رسالة الاستقلال

الرئيس لحود مودعاً اللبنانيين في رسالة الاستقلال

قبل تسع سنين استشعرت آمالكم وطموحاتكم لكن حلم التغيير لم يكتمل
قبيل إنتهاء ولايته وجّه فخامة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود إلى اللبنانيين رسالة الإستقلال التي أكد فيها أن لبنان لا يزال هدفاً لمؤامرة كبيرة منذ إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
هنا نص رسالة الرئيس لحود.

لبنان في هذا العهد حقق إنجازاً تاريخياً هو تحرير القسم الأكبر من أرضه من الاحتلال الإسرائيلي
إن وطناً صغيراً لا يعني وطناً مجرداً من القوة بل إن كل قوته تكمن في التمسك بحقوقه ودفاعه عنها


أيها اللبنانيون
تختلج في صدري مشاعر كثيرة، وأنا أخاطبكم عشية عيد الاستقلال. فيمتزج إحساسي بالمسؤولية بالقلق نتيجة الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، وعلامات الإستفهام الكثيرة التي ترتسم حول المستقبل.
قبل تسع سنين من اليوم، إستشعرت آمالكم وطموحاتكم في خطاب القَسَم، وتوقكم إلى إدارة كفيّة ونظيفة، وقضاء منزّه، وحياة كريمة، فأعربت أمامكم عن إقتناعي بأن لا مستقبل لأحد في هذا البلد، إلا بقيام دولة المؤسسات في ظل النظام الديموقراطي البرلماني. وسعيت في البداية، وبكل ما أوتيت من قوة، إلى تحقيق هذه الرؤية، ومحاولة ترجمة بعض من آمالكم إلى واقع يرتقي بالبلاد والمجتمع إلى ما نصبو إليه جميعاً من إستقرار وعدالة إجتماعية ورقي.
وكنت أدرك بالطبع، أن لا مكان للمثالية في مجتمع مثل مجتمعنا حيث تتداخل السياسة بالطائفية، وتزدحم الحسابات الخارجية على أرضنا، ولا تكون الغلبة بالضرورة للغة المنطق والعقل.
لن يتسع المجال هنا، لجردة بما تحقق خلال السنين التسع، وبما لم يتحقق، وإن كان لا بد من التذكير ببعض الحقائق والمعطيات. بعض المحطات كان مصدر إعتزاز وفخر للبنان، وبعضها الآخر لوّنه الحزن والألم والدماء.
أدعوكم بالذاكرة إلى تلمّس بعض المحطات المضيئة: فلبنان في هذا العهد، استعاد موقعه في محيطه والعالم، نَعِم باستقرار أمني أهّله لإستضافة أهم المؤتمرات واللقاءات والأحداث العربية والعالمية، ولعل أبرزها القمتين العربية والفرنكوفونية العام 2002، حتى ضاقت روزنامة الأحداث المميزة بالمواعيد.
ولبنان في هذا العهد، حقق إنجازاً تاريخياً، هو تحرير القسم الأكبر من أرضه من الإحتلال الإسرائيلي، فيما لم تتمكن، ويا للأسف، القرارات الدولية من إزاحة هذا النير عن حدودنا. ولم يكن هذا الإنجاز ليتحقق لولا المقاومة الوطنية وقيادتها الحكيمة والشجاعة، وسواعد المقاومين اللبنانيين وسندها الجيش الوطني الذي كان لي شرف قيادته وإعادة توحيده، تزلزل الارض تحت أقدام العدو، وتدفعه مرغماً إلى الاندحار.
