعوبات اقتصادية غير قليلة الشأن بنتيجة الانتفاضة لن تُعدَم السبيل إلى حل بعض هذه المشاكل، غير أن مستقبلها الاقتصادي سوف يتوقف على إمكان وصولها إلى السوق العربية الواسعة. هذه المشكلة ستكون غير قابلة للحل في ظل التواجه في المنطقة.
إن إطالة أمد المجابهة في فلسطين تتيح لشارون التوصل إلى هدفه التكتيكي الرئيسي ألا وهو التقليل من قيمة نتائج مفاوضات باراك وعرفات وكلينتون في كمب ديفيد والتخلي عنها عملياً، وهذه هي رغبة كل اليمين الإسرائيلي، وليس شارون وحده. ومن جهة أخرى كان الرئيس الفلسطيني الراحل عرفات حريصا هو الآخر على إطالة أمد الصراع المسلح بانتظار بروز وضع جديد في الشرق الأوسط أكثر مؤاتاة للفلسطينيين، دون أن يمكّنه القدَر من الوصول إلى هذا الوضع الجديد. وكان عرفات مقتنعاً بأن الدول العربية، وحتى عراق صدام، لا تنوي أن تقدم له وللفلسطينيين دعما سياسيا وعسكريا محسوساً. فالدول العربية هي عمليا في حال انتظار وتبني سياساتها على مصالح دولها فقط. فصدام الذي كان يطلق التصريحات الطنانة دعما لفلسطين ويتحدث عن مليار دولار يدعم بها الانتفاضة الفلسطينية كان في الواقع يواصل لعبته الدعائية الرامية أصلا إلى تدعيم نظامه وتوسيع رقعة تأييده عربياً. والولايات المتحدة كانت هي من جهة ثالثة حريصة على إطالة أمد تفجر الأوضاع في فلسطين وتحوله إلى مواجهة مزمنة أقله خلال تفرغها لمكافحة "الإرهاب" في العراق، أي لتبرر، تمثّلا بشارون، قمعها المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، وخلال تفريغها لباطن الأرض العراقية من "الذهب الأسود".
ويبقى السؤال المطروح هو: هل ستودي إقامة دولة فلسطينية في فلسطين إلى تسوية النزاع، وهل ستعني التسوية السياسية تعايشا سلمياً؟
من المعروف أن الولايات المتحدة كانت مستعدة قبل الحادي عشر من أيلول لتقترح على الجمعية العامة للأمم المتحدة إقامة دولة فلسطينية. ولم يكن اقتراحها يتطرق إلى مسائل الحدود والوضعية القانونية لهذه الدولة. وبالنسبة إلى القدس دار الحديث عن "أخذ مصالح الديانات السماوية الثلاث جميعها في الحسبان". غير أن الولايات المتحدة اقترحت في الواقع صيغة "ثورية" للغاية، إذا صح التعبير: صيغة إقامة دولة موهومة لا حدود لها متفقاً عليها مسبقاً. وعليه يمكن أن  تتم مناقشة مسائل الحدود والقدس واللاجئين في ظل مجابهة مديدة، ما يتيح للولايات المتحدة تنفيذ مشاريعها الخاصة. ولا بد من ذكر أن العديد من الدول العربية والحركات الإسلامية كان يقلقه مستقبل كهذا إذ كان سيفقد جزءا كبيرا من المآخذ والاعتراضات على إسرائيل التي سيمكنها آنئذ أن تطور المزيد من العلاقات مع بعض الدول العربية وأن تعزز من قدرتها على البقاء. أما بالنسبة إلى العديد من الأنظمة العربية والحركات الإسلامية فقد كان من شأن هذا المشروع الأميركي أن ينتهي بها إلى كارثة تاريخية إذ إن السيطرة الإسلامية على القدس كانت ستزول في الحقيقة.

إن تعاون الولايات المتحدة وإسرائيل وتفاهمهما ليتسمان هنا بطابع تكتيكي. فشارون يدرك جيدا أن خطته لـ"ضرب الانتفاضة الفلسطينية المسلحة وطرد الفلسطينيين" من فلسطين لا يمكن أن تتم إلا في ظل مجابهة حادة، وأيضا في ظل مواصلة العملية الشاملة ضد "الإرهاب". أما الولايات المتحدة فتنوي أن تقيم دولة فلسطينية ولكن في ظل ممارسة ضغوط قوية على الفلسطينيين. وسيكون على شارون أيضا الاستعداد لقيام مثل هذه الدولة، وسيتمثل هذا الاستعداد بالآتي:
أ- تدمير أكثر المنظمات الفلسطينية المسلحة شكيمة وتصلباً، وبالأخص منظمة "الجهاد الإسلامي". فالإسرائيليون ينظرون إلى "الجهاد الإسلامي" كأكثر المنظمات راديكالية واستقلالية والتي لا مجال عمليا للتحاور سياسياً معها. أما بالنسبة إلى "حماس" فيبدو أن لدى الإسرائيليين بعض الأمل تجاهها يعقدونه بعد اغتيال كبار قادتها المتعنتين كالشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي على تدمير الجناح العسكري فيها والتعاون مع الجماعات المعتدلة التي يعتقد انها تشكل قرابة الثلث فيها.
ب-  إطالة أمد الصراع المسلح بين إسرائيل والفلسطينيين بما يؤدي، لا سيما بعد إقامة الجدار الفاصل وإغلاق أبواب الرزق في وجه الكثير من الفلسطينيين الذين كانوا يبحثون عنه في الداخل الإسرائيلي، إلى هجرة جماعية للسكان العرب، ولا سيما من مناطق معينة هامة استراتيجيا، ولعرب إسرائيل نفسها ولممثلي برجوازية المدن والطبقة الوسطى والمثقفين. وتعمل إسرائيل على إغراق المجتمع الفلسطيني في بحر من الفوضى، بعد أن كان قد انتقل خلال السنوات العشرين الأخيرة إلى حالة نوعية جديدة على صعيد التعليم والنشاط الاقتصادي. فالمجتمع الفلسطيني لا يزال مجتمعا غير مكتف بذاته اقتصاديا، ولكنه لم يعد كما كان في السبعينات مثلا. والفلسطينيون هم واحد من أكثر مجتمعات العالم العربي تعلماً وتسامحاً وتحركاً ونشاطاً على الصعيد الاجتماعي.

ت-  تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تغيير القيادة السياسية الفلسطينية بما يؤاتي مصلحتهما، لا سيما بعد وفاة ياسر عرفات مؤخرا. فقد كان واضحا لهما ان عرفات لن يستطيع أن يقود السلطة الوطنية الفلسطينية وأن يتخذ المبادرات والقرارات السياسية التي تنسجم مع ضغوطاتهما. وكان عرفات يحاول أن يبقي مسافة بينه وبين ما يقوم به الراديكاليون الفلسطينيون على صعيد الانتفاضة المسلحة، غير أن إسرائيل استمرت على اتهامها إياه بأنه يدعمهم "من تحت لتحت" وعلى تحميلها إياه مسؤولية ما يقومون به. وبديهي أن منطق الجمع بين نشاط الجناح السياسي والجناح العسكري لأي حركة سيفضي في نهاية المطاف إلى فقدان القيادة السياسية القدرة على التحكم بالأمور. ولم يكن عرفات تالياً بقادر على اتخاذ قرارات سياسية حاسمة بسبب من استقلالية الجماعات المسلحة ولا على القبول بالمقترحات والشروط الإسرائيلية والأميركية والبقاء في الوقت نفسه زعيما للشعب الفلسطيني. فتحقيق المشروع الأميركي (بل قل الأصح النوايا الأميركية) ما كان ممكناً إذا إلا باستبعاد عرفات كليا من ساحة النشاط السياسي أو بتحويله كشخصية سياسية إلى اسم دون مسمى. لكن الأميركيين لم يكونوا يريدون أن يزيحوا عرفات من الساحة بأنفسهم، فسلموا هذه المهمة إلى إسرائيل مع إعطائهم إياها الضوء الأخضر بالتأكيد باستمرار أنه ليس الشخص الممكن التفاوض معه بعد الآن. ومن مفارقات الأمور أن أول من طرح مسألة إزاحة عرفات من السلطة كانَ زعماءَ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وبعض قادة "فتح". وأيد رجال الأعمال والمثقفون، لا سيما في بلدان الشتات الفلسطيني، الرأي الذي يقول إن عرفات غير قادر على اتخاذ القرارات الواقعية وإن عليه أن يخلي الساح للساسة الشباب النشطين. ولئن بقيت منظمات مثل "فتح" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" تؤيد شكلياً عرفات، ولا تجرؤ على مجابهته بحدة، وبخاصة على إزاحته بالقوة، على رغم أنها كانت تنتقده شديد الانتقاد على تنازلاته في أوسلو ومدريد وعلى بعض التنازلات السياسية الأخرى التي كان يقدمها لإسرائيل لأجل التسوية. والآن بعد أن توفي عرفات إثر إقامة جبرية مديدة وحصار إسرائيلي مضنٍ له في مقره في رام الله وعزل له وللمقربين منه عن الاتصال الجاد سواء بالأميركيين أو بالأوروبيين، وربما بعد "تسميم" له كما أشيع في ظل الأنباء عن مرض غير معروف أودى بحياته، باتت إسرائيل مستعدة أكثر لتحقيق مشروعها الكبير في مجال تغيير القيادة الفلسطينية والمجيء بقيادة أسلس قياداً في السير نحو تصفية القضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن تواجدهم الحالية. وتعول إسرائيل وأميركا حالياً على الرئيس الفلسطيني الجديد المنتخب مؤخراً محمود عباس وبالأخص على وجود أشخاص في السلطة أمثال مستشار الرئيس الفلسطيني لشئون الامن القومى وعضو مجلس الامن القومى الفلسطينى (قبل استقالته مؤخراً) جبريل الرجّوب والعقيد محمد دحلان وزير شئون الامن السابق وغيرهما من الذين يقودون مصلحة الأمن الفلسطينية، باعتبارها إياهم من ذوي النزعة "الواقعية" وإداريين قادرين على "تهدئة خواطر الفلسطينيين والسيطرة عليهم". هؤلاء الرجال الذين يسيطرون على القوات المسلحة للسلطة الفلسطينية شاركوا في حينه في اللقاء الذي عقد في القاهرة مع زعماء الشاباك والموساد الإسرائيليتين والذي رسم عمليا ملامح التسوية الممكنة للقضية الفلسطينية. وقد صرح مساعد وزير الخارجية الأميركي إدوارد ووكر ورئيس الاستخبارات المصرية عمر سليمان ومدير وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" السابق في وقت واحد تقريبا بأن القيادات الأمنية الفلسطينية جاهزة مبدئيا لقبول شروط إسرائيل على صعيد إقامة الدولة الفلسطينية، أي ما يتعلق بعودة اللاجئين والحدود والقدس. ومن الملفت أن اغتيال إسرائيل أحد قادة الجناح العسكري لـ"حماس" أبو محمود حمود جاء مباشرة إثر تحذيره جبريل الرجوب من السير قدماً في "مغازلة" الإسرائيليين. وثمة أنباء قالت إن رسالة لأحد زعماء "حماس" تليت في قمة لزعماء المنظمات الإسلامية عقدت في بيروت عام 2001 اتهمت عرفات بالعجز عن القيام بمهامه السياسية، وقادة الأجهزة الأمنية بالخيانة والعمالة لإسرائيل. وقالت أنباء وسائل الإعلام أن الإسرائيليين كانوا يعدون خطة لاغتيال عرفات عرفت بخطة "أورانين". غير أن الأميركيين لم يكونوا مع التغيير القسري في القيادة الفلسطينية. وهذا ما عبر عنه السفير الأميركي في إسرائيل دان كورتسر الذي قال إن على الفلسطينيين أن يغيروا بالطبع قيادتهم، إلا أن هذا يجب أن يتم من دون أية ضغوط [3].
وتساند الدول الأوروبية عموما مبادرات الأميركيين، وإن كانت نظرت بعين الريبة إلى اقتراح بوش إقامة "دولة فلسطينية مؤقتة". ومن بين الدول الأوروبية تبدي فرنسا وبريطانيا فقط حرصاً على تسوية المشكلة. موقف بريطانيا قلما يختلف رسمياً عن موقف الولايات المتحدة. إلا أن بريطانيا وفرنسا تحاولان إلى حد ما أن تنهجا سياسة مميزة حيال القدس. فكلتا الدولتين الأوروبيتين حريصتان على منح القدس وضعية دولية معينة (أقله الجزء التاريخي منها). أضف إلى هذا أيضاً ما يقال عن "مشروع" سري لفرنسا والفاتيكان يقضي بتعزيز دور وأهمية الطوائف المسيحية في الشرق الأوسط، لا سيما في مصر ولبنان وسوريا وفلسطين، ولكنه لم يجد بعد طريقه إلى النجاح منذ بضع سنوات[4] .

