تكنولوجيا معاصرة

الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي في الحروب من يسيطر على ميدان المعركة؟
إعداد: ندين البلعة خيرالله

تطوَّر الذكاء الاصطناعي

في السنوات الأخيرة ليصبح من الأدوات الرئيسية التي تشكّل مستقبل الحروب الحديثة. وبينما كان الذكاء البشري هو المحرك الأساسي في اتخاذ القرارات العسكرية، جاءت التطورات التكنولوجية لتُدخل الذكاء الاصطناعي في المعادلة، الأمر الذي طرح تساؤلات حول طبيعة الحروب المستقبلية.

في ظل الحروب المعاصرة التي تشهدها المنطقة، باتت العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري مثار تساؤلات مهمة. فتطور التكنولوجيا العسكرية لم يعد مجرد أداة لتعزيز الكفاءة، بل تحوّل إلى ساحة تنافسية تهدد بتحييد القرارات الإنسانية لمصلحة خوارزميات قادرة على معالجة البيانات واتخاذ القرارات والتنفيذ بسرعةٍ عالية. فهل ستتمكّن البلدان التي تواجه تحديات أمنية مستمرة من استثمار هذه التقنيات، أم أنها ستغدو ضحية نزاعاتٍ يقودها الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يمكن تسخير هذا النوع من الذكاء في تعزيز القدرات الدفاعية من دون انتهاك القيم والقوانين الدولية؟

 

الذكاء الاصطناعي: قوة مدمرة أم أداة للسلام؟

كشف تقرير لمجلة «ذا إيكونومست» عن سباق تسلّح جديد يتعلّق باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير الأسلحة وخوض الحروب، مشيرًا إلى أنّ هذه الأدوات المتقدمة أسهمت بفاعلية في الحروب الحديثة.

ويشمل استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل العسكري ثلاثة مستويات رئيسية: البنية المادية للجيوش، التقنيات السيبرانية، وآليات صنع القرار في العمليات الميدانية.

أولًا، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في عملية التحكم بالأجهزة والمعدات العسكرية في ميادين القتال، مثل الأنظمة الآلية غير المأهولة. فمنذ حوالي عقدين، يشهد القطاع العسكري استخدامًا متزايدًا للأنظمة المستقلّة في أداء الوظائف القتالية، من أنظمة الاستهداف إلى الملاحة والقيادة، والطيران والمراقبة.

ثانيًا، تُستخدم البرمجيات الذكية في الحرب السيبرانية سواء لتعزيز الدفاع عن الشبكات العسكرية الحيوية أو لتعزيز قدرات الجيوش في شن عمليات هجومية إلكترونية. كما يتزايد الاهتمام بقدرات الذكاء الاصطناعي في دعم «حرب المعلومات» من خلال حملات التضليل.

ثالثًا، يتمتع الذكاء الاصطناعي بقدراتٍ كبيرة في دعم عملية صنع القرار بشكلٍ عام في المجالات العسكرية الميدانية وعلى مستويات القيادة والأفراد. ويمكن للخوارزميات جمع كميات كبيرة من مصادر البيانات المتعلقة بالنزاعات المسلحة، ومعالجتها وتحليلها بسرعةٍ فائقة لتحديد الأشخاص والعناصر المادية في ساحة النزاع، والتعرف إلى الأنماط السلوكية وتقييمها، أو إجراء مسحٍ للبيانات التاريخية وعمليات المطابقة للتوصل إلى توصيات بشأن الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية الأسرع في تحقيق الأهداف المرجوة ضد الخصم.

 

تكامل أم تنافس؟

أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرًا بقوة في ساحات عديدٍ من المعارك العسكرية حول العالم، سواء في مجال تحليل البيانات الاستخباراتية، أو قصف الأهداف العسكرية عبر الطائرات من دون طيار أو القيام بمهمات الاستطلاع عبر الروبوتات العسكرية.

إضافةً إلى ذلك، ظهرت في ساحة المعارك «الصواريخ فرط الصوتية» التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والتي تنافست عدة دول على تطويرها وتصنيعها وامتلاكها. هذا السلاح يمكن أن يغير قواعد اللعبة في الحروب، نظرًا إلى قدرة الصواريخ على الهجوم بسرعةٍ، وإمكان إطلاقها من مسافات بعيدة، وقدرتها على التهرّب من معظم وسائل الدفاع الجوي، وفق تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال».

في عدوانه على غزة ولبنان، وظّف العدو الإسرائيلي الذكاء الاصطناعي بطريقةٍ مختلفة. فالمُعتاد أن يقوم البشر بتحديد الأهداف العسكرية التي سيتم التعامل معها، ثم يقوم الذكاء الاصطناعي بتنفيذ المهمة، كأن تقوم «درون» مثلًا بضرب أحد الأهداف التي حددتها لها القيادة العسكرية. أما في حال اتساع دائرة الأهداف بشكلٍ كبير، فقد يصعب على العنصر البشري حصرها جميعًا وتحديدها يدويًا ضمن إطارٍ زمني ضيق. لذا اعتمد العدو هذه المرة، استراتيجية قائمة على المشاركة بين الجهد البشري والذكاء الاصطناعي، مستخدمًا الأنظمة الذكية مثل The Gospel، وLavender، وWhere’s Daddy، لتحديد الأهداف، فيما يتولى العنصر البشري مهمة التنفيذ.