ولا شك أن ثمن الإنتصارات كان غالياً، وإن كان لا يقاس بما تحقق، فسقط آلاف الشهداء الذين أحيي اليوم ذكراهم، وأسر مئات الأبطال الشرفاء، الذين استعدنا كوكبة منهم، ونتطلع إلى اليوم القريب الذي سنستعيد من تبقى منهم.
ولم نكتف بالأرض، فناضلنا من أجل حقنا في المياه، وإستعدنا مياه الوزاني تحت أعين العدو، لنؤكد له وللعالم، أن وطناً صغيراً لا يعني وطناً مجرداً من القوة، بل إن كل قوته تكمن في تمسّكه في حقوقه، ودفاعه المستميت عنها.
وهذا التصميم بالذات، كان وراء استعادتنا ثمانية عشر مليوناً من الأمتار المربعة من أرض الجنوب بعد شهرين على صدور قرار مجلس الأمن الدولي الذي أقر الإنسحاب الإسرائيلي، والذي تحفّظنا عنه آنذاك على الرغم من الضغط الذي مارسته علينا الإدارة الأميركية عشية صدوره وتمسكنا بالمطالبة بحقنا في كل حبة تراب من أرض الوطن، فكان لنا ما أردناه. وهذه الإرادة يجب أن تبقى حيّة فينا لنستمر في المطالبة بإستعادة أرضنا المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ومياهنا، والتي لن يكتمل التحرير من دونها.
ولبنان في هذا العهد، شهد تعزيزاً للديمقراطية، فأجريت لمرتين إنتخابات نيابية وبلدية وإختيارية، قال فيها اللبنانيون كلمتهم بالرغم مما شاب قانون الإنتخابات النيابية من ثغر سعينا إلى تفاديها العام 2005، فكتبنا إلى مجلس النواب لعلنا نتمكن من تصحيح خلل بات موضع شكوى للجميع. لكن سعينا لم يلقَ التجاوب المطلوب. ولعل أحد وجوه أزمتنا السياسية الراهنة غياب التمثيل الشعبي الحقيقي. وتضاف إلى هذه المحطات المضيئة التي ذكرت، انجازات كبيرة في الخدمات والصحة والتربية وغيرها، ستكون هناك بالتأكيد مناسبة لمراجعتها حتى لا تمحوها قتامة المرحلة التي نعيشها وبعض النيات السيئة.
وإذا كنا حققنا بعض الإنجازات الوطنية والقومية الكبرى في السياسة والشأن العام وغيرهما من المجالات، إلا أن حلم التغيير والإصلاح لم يكتمل. وكنت تحسّست حجم العوائق من البداية، لذا أكدت لكم في خطاب القسم أنه لدي النية والإرادة في التغيير، ولكن ليس لدي عصا سحرية. فمسيرة الإصلاح ووجهت بضغوط من هنا وهناك، وعقليات تخاف التغيير ومصالح تحاول الحفاظ على المكتسبات القديمة. وخير دليل على ذلك، عرقلة تنفيذ قانون «وسيط الجمهورية» الذي أردنا منه، شأننا شأن دول كثيرة تعتمده، أن يكون جسر عبور بين المواطن وإدارات دولته بعيداً من الرشوة والفساد والإبتزاز.
وتعثرت مسيرتنا كذلك في الإنماء المتوازن وفي إستكمال مشاريع الرعاية الإجتماعية. ومع أن قانوني ضمان الشيخوخة والبطاقة الصحية أقرا إلا أنهما لم يريا النور إلى اليوم. وعلى الرغم من إقرار الخطة العشرية للمياه، لم نتمكن إلا من إنجاز سد مائي واحد وهو سد شبروح.

 