 

 مواقف الدول العربية الرئيسية من قضية الدولة الفلسطينية والتعاطي الأميركي معها.
لم تستطع الدول العربية أن تقترح خططا مبدئية لحل القضية الفلسطينية. فكبرى الدول العربية لا تريد أن تلتزم بأية تضحيات تقدم على مذبح تسوية القضية. والعامل الأساسي لاعتكافها هو عجزها تجاه القدرة العسكرية الإسرائيلية المتنامية والضمانات الأمنية التي تقدمها لإسرائيل الولايات المتحدة. فحروب الستينات والسبعينات جرت في ظروف دولية وداخلية أخرى، في ظل وجود الاتحاد السوفياتي وأنظمة عربية يدعمها عسكريا واقتصاديا وسياسيا في إطار سياسة المجابهة مع الرأسمالية العالمية وإفرازاتها ومواقع نفوذها الأساسية ودعم ما سمي بحركات التحرر الوطني كرافد من روافد هذا الصراع. أما اليوم فليست هناك دولة عربية قادرة على تحمل أعباء مواجهة عسكرية شاملة مع إسرائيل. فمصر وسوريا، أكبر بلدين عربيين ذوَي قدرات عسكرية، تستبعدان كليا حرباً شاملة مع إسرائيل. وربما ردت سوريا على عدوان إسرائيلي على لبنان مثلا في إطار سياستها الإقليمية لإبعاد الخطر الإسرائيلي عنها حيث يمكن ذلك، غير أنها لن تتدخل لا هي ولا الأردن ولا السعودية في حال نشوء نزاع مسلح كبير في فلسطين. والدولة العربية الوحيدة التي كانت ذات مصلحة في نزاع مسلح مع إسرائيل هي عراق صدام، إذ إن الأخير كان يسعى إلى خلق جبهة ضد إسرائيل وأميركا من الدول العربية. غير أن الهدف الحقيقي للعراق في عهد الرئيس صدام حسين لم يكن تحرير فلسطين والقدس بقدر ما كان الخروج من العزلة بعد احتلاله الكويت وشن الولايات المتحدة وحلفائها، ومن بينهم الكثير من الدول العربية، الحرب عليه عام 1990، وكذلك توطيد مواقعه وتكوين حلف سياسي عسكري عربي تكون له فيه الكلمة المسموعة.
وقد حصل في وقت ما قبيل احتلال العراق مؤخراً تقارب سوري عراقي بعد طول فرقة تجسد في زيارة قام بها وفد سوري كبير برئاسة رئيس الوزراء السوري مصطفى ميرو إلى العراق وكانت لها أهمية كبيرة على صعيد آفاق تشكيل مثل هذا الحلف. وصرح نائب الرئيس العراقي ياسين رمضان ووزير الخارجية العراقي ناجي صبري آنذاك بأن العراق سيقدم كل دعم ومعونة لسوريا في حال شن إسرائيل عدواناً عليها. وفي خلال لقاء آية الله خامنئي والمبعوث العراقي عبد الساتر عز الدين الراوي صرح الطرفان أيضا بأن بلديهما سيقدمان الدعم لسوريا في حال بدء حرب مع إسرائيل. أي أن الأمور كانت تتجه نحو إنشاء حلف فعلي من سوريا والعراق وإيران، وإن كان فهم وتصور كل من البلدان الثلاثة للحلف السياسي العسكري مختلفين تمام الاختلاف. فالعراق كان أكثر المتحمسين. وسوريا أكثر المعتدلين. غير أنه كان من غير المستبعد أن ينشأ وضع يفرض على الدول الثلاث مجابهة إسرائيل معاً، وإن كانت سوريا وإيران حريصتين على بذل كل جهد ممكن لتحاشي مثل هذا النزاع. ولم يستبعد المحللون السياسيون أن تكون سوريا تريد من وراء هذا الحصول على وضع أفضل تنطلق منه لمحاورة الولايات المتحدة.
وتحاول دول عربية أخرى، وفي طليعتها السعودية ودول الخليج، الانخراط في حلف إقليمي ما، وإن كانت تجد نفسها دائما أسيرة النفوذ الأميركي.
على وجه العموم ثمة موقف رسمي عربي حيال قضية فلسطين يندرج تحت اسم " مبادرة السلام العربية" المنبثقة عن قمة بيروت العربية في آذار عام 2002 وهو يتمثل في الآتي:
- على إسرائيل أن تعود إلى حدود عام 67.
- القدس يجب أن تصبح تحت السيطرة الإسلامية (يمكن أن تقبل وصاية دولية، ولكن في ظل هيمنة النفوذ الإسلامي).
- اللاجئون الفلسطينيون، وأقله حتى مليون ونصف مليون منهم، يجب أن يمَكَّنوا من العودة إلى فلسطين.
- الدولة الفلسطينية ينبغي أن تكون مستقلة فعلاً وذات قوات مسلحة وإمكانيات دفاعية.
ولكن مع حلول نهاية العام 2002 باتت قرارات قمة بيروت العربية المتخذة في آذار عام 2002 تحت اسم " مبادرة السلام العربية" التي دعت إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل إذا ما انسحبت هذه من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، وإذا ما فككت كل المستوطنات وأوجدت حلاً لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، في حكم المنسية تقريباً.
فهذه المبادئ لا تتمسك بها الآن أية دولة عربية على الساحة الدولية. فالدول العربية عموما يناسبها وجود دولة فلسطينية ولو كانت منقوصة الحقوق في الأرض وفي قوات مسلحة كاملة الأوصاف والقدرات وفي إمكان وصول الحجاج المسلمين إلى المقدسات الإسلامية في القدس. والعالم العربي يدرك جيدا أن إسرائيل والولايات المتحدة ستبقيان تتمتعان بقدرة على التلاعب بالوضع غير محدودة ما دامت مصر محيَّدة ولا تشارك مشاركة نشطة في تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
إن كون القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لدى دول المنطقة وشعوبها شيء، وقدرة الحكومات العربية على تحويل هذه الأولوية إلى استراتيجية قادرة على تحرير فلسطين شيء آخر تماما.
فستّـون عاما من الصراع انتهت إلى الاعتراف بإسرائيل بدلاً من تحرير فلسطين. وبدلاً من أن يطمح الإسرائيليون إلى اعتراف العرب بهم ومنحهم السلام، بات العرب هم الذين يستجدون هذا الاعتراف وذلك السلام بدون جدوى .
ولهذا أطلق الرئيس اللبناني إميل لحود في نهاية العام نفسه الذي عقدت فيه قمة بيروت العربية نداءه إلى الدول العربية كي "لا تنسى تلك القرارات". وفي هذا المجال أظهرت الدول العربية مجددا عدم مثابرة ودأب على تنفيذ القرارات التي تتخذها. ويمكن أن نوجز مواقف الدول العربية الرئيسية من قضية الدولة الفلسطينية بالآتي:

 موقف مصر
إن مصر، الدولة العربية الأهم وزعيمة العالم العربي، هي الآن شريكة للولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، وهي تساند سياسة الولايات المتحدة. وما من شك في أن اقتراح بوش إقامة "دولة مؤقتة" في فلسطين كان قد تم التوافق عليه مع الرئيس حسني مبارك إبان زيارته واشنطن في حزيران عام 2002. فقد أصر مبارك آنذاك على إقامة الدولة الفلسطينية. وخلال العامين 2001-2002 انكبت مصر بنشاط على معالجة المهمة التي طرحتها إسرائيل والولايات المتحدة، مهمة إبعاد عرفات عن منصب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. وجرت في القاهرة لقاءات بين قادة الاستخبارات الإسرائيلية وقادة الأمن الفلسطيني الذين يمكن أن يصبحوا مرشحين لقيادة السلطة الفلسطينية في مستقبل قريب. ولا تصر مصر، مثلها مثل الأردن، على تسليم الدولة الفلسطينية المقبلة مدينة القدس الشرقية وإن كانت ساندت شكليا اقتراح السعودية إقامة الدولة الفلسطينية ضمن نطاق حدود العام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية. فمهمة مصر هي المحافظة على دورها الريادي في العالم العربي، وهو ما ليس ممكناً من دون المشاركة بنشاط في حل القضية الفلسطينية. ولم تكن مصر تسعى إلى استباق الأمور مدركة أن العجلة لن تؤمن لها هذا الدور. كما أنها كانت تدرك أن تجميد القضية الفلسطينية سيساعد على بدء العملية العسكرية ضد العراق، وهو ما سيؤدي إلى عواقب خطيرة تطاول كل الدول العربية. ولا تثق مصر كثيرا بخطط إدارة بوش، فسياسة كلينتون-أولبرايت كانت تفهمها أكثر وتجعلها في مواقع أفضل بكثير في السياسة العربية والإقليمية، وتتيح لها إقامة علاقات مديدة مع الدول الأوروبية والقيام بدور الحَكَم في العديد من الجدالات العامة والثنائية بين البلدان العربية. وليست مصر غنية بالموارد كالسعودية، فهي، كما هو معلوم، تعتمد اعتمادا كبيرا جدا على المساعدات المالية الأميركية. فعلى هذه المساعدات وعلى التعاون مع الولايات المتحدة عموماً يتوقف استقرار مصر سياسيا واجتماعيا. والمجتمع المصري يعتبر الأقل استقرارا في العالم العربي (إلى جانب الوضع في الجزائر). وأي تردٍّ في الوضع الاقتصادي مهما قل شأنه قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع وسقوط النظام الحالي. وهي لذا غير قادرة من دون المساعدات الأميركية المنتظمة ومن دون الدعم الأميركي للمصالح المصرية في المؤسسات المالية الدولية على تأمين الاستقرار في الداخل اقتصادياً واجتماعياً. وإن الحالة الصحية للرئيس المصري حسني مبارك وتعاظم دور تنظيم "الإخوان المسلمين" والحركات الدينية عموماً أمور لا تسمح للحكومة المصرية بأن تتخذ قرارا ببدء مجابهة جدية مع إسرائيل.
ومن غير الصحيح القول إن دور مصر في العالم العربي تضاءل في الآونة الأخيرة، غير أن شركاء لها كسوريا والسعودية يعملون لحجب دور الزعامة عنها في العالم العربي. وعلى الرغم من أن النظام السياسي في مصر أكثر ليبرالية، فإن زعماء شباباً أمثال بشار الأسد والعاهل الأردني الملك عبدالله وولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبد العزيز يعتبرون أن سياستهم (لا سيما الخارجية) هي أكثر تقدماً وتعصرناً وتوازناً.
لقد بنت مصر سياستها الخارجية وعلاقاتها مع دول المنطقة والغرب في السابق على أساس ميزان قوى افترض في حينه وجود ثلاثة نماذج من الأنظمة والسياسات الخارجية هي: 1- شركاء الولايات المتحدة، بل حلفاؤها، في المنطقة وهم مصر والمغرب وتونس والأردن والسعودية وإمارات الخليج؛ 2- الدول التي تنهج سياسة تقع على مسافة ما من الولايات المتحدة، ولكنها سياسة مبدئية حيالها، وهي سوريا ولبنان والجزائر والسودان واليمن؛ 3- الدولتان اللتان كانتا تلعبان دور الخصمين الاستراتيجيين والأيديولوجيين للولايات المتحدة، وهما العراق وليبيا. فقد كان واضحاً أن الولايات المتحدة تسيطر على معظم العالم العربي. وإن توازن القوى هذا كان يؤمن لمصر دوراً رئيسياً وزعامياً في العالم العربي، حتى في ظل تبلبل الوضع الداخلي فيها. ولقد جاءت حرب العراق لتغير ميزان القوى هذا في العالم العربي. فالعراق احتُلّ وباتت تحكمه حكومة موالية للأميركيين، وليبيا كقول المثل: "إن اللبيب من الإشارة يفهم" تراجعت عن سياستها المخاصمة للغرب مؤخراً والتحقت بالركب. وتضطر سوريا إلى التعاون أكثر فأكثر مع الولايات المتحدة تحت تأثير الضغوط المتزايدة عليها خاصة في الشأن اللبناني والشأن العراقي. كل هذا يؤدي إلى فقدان مصر أهميتها ودورها في العالم العربي كحليف "مركزي" للولايات المتحدة وكمركز سياسي وثقافي للعرب، وكدولة عسكرية ذات شأن. وإن أهمية الدول العربية عموما بنتيجة احتلال العراق تدنت بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ولم يعد بينها من تعوّل عليه هذه كحليف استراتيجي لها، لا سيما في الساحات الواقعة خارج ساحة الشرق الأوسط. ولعل إسرائيل وتركيا ستدعّمان دورهما كحليفين استراتيجيين للولايات المتحدة (مع بعض التحفظ بالنسبة إلى تركيا). ويصعب تحديد مآل العلاقات الأميركية الإيرانية وإن كانت هذه العلاقات بعد فوز المحافظين في الانتخابات الأخيرة قد شابها التشنج الشديد. ومعلوم أن كبرى الدول العربية تعتبر إيران (باستثناء سوريا) عدواً لدوداً للعرب.
غير أن الخطر الأكبر على النظام المصري قد يتأتى من ثورة إسلامية تشمل عددا من بلدان العالم العربي في آن واحد ويلعب فيها المجتمع المصري بالذات دوراً ريادياً. فلئن رافقت احتلالَ العراق وإقامة نظام فيه موال للأميركيين تنازلاتٌ مبدئية من جانب الدول العربية في شأن فلسطين والقدس، فإن قوة الثورة الجارفة هذه ستتضاعف. فالقيادة السياسية المصرية لن تستطيع أن تبرهن للمجتمع المصري والعربي إمكانية قبول الحلول المطروحة في شأن فلسطين والقدس إذا ما نفذت الخطة الأميركية الإسرائيلية التي ما فتئت تعدّل وتغير في "خارطة الطريق" حتى لا يعود هذا الطريق سالكاً بالنسبة إلى الفلسطينيين. ولذا لا ترى مصر فائدة في تعجيل حل القضية الفلسطينية. والخطة التي اقترحها بوش في 25 حزيران عام 2002 و"خريطة الطريق" من بعدها تلائم مصر إلى حد ما كونها ترتكز على السعي إلى المماطلة أكثر ما أمكن في حل القضية، وهذا ما سيتيح في المقابل للأميركيين والإسرائيليين التوصل إلى ظروف أكثر ملاءمة لتأمين أكبر مربَح لإسرائيل في المجال السياسي وفي موضوع الأراضي.

