- En
- Fr
- عربي
من واقع الحال
خلال السنوات المقبلة؟
تزوّج سليم وناتالي منذ ثلاث سنوات، وهما لا يفكران بالإنجاب لا في المدى القريب ولا حتى بعد أعوام. فبالنسبة إليهما، لا تسمح الظروف الراهنة في لبنان بالتفكير بهذه الخطوة، فتداعيات الأحداث الأخيرة تشعرهما بالقلق وعدم الثقة بما يمكن أن يحمله المستقبل.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فهما يعملان حتى ساعاتٍ متأخرة، ورغم ذلك، بالكاد يكفيهما راتباهما لتغطية المصاريف الأساسية من إيجار المسكن وفواتير الكهرباء والماء والهاتف والمواصلات والطعام وغيرها، فكيف لهما أن يتكبّدا أعباء إضافية كدار الحضانة والحليب واللقاحات والأدوية…
يتشابه المشهد لدى راشد وميرنا، المتزوجَين منذ أكثر من خمس سنوات، واللذين يعبّران صراحةً عن شغفهما بإنجاب الأطفال، إلا أنّ الظروف المعيشية تقف عائقًا أمام رغبتهما. فقد بدّل راشد عمله أكثر من أربع مرّات خلال العامين الأخيرين، من دون أن يتوصل إلى درجة معقولة من الاستقرار الاقتصادي. أسئلة الأهل والمجتمع عن سبب التأخر في الإنجاب تُحرج هذين الزوجين ولكن، كيف لهما أن يتحمّلا أعباء فرد إضافي في العائلة، وهما بالكاد يوفران ثمن أدوية السكري التي يحتاجها راشد، إلى جانب تكاليف الاستشارات الطبية والفواتير الأخرى؟ لقد قدّما أكثر من طلبٍ للهجرة إلى كندا وأستراليا، لعلّ العيش في الخارج يتيح لهما فرصةً أفضل لتأسيس عائلة وتحقيق حلم الإنجاب.
تُشكّل الحالتان المذكورتان نموذجًا لما يعانيه آلاف الشباب في لبنان بسبب الظروف الضاغطة التي تحوّل الرغبة في الإنجاب إلى عبءٍ مؤجّل. وهذا ما يفسّر جانبًا أساسيًا من مشكلة التراجع اللافت في معدل النمو السكاني خلال السنوات الأخيرة.
تراجع لافت في النمو السكاني
شهد لبنان في السنوات الخمس الأخيرة تراجعًا لافتًا في معدّل النمو السكاني، وفق بيانات موثّقة صادرة عن المديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية والبلديات. والأرقام تسلّط الضوء على تحوّل ديموغرافي عميق، وتطرح تساؤلات جوهرية حول أسبابه وانعكاساته على المدى البعيد.
حملنا هذه التساؤلات إلى الدكتور شوقي عطية، منسّق مختبر الديموغرافيا في مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية، وهو يؤكّد أنّ انخفاض معدلات الولادة لا يُعدّ بالضرورة مؤشّرًا على التقدّم أو محاكاة نماذج الدول الأوروبية ذات النمو السكاني المنخفض. ففي بلد صغير كلبنان، يحمل هذا التراجع دلالات مقلقة، إذ يشير إلى تحوّلات ديموغرافية قد تجعل من لبنان في غضون العقدَين المقبلَين، بلدًا هَرِمًا ذا مجتمع معمّر يعاني الشيخوخة.
ويُذكّر بأنّ التوقّعات قبل نحو عقدٍ من الزمن كانت تشير إلى إمكان حدوث تراجع سكاني ملحوظ بحلول العام 2050 نتيجة التحوّلات الديموغرافية والاجتماعية. إلا أنّ الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالبلاد مؤخرًا، أدت إلى انخفاض مستمرّ في النمو السكاني وجعلت وتيرته أسرع ممّا كان متوقّعًا، ما يهدد بمضاعفة التحديات المرتبطة بالتركيبة السكانية مستقبلًا.
