- En
- Fr
- عربي
حرف تراثية
أول تظاهرة دولية تجمع فناني الخزف في لبنان
حدث ثقافي غير تقليدي يؤسس لحالة إقتصادية سليمة
في تظاهرة فنية هي الأولى من نوعها, التقى نحو 50 فناناً من لبنان و15 دولة عربية وأجنبية في “الملتقى الدولي الأول للخزف” الذي أحيته بلدية الشويفات, بالتعاون مع وزارة الثقافة والإتحاد الدولي للفنون التشكيلية. وإذا كان الملتقى على مدى فسحته الزمنية قد شكّل تلاقياً بين مدارس خزفية عدة من الشرق والغرب, إلا أنه وفي الدرجة الأولى, حمل في طياته إستعادة أو إحياء لفن اعتُبر عبر التاريخ واحداً من أرقى أشكال التعبير الفني, وواحداً من أهم ملامح الحضارة لارتباطه بالحياة اليومية وظيفياً وجمالياً.
في هذا التحقيق, إضاءة على أصالة الماضي في عودة الى الجذور.
مركز دولي للخزف
اختيار بلدية الشويفات الفن الخزفي عنواناً لملتقاها الدولي الأول, وإن جاءت انطلاقته تماشياً مع إعلان منظمة الأمم المتحدة لعام 2002 سنة دولية للتراث الثقافي, فإن خلفيته ترسو على ما لمدينة الشويفات من تراث ثقافي وثيق مع الخزف, ذلك أنه كحرفة وكفن يعتبر من تراث المدينة المعاش, ومن التقاليد الموروثة عبر الأجيال.
وعليه, فإذا كان الملتقى يهدف الى تشجيع الخزافين اللبنانيين وترسيخ العلاقة الفنية والتقنية مع خزافين من مختلف دول العالم, فإنه من جهة أخرى, يرمي الى التأسيس لصناعات حرفية فنية متطوّرة, تساعد في إيجاد فرص عمل لعدد كبير من الشبان, ويجعل من مدينة الشويفات مركـزاً دولياً لإعادة إحياء الفنون الخزفية على أنـواعها وصناعتـها, وذلـك من خـلال افتتاح المحترف الدائم للخزف, لتدريب القدرات وتطـويرها, وتعلـيم فـن الخزف, وهـو الأمر الذي من خلاله, تستعيد الشـويفات حرفـة فنـية لطالمـا اشتهرت بها.
ولـذا, فقد رافق انطلاقة المحترف الدولي الأول للخزف, إفتتاح المحترف الدائم للخزف, وقد شكّل على امتداد أيام الملتقى فسحة للخزفيين المشاركين في التظاهرة, والذين عملوا ميدانياً على قطع فنية مادتها الأساسية الخزف أو “الصلصال” وهي المادة الأقرب الى يد الإنسان.
أجنحة المعرض
المساحة الجغرافية التي خصصتها بلدية الشويفات لإقامة المعرض, قد تقسمت الى أجنحة, بحيث خص كل بلد بجناح لنماذج من معروضاته, في حين أن المعروضات الخزفية توزعت بين الحرفية الصناعية تلك التي تدخل في صلب الإستعمال اليدوي, والمعروضات الفنية بأشكالها وألوانها المتعددة.
المشاركة اللبنانية في الملتقى جاءت الأشمل والأكبر, فتمثلت بمشاركة عدد من الفنانين الخزفيين ومن الجامعة اللبنانية إضافة الى المؤسسة اللبنانية للمكفوفين, المدرسة اللبنانية للضرير والأصم, “سيزوبيل”, و”خزفيات لبنان”. وتميزت أعمال هذه المؤسسات بطابع حرفي, بعضها يدخل في صلب الإستعمال اليومي وبعضها ذو طابع تراثي سياحي.
وجناح لبنان, كان أكبر أجنحة المعرض, إذ تضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة لمنحوتات خزفية فنية, دخلت إليها التقنيات الفنية العديدة والمدارس الفنية المتنوعة من المدرسة الإنطباعية الى التجريدية. الى ذلك, لم تغب الجدرانيات الخزفية عن الجناح اللبناني كما الفخاريات الفينيقية ورشها باللون التقليدي “الأزرق الجنزاري” والأصنام الفينيقية.
وبالانتقال الى الأجنحة المشاركة, تمثلت الجزائر بمجموعة من قطع البورسلين في غالبها للزينة, وهي مستمدة في رسومها وأشكالها من التراث الجزائري, لا سيما أن الجزائر مشهورة بالبورسلين. وتمثل الحضور الفلسطيني في الملتقى من خلال مجموعة أعمال خزفية, كما الأردن, من خلال مكعبات خزفية وبأشكال هندسية, فيما المشاركة السعودية تمثلت بعرض أوان فخارية للزينة, والمغرب من خلال نماذج عن الخزف المغربي الملوّن. وأما الحضور العراقي فتمثل بمجموعة من المنحوتات ذات المواضيع العسكرية. وأما الجناح السوري فتمثل بمشاركة عدد من الخزافين المحترفين, وعرضهم لمجموعة مميزة من الأعمال الخزفية التي دخلت عليها التقنيات الحديثة. فيما تضمن الجناح الكويتي جدرانيات خزفية.