 

موقف سوريا
سوريا التي لعبت فترة طويلة دوراً رئيسياً في عملية التفاوض حول مشكلة الشرق الأوسط، وجدت نفسها بعد فشل المباحثات السورية الإسرائيلية عامي 1999-2000 مبعَدة إلى حد ما عن عملية التسوية. وقد "جُمِّدت" وجعِلت وكأنها مسألة غير راهنة قضيةُ هضبة الجولان عملياً. وليست سوريا حاليا بحريصة على إحياء مسألة هضبة الجولان بقوة إذ إن هذا قد يفضي إلى دورة مجابهة جديدة ستتطلب إنفاقا ماديا ضخماً. ولا تستطيع سوريا أن تخوض نضالا سياسيا فعليا الآن لأجل استعادة هضبة الجولان. كذلك ليست لسوريا مصلحة في استعجال حل القضية الفلسطينية إذ إن الانتفاضة مفيدة لها سواء في الجانب الفلسطيني أو في الجانب الإسرائيلي. فإسرائيل مكتوفة اليدين بفعل الانتفاضة ولا يمكنها أن تتفرغ للبنان وللضغط على الدول العربية الأخرى. فيما التهديد الإسرائيلي المستمر للبنان من شأنه أن يبقي الأخير بحاجة إلى حمايتها. ولئن كانت سوريا وإيران قررتا معاً من حيث المبدأ وقف العمليات العسكرية لحزب الله ضد إسرائيل منعاً لضربات جوابية إسرائيلية وأميركية، فإن قدرات "حزب الله" لا تزال مثابة احتياطي في خدمة السياسة السورية.
وتنتهج سوريا سياسة دعم عدد من المنظمات الإسلامية الراديكالية، فهي تدعم كل القوى والجماعات الراديكالية والمسلحة التي تحارب إسرائيل في فلسطين وفي لبنان. وهذا حتى الآن يناسب سوريا ويمنحها إمكانية تدعيم حججها في علاقاتها السياسية مع الولايات المتحدة. ولكنها تقيّد في الوقت نفسه نشاط هذه المنظمات جزئياً بما يحول دون توريطها في حرب شاملة. فأخشى ما تخشاه سوريا هو ان تورَّط في نزاع عسكري كبير مع إسرائيل. وهذا ما أدى إلى بعض التدني في أهمية دور سوريا في أوساط هذه المنظمات في لبنان وفلسطين. ويحاول الرئيس السوري بشار الأسد أن ينهج سياسة براغماتية مشدداً على تنمية التعاون الاقتصادي مع الدول الجارة، ويعتبر بعض المراقبين هذا أنه قفز فوق الضغوط الأميركية ومسعى منه لتأجيل كأس الإصلاحات المرة التي تطالبه بها المعارضة الداخلية والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. كل هذا يفترض التخلي عن الحرب أسلوباً لمعالجة قضية هضبة الجولان المحتلة، وعقد صلح غير رسمي مع إسرائيل عملياً. وثمة اعتقاد أن أسس السياسة الخارجية السورية الحالية كانت قد وضعت إبان لقاء الرئيس الراحل حافظ الأسد والرئيس الأميركي بيل كلينتون في 26-3-2000 في فندق إنتركونتيننتال جنيف لبحث سبل دفع عملية السلام، واستئناف المفاوضات السورية الإسرائيلية، حين تم التوصل إلى عدد من الاتفاقيات السورية الأميركية. ومع ذلك لا يمكن لسوريا أن تتخلى عن هضبة الجولان أو أن تقدم تنازلات كبيرة في شأنها. والوضع الداخلي نفسه لا يسمح بذلك. لذا يرى بعض المراقبين أن سوريا غير مهتمة بحل القضية الفلسطينية قبل أن تحل مشكلتها هي مع إسرائيل. ولكنها في الوقت نفسه مضطرة لأن تأخذ في الحسبان سياسة الولايات المتحدة ومقترحاتها. ومسألة القدس قلما تهم كمركز ديني إسلامي النظامَ العلماني السوري، لكن ما يقلق سوريا هو أن تبقى وحيدة في مواجهة إسرائيل (وربما في آن إسرائيل وتركيا) بنتيجة تسوية القضية الفلسطينية. وحتى بعد انسحاب إسرائيل من لبنان مؤخرا أبقيت مشكلة مزارع شبعا كفتيل مشتعل يحفظ الصراع قائماً بين لبنان وإسرائيل إلى أن تحل "أزمة الشرق الأوسط برمتها"، أي ضمناً إلى أن تحل مشكلة الجولان، وكل هذا يتخذ اسم "وحدة المسارين" اللبناني والسوري، ما يشكل موضوع صراع وأخذ ورد بين الموالاة والمعارضة في لبنان، لا سيما بعد القرار الدولي المعروف رقم 1559 في شأن العلاقات اللبنانية السورية وعلى أبواب الانتخابات النيابية المقبلة.
ويمكن في مجال التعاطي الأميركي مع مواقف سوريا أن نورد بعض الأفكار وهي:
أ- الولايات المتحدة لا ترغب بناء علاقاتها مع سوريا من خلال النزاع الإسرائيلي الفلسطيني ومشكلة الجولان، بل هي تعمل على حصر هذه المشاكل وعزلها بعضها عن بعض.
ب- الولايات المتحدة لا ترغب بناء علاقاتها مع سوريا أخذاً للنظام الحالي في الحسبان وإن كانت مهتمة بتطوير الإصلاحات الاقتصادية والسياسية فيها، بل هي تبغي إيجاد تقليد في تعزيز العلاقات معها بمعزل عن النظام الحالي.
ت- الولايات المتحدة باحتلالها العراق احتلالا مباشرا سعت إلى منع سوريا من إقامة حلف معه ومع إيران، وتضغط بالمقابل على سوريا للتعاون معها في الشأن العراقي.
ث- خلافا لإدارة الديموقراطيين التي كانت تسعى إلى ضم سوريا إلى نظام علاقات إقليمية جامعة، يريد الجمهوريون بناء علاقات مع سوريا غير مثقلة بمشاكل المنطقة الموروثة عن زمن الصراع العربي الإسرائيلي في الستينات والسبعينات.
ج- من الملفت أن الإدارة الجمهورية لم تكن تريد أن تلتقي البطريرك صفير إبان زيارته الولايات المتحدة ومحاولته بدء حوار مع القادة الأميركيين حول انسحاب القوات السورية من لبنان، وكأنها أرادت أن تفهِم لبنان وسوريا أنها لا تعتزم التدخل في هذه القضية والإضرار سياسياً بسوريا. غير أنها بعد احتلال العراق وعدم تعاون سوريا معها راحت تضغط عليها بقوة من خلال لجنة الكونغرس بداية والآن على صعيد السياسة الخارجية الرسمية وتهددها بالعقوبات وتستعدي الأمم المتحدة عليها من خلال القرار 1559 لأجل إخراجها من لبنان. ولعل همَّ الولايات المتحدة الرئيس في هذا هو حث سوريا على التعاون معها أكثر في الشأن العراقي.
ح- تنظر الولايات المتحدة إلى سوريا كعنصر هام من عناصر الابتزاز الدائم لتركيا، تتزايد أهميته مع إطلاق استراتيجية الحد من استقلالية السياسة الخارجية التركية من قبل الأميركيين.
خ- يسعى الحزب الجمهوري إلى تحقيق تجربة تغيير داخلي في النظام الحاكم في سوريا سلمياً ومن دون مصادمات وكوارث سياسية.
د- يمكن افتراض أن الولايات المتحدة ترغب في أن تقيم مستقبلا في سوريا قواعد جوية بديلة عن قواعدها في تركيا والسعودية.
ذ- ربما كان من أهداف الولايات المتحدة أيضا نقل الصيغة الطائفية اللبنانية إلى سوريا كأسلوب في إدارة هذه الدولة. وما تفعله في العراق خير دليل على توجهها هذا الذي تمكن عنونته بسياسة المستعمر "فرق تسد!".
ر- الأهداف النهائية للولايات المتحدة هي أن ترى سوريا دولة عاجزة عسكرياً يضعف فيها دور العسكر في السياسة، دولة غير قادرة على استعادة الجولان المحتل بقوة السلاح، دولة جيشها تحت السيطرة الأميركية، تنحصر همومها ضمن إطار المصالح الوطنية الضيقة فتنعزل عن القضايا العربية العامة.

 

موقف السعودية
أما السعودية فقد وجدت نفسها مؤخراً في مواجهة مشاكل مثل التخوف من احتمال فقدان وحدة الدولة وانهيارها. فالمملكة تنتشر فيها الأفكار والأجواء الليبرالية الغربية. وقد نشأت خلال السنوات العشرين الأخيرة طبقة متوسطة ذات شأن تلقت تحصيلها العلمي في الغرب، وتضم مثقفين ورجال أعمال وبعضاً من رجال الدين ومالكي الأراضي الصغار. هذه الطبقة باتت تؤثر أكثر فأكثر في كيفية اتخاذ الحكومة السعودية أهم القرارات السياسية. وفي الوقت نفسه يتعزز اتجاه معاكس هو ازدياد نفوذ المراهنين على القومية العربية والأفكار الأصولية. وتصطدم الأسرة المالكة ببدء تشكّك المجتمع السعودي أكثر فأكثر في قدرتها على قيادة البلاد بفاعلية. وتلفت وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية إلى أن هناك معارضة سعودية ظاهرة ومستترة، وإلى أن هناك مشاكل في جنوب شرق البلاد حيث تعيش أقلية شيعية. وأخطر ما لدى أوساط المعارضة من مطالب تنعكس سلباً على الولايات المتحدة مطلب الحد من كميات النفط المستخرجة بما يكفي لعيش كريم للشعب وتطويرِ باقي فروع الاقتصاد السعودي. هذا الرأي تتمسك به المعارضة الدينية وكذلك ولي العهد الأمير عبدالله الذي يدعو إلى "طريق" جديد يفترض الذود عن أولويات الأمة والمبادئ الإسلامية في تنظيم المجتمع. ومما يزيد الأجواء شحناً أن الأميركيين، في معرض محاولتهم الاستفادة من المعارضة الليبرالية للنظام السعودي كعامل هام من عوامل تشكل الآفاق السياسية في المنطقة، راحوا يروجون في وسائل الإعلام لفكرة عدم شرعية سلطة الأسرة المالكة في السعودية، ملمحين إلى أنها "نشأت من العصابات" التي استولت على السلطة في الجزيرة العربية عنوة، وأنها لا يحق لها تالياً أن تطمح إلى دور خادم الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، والأمين على القدس الشريف. غير أن الفكرة الأشد خطراً على المملكة هي التلويح الإعلامي الغربي بإمكان فصل المناطق النفطية في شرقي البلاد عن منطقة الحجاز حيث مكة المكرمة والمدينة المنورة وجعلها إمارة مستقلة أو تسليمها إلى المملكة الأردنية الهاشمية، علماً أن الهاشميين يعتبَرون من سلالة النبي محمد، نبي المسلمين، أو ربما تقسيمها إلى جزئين سني وشيعي يتقاسمان احتياطيات النفط، ويتحولان في ظل عدم وجود المدينتين المقدستين لدى المسلمين ضمنهما إلى دولتين علمانيتين على شاكلة الإمارات العربية الأخرى في الخليج، قليلتي تعداد السكان ما يسهّل إدارتهما ويزيد تبعيتهما. ونتيجة تنفيذ مثل هذا المخطط  ستكون أن ينشأ وضع جغراسياسي جديد وتوازن قوى جديد في المنطقة. ويمكن افتراض أن الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل تستخدمان هذه الدعايات لأجل ابتزاز السعودية وبعض الدول العربية الأخرى. فالسعودية الطامحة دوماً إلى دور الزعامة في العالمين العربي والإسلامي تصبح مشكلة معقدة للولايات المتحدة لأنها لن يعود بمقدورها إزاء ذلك أن تبقى على تبعيتها الشديدة لها.
إن اقتراح الأمير عبدالله ولي العهد السعودي إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967 بمقابل اعتراف الدول العربية بإسرائيل جعل إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة في مأزق. فهذا الاقتراح غير مقبول البتة في إسرائيل لأنه يحرمها من حدود يمكن الدفاع عنها ويهدد وجودها نفسه. بينما هو مقبول بين الكثيرين من العرب، حتى الراديكاليين منهم. فهو يبقى إذاً موجهاً خاصة "للاستهلاك الداخلي"، أي للمجتمع العربي. كما أنه مهم للأمير عبدالله شخصياً كولي للعهد في السعودية، وكطامح إلى لعب دور زعيم وطني على صعيد العالم العربي ككل. وبالنسبة إلى الأسرة المالكة في السعودية المعتبرة حامية المقدسات الإسلامية، والقدس الشريف من بينها، لا يمكن أن تكون ثمة تسوية من دون القدس، تسوية تنتسى فيها حقوق المسلمين في هذه المدينة. واقتراح إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود العام 67 يفترض سيطرة العرب على القدس الشرقية.