أيها اللبنانيون
وطنكم كان هدفاً لمؤامرة كبيرة، ولا يزال منذ إغتيال الشهيد رفيق الحريري. دقت الأحزان أبواب بيوت الكثيرين، وخطفت المؤامرة شخصيات وطنية وأبرياء، وإهتز الإستقرار والأمن في البلاد، بعدما كانت منظمة الأنتربول الدولية قد صنفت لبنان تلك السنة، في المرتبة الأولى بين الدول الأكثر أمناً واستقراراً في العالم.
إلا أننا نتطلع معكم إلى أن تكون العدالة الدولية، كما أردناها منذ اللحظة الأولى، بعيدة من التسييس والإنتقائية، فتصحح الخلل الذي أوقع ظلماً لحق بمجموعة من الضباط والمدنيين ما زالوا في السجن منذ أكثر من سنتين، من دون أن توجه اليهم أي تهمة، الأمر الذي يناقض القوانين والحقوق الإنسانية التي تنادي بإحقاق الحق، بحيث لا يجرم أبرياء، ويبرأ مجرمون، بل يكون الهدف الأسمى للعدالة كشف الحقيقة المجردة وصولاً إلى معاقبة المرتكبين ومن يقف وراءهم.
لقد بدا واضحاً أن هدف هذه الجرائم هو ضرب وحدتنا الوطنية وإضعاف إرادتنا، تمهيداً لتمرير المؤامرات، وأخطرها مؤامرة توطين الفلسطينيين في لبنان، والتي واجهناها منذ إطلالتنا الأولى على العالم في مؤتمر القمة الفرنكوفونية في مونكتون في كندا. ولأننا رفضنا المساومة، ولم نخضع للإبتزاز، قوطعنا للضغط علينا، في محاولة لعزلنا وترهيبنا ودفعنا إلى التراجع عن ثوابتنا. إلا أنني كنت أستمد منكم دائماً، ومن ضميري وإقتناعي، القوة والإرادة والإيمان والتصميم على المواجهة. فحافظنا على وحدتنا الوطنية وعيشنا الوطني المشترك، وصورة لبنان الرسالة في تآخي العائلات الروحية.
ولما كان طيف المؤامرات ما زال مخيماً على أجواء الوطن، وشبح الفتنة يقض المضاجع، فخوفي أن يتزعزع إيمان بعضنا بهذا الوطن وبديمومته، فيرتضي أن يكون أداة لإسقاطنا من الداخل، بعدما عجز الخارج عن ذلك بالضغوط والعزل والحروب، وآخرها حرب إسرائيل الهمجية علينا في صيف العام 2006، والتي أكدنا منذ اليوم الأول لبدئها، أن الغلبة ستكون في النهاية للبنان وشعبه ومقاومته وجيشه، وهكذا كان.

 

أيها اللبنانيون
فيما تقبل المنطقة على تحضيرات لمؤتمر أعطي عنوان السلام، يجب أن يبقى ماثلاً في أذهاننا أن لا سلام من دون حل شامل وعادل ودائم يرتكز على إحترام قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ومعادلة الأرض في مقابل السلام، والمبادرة العربية التي أقررناها في قمة بيروت العربية بعد إصرارنا على إضافة بند حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى متنها على الرغم من ممانعة بعض الدول العربية. ولا سلام ولا إستقرار إلا إذا إنتصرت العدالة على الإرهاب الذي كنا السباقين إلى مواجهته مع بداية العام 2000. وتكررت المواجهة القاسية والدموية معه في الربيع الماضي حيث تصدى له الجيش الوطني، باذلاً الشهداء والجرحى والمعوقين قرابين في سبيل الحفاظ على أرض لبنان ورسائله.

 