بالنسبة للمشاركة الأجنبية في الملتقى, فقد اقتصرت على روسيا وبورسلين الموائد الرفيع المستوى المشغول باليد, وهولندا من خلال نماذج عن تماثيل, والصين مع مجموعة من الخزف الصيني الشهير, فيما فرنسا كانت مشاركتها من خلال الجدرانيات والمكعبات.
إلا أن الملتقى لم ينس أعلاماً في الخزف, إذ خص جناحاً تكريمياً لكل من دوروثي سلهب كاظمي من لبنان والدكتور نبيل درويش من مصر صاحب الإبداعات والتقنية غير المسبوقة, وقد عُرض بعض من نماذج أعماله الفنية.
رئيس البلدية: الشويفات وفية لتراثها وأصالتها
رئيس بلدية الشويفات الدكتور وجيه صعب, نوّه برعاية “الرئيس العماد لحود لهذا الحدث الثقافي الدولي, على الرغم من مشاغله وسط التحديات التي يواجهها لبنان”, واعتبر أن “أهمية هذا الحدث تكمن في أن فن الخزف كان واحداً من أرقى أشكال التعبير الفني عبر العصور, وشكّل أهم معالم الحضارة لارتباطه بالحياة اليومية وظيفياً وجمالياً”, وأشار الى أن “مدينتنا الشويفات لم تنقطع علاقتها بهذا الفن, فهو من تراثها المعاش, تبعاً لما تؤكده لنا نصوص ورسومات الرحالة الذين مرّوا بهذه الربوع”. ورأى صعب في “التراث الثقافي أنجع الوسائل للمصالحة مع الذات والعيش مع عراقة التقاليد الموروثة”, واعتبره أيضاً “عامل تنمية يسهم في تحسين الأوضاع الإقتصادية, ويشجع السياحة الثقافية ويخلق فرص عمل إبداعية كثيرة, ويعزز الشعور بالإنتماء والفخر بالهوية الوطنية”, ورأى أن من “هذه المنطلقات كان احتضان الشويفات الرابضة على كتف بيروت للملتقى الدولي الأول للخزف, وهي الوفية لتراثها وأصالتها ولعراقتها في فن الخزف الذي اشتهرت به منذ فجر التاريخ”.
وعن إرتباط الشويفات المدينة بالخزف, قال صعب: “لقد دلّت المكتشفات الأثرية في موقعين ضمن مدينة الشويفات, هما “موقع القصر, غربي مدرج مطار بيروت الدولي” وموقع “خان خلدة قبة الشويفات”, في الجهة الجنوبية من المدينة وضمن نطاقها العقاري, على وجود آثار مهمة جداً, هي عبارة عن قطع فخارية محلية الصنع, رائعة الشكل تعود للألف الأول قبل الميلاد, والقطعة الخزفية التي تزين ملصق هذا الملتقى, هي إحدى القطع المكتشفة في الشويفات وتعتبر مع غيرها من القطع, أجمل وأهم مقتنيات المتحف الوطني. وإنطلاقاً من إهتمام الأمم المتحدة والأونسكو والإتحاد الدولي للفنون التشكيلية (AIAP) , نأمل أن يترسخ هذا الملتقى ليصبح تظاهرة ثقافية فنية تراثية, تقام سنوياً في رحاب مدينتنا”.
الأب كرم: حدث ثقافي وفني وتراثي
مسؤول المكتب الإعلامي في بلدية مدينة الشويفات الأب الياس كرم أشار الى أن “موقع الملتقى كان يحتله راديو أوريون الذي يعتبر أول راديو أنشئ في الشرق, وهو يقع ضمن النطاق العقاري لبلدية الشويفات”, ولفت الى أن “البلدية بادرت الى إنجاز مشروع استثنائي, غير مسبوق بهذا الحجم وبهذا التوجّه, بالتعاون مع وزارة الثقافة والإتحاد الدولي للفنون التشكيلية”, وأكد أن “هذا الحدث الثقافي والفني والتراثي, يترافق مع المهرجانات التي أصبحت بدورها مهرجانات سنوية, على مستوى الشويفات والمنطقة, ولا سيما مهرجان سيدة خلدة ومهرجان السوق العتيق في الشويفات الذي استقطب في لياليه الأربع ما يزيد عن الثلاثين ألف زائر... وما يميّز هذه المهرجانات دقة التنظيم ومجانية الدخول”. وأشار الأب كرم الى “أن هذا الملتقى المحترف سيغدو مركزاً إشعاعياً وحضارياً سيدخل الشويفات الى خارطة المعارض الدولية”.