انخفاض هائل في فترة صغيرة
بِلُغة الأرقام، شهد لبنان خلال العام 2010 نحو 113 ألف ولادة مقابل 66 ألفًا فقط في العام 2024، في انخفاضٍ هائل خلال فترة لا تتجاوز 15 عامًا. قابل هذه الأرقام، انخفاض حاد في حالات الزواج وارتفاع في نسب الطلاق ما أسهم في تقليص عدد الولادات.
ويسجّل لبنان اليوم أحد أدنى معدلات الخصوبة في العالم العربي، وهو مؤشر يرتبط بجملةٍ من العوامل الثقافية والدينية والاجتماعية والمعيشية. فالهجرة الكثيفة للشباب بحثًا عن فرص عمل أو دراسة، وتبدّل أنماط الحياة، بالإضافة إلى تراجع الدخل وغلاء المعيشة، كلها عناصر أثّرت بشكلٍ مباشر على قرارات تكوين الأسرة. ناهيك عن تداعيات جائحة كورونا وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة منذ العام 2019، أبرزها الانهيار المالي وانخفاض قيمة العملة الوطنية، وما رافقه من نقصٍ حادّ في المواد الأساسية، والأدوية، واللقاحات، وحليب الأطفال والحفاضات. في ظل كل ذلك، بات الإنجاب خيارًا مؤجلًا أو مستبعدًا لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، في مواجهة تكاليف الولادة المرتفعة وانعدام الاستقرار، ما كرّس واقعًا ديموغرافيًا جديدًا تدفع البلاد ثمنه باكرًا.
وبحسب الدكتور عطية، فإنّ عشرات الدراسات التي أُنجزت في السنوات الأخيرة – وما زالت قيد المتابعة حتى اليوم – تؤكد أنّ المرأة اللبنانية تُنجب عدد أبناء أقلّ مما ترغب. فالمجتمع اللبناني بطبيعته يفضّل الأسرة متوسطة الحجم، لكنّ التحديات الاقتصادية تحول دون ترجمة هذا الطموح إلى واقع، في ظلّ سعي الأهل إلى تأمين تربية سليمة وتعليم جيد لأبنائهم بما يتجاوز في كثير من الأحيان قدرتهم المادية.
إزاء هذا الواقع، نجد أنّ النساء في لبنان ينجبن ما بين طفلين وثلاثة في المتوسط، وأمام ما يسمى بمعدل الخصوبة الكلّي (أي عدد الأولاد الذين تنجبهم المرأة مقسوم على عدد النساء) نجد أنّ المعدل هو 1.6 للمرأة الواحدة.
أقلّ بكثير من المعدل المطلوب
عالميًا، يُستخدم ما يُعرف بـ «معدل الإحلال السكاني» كمؤشر أساسي لقياس قدرة المجتمع على الحفاظ على توازنه الديموغرافي. ويُعدّ المعدل المثالي للإحلال 2.1 طفل لكل امرأة، أي أنّ كل 1000 امرأة يجب أن تلد 2100 طفل لضمان استقرار عدد السكان. في المقابل، يسجّل لبنان معدل إحلال لا يتجاوز 1.6، أي أنّ كل 1000 امرأة تنجب 1600 طفل فقط، وهو أقل بكثير من المعدل المطلوب. ولتقدير حجم الخطر، يمكن مقارنة الوضع اللبناني بدولة مثل اليابان، التي تُعد من أكثر الدول تقدمًا في السن، حيث يبلغ معدل الإحلال فيها 1.4 فقط. هذه المقارنة تضع لبنان أمام واقع ديموغرافي لا يقلّ هشاشة عن أبرز النماذج العالمية التي تعاني الشيخوخة المتسارعة.
ارتفاع عدد المسنين
وفي السياق ذاته، تشير الأرقام إلى أنّ نحو 14 إلى 15% من اللبنانيين اليوم هم فوق سن 65، وهي النسبة الأعلى في العالم العربي، وتكاد تقترب من معدلات بعض الدول الأوروبية التي يبلغ فيها معدل كبار السن حوالى 20%. ومع ارتفاع عدد المسنّين وتراجع الولادات، تفرض ظاهرة التعمير نفسها كمحورٍ أساسي في النقاشات السكانية.