 

موقف الأردن
أما الأردن فشريك أمين للولايات المتحدة. وقد تخلت القيادة السياسية في هذا البلد الذي 60 بالمائة من سكانه من أصل فلسطيني عن أي مطمع بالقدس على الرغم من أن الأسرة الهاشمية المالكة تعتبر نفسها من سلالة النبي محمد وحامية المقدسات الإسلامية في القدس. ويتعاطى الأردن بسلبية مع النشاط الراديكالي للمنظمات الفلسطينية الدينية والسياسية، وهو مستعد للموافقة على أي اقتراح أميركي أو إسرائيلي يفضي إلى تسوية النزاع وإلى التعاون اقتصادياً مع إسرائيل. فإسرائيل من حيث نزعتها الليبرالية وتمسكها بالقيم الغربية أقرب بكثير إلى الأردن منها إلى معظم الدول العربية الأخرى. وقد طبّع الأردن علاقاته مع سوريا لا سيما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وأقام علاقات ود وشراكة مع عراق صدّام وهو يسعى إلى تسوية شاملة في المنطقة. فالأردن مقبول لديه مثلا اقتراح بوش أقامة "دولة مؤقتة" في فلسطين وكل اقتراح لاحق مثل "خريطة الطريق" ينهي الصراع العربي الإسرائيلي.
ويلعب الأردن في الوقت نفسه دورا مهماً كساحة تفاوض و"جوجلة" لشتى المشاريع على رغم دوره المتواضع في السياسة الإقليمية. ولم تفتأ الولايات المتحدة وإسرائيل تحاولان غير مرة إحياء فكرة ضم الأراضي الفلسطينية إلى الأردن المستعد لتقديم تنازلات كبيرة في شأن القدس. وإذا أخذنا في الحسبان أن ما بين 55 و60 بالمائة من سكان المملكة الأردنية الهاشمية هم الآن من الفلسطينيين، فإن اتحاد ضفتي الأردن الشرقية والغربية سيؤدي إلى أن يصبح البلد فلسطينياً. بيد أن هذا المشروع لا يقبله الفلسطينيون وتنظيماتهم السياسية الأساسية. كما أن ثمة في الأردن، على الرغم من مكافحة الحكومة للراديكاليين الإسلاميين، تنظيمين إسلاميين قويين هما حزب التحرير الإسلامي وحزب "الإخوان المسلمون". الأول مناهض للحكومة ويسعى إلى إقامة دولة إسلامية في الأردن، والثاني منظمة تقليدية تنتمي إلى جماعات "الإخوان المسلمين" المنتشرة في كثير من الدول العربية. وهو يتعاون مع الحكومة إلى حد ما وممثَّل في البرلمان. هذان الحزبان ذوا نفوذ قوي ويعارضان أي تنازلات في شأن القدس، ويحذران الملك والحكومة باستمرار من مغبة الاسترسال في التقارب مع إسرائيل والتنازل في مسألة مقدسات المسلمين في فلسطين. ولعل مشروع الاتحاد الأردني الفلسطيني يعود مجددا إلى الواجهة كل مرة يتعثر فيها قيام الدولة الفلسطينية.

 

 مشاريع إقامة الدولة الفلسطينية
لقد بذلت الإدارة الأميركية خلال السنوات الأخيرة من ولاية كلينتون (1998-2000) محاولات لتسوية القضية الفلسطينية نجمت عنها صياغة مشروع أميركي- إسرائيلي عمليا لإقامة دولة فلسطينية. وكان مفترضا لهذه الدولة أن تكون كياناً مسخاً مقسماً إلى أربعة أقسام منفصلٍ بعضها عن بعض ومن دون القدس ودون أية مصادر جدية للمياه وأية قاعدة مادية للوجود. وراهن الأميركيون والإسرائيليون على كون الفلسطينيين قد تكيفوا إلى حد ما مع المجال الذي حدِّد لمنطقة الحكم الذاتي الفلسطيني ومع واقع علاقة الخضوع لإسرائيل. هذه الدولة المفترضة ضمت 3 جيوب في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث يقطن قرابة 3 ملايين ونصف المليون من أصل أكثر من 4 ملايين و200 ألف فلسطيني يعيشون في كل أراضي فلسطين، في إسرائيل وفي منطقة الحكم الذاتي. وافترضت خطة الأميركيين والإسرائيليين عودة ما لا يزيد على 50 ألف لاجئ فلسطيني من الخارج إلى فلسطين في خلال مرحلة محددة. كما افترضت أن تبقى مصادر المياه الأساسية، أي بحيرة طبريا وغيرها، تحت السيطرة الإسرائيلية. ولا يحق للدولة الفلسطينية حسب المشروع أن تكون لها قوات مسلحة حقيقية، بل حرس مسلح لا أكثر عمليا. ولا يمكن أن يجيء إلى أراضي الدولة الفلسطينية المفترضة عدد كبير من اللاجئين. ونتيجة كل هذا أن يؤتى بدولة فلسطينية لا حول لها ولا قوة، دولة قسمتها ونصيبها أن تبقى متكاملة اقتصاديا وسياسيا مع إسرائيل، وأن يبقى سكانها مثابة احتياطي رخيص لليد العاملة الإسرائيلية. وستفقد فلسطين بذلك كل اهتمام بها من جانب العالمين العربي والإسلامي كطليعة للنضال من أجل المصالح الإسلامية في القدس.
ولم يكن بمقدور القيادة السياسية الفلسطينية، وعلى رأسها ياسر عرفات، أن توافق على مشروع التسوية هذا فتتحول إلى شاهد زور ووالٍ على شعبها يمثل سلطة غريبة. ففي أيلول عام 2000، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، رفضت القيادة الفلسطينية مواصلة التفاوض واتخذت قراراً ببدء الانتفاضة الثانية. هذا القرار كان قرارا صعباً بالنسبة إلى عرفات والقيادة الفلسطينية، إذ هو كان إعلان حرب على إسرائيل عمليا. غير أن عوامل اتخاذ ذلك القرار لم تكن فقط متجسدة في مواقف ونوايا إسرائيل والولايات المتحدة، بل أيضا في مواقف الدول العربية.
ففي سياق المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية تحت رعاية أميركية باتت مواقف الدول العربية تضحي أكثر فأكثر ميلا إلى التراجع والتساهل مع الواقع. ولم يكن بعض التصريحات من جانب السعودية وغيرها من الدول العربية حول دعم القيادة الفلسطينية ليشكل دليلا على استعداد هذه الدول للوقوف موقفا أصلب وأكثر تشددا حيال الولايات المتحدة. العراق (في ظل صدام) دعم الفلسطينيين، ولكنه لم يكن قادرا على التأثير سياسيا في مسار التسوية. مصر والأردن اتخذتا موقفا ممالئا صراحة للولايات المتحدة وكانتا جاهزتين عمليا للقبول بأية صيغة تسوية وأي نموذج للدولة الفلسطينية. أما الدور الأساسي في دعم الفلسطينيين فلعبته سوريا وإيران اللتان قدمتا الدعم الفعلي مالا وسلاحاً. غير أن العراق وإيران ما كانا لاعبين في الساحة السياسية الفعلية بقدر ما لعبا دوراً في سياق النشاط المسلح، ولذا لم يكونا قادرين على التأثير في سياق المفاوضات السياسية إلا من خلال هذا النشاط إياه. وتبقى سوريا الطرف المهم في التفاوض وتسوية نزاع الشرق الأوسط عموما، ولكن دورها ليس دائم الفاعلية.
وفي حزيران عام 2002 طرح الرئيس الأميركي بوش في خطاب له موضوع في خطاب له موضوع "إقامة الدولة الفلسطينية والانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وفقا لقرارات الشرعية الدولية 242 و338". وقد رحب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية آنذاك بالأفكار التي حملها خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش واعتبراه "إسهاما جديا في دفع عملية السلام" .وشدد نبيل أبو ردينة مستشار الرئيس الفلسطيني الموجود آنذاك مع عرفات في مقر الرئاسة المحاصر برام الله على ضرورة إنهاء الاحتلال وكل النشاطات الاستيطانية كما طالب الرئيس بوش في خطابه. وقد كان خطاب بوش قوة الدفع التي تمخضت عن "خارطة الطريق" فيما بعد كمشروع تبناه الرباعي الدولي للشرق الأوسط المؤلف من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة. وكانت القمة العربية الأميركية في شرم الشيخ في 2/6/2003  بحضور ست دول عربية وغياب سوريا ولبنان رغم كونهما عنصرين أساسيين في استقرار المنطقة، والتي حضرها الرئيسان الأميركي جورج بوش والمصري حسني مبارك وولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز وملكا الأردن عبد الله الثاني والبحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ورئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس، وكذلك قمة مدينة العقبة الأردنية في 3/6/2003 التي دعا إليها الرئيس الأميركي جورج بوش وحضرها رئيسا الوزراء الفلسطيني محمود عباس والإسرائيلي أرييل شارون مثابة محطتين بارزتين بعد إقرار "خارطة الطريق".
في هذا السياق لا بد من إيراد تصريح للدكتور محمد الهندي المتحدث باسم حركة الجهاد في غزة عقب مؤتمر شرم الشيخ عام 2003 قال فيه إن "بوش حصل على قرارين عربيين هامين: الأول يقضي بالمساعدة على مقاومة ما أسموه بالمنظمات الإرهابية، والثاني دعم الاستقرار في العراق وذلك مقابل وعد بوش بدولة فلسطينية".
وندد الهندي بهذه المقايضة مشددا على أن "وعد بوش لم يحمل في طياته مفهوما محددا لهذه الدولة وحدودها وسيادتها" مضيفاً إن "الغموض كان واضحا ومقصودا، إذ لم يتطرق بوش لمفهوم دولة فلسطينية تمتد إلى حدود 4 يونيو 1967 على سبيل المثال[5]".
وأكد أحمد حلس أمين سر حركة فتح بغزة أن "المفاجأة كانت في عدم حديث العرب عن مبادرتهم التي أقروها في قمة بيروت" عام 2001، مضيفا أن "كل حديثهم جاء حول خطة خريطة الطريق"، وأضاف: "نحن قبلنا خريطة الطريق، ولكن بعد الملاحظات الإسرائيلية التي أعلنت أمريكا بشكل واضح أنها ستأخذها في الاعتبار أصبحنا أمام خريطة أخرى غير التي وافقنا عليها".
واعتبر حلس أن "بوش كان الرابح الأكبر في مؤتمر شرم الشيخ، فقد حقق كل ما يريده من القادة العرب، أما الجانب العربي فجاء خطابه داعما لكافة التوجهات الأمريكية". وأضاف: "وعلى الجانب الآخر لم يتحدث بوش بشكل واضح عن الالتزامات الإسرائيلية، في حين تحدث بوضوح عن واجبات فلسطين".

 

مبادرة الشرق الأوسط الكبير
تحاول الولايات المتحدة استيعاب القضية الفلسطينية عبر طمسها وتذويبها ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه بوش أوائل السنة الماضية. علماً أن محللين أميركيين كباراً انتقدوا هذا المشروع.
فقد صرح زبجنيو بجيزينسكي، المستشار الأسبق للرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي والخبير الاستراتيجي الأميركي، في معرض تحدثه عن هذا المشروع[6]  أن ما عقّـد استقبال المبادرة إياها كان تَـشكّـك الدول العربية ومعها الأوروبيون في أن الاهتمام المفاجئ من قبل إدارة الرئيس بوش بالديمقراطية في الشرق الأوسط يرجع إلى رغبة الإدارة في تأجيل القيام بأي دور نشط في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد تعمّـقت تلك الشكوك خاصة عندما صرّح ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، بأن الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط هو شرط لازم للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي الطويل الأمد.
وأضاف بجيزينسكي إن المبادرة يجب أن تعترف بأنه بدون توفّـر الكرامة السياسية النابعة من حق تقرير المصير، فلن يُـمكن إقامة الديمقراطية، وبالتالي، يجب أن تقترن المبادرة بجهود حقيقية لمنح العراقيين والفلسطينيين سيادتهم.
أما الدكتور جوزيف سيسكو، الوكيل السابق لوزارة الخارجية الأمريكية، فأقر بأنه لن يمكن للولايات المتحدة من خلال مبادرة الشرق الأوسط الكبير أن تنجز مهمة إدماج إسرائيل في شرق أوسط أكبر يضم إلى العالم العربي دولا أخرى، كإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان، إلا إذا دخلت إسرائيل في اتفاق سلام شامل ينهي الصراع العربي الإسرائيلي، حيث أن السلام والديمقراطية يجب أن يسيرا يدا بيد.
ولكن هذا الخبير الأميركي المخضرم يستبعد تحقيق تقدم سريع في عملية السلام لاتّـساع الفجوة التي تفصِـل بين مواقف الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من جراء العنف المتبادل والعمليات الانتحارية، وأيضا بسبب الجدار الفاصل الذي اضطرت الحكومة الأمريكية إلى الدخول في حوار حوله مع المسؤولين الإسرائيليين حتى لا يقتطع المزيد من الأراضي الفلسطينية، وللتأكد من أن مثل ذلك الجدار لن يُـحدد خطوط الحدود الدائمة بين الطرفين.