أيها اللبنانيون
قد تسألونني: ماذا بعد؟ ومن حقكم عليّ أن أصارحكم، كما كنت دائماً، واحداً منكم: ماذا ينتظر لبنان؟
لقد جهدت على مدى السنوات الماضية من أجل إعادة تلاقي اللبنانيين، وناديت بالحوار بين القيادات، وقدمت الإقتراحات والمبادرات الواحدة تلو الأخرى. إلا أنني، ويا للأسف، كنت أواجه دوماً بإفتراءات حيناً، وإساءات أحياناً. لكنني تجاوزت كل ذلك، ليقيني بأن مصلحة لبنان لا تعلوها مصالح الأشخاص وحساباتهم المرحلية.
اليوم، وفيما البلاد تتلمس سبل النجاة، أجدد عهدي أمام الله وأمامكم بأن أواصل السعي حتى آخر دقيقة من ولايتي من أجل المحافظة على وحدة لبنان وأمنه وإستقراره، وعلى رسالته الإنسانية المميزة في العالم. وأي إجراء يمكن أن أتخذه إذا ما تعذر عليّ تسليم مسؤوليتي الدستورية إلى رئيس وفاقي تلتف حوله الغالبية العظمى من اللبنانيين، سيعكس إرادتكم في أن يبقى وطنكم مرفوع الرأس وعالي الجبين، وقوياً ومتماسكاً، ولا مكان لضعف في إنتمائه العربي والقومي أو تردد في خياراته الإستراتيجية التي إرتكزت على الإيمان بلبنان الواحد الموحّد بشعبه ومؤسساته، القوي بجيشه الوطني وبمقاومته الباسلة، والمحصن بعلاقاته مع الدول الشقيقة والصديقة، وبروابط الأخوة المميزة مع الشقيقة سوريا ضمن سيادة وكرامة وحرية قرار كل من البلدين الشقيقين.

 

أيها اللبنانيون
مسيرة طويلة قادتني إلى الإنضمام إلى صفوف الجيش ضابطاً في خدمة أرضي وشعبي. ثم قائداً للجيش ناضل من أجل توحيده على عقيدة وطنية، وعندما تحقق ذلك التزمت أمام الله وأمامكم ألا تتكرر الحروب الأهلية التي عاناها لبنان في تاريخه القديم والحديث. وإذا كان البعض شكك آنذاك في مدى قدرتي على التزام وعدي، فإن السنوات السبع عشرة التي إنقضت منذ ذلك التاريخ أثبتت أني كنت على حق، فلم تقع أي حرب أهلية بين اللبنانيين على الرغم من الهزات الأمنية التي توالت في الأعوام الثلاثة الماضية.
وعندما رفعتني ثقتكم إلى السدة الرئاسية كان قدري أن أخوض المواجهات القاسية ضد صراع المصالح والمؤامرات والفتن، فصمدت متسلحاً بهذه الثقة، في وجه الضغوط الدولية والإقليمية وبعض الداخل حتى الدقيقة الأخيرة من عهدي.

 

أيها اللبنانيون
إذا كنتم أنتم الحكم كما خاطبتكم منذ اليوم الأول لتسلّمي مسؤولياتي، فلكم اليوم أن تكونوا حكماً عادلاً يتصفح السنين التسع بموضوعية، ويكشح عن عينيه تعمية بعض الإعلام المأجور، وضجيج التراشق، وهول الظروف التي نعيشها، ليتلمس صدق النيات وصلابة إرادة التمسك بالحق، وعزم التغيير، وخطورة حقول الألغام التي نجتازها.
وما ستكتشفونه هو أنني لم أنكث بعهدي معكم، وحبي لكم، وتضحياتي من أجلكم. وبقيت، أنا أنا، إنساناً لبنانياً صادقاً وشريفاً، يسهل عليه الموت من أجل أرضه وشعبه، ويرفض الركوع والإستسلام للإبتزاز والترهيب والترغيب من أي جهة أتت.

 

أيها اللبنانيون
لقد فهمت المسؤولية خدمة وليس فرصة للإرتزاق والتسلط، وكان هدفي الوحيد ألا يكون وطنكم مستفرداً أو ضعيفاً، بل عملت ليكون لبنانكم سيداً حراً ومستقلاً وموحداً يعيش فيه أبناؤه بكرامة، أسياداً على أرضهم، متجذرين فيها وشامخين كأرز لبنان.

 

«وسيط الجمهورية» أردنا منه جسر عبور بين المواطن وإدارات دولته بعيداً من الرشوة والفساد والابتزاز
المسؤولية خدمة وليست فرصة للارتزاق والتسلط ولبنان الموحد يعيش فيه أبناؤه بكرامة شامخين كأرز لبنان

عشتم
وعاش لبنان