واتضحت فاعلية هذه التكنولوجيا في عدد الغارات الجوية اليومية والأهداف التي أصابتها قوات العدو الإسرائيلي، إلى جانب عمليات الاستهداف المتعددة التي نُفّذت بدقةٍ عالية. مما لا شك فيه أنّ العمليات المذكورة استدعت جهودًا استخباراتية كبيرة، إلّا أنّها لم تكن لتحقق هذا الكم الضخم من الأهداف بدقةٍ وفي وقت قصير للغاية، ما لم تكن مدعومةً باستراتيجية متكاملة قائمة على الدمج بين الجهد البشري والذكاء الاصطناعي، للعمل سويًا في تجانس كامل بين الإنسان والآلة.

 

في لبنان

في لبنان، كثّف العدو الإسرائيلي اعتماده على أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحديد مواقع الأهداف وتوجيه الهجمات بدقةٍ عالية، إذ تم جمع بيانات ضخمة وتحليلها من خلال صور الأقمار الصناعية والمعلومات الاستخباراتية. ورغم ادّعاءات العدو بأنّ هذه التقنية تسهم في الحد من الخسائر البشرية، فإنّ عدة تقارير أشارت إلى استخدامها لاستهداف مدنيين وتدمير البنية التحتية، مما أدى إلى خسائر فادحة.

 

تحديات أخلاقية وقانونية

حذّر كل من المخترع والمستثمر الكبير إيلون ماسك، والمؤسس المشارك لأداة Chat GPT سام ألتمان، من أنّ الذكاء الاصطناعي قد أفلت من عقاله، مما قد يؤدي إلى عواقب تفوق التصوّر، خصوصًا مع تطوير ما يعرف بـ «ذكاء الآلة المتفوق على البشر» لذا لا بد للحكومات من ضبط هذه الابتكارات قبل خروجها عن السيطرة.

وفي حين طالب إيلون ماسك بضرورة وضع تشريعات واضحة لقطاع الذكاء الاصطناعي مثل باقي القطاعات وسائر التقنيات، انطلاقًا من أهمية وجود معايير تضمن أمن المستخدمين، بدأت شركات تقنية بتطوير أجهزة روبوتية وطائرات مسيّرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتنفيذ المهمات من دون تدخل بشري، فيما تعمل شركات الأسلحة على تطوير أسلحة تتخذ قرار إطلاق النار ذاتيًا ومن دون إشراف بشري أيضًا. وقد رفض العدو الإسرائيلي التوقيع على معاهدة «الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في ساحة المعركة» (والتي وقّعتها أكثر من 50 دولة من بينها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وألمانيا وأوكرانيا). كذلك الحال مع شركات تطوير الأسلحة التي تزود الطائرات المسيّرة قدرات فتاكة من دون تدخل بشري في عمليات أو قرارات قتل ما تصنّفه البرامج على أنه «العدو».

من هنا، يثير الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في الحروب قضايا قانونية وأخلاقية معقدة، إذ يخشى فقدان الطابع الإنساني في عملية صنع القرار، حينما تصبح قرارات الحياة والموت في أيدي الخوارزميات. هذا الأمر يطرح تساؤلات حول مدى ملاءمة ترك هذه القرارات لأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على معالجة البيانات الضخمة من دون مراعاة العوامل الإنسانية المعقدة.

وفي غياب إطار قانوني دولي واضح ينظّم استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب، تزداد التساؤلات حول توزيع المسؤوليات في حال حدوث أخطاء أو انتهاكات. على سبيل المثال، عندما تتخذ الأنظمة قرارًا بضرب هدفٍ معين يؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين، فمَن يتحمل المسؤولية: المطوّرون الذين صمّموا هذه الأنظمة أم القادة العسكريون الذين يعتمدون عليها؟

وفي ظل هذه التطورات، يظل السؤال مفتوحًا: هل يمكن للذكاء البشري أن يستمر في توجيه الحروب رغم الهيمنة المتزايدة للذكاء الاصطناعي؟ في الحروب الحديثة، تعتمد الجيوش على التكنولوجيا بشكلٍ متزايد، لكن يبقى الدور البشري حاسمًا في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأخلاق والقيم الإنسانية.

إن المستقبل مليء بالتحديات، ولكن يبقى الأمل في إمكان توجيه هذه التقنيات لخدمة الأمن والسلام بدلًا من أن تصبح أدوات لزيادة المعاناة الإنسانية.