 

أهداف الولايات المتحدة ومهامها في المنطقة
لقد بقي اقتراح بوش إقامة دولة فلسطينية "مؤقتة" أو "انتقالية" وبعده اقتراح الأميركيين على رباعي الشرق الأوسط "خارطة الطريق" من دون حدوث متغيرات في السياسة الأميركية كمثل القول بتنشط هذه السياسة والتخلي عن النوايا "الانعزالية" السابقة لإدارة بوش. فهذا الاقتراح لم يكن ليغير ما سبق لزعماء الإدارة الجمهورية أن أعلنوه من نهج يقضي بالاعتكاف ما أمكن عن معالجة النزاعات الإقليمية ما لم يكن هذا يمس الأمن القومي الأميركي مباشرة. فالولايات المتحدة في ظل الجمهوريين لم تكن تريد الانغماس كليا في التسوية، مثلما كانت تفعل إدارة كلينتون، فتتحمل كامل المسؤولية عن نتائجها. فأوكلت إلى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني مهمة التوصل إلى اتفاقية معينة بعد أن يكلاّ من صراع مسلح مديد وغير مجدٍ، ودون أن يكون للولايات المتحدة دور ذو شأن. هذا الموقف كان من شأنه "نزع" المسؤولية عما يجري عن كاهل الولايات المتحدة وخفض حدة التوتر إلى حد ما بين الولايات المتحدة والدول العربية. ورمت اقتراحات بوش حول الدولة "المؤقتة" وبعدها حول حل القضية الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية بناء على "خارطة الطريق" إلى تهيئة الظروف أكثر لأجل التفرغ للحرب على العراق، وإلى إيجاد حلبة سياسية جديدة تجر أكثرية الدول العربية والأوروبية وروسيا إلى عملية تسوية بعيدة الآفاق وغير واقعية حالياً يكون من شأنها فقط أن تخفض نوعاً ما من حدة التوتر في المنطقة وعداء العرب للولايات المتحدة على أبواب حرب العراق.
مثل هذا الموقف راق لإسرائيل التي أعطيت الضوء الأخضر لمواصلة تنفيذ خطة شارون الرامية إلى القضاء على أكثر ما أمكن من القوات المسلحة للمنظمات الفلسطينية وبناها التحتية، وإيجاد وضع لا يطاق في ظله عيش الناس، لا سيما بعد بناء "الجدار الفاصل" عبر الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين بما يجبر المنظمات الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني في نهاية المطاف على التعاون مع إسرائيل. وهكذا تم تنسيق الاقتراح الأميركي مع شارون، ولم يكن إلا منسجماً مع خطط إسرائيل. وبديهي أن اقتراحاً كهذا ما كان ليطرح من دون إعطاء الولايات المتحدة إسرائيلَ ضماناتٍ أمنيةً أكيدة وسلاحا وعتاداً تتفوق فيهما على العرب. وهو يؤكد تماماً أن الولايات المتحدة لا تسعى حتى إلى إقامة علاقات "متساوية" ولو ظاهرياً مع كل من إسرائيل والدول العربية، ويقرر سلفاً أن تكون إسرائيل مثابة الشريك الجغراستراتيجي لها ذي الأولوية في المنطقة.
وقد جندت الأوساط السياسية والاجتماعية اليهودية في الولايات المتحدة مجدداً، بعد ارتباك أحدثته تفجيرات الحادي عشر من أيلول، كل إمكاناتها كَلوبي يهودي لجعل بوش يتخذ مثل هذا القرار. ولم يكن بوش بوارد الدخول من دون مبرر في مواجهة مع الأوساط اليهودية الأميركية، وهو ما لعب في حينه دوراً سلبياً على صعيد المستقبل السياسي لوالده. غير أن حسابات إدارة بوش بنيت على الأغلب على تصورات أخرى في مجال السياسة الخارجية. فاقتراح بوش إياه قديم، وكان قد درس بإسهاب من قبل مراكز التحليل والدراسة في الولايات المتحدة وهو لم يكن ليشكل تعاطيا جديدا وفريداً من حيث المبدأ. وكل سياسة إدارة بوش كانت ترمي في المضمون إلى تجسيد هذا التعاطي بالذات. فهي أخذت في حساباتها بادئ ذي بدء كون تعاون الولايات المتحدة مع الدول العربية قد بلغ حده الأقصى، ولن يكون بالإمكان أكثر مما كان من تقارب مع هذه الدول. فالعلاقات مع كل من مصر والسعودية لا تزال على استقرارها ولا يسعى هذا البلدان فعلاً إلى مزيد من الاستقلالية عن الولايات المتحدة. أما سوريا التي أقامت علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة فالتحدث عن تشارك استراتيجي معها كان إفراطاً في التفاؤل. وهو أمر أثبتته القرارات التي اتخذها الكونغرس لاحقا حول فرض عقوبات على هذا البلد والقرار 1559 الصادر عن الأمم المتحدة تحت الضغط الأميركي. وتسير الدول العربية الأخرى (باستثناء لبنان المتضامن على مسار واحد مع سوريا) بعد احتلال العراق، وبعد أن أبدت ليبيا رغبة بالتعاون تعاوناً وثيقا مع الغرب، في ركاب السياسة التي تقترحها مصر والسعودية. ولم تنجح الولايات المتحدة في ضم الدول العربية إلى تحالف جديد مناهض للعراق مثلما كان الأمر في الحرب الأولى التي شنت عام 90 على هذا البلد العربي. وهذا هو أقصى ما كان يمكن للدول العربية أن تفعله في ظل عجزها. خلال هذه الظروف يبقى تعاون الولايات المتحدة مع إسرائيل وتركيا في المنطقة أمراً لا بديل عنه. وأي تنازل إضافي يقدَّم للعرب في شأن القضية الفلسطينية كانت الإدارة الأميركية تعتبره غير ذي معنى ومضعفاً لمواقع إسرائيل. وليس من شأن هذا وحسب أن يفتح الوضع على آفاق ما غير محمودة، بل هو يضر بقدرات إسرائيل العسكرية والسياسية ويفضي إلى بلبلة في داخل المجتمع الإسرائيلي وإلى تنامي العداء للولايات المتحدة في إسرائيل وبين اليهود في العالم.
لم يلق عرض بوش صدى استحسان وتعرض لانتقادات شديدة من قبل حتى أقرب المقربين للولايات المتحدة، وبينهم بريطانيا. ولم يحظ هذا الاقتراح بشعبية طبعاً بين الفلسطينيين والعرب عموما. فقط إسرائيل كانت راضية عن مبادرة بوش. في هذا الصدد لا بد من استشفاف الأهداف والمهام الحقيقية للولايات المتحدة في المنطقة وكيف أن اقتراح بوش للدولة "المؤقتة" كان مفترضا أن يساعد على تحقيق الخطط الأميركية.
يبدو لنا أن اقتراح بوش ارتكز على مقولة أميركية مبدئية حول عدم إمكان التحاور مع ساسة ومنظمات ودول تحمي، برأيها، التطرف والراديكالية والإرهاب أو تستخدم هذا الثالوث المقيت برأيها. ونظراً لتوفر عوامل هذا التطرف في منطقة الشرق الأوسط بفعل تراكم القضايا غير المحلولة كان على الولايات المتحدة أن تواجه مهمة صعبة التنفيذ لإزالة هذه العوامل. وهي اصطدمت بمشاكل التطرف والراديكالية في أفغانستان وتعلمت منها درساً هاماً أظهر خطر التعاون وانسداد آفاقه مع حركات وأنظمة سياسية مماثلة يمكنها في عالمنا المعاصر أن تستخدم مصادر تمويل وتسليح مستقلة عن العالم الغربي. لذا تعتبر الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب" مثابة مهمة شمولية وأساسية، تبهُت معها أهمية القضية الفلسطينية لتضحي قضية محلية وجزئية. وهكذا نرى أن إحدى مهام السياسة الخارجية الأميركية هي هذا بالذات، أي حصر مشاكل مماثلة لا صلة لها مباشرة بالأمن القومي الأميركي، ضمن حدود المنطقة التي تبرز فيها. كما أنها تحاول أن تلقي عن كاهلها جزءا من المسؤولية عن هذه المشاكل لتحمّلها لحلفائها الأوروبيين والدول العربية، ومن هنا كانت وثيقة "خارطة الطريق" الأميركية التي أعطيت صفة مشروع باسم رباعي الشرق الأوسط في صيغتها الأولية في 15/10/2002 ومن ثم في صيغتها النهائية المعدلة في 14/11/2002. وهي على صعيد القضية الفلسطينية بالذات تسعى إلى حصرها ضمن إطار العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية وجعل كل مسعى أوروبي أو عربي أو حتى روسي في هذا المجال يبقى من دون معنى.
ومرد هذا إلى أن الظروف التاريخية الجديدة تجعل من القضية الفلسطينية فعلا قضية أقل شمولية وربما حتى ذات طابع محلي، ومشاركة الولايات المتحدة النشطة من شأنها وحدها أن تشكل عاملا هاماً جدا لرفع مستوى المشكلة إلى مرتبة "المشكلة الدولية". ولا تنظر التنظيمات السياسية الإسلامية الراديكالية والمتطرفة، وخصوصا تلك التي تتسم بطابع الحركات الدولية الكوسموبوليتية، إلى القضية الفلسطينية كهدف أسمى لها. وتبقى مسألة القدس طبعاً مسألة هامة جدا للعالم الإسلامي، ولكن القدس ليست لسوى إيران أولوية من أولويات "الجهاد الإسلامي". ولا بد من التنويه بأن ممول ومنظم أكبر المنظمات والحركات الإسلامية الراديكالية الدولية يركز انتباهه وجهوده لا على القدس وفلسطين، بل على مناطق واتجاهات جغراسياسية أخرى تماما مثل شمال القوقاز وأفغانستان – كشمير وأفغانستان – آسيا الوسطى والبلقان. ففي هذه الاتجاهات بالذات، ولا سيما في منطقة القوقاز وقزوين تتركز المصالح الاستراتيجية للسعودية وشركائها من دول الخليج. وفيما عدا المصالح الجغرافية السياسية والاقتصادية للسعودية تكتسب الحركات الإسلامية الأصولية طابعاً شمولياً يرتبط بقضية السلطة في بلدان مثل مصر والأردن وسوريا والجزائر وتركيا وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، بل إلى حد معين في معظم البلدان الإسلامية. فالصراع السياسي الاجتماعي الذي تخوضه الحركات والتنظيمات الإسلامية مع الأنظمة القائمة يضحي المشكلة الرئيسية في داخل هذه البلدان، وهو ما يبعد المشاكل الجغراسياسية عن اهتمامات الإسلام السياسي.
وتتمتع الحركة الإسلامية الأصولية حتى الآن بقدرة كبيرة على الانتظام والفعل. ولا تزال ترفض التنازل لخصومها. ومع توسع رقعة نشاط التنظيمات الإسلامية الراديكالية تتدنى أهمية فلسطين. ولذا يمكن أن تجد الولايات المتحدة نفسها خاسرة إذا ما "سلّمت" إسرائيل ومواقعها في الشرق الأوسط وأن تصطدم بتعزز الكفاح المناهض للأميركيين كرد فعل على "ضعف" الولايات المتحدة. وليس ما يحث هذه الأخيرة على أن تترك مجالا للشك في شأن أمن إسرائيل ووجودها لأجل أن تحل واحدة من مشاكل العالم الإسلامي دون غيرها. كما أن تضاؤل حدة الصراع مع إسرائيل سيؤدي إلى تقويتِه مع الولايات المتحدة نفسها وشركائها في الشرق الأوسط والمناطق المحاذية.  وقضية فلسطين تستهلك الكثير من قوى وجهود المنظمات الإسلامية، ولذلك لن تتمكن الولايات المتحدة في القريب من إيجاد بديل لإسرائيل في المنطقة يكون بنفس القوة والنمو الاقتصادي والقدرة العسكرية. وهذا أمر تزداد أهميته في ظل تأرجح الأوضاع في تركيا ونشوء خطر خروجها عن السيطرة.
ولا بد من التنويه بأن القيادة السياسية الفلسطينية ومعها حركة المقاومة الفلسطينية لم تكن يوماً لتنال ثقة وعطف الحركات الإسلامية ودول العالم الإسلامي الرئيسية التيوقراطية. ذلك أن المجتمع الفلسطيني كان دوما مجتمعا علمانياً على العموم. وحتى تزايد شعبية المنظمات الإسلامية في فلسطين مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الآونة الأخيرة لم يؤدِّ إلى تبوئها وضعاً ريادياً في حركة المقاومة الفلسطينية وفي المجتمع الفلسطيني. وهي بدورها ليس يسعها إلا أن تأخذ في الحسبان التوجه العلماني للشعب. في هذا السياق يضحي تهميش القضية الفلسطينية بين قضايا العالم العربي والإسلامي مهمة واقعية تماماً بالنسبة إلى الولايات المتحدة إذا ما عرفت هي وإسرائيل كيف تتصرفان سياسياً، وبدعم من دول عربية كمصر والأردن. ويمكن هنا أن تعول الولايات المتحدة على دور لسوريا في هذا المجال، وهي التي تحت ضغط الوضع الدولي المعاصر تنهج سياسة موازنة المواقف، هذه السياسة التي وضع أسسها الرئيس الراحل حافظ الأسد.
إن عناد واشنطن حيال التطرف والراديكالية تقرره ضرورة مواصلة الصراع ضد المنظمات التي تعتبرها إرهابية في بلدان الشرق الأوسط. وهي تضع سوريا ولبنان في رأس قائمة الدول التي ستضغط عليها بحجة إيوائها الإرهاب، لا سيما بعد أن أدرجت "حزب الله" ضمن هذه القائمة. وقد بدأت منذ صيف العام 2002 حملة ضغوط مكثفة على لبنان وسوريا مطالبة إياهما، ومعهما إيران، بكف نشاط حزب الله ووقف الدعم الذي يقدمه للتنظيمات الإسلامية الراديكالية في الأراضي الفلسطينية. وهذا يعتبر بالنسبة إلى لبنان، وخاصة إلى سوريا، أمراً غير قابل للتنفيذ عمليا. فحزب الله في لبنان قوة سياسية مهمة تحتضنها الطائفة الشيعية ولها ممثلوها في المجلس النيابي وكتلتها القوية، كما لها علاقات بالعديد من الدول، ولا سيما بسوريا وإيران، وتشكل تنظيما مسلحا قويا. وإن ضغط الحكومة اللبنانية على حزب الله قد يؤدي إلى استئناف الحرب الأهلية والتواجه السياسي فيما بين اللبنانيين مجدداً، علما أن السلم الأهلي لا يزال هشاً في ظل التناقضات السياسية الحالية وفي ظل انعدام النمو الاقتصادي عمليا. وبما أنْ لا وجود للجيش اللبناني في الجنوب، فإن الحدود تبقى تحت سيطرة الفصائل المسلحة التابعة لحزب الله. وتطالب الولايات المتحدة الرئيس اللبناني صراحة بضرب البنى العسكرية لحزب الله، وهذا يعني على الأرجح أن تتواجد قوات أميركية على الأراضي اللبنانية ما دامت الحكومة اللبنانية، برأيهم، عاجزة عن حل هذه المعضلة بنفسها. وسيكون صعبا أيضا على القوات السورية المتواجدة في لبنان أن تحل هذه المعضلة. هذا علماً أن العلاقات مع المنظمات الإسلامية الراديكالية ودعمها في كل من لبنان وفلسطين عنصر غاية في الأهمية من عناصر سياسة سوريا داخليا وخارجياً. وإن تورط سوريا في صراع مع هذه المنظمات سيفقدها مواقع هامة في العالم العربي، وسيسيء إلى علاقتها بإيران. إلا ان الولايات المتحدة تعتبر أن لبنان هو الحلقة الأضعف بين الدول العربية حيث تنشط شرعيا أو بصورة غير شرعية منظمات إسلامية راديكالية سنية وشيعية. وعلى الرغم من أن سوريا تعتبر تقليدياً دولة عربية ذات قدرات عسكرية وواحدة من كبرى أربع دول عربية، فإن وضعها السياسي والعسكري والاقتصادي يشهد بعض الوهن في الآونة الأخيرة، ما اضطرها مؤخرا، حسب بعض المراقبين، إلى تقديم بعض التنازلات لتركيا حفاظاً على أمنها القومي. لذا يمكن اعتبار سوريا كلبنان إلى حد ما بلدا يعتوره بعض الضعف. ومن المحتمل أن يكون الأميركيون يرون أن مهمة تصفية المنظمات الراديكالية الإسلامية وبناها التحتية هي مهمة واحدة عسكرية الطابع في لبنان وسوريا معاً، وقد تقوم الولايات المتحدة نفسها بمعالجتها، أو ربما قامت بهذه المهمة إسرائيل بدعم أميركي. ويعتقد المراقبون أن هذا الأمر قد يحصل في سياق عملية عسكرية ضد لبنان وسوريا تبدأ بعد الفراغ من العراق. غير أن لبنان وسوريا تتمركز فيهما أنشط المنظمات الإسلامية الراديكالية وهما اللذان كانا ساحة لنشاط هذه المنظمات ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن المشكوك فيه أن تستطيع الولايات المتحدة قريبا التخلص من عثرة المستنقع العراقي، ولعلها ليست في وارد عملية عسكرية ضد لبنان وسوريا الآن، ولربما حاولت الاستعاضة عنها بزحف "ثورة مخملية". ولها من المعارضة القوية للحكم الحالي، وبين مختلف الطوائف والزعامات السياسية والطائفية، ومن التذمر الشعبي من الأحوال المعيشية المتردية، ما يؤاتي أغراضها في محاولة لـ"فصل المسارين" اللبناني والسوري وإخراج سوريا من لبنان جيشا ونفوذاً.
لقد جعل احتلال العراق وما رافقه من تحد سافر للعالم العربي ومحاولات لتغيير مجمل الخريطة السياسية فيه عبر شعارات من مثل إشاعة الديموقراطية والتحديث وغيرها طاولت حتى دولا حليفة تقليديا لأميركا كالسعودية، ومن ضغوط يتزايد اشتدادها يوما بعد يوم على لبنان وسوريا ويورَّط فيها الأمين العام للأمم المتحدة نفسُه، بريقَ القضية الفلسطينية يخبو بما لهذه التحركات من أهمية سياسية واقتصادية بالنسبة إلى العالم العربي ككل.
ويستبعد الخبراء والساسة العرب والأوروبيون من حيث المبدأ تورط إسرائيل في عمليات الولايات المتحدة العسكرية في الشرق الأوسط، لافتين إلى عدم جدواه وخطورته على الولايات المتحدة. وقد كانت كل محاولات إسرائيل للانضمام إلى الحرب الأميركية البريطانية ضد العراق تلقى رفضا من الجانب الأميركي. كما كانت تلقى رفض الولايات المتحدة محاولة إسرائيل معالجة بعض المهام العسكرية التكتيكية بالتعاون مع تركيا، بما في ذلك ضربات توجه إلى سوريا وإيران وعراق صدام. غير أن التطورات في المنطقة ربما غيرت مسار السيناريوهات المطروحة وجعلت مشاركة إسرائيل في عمليات عسكرية أمراً غير مستبعد. ومهمة إسرائيل الأولى ستكون تدمير المنشآت ذات التقنيات المتطورة في إيران وقواعد المنظمات الراديكالية الإسلامية وكذلك الأسطول البحري الحربي الإيراني الذي تعتبره إسرائيل خطِراً جداً عليها.
ولا بد من أن نأخذ في الحسبان أن الولايات المتحدة تدرك على الرغم من جبروتها أنها غير قادرة على حل كل المشاكل العالمية والإقليمية انطلاقا من مواردها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وسيكون على الولايات المتحدة أن تختار أولوياتها في مجال سياستها في المنطقة أيضا وتتجاهل بعض القضايا لأجل معالجة تلك التي يتوقف عليها أمنها القومي. وهي بذلك تعزف عن معالجة مشاكل إقليمية في جنوب القوقاز وفي أسيا الوسطى وفي فلسطين وحتى في منطقة البلقان التي أنفقت فيها موارد طائلة. ففيما لم تحل بعد مشكلتا ناغورني كرباخ وأبخازيا مثلاً بادرت الولايات المتحدة إلى حل مشاكل حوض قزوين عن طريق محاولة إيجاد إمكانات للتصدي للأنشطة الإيرانية هناك. وهذا طبعا مرتبط بالمصالح النفطية للولايات المتحدة وبريطانيا في هذا الحوض على الرغم من أن مشكلة أمن حوض قزوين نشأت زمنياً بعد النزاعات السياسية والعسكرية في جنوب القوقاز بوقت طويل.
وهكذا عملت الولايات المتحدة على خفض الأهمية الدولية للقضية الفلسطينية واستبعاد راهنيتها من خلال إيجاد ساحة سياسية جديدة (احتلال العراق كان الموقع الأبرز في هذه الساحة السياسية الجديدة) للمماطلة في عملية تسوية هذه القضية وجر العرب والأوروبيين وروسيا إلى هذه الساحة. وكان من نتيجة هذا أن ركزت الولايات المتحدة كل جهدها مع إسرائيل على الموضوع الأمني وقصرت الجهود الأخرى على إعلان "خارطة الطريق" دون العمل جدياً في سبيل تنفيذها.