الى ذلك, فقد شهد الملتقى إفتتاح المحترف الدائم للخزف, في الموقع نفسه, للتدريب ولتطوير القدرات وتعليم فن الخزف لشبابنا وشاباتنا, ويجري ترميم أحد الأبنية ليضم قاعات التدريب على صناعة الفخار, مع أفران لطبخ الفخار وتصنيعه, كما يشهد المكان ورشة عمل لإنجاز حديقة عامة مع أرصفة, وأماكن للتنزه مع مقاعد, ويتلازم هذا العمل مع مشروع موقف سيارات ومرافق عامة وغيرها.
وختاماً, إذا كانت بلدية مدينة الشويفات تعي أهمية الماضي وميزة الحاضر وتعمل بالمساواة للحفاظ على ما تبقى من إرث الماضي وتثبيت حداثة الحاضر, إلا أن “الملتقى الدولي الأول للخزف” أتاح لها فرصـاً للعمـل والإنتاج والتسويق, وأدخلـها الى خارطة المدن الثقافية والتراثية في محيطنا العربي خصوصاً والعالمي عموماً.
الخزف في لبنان عبر التاريخ
من الملتقى الدولي الأول للخزف الى واقع الخزف في لبنان حرفة وفناً, فإن لبنان عبر العصور عـرف حرفة الخزف إنطلاقاً من طبيعة أرضه, لا سيما في مواقـع جغرافـية متعددة. وفي زمننا الحاضر لا زالت هذه المـادة الخزفـية تشـكل مادة أساسية في بعض البلدات والقرى, حيث يعوّل الكثير من أهلـها عليـها كصناعة استهلاكية تدخل في عداد المطبخ اللبناني. أما الخزف كفن فهو حـكر على خزفيين ومحترفـاتهم الفنية وعدد من النحاتين الذين يعمـلون بهذه المـادة لانـتاجها قطعـة فنـية متعددة الأشكال.
وبالعودة الى الخزف وعلاقته التاريخية بلبنان, فقد كانت لعالم الآثار الدكتور حسين صايغ قراءة موجزة في أبرز محطات الخزف أو الفخار في لبنان. والدكتور صايغ المحاضر في الجامعة اللبنانية, هو أول من عمل في حفريات الآثار الفينيقية المكتشفة في الوسط التجاري, وخلص منها الى وضع سلسلة دراسات وأبحاث عن الفخار والخزف المكتشف في بيروت.
وفي قـراءته الموجـزة يقـول الدكتـور صايغ: يعتـبر الفـخار المادة الأكثر إنتشاراً في المواقع الأثرية, لذا يعتمد على دراسته وتنوعـه في تأريخ الطبـقات الأثرية لأنه يبدو مميزاً في كل طبقة من الطبقات, لا سيما في المواقع الأثرية القديمة والوسيطة والحديثة.
وتعود بدايات صناعة الفخار في المنطقـة التي ينتمي إليها لبنان, الى الألف الثامن قبل الميلاد. ومـنذ ذلك الزمن مـرّت صناعـة الفـخار بعدة مراحل أدّت الى تطوّره وتميزه في كـل منطقـة عن باقي المناطـق بحسب توفر المـواد الأولية الطينية ولوازمها المتعددة.
وتميّز الإنتاج اللبناني بتوفر نوعين من الفخاريات, الأول مخصص للسوق المحلية وللإستهلاك اليومي وهو بسيط ويفتقر الى التزيينات والزخارف المكلفة, وينتشر هذا النوع بكميات كبيرة في مختلف المواقع الأثرية, أما النوع الثاني المزخرف والذي يكتسب أهمية بالغة لجهة تأريخ الفن, فيمكن التعرف من خلاله على المؤثرات الفنية المحلية منها والخارجية وما أكثرها في بلد كلبنان تميز بانفتاحه على مختلف الثقافات منذ القديم وساهم بشكل مباشر في إنضاج تلك الثقافات.
يعتبر الفخار المزين وثيقة تأريخية وفنية لا يستهان بها في الإستدلال أو في التعرّف على العلاقات الثقافية والإجتماعية والتجارية أيضاً مع الأسواق الخارجية, وهي على الأغلب تدور مع بلدان شرق البحر الأبيض المتوسط, لا سيما مصر القديمة واليونان والرومان.
وختـم الدكتور صايغ دراسته وبحـثه بالإشـارة الى الجهـود المبذولة من قبل الخـزافين في الوقـت الحاضر, ونبّه الى ضرورة إحياء المحافظة على الأساليب التقنية المميزة للفخـار المحـلي لكي لا يصبح الإنتاج المحلي بدون هوية, ومحاولة لتكرار ما هو موجود في الأسواق العالمية. وفي هذا المجال, يفضل الإعتماد على المادة الأولية المحلية من طين ورمول وأكاسيد وأصباغ وحتى الأفران ودولاب الخزاف, لكي يبقى لهذا الإنتاج جماله اللبـناني الأصيل, ولكي نحفظ للأجيال القادمة الطابع والذوق المحلي الصرف غير المغلـف بمؤثرات وأذواق خارجيـة غريـبة عن بيـئتنا وواقعـنا الإجتمـاعي.