على المدى البعيد، يخلق هذا الواقع الديموغرافي المتغير ضغطًا على الفئة النشطة من السكان، أي من تتراوح أعمارهم بين 15 و65 عامًا، وهي الفئة العاملة التي تموّل الصناديق الداعمة، الأمر الذي يسبب ضغطًا إضافيًا على هذه الصناديق ويهدّد استمراريتها، ما ينعكس سلبًا على النظام الاقتصادي ويزيد من التحديات التي تواجه نظام الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية في البلاد.
آثار كارثية
من الآثار الكارثية لتراجع الولادات وانخفاض أعداد الشباب، التي تمثّل العمود الفقري لمضمار العمل والتنمية الاقتصادية والنمو الديموغرافي، التآكل التدريجي في الخبرات البشرية، والتباطؤ في عجلة الإنتاج، ما ينعكس بظلاله السلبية على القطاعات العامة في البلاد. والخطير في هذا الواقع، وفق الدكتور عطية، هو أنّ لبنان يقارب المخاوف الأوروبية اليوم في هذا المضمار. وفي مواجهة هذا التحدي يترتب تبنّي سياسات تؤدي إلى رفع معدّل الولادات للوصول إلى مرحلة تحافظ على استقرار عدد السكان لضرورة ضمان مستقبل لبنان الديموغرافي والاقتصادي. ومعالجة هذه الأزمة تستوجب خلق فرص عمل حقيقية للشباب لوقف الهجرة، بالإضافة إلى نشر الوعي حول التوازن بين مقدرات البلد وعدد السكان، وضمان استقرار الوطن لأنّ الشعور بالأمان والعدالة المالية والمهنية يشجع الشباب على الزواج والإنجاب.
هل يكون 2025 عام التعويض؟
غالبًا ما يولّد تجاوز الأزمات ظاهرة مميزة في الديموغرافيا تُعرف بظاهرة التعويض، إذ يعمد الأزواج الذين أجّلوا الإنجاب بسبب ظروفٍ ضاغطة، والمخطوبون الذين أرجأوا مواعيد زفافهم، إلى التعويض عند نهاية الأزمة من خلال إتمام الزيجات التي عُلّقت، والإنجاب الذي تم تأجيله. من أبرز الأمثلة العالمية على هذه الظاهرة، ما أشار إليه الدكتور عطية ويتعلّق بالزيادة الهائلة في عدد المواليد ما بين العامين 1945 و 1955 عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى سُمّي جيل تلك الفترة بجيل انفجار الولادات أو ما عرف بالـ Baby boomers. عرف لبنان هذه الظاهرة أيضًا بين العامين 1955 و 1990 ما أفرز جيلًا يشكّل حتى يومنا النسبة الأكبر في المجتمع. وكان من المتوقع لهذا الجيل أن ينجب عددًا كبيرًا من الأطفال ( ولادات 500 شخص تكون 1000 بينما تكون ولادات 2000 شخص 4000)، وتُعرف هذه الظاهرة بجيل الصدى (صدى الانفجار). غير أنّ الواقع اللبناني أظهر مسارًا مختلفًا، إذ انخفضت الولادات بشكلٍ ملحوظ من 113 ألفًا في العام 2010 إلى 66 ألفًا فقط في العام 2024، فيما كان من المتوقع أن نشهد صدًى لجيل 1990-1995 يمتد لخمس إلى عشر سنوات.
على الرغم من عدم تحقق الأمر الذي كان متوقعًا في ذلك الحين، إلّا أنّ مؤشرات العام الحالي تعطي انطباعًا مغايرًا. فمع تأقلم الناس مع الوضع الراهن، والعمل على حلّ المسائل المعقدة كالدواء ومستلزمات الأطفال، إلى جانب تحسّن تقديمات الشركات الضامنة، يُلاحظ ازدياد ملحوظ في أعداد النساء الحوامل والولادات، وفي عيادات الأطباء وأقسام التوليد. وعليه، يبدو أنّ العام 2025 سيكون عام التعويض بامتياز، بانتظار صدور الأرقام الرسمية في نهايته