 

الظروف السياسية داخل فلسطين
كأي مجتمع يعيش مجابهة شديدة مع الخارج يتسع المجتمع الفلسطيني لشتى المواقف ومختلف النظرات حيال آفاق وسبل حل القضية الفلسطينية. وهذا الاختلاف وهذا التنوع نشآ في المجتمع الفلسطيني منذ حرب عام 1967. وهما قائمان في داخل منظمة التحرير وفتح، وهذا لم تكن القيادة الفلسطينية لتخفي أمره يوماً، بل أقرت به كمسلَّمة، ولم تعمل على لجمه، بل كافحت فقط المتعاونين والخونة المفضوحين. وبفضل هذا الموقف المرن الذي يصعب عادة البقاء عليه في ظل صراع مستديم حافظت منظمة التحرير الفلسطينية على الوحدة والإدارة المركزية وإمكانية التصرف بليونة خلال مراحل الانعطافات في حركة المقاومة الفلسطينية. واستطاعت منظمة التحرير أن تتأقلم بفاعلية مع ظروف تشكل طبقة وسطى في فلسطين وبين فلسطينيي الشتات، وبروز الكثير من الأشخاص المتعلمين والمثقفين البالغين أعلى مستويات العلم والثقافة ورجال الأعمال الكبار، أي ظهور فئات اجتماعية واعية ومولدة لأفكار سياسية واجتماعية ليبرالية في جلّها. وبرز الخطر الأكبر على هيمنة منظمة التحرير مع ظهور منظمتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين الدينيتي الطابع على الساحة السياسية. فهاتان المنظمتان بقيتا متمسكتين بالشعارات والأهداف الأصلية لحركة المقاومة الفلسطينية والتي تختصر في الدعوة إلى تدمير دولة إسرائيل. ولم تصبح هاتان المنظمتان على الرغم من اتساع رقعة الصراع المسلح مع إسرائيل رائدتين في المجتمع الفلسطيني مع أنهما لعبتا دوراً مهماً في إيجاد أجواء من رفض التعاون مع إسرائيل وعدم التسامح حياله.
وتنامى دور هاتين المنظمتين المدعومتين من قبل سوريا وإيران، ومن قبل العراق أيضا، واتسعت شعبيتهما. فثمة تقديرات تقول بإمكان حصولهما في انتخابات برلمانية حرة نسبياً على نسبة تتراوح بين 40 و60 بالمائة. ولكن حتى نسبة 30 بالمائة من المقاعد في البرلمان ستتيح للراديكاليين الفلسطينيين العمل على نسق "حزب الله" اللبناني، أي ممارسة النشاط برلمانيا وقتاليا. أما في الانتخابات الرئاسية فنجاحهم، كما تبين مؤخراً، غير ممكن نظراً لعدم وجود زعماء بارزين ذوي شعبية من بينهم في المجتمع الفلسطيني، لا سيما بعد الاغتيالات الإسرائيلية التي طاولت الرؤوس الكبار في هاتين المنظمتين. ولذا استنكفتا عن المشاركة فيها، لا سيما في ظل عدم اعترافهما بشرعية الحكم الذاتي الفلسطيني.
لقد عمل الأميركيون مع الإسرائيليين على عزل عرفات في السنوات الأخيرة عن السياسة الفعلية باعتبارهم إياه "مستنفداً نفسه" كزعيم للفلسطينيين، لاستنتاجهم بعد دراسة مستفيضة للوضع في منطقة الحكم الذاتي أن المجتمع الفلسطيني بات ناضجاً للتغيير وعمليات الإصلاح مع بروز جماعات وقوى سياسية منظمة فيه تعمل في هذا الاتجاه. وليس يعيق هذا الأمر برأيها إلا حالة التجابه الحاد مع إسرائيل. فعمليات القتال لا تتيح لهذه القوى أن تحقق أغراضها ونواياها. وقد صرح مسؤولون في السفارة الأميركية في بيروت  بأن الولايات المتحدة تراهن لا على "الأجواء العامة السائدة" في فلسطين، بل على أفراد سياسيين وجماعات سياسية محددة[7]. ومفهوم أن تكون هذه الجماعات إما ممن له اتصالات بإسرائيل، وإما ممن لا تعارضه إسرائيل كشريك في التفاوض والتعاون. وهنا يمكن القول إن خطة أميركية إسرائيلية محددة يجري تنفيذها وتستند إلى وجود عملاء ومتعاونين في فلسطين ذاتها، الهدف منها خلق قيادة طيعة في منطقة السلطة الوطنية الفلسطينية. غير أن هذا ليس ممكناً إلا لفترة قصيرة، ذلك أن الفلسطينيين الذين لهم خبرة سياسية واسعة وهيئات سياسية متقدمة لن يصبروا طويلاً على نظام ممالئ لإسرائيل باسم الإصلاح ومكافحة الفساد في الإدارة الفلسطينية، كما يدعو الأميركيون، ويتجاوب معهم بعض أوساط المثقفين والليبراليين في فلسطين. فأياً تكن خطورة المشاكل الاجتماعية والإدارية تبقى المهمة الرئيسة بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين هي تحرير أرض الوطن، وليس الإصلاحات الاجتماعية والإدارية.
ويعقد الأميركيون الآن كثيرا من الآمال على الرئيس الفلسطيني الجديد أبو مازن الذي كان مقربا من عرفات واتصل في الماضي بالزعماء الإسرائيليين ومن بينهم أرييل شارون نفسه. فقد صرح عباس خلال ترؤسه كرئيس لوزراء السلطة الوطنية الفلسطينية الوفد الفلسطيني إبان زيارة للولايات المتحدة الأمريكية ولقائه الرئيس الأمريكي بوش  في تموز عام [8]2003  حول موقف السلطة إزاء «الإرهاب» بأن السلطة «جزء من حرب الولايات المتحدة على الإرهاب أينما كان ومهما كانت أشكاله».
والتقى عباس آنذاك عددا من زعماء المنظمات اليهودية الأميركية حيث قدم نفسه «كمعتدل» ومؤيد لتسوية سلمية تقوم على أساس دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنبا إلى جنب بسلام. وقال مايكل بوهنين رئيس المجلس اليهودي للشؤون العامة الذي حضر اللقاء إن «أبو مازن» «يمثل نفَساً جديدا» فيما قال مارفين ليندر رئيس منبر السياسة الإسرائيلية «إن هناك قدرا من الثقة الآن بعباس».
وفي ختام قمة العقبة عام 2003 التي جمعت الرئيس الأمريكي جورج بوش والعاهل الأردني عبد الله الثاني برئيسي الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون والفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، حض أبو مازن الفلسطينيين على وقف "الانتفاضة المسلحة"، داعيا إياهم إلى المقاومة بالسبل السلمية.
وقال عباس: إن السلطة الفلسطينية تتعهد ببذل "كل الجهود لإنهاء الانتفاضة المسلحة"، وأضاف: "لا يوجد حل عسكري لصراعنا، ونكرر إدانتنا للإرهاب والعنف ضد الإسرائيليين". [9]
كما يعول الأميركيون على شخصيات من مثل مستشار الرئيس الفلسطيني لشئون الامن القومى وعضو مجلس الامن القومى الفلسطينى  جبريل الرجّوب. غير أن الساحة ليست خالية لهؤلاء وحسب. فهناك أيضا المثقفون الفلسطينيون المؤيدون للزعيم الفلسطيني المحكوم عليه بالسجن المؤبد من قبل الإسرائيليين مروان البرغوتي، الداعون إلى المزيد من إشاعة الديموقراطية في داخل القيادة الفلسطينية والرافضون مساومة إسرائيل في مسألة سحب قواتها بالكامل من الأراضي الفلسطينية. وقد كان هؤلاء ينتقدون أسلوب عرفات في القيادة جاعلين بينهم وبينه مسافة ما، ويصرون على انسحاب القوات الإسرائيلية انسحابا كاملا. ولربما كان هذا ما يسمى "الطريق الثالث" في حياة الفلسطينيين السياسية وإن كان غير واضح المعالم بعد. أما المجموعة الثالثة فتتألف من منظمتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" اللتين إذا ما تبوأتا مركز الصدارة ذات يوم في قيادة الشعب الفلسطيني حدثت تغيرات جذرية ليس فقط في فلسطين، بل في المنطقة برمتها، إذ إن الإسلاميين لا يناضلون وحسب ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل ضد وجود إسرائيل أصلاً كدولة وكيان. إلا أن المنظمات الإسلامية الفلسطينية لا تسعى إلى تعاون وثيق مع التنظيمات الإسلامية العربية بسبب من عدم ثقة الفلسطينيين بالعرب عموما واعتبارهم الأنظمة العربية أنظمة استسلامية في معظمها. ومعلوم أن قيادة "حماس" لا تثق كثيراً بالمنظمات الراديكالية الإسلامية في البلدان العربية الأخرى ولا تريد أن تضحي أسيرة بنية ضخمة ومتشعبة مثل منظمة "الإخوان المسلمين"، وهي التي تطمح إلى دور القائد السياسي للفلسطينيين. كذلك لم تنشأ علاقات ثقة كبيرة بين "حماس" وإيران على الرغم من المساعدات التي تقدمها الأخيرة لها. وليست لـ"حماس" أيديولوجية واضحة في شأن إقامة دولة إسلامية في فلسطين، بل ثمة فكرة عامة هي أشبه بكليشيه دعائي لا أكثر. أما مجموعة "عز الدين القسام"، الجناح العسكري لـ"حماس" فليست لها أنشطة دينية أو أيديولوجية، بل هي مهتمة بتنفيذ مهام قتالية بحتة. وتبقى منظمة "فتح" كتنظيم قتالي تابع لمنظمة التحرير بعيدة كل البعد عن الإسلام السياسي وتتصرف كمنظمة علمانية، بل حتى مغربنة بعض الشيء. ويبقى القول إن الجماعات السياسية الإسلامية وغير الدينية في فلسطين هي عموما بعيدة عن الأفكار والأهداف الكوسموبوليتية للأصوليين الإسلاميين الذين ينشطون في يوغوسلافيا السابقة وأراضي الاتحاد السوفياتي السابق وفي غير أماكن من العالم، بل هي تشكل تنظيمات تحرر وطني فلسطيني بامتياز.

 

حول توطين اللاجئين الفلسطينيين
تدرس الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط وبلدان شمال إفريقيا حاليا على نطاق واسع مسألة إمكان توطين الفلسطينيين. ويعتقد الأميركيون أن منح الفلسطينيين الجنسية في الدول العربية يحل إلى حد بعيد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ويسهل تسوية القضية الفلسطينية. ولأجل هذا يجري العمل حثيثاً في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وفي أماكن التجمع الفلسطيني الأخرى وفي أوساط المثقفين ورجال الأعمال الفلسطينيين. ويعتبر كل من لبنان وسوريا والجزائر وتونس مثابة البلدان الأكثر مؤاتاة للتوطين. هذا الموضوع يركز على دراسته خاصة "معهد سياسة الشرق الأوسط في واشنطن". وهنا يمكن أن نورد بعض الأفكار الأساسية:
أ- يعتقد الأميركيون أن من المهم بمكان القيام بتجربة التوطين في واحد من البلدان المرشحة لذلك بغية تبيان إمكانيات نجاح هذه المبادرة. وهم يرون في لبنان البلد الأفضل لمثل هذه التجربة. غير أن السفير الأميركي السابق في لبنان ديفيد ساترفيلد لم يؤيد يوماً هذا الرأي باعتبار أن لبنان الصغير في عدد سكانه وذا النظام السياسي الطائفي هو البلد الأقل مؤاتاة لتوطين الفلسطينيين.
ب- كانت القيادة الفلسطينية برئاسة عرفات تقف دوما موقفا معاديا من الطرح الأميركي حول التوطين. ولكن ثمة معلومات تقول أن عرفات كسياسي مجرب كان مدركاً أن قسماً كبيراً من الفلسطينيين (إن لم يكن معظمهم) في الشتات سيوطّن في خاتمة المطاف في بعض البلدان. وقد وقعت يد الأميركيين على مادة توجيهية صادرة عن القيادة الفلسطينية (ربما كانت ذات هدف دعائي مقصود) تقول إن جزءا من فلسطينيي الشتات سيبقى بنتيجة التسوية لا في البلدان العربية، بل في دول أميركا الشمالية وأوروبا المتقدمة اقتصادياً بغية إيجاد جماعات ضغط تساعد على انتهاج سياسة خارجية فلسطينية نشطة. ويخشى الأميركيون كل الخشية هذا الأمر. ذلك أن مثل هذه الأفكار باتت تنتشر بسرعة خاصة إثر منح الدول المتقدمة صناعياً، والولايات المتحدة واحدة منها، اللاجئين الألبان من كوسوفو حق الحصول على الجنسية. وقد رأى الفلسطينيون أن الأسرة الغربية عندما ظهر خطر تنامي الجاليات الألبانية في أوروبا وأميركا الشمالية أعادت النظر عموما في موقفها من سيادة يوغوسلافيا وصادقت عمليا على إقامة دولة للألبان في كوسوفو. وإذا كانت القيادة الفلسطينية توافق على توطين فلسطينيين في البلدان العربية، فإنها تفضل في هذا المجال البلدين الجارين لبنان والأردن.
ت- المكان الأكثر واقعية لتوطين الفلسطينيين في إطار المشروع إياه هو بلدان المغرب العربي: الجزائر والمغرب وتونس. فهذه البلدان الشاسعة الأراضي والكبير عدد سكانها نسبياً لن يضيرها ولن يشكل خطراً على مصالحها وتوازناتها الوطنية وجود 100 ألف إلى 300 ألف فلسطيني. كما أن المشروع يقترح توطين فلسطينيين في شمال شرق العراق (كردستان العراق).
جدير بالذكر أن معلومات زعمت أن رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري كان يطرح بقوة من خلال المنظمات الراديكالية السنية فكرة توطين الفلسطينيين في لبنان (وخاصة بمقابل الإعفاء من الديون الضخمة المترتبة على لبنان). فمنظمة "عصبة الأنصار" التي يمولها الحريري بسخاء تؤيد بثبات فكرة توطين الفلسطينيين. فهذا من شأنه أن يزيد تعداد أبناء الطائفة السنية في لبنان بعد أن باتوا في العقود الأخيرة من السنوات أقل عددا بكثير من الشيعة، وهذا ينعكس سلباً على موقعهم في التركيبة السياسية الطائفية اللبنانية. وليست ممكنة عودة الكثير من أبناء السنة اللبنانيين من المهجر حالياً. ويتراوح عدد الفلسطينيين في لبنان حاليا بين 130 و230 ألفاً، ويشكلون بذلك نسبة 4 إلى 7 بالمائة من سكان لبنان. وينظر قادة السنة اللبنانيين إلى حيوية الفلسطينيين السياسية والاجتماعية وإلى علاقاتهم مع فلسطينيي الشتات والداخل بعين الرضى. وتنشر التنظيمات السنية الراديكالية بتعليمات من الحريري نفوذها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين حيث تدعو إلى تأييد فكرة توطين هؤلاء محرضة إياهم على خصوم التوطين من الموارنة والشيعة.

 

آخر المستجدات على صعيد النزاع الإسرائيلي الفلسطيني
لقد كانت من بين آخر الأنشطة على صعيد تحريك موضوع التسوية الإسرائيلية الفلسطينية بعد انتخاب محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للسلطة الفلسطينية مؤخراً قمة شرم الشيخ المنعقدة في 8-2-2005 والتي حضرها الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، بحضور كل من الرئيس المصري محمد حسنى مبارك والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني.
وقد جاءت القمة، حسب المراقبين، نتيجة تنسيق مصري أمريكي مكثف، وفي إطار ما يمكن أن يطلق عليه اسم "صفقة" سياسية بين الطرفين[10] . فالقاهرة تسعى من خلال القمة إلى الانطلاق نحو إنجاز يحرك المياه الراكدة في القضية الفلسطينية، يدعم داخليا موقف الرئيس حسني مبارك المقبل على ولاية رئاسية جديدة في تشرين الأول من العام 2005 تواجه اعتراضات في الداخل وانتقادات من الخارج، تطالب بإصلاحات سياسية.
وفي المقابل تريد إدارة بوش، بحسب المصدر نفسه، "بمقابل تخفيف حدة انتقاداتها للأوضاع السياسية المصرية الاستفادة من نفوذ القاهرة القوي لدى كافة الأطراف الفلسطينية من أجل العمل على بلوغ تسوية سياسية للقضية الفلسطينية من جهة، بالإضافة إلى تجنب تصعيد الانتقادات ضد السياسات الأمريكية تجاه العراق وإيران".
وكانت قد سبقت القمة لقاءات مصرية مكثفة بمساندة أميركية مع قيادات من حركتي "حماس" و"الجهاد" للحصول على ضمانات بقبول التهدئة مع الجانب الإسرائيلي قبل المضي في خطوات الإعداد للقمة.
وتم هذا في إطار التنسيق المصري الأميركي على صعيد القضية الفلسطينية ومع الجانب الفلسطيني بغية تنفيذ خطوات خطة "خريطة الطريق" الدولية التي من المقرر أن تنتهي بإعلان الدولة الفلسطينية.
وقد اعتبر الدكتور محمد حمزة مدير مركز "مقدس" للدراسات السياسية والإستراتيجية بغزة أن مؤتمر شرم الشيخ يأتي ضمن صفقة مصرية أميركية لحل القضية الفلسطينية مقابل عدم التصعيد العربي فيما يتعلق بمواقف وسياسات واشنطن تجاه إيران والعراق خاصة التوجه الأمريكي الهادف إلى جعل إيران محطته الثانية بعد العراق.
ورأى اللواء عادل سليمان المدير التنفيذي لمركز المستقبل للدراسات السياسية والإستراتيجية (مؤسسة مدنية تم إطلاقها بمبادرة من عدد من كبار رجال الأعمال المصريين المقربين من نجل الرئيس المصري) من جهته أن "مصر أرادت استغلال فرصة حدثت فيها متغيرات دولية وإقليمية مواتية للدفع بعملية السلام إلى الأمام".
وأضاف سليمان قائلا إن "الإدارة المصرية هدفت إلى وضع الإدارة الأمريكية، وبخاصة رئيسها جورج بوش أمام ما تعهد به أكثر من مرة وهو إقامة دولة فلسطينية بجوار دولة إسرائيل".
وعن هذه المتغيرات الأخيرة أوضح سليمان أن أهمها ما أعلنه الرئيس الأمريكي في خطاب "حالة الاتحاد" الأربعاء 2-2-2005 من أن "هدف قيام دولتين ديمقراطيتين -إسرائيل وفلسطين- تعيشان جنبا إلى جنب في سلام بات "في المتناول"، مضيفا أن "أمريكا ستساعدهما على تحقيق ذلك الهدف".
ولفت سليمان إلى أنها المرة الأولى منذ عام 2000 يطلب فيها رئيس الولايات المتحدة من الكونغرس رسميا مساعدات للسلطة الفلسطينية. وكان بوش قد طلب في خطاب حالة الاتحاد دعما قدره 350 مليون دولار للسلطة الفلسطينية لمساعدتها على "دعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية".
وأضاف سليمان أن الشعب الفلسطيني صوَّت لبرنامج أبو مازن الذي يدعو لوقف عسكرة الانتفاضة، وبات من الضروري الآن أن ينفذ أبو مازن برنامجه، معتبرا أن "المقاومة أدت ما عليها من دور، وجاء الدور إلى السياسة لتحصد الثمار".
ورأى أن "زعماء حركتي حماس والجهاد صاروا الآن مقتنعين بوجهة النظر تلك قبل أي وقت مضى؛ وهو ما دفع مصر للمضي قدما في خطواتها الهادفة إلى وضع ضوابط جديدة لجولة جديدة من المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين من المؤمل أن تنتهي بسلام دائم".
من ناحية أخرى قال محللون لوكالة "رويتر" للأنباء إن مصر تحتل ما ترى أنه مكانها الصحيح في الشرق الأوسط عندما تستضيف أول قمة إسرائيلية فلسطينية منذ أربع سنوات، موضحين أن دوافع القاهرة لهذا التحرك تتركز على الاستقرار وتحسين الصورة.
وقال حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة لـ"رويتر": "يحاول مبارك أن يظهر في صورة من يبذل قصارى جهده لمساعدة إسرائيل والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وألا يكون في وضع المواجهة مع السياسة الخارجية الأمريكية".

