- En
- Fr
- عربي
علم نفس عسكري
الحياة العسكرية إلتزام.. ومسؤولية
الجيش, مؤسسة وطنية راقية, بأهدافها ومبادئها, مهمتها الأساسية الدفاع عن الوطن بالدرجة الأولى, وصون الحريات العامة, وحماية الدستور وتعزيز الوحدة الوطنية, ودعم الإستقرار الداخلي, والمحافظة على قيم المجتمع وتراثه وإنسانه... ولا سبيل للتحدث عن الحياة العسكرية من دون التطرّق الى واقع المؤسسة العسكرية, التي هي صرح ثابت ومتماسك, ومدرسة وطنية هادفة ينهل منها كل متطوّع في الجندية, المعرفة الوطنية الصحيحة ويتدرّج فيها على القيم والمفاهيم التي تجعل منه رجلاً مسؤولاً. فكل وحدة عسكرية هي دار رحبة, هي البيت الكبير الذي تنتشر فيه المبادئ الوطنية والأخلاقية, وهي المعهد الذي يُخرّج رجالاً أقوياء, قدوة في البطولة والتضحية والإخلاص والفداء.
الجيش هو الوطن, هو الركيزة الرئيسية للوحدة الوطنية, وليس من وطن بلا جيش.
والحياة العسكرية, حياة منظّمة, يسودها الإنضباط والتوحّد والتعاون, وعلى هَدْيها تتشكّل الخطوات التي تدعم تحقيق الأهداف الوطنية على كافة المستويات.
مقوّمات الحياة العسكرية
تختلف طبيعة الحياة العسكرية عن الحياة الإجتماعية المدنية في بعض الجوانب, فهي تتسم بطابع معيّن يفرضه النظام العسكري وفق نسق محدد يتطلب من الجندي الإلتزام والجدية والإتزان والإمتثال للأوامر التي تصدر إليه وتطبيقها, كما يتمّ فيها تحديد المسؤوليات والواجبات. فالتسلسل على أساس الرتبة والقدم والمنصب إبتداء من الجندي وصعوداً الى أعلى الرتب, أمر مفروغ منه, ويترتب عليه نوع من السلوك العسكري. إلا أنّ إمتياز الحياة العسكرية بالحرص والدقّة والتفاني, وتميّزها في مسألتي الضبط والخشونة, ليس معناه أنها تُهمل الشأن الثقافي, بل هي على النقيض تماماً, تصرّ على ضرورة مواكبة الجيش للتطوّر العلمي والتقني وتصبّ إهتمامها في هذا المحور, وذلك من خلال تأهيل الأفراد ثقافياً ومعرفياً, وتشجيع العسكريين على متابعة تحصيلهم العلمي, وعلى المشاركة في الندوات والنشاطات