 

استنتاجات
إذا كان الديموقراطيون في الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس جيمي كارتر قد رفعوا شعار "حقوق الإنسان" لا لأجل إحقاق هذه الحقوق على صعيد المجتمعات والشعوب كافة، لا سيما شعوب "العالم الثالث" التي هي عرضة، أفراداً وجماعات، لكل صنوف الاستغلال والاضطهاد، بل لأجل الدفاع عن حقوق اليهود في الاتحاد السوفياتي السابق إسهاماً منهم في زعزعة استقرار ذلك البلد وصولا إلى إزالته من خارطة العالم عام 1991، فإن الجمهوريين الأميركيين اليوم، إذ يطرحون موضوع محاربة "الإرهاب الدولي" بعد خلو الساحة العالمية لهم، لا يتوخون منه حماية الشعوب والمجتمعات فعلاً من الإرهاب بقدر ما يتوخون محاربة القوى الشعبية التي لا تزال تقاوم من أجل استقلال بلدانها في وجه العولمة الظالمة. وفي فلسطين بالذات توصم هذه المقاومة بالإرهاب أيضاً لأنها لا تريد دولة فلسطينية مسخاً، دولة منزهة من كل ما يمت إلى السيادة والاستقلال بصلة، دولة مفصلة على قياس شارون واليمين الإسرائيلي وبوش واليمين الأميركي. ويمكن مما سبق استنتاج أن أياً من حكومات إسرائيل لن يعمد في المستقبل المنظور إلى النظر بجدية في مسألة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في فلسطين. فإسرائيل لن تقبل بسوى شبه كيان عربي في فلسطين يتكامل سياسياً واقتصادياً معها ويكون تابعاً لها.
كما ليست للولايات المتحدة خطط ونوايا محددة لإقامة دولة عربية في أرض فلسطين. فهي تفضل استطالة وضع المراوحة بغية "لشلشة" القوى المعارضةِ لمشاريعها في الهيمنة على المنطقة وجر ما أمكن من القيادات العربية، والفلسطينية خاصة، إلى مشروعها الأشمل لما يسمى "السلام الأميركي"، مشروع الشرق الأوسط الكبير. لا سيما أن تصورات تعززت في الولايات المتحدة تقول أن إقامة الدولة الفلسطينية لن تعني تسوية النزاع العربي الفلسطيني، بل قد تضحي منطلقاً لمجابهات جديدة مديدة في الشرق الأوسط. والموقف نفسه تقريباً تقفه بريطانيا التي تدعَّم تحالفها أكثر مع الولايات المتحدة بنتيجة وصول الحزب الجمهوري وبخاصة جناحه اليميني المحافظ إلى السلطة في هذا البلد. وفي هذا الصدد لم تخسر إسرائيل في مسألة الأمن في المدى المنظور، مع أنها حريصة من مواقع السياسة البعيدة المدى على عودة الحزب الديموقراطي إلى السلطة في الولايات المتحدة. وما انخراطها في معالجة المسألة الأمنية والتركيز عليها بالاستفادة من الحملة على الإرهاب التي يقودها الأميركيون في العالم إلا للهروب من استحقاق إقامة الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين. وإن اعتقاد الإسرائيليين بعدم إمكان قيام دولتين على أرض فلسطين هو عامل أساسي من عوامل "انسداد آفاق" الوضع. وليس بوسع الأميركيين، ديموقراطيين ليبراليين أو محافظين جدداً كانوا، أو من أنصار "السياسة الواقعية"، تسوية هذا الأمر. وإن سياسة إدارة جورج بوش والجناح اليميني للحزب الجمهوري هي سياسة موجهة موضوعياً وجهة الحفاظ على وضع النزاع العربي الإسرائيلي على ما هو عليه. فالولايات المتحدة تنظر إلى إسرائيل نظرتها إلى دولة – وظيفة، يجب عليها أن تنهج سياسة نشطة في منطقة الشرق الأوسط على خلفية ضمان أمنها في الخارج والداخل إلى أبعد الحدود. فالسيادة تتطلب ليس فقط مؤسسات رسمية مناسبة وقاعدة اقتصادية ملائمة، واعترافاً سياسياً دولياً، بل أيضا مجالاً يسمح بقيام السكان بنشاط حياتي طبيعي. أما نجاح وجود دول صغيرة في منطقة "الشرق الأوسط الكبير" والمناطق المحاذية له فممكن فقط في ظل توازن سياسي وعسكري إقليمي مستقر يفترض قيامه بقاء مستوى معين من التجابه على صعيد كل من الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية.
أما في الجانب العربي فليست الدول العربية الآن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان حليفاً لها في صراعها مع إسرائيل، ومنذ دخول العراق بعد الكويت واحتلال منابع النفط العربي مباشرة من قبل قوات الولايات المتحدة، حليفةِ إسرائيل الاستراتيجية ومثبِّتةِ وجودها في منطقتنا بعد تقسيمات معاهدة سايكس بيكو، وقوات بريطانيا المبادِرةِ إلى تقديم "وعد بلفور"، بقادرة على القيام بأية مبادرة فاعلة في ظل موقعها الضعيف حالياً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. ولعل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فعلا، بما يعني الحل العادل للقضية الفلسطينية، ستنتظر تغير موازين القوى العالمية لصالح الحق والعدالة. وهذا لن يكون ممكناً في ظل الهيمنة الأميركية على العالم هيمنة لا ينازعها عليها أحد. وللمتشككين في إمكان حصول مثل هذا التغيّر نذكّر بحكاية للأطفال تروي أن صرصوراً تعاظم شأنه وعتى حتى باتت تهلع منه حيوانات الغاب وسباعها، فتفرنقع وتتراجع كلما استُنجِد بها لأجل وضعه عند حده، وهو الذي زرع الرعب في قلوب الجميع بلا استثناء. ويقي الأمر على هذه الحال إلى حين اقتراب عصفور الدوريّ منه ذات يوم ونقده بمنقاره بكل بساطة وابتلاعه. فهل لمثل هذا الدُّوريّ أن يظهر في عتمة الليل العربي الطويل فيبدد سحائب العجز والهزيمة ويستجمع أسباب العزّ والكرامة؟ 

 

[1]    “Der Standard”، النمسا، 20 ت2 2002

[2] www.russ.ru، إريك ألترمان. نعم للولايات المتحدة الأميركية! لا لبوش! The Nation 10/2/2003)

[5] إسلام أون لاين.نت/ 4-6-2003

[6] منتديات المهدي، نيسان 2003  

[7] السكرتيرة الأولى في السفارة آنّ بودين ِAnne C. Bodine والملحق العسكري الكولونيل نورمان لارسون Norman Larson.
http://www.artsakhworld.com /igor_muradian/
 Problems of Security in the USA Near-Eastern Policy, 24.06.2003

[8] صحيفة القدس، 26/07/2003

[9] إسلام أون لاين.نت/ 4-6-2003

[10] إسلام أونلاين نت-6/2/2005

The palestinian nation: between the american procratination, and the israeli rejection, and the arabic failure

 The essay treats the promised and lost Palestinian State.
Americans are looking for their interests in the Middle East and they don't care about the right of the Palestinian people in their self-determination. In addition, they tried hard in the last years to destroy the basis and principals of the United Nations. One of these principals is the self-determination. They sacrifice these rights in the altar of the globalization. That means the political hegemony of the U.S government towards the international decision. They are adhering to struggle against the international terrorism more than maintaining rights and justice. Then, they changed the Palestinian cause from a central cause which attracted the international protagonists during half a century approximately, to a secondary cause, a local one. They can return to it from time to time to run their interests easily in the region.
  Israelis are working to benefit from the current international power balance and from the American campaign towards "terrorism" throughout the world and specifically in the Middle East rich in oil and reasons for the resistance and  its excuses against Israelis and Americans. All of that, to strike the Palestinian resistance which develops year after year its ways of struggling and to eliminate the Palestinian cause by admitting the presence of a weak Palestinian State under the American and Israeli tent. Borders of 1967 are not accepted anyway by the Israelis because they want borders able to protect them if conditions changed. They also refuse the return of Palestinian refugees to their home because they are afraid of Palestinian demographic explosion which is more dangerous than explosions made by the resistance and martyr bomb.
 
Arab leaders retire from what they have considered national duty towards the Palestinian people and satisfy with "dishes" of solution which is not delicious, prepared by the American administration. They have lost many chances where the international balance was for their benefits more than today. How can they treat a big cause like this under the disturbance of the international balance and under the political, economical and military weakness and under the big need of their States to monetary aids while the abundant Arabic capitals support the American economy in its battle which can be named correctly, the American, "mother of battles".

L'Etat  palestinien perdu entre les atermoiements américains, le rejet israélien et l'impuissance arabe   

La recherche traite la question de l'Etat palestinien promis et perdu
Les américains sont à la recherche de leurs intérêts au Moyen-Orient et ne se soucient pas dudroit du peuple palestinien à disposer de lui-même, après avoir déployé leurs efforts lors desdernières années à saper les bases et les principes des Nations Unies dont notamment le droit des peuples à disposer d'eux _ mêmes, et à  sacrifier ces droit auprès de l'autel de la mondialisation, et l'hégémonie politique exercée parle gouvernement des Etats-Unis sur la résolution internationale. Ils sont plus rigoureux dans leur lutte contre le " terrorisme international " que dans l'application du droit et de la justice.
 C'est alors qu'ils ont transformé la cause palestinienne d'une cause centrale polarisant les forces du conflit international pour plus d'un demi-siècle à une cause secondaire, locale, une cause qu'ils peuvent évoquer de temps à autre, juste pour faciliter la promptitude de leurs intérêts dans la région.
Les israéliens oeuvrent à profiter de l'équilibre actuel des forces internationales et de la campagne américaine contre le"terrorisme" dans les quatre coins du monde,notamment au Moyen-Orient riche en pétrole et en les raisons de la résistance contre les israéliens et les américains et ses prétextes, afin de frapper la résistance palestinienne qui développe an après an les moyens de sa lutte et de liquider la cause palestinienne en acceptant l'idée d'un état palestinien impuissant, sous la tente américaine et la tente israélienne ensemble .Dans tous les cas, la frontière de l'an 1967 n'est pas celle que les américains trouvent bon pour Israël ;ils veulent des frontières qui leur seront possible de protéger au cas o‌les circonstances changent
 .Le retour des réfugiés palestiniens à leur territoire n'est pas acceptable de leur part car ils craignent une explosion démographique palestinienne qui sera plus violente que toutes les autres explosions effectuées par les résistants et les martyrs qui ont eu lieu jusqu'à présent.
 
La plupart des leaders arabes ne montrent, face à cette réalité, qu'un renoncement à ce qu'ils ont considéré dans le passé un devoir national vis à vis la cause du peuple palestinien ;ils se contentent alors des " plats " de solutions peu appétissants offerts de temps à autre par l'administration américaine puisqu'ils ont manqué des occasions où l'équilibre mondial était à leur bénéfice plus qu'il l'est aujourd'hui ; comment il leur sera possible aujourd'hui de traiter une cause fatale à l'ombre du déséquilibre mondial qui n'est pas à leur bénéfice, et à l'ombre de l'impuissance politique, économique et militaire , et à l'ombre du besoin de leur plus grand état aux aides financières ,alors que la monnaie arabe abondante appuie l'économie américaine dans sa bataille qu'on pourra nommer vraiment la"grande bataille"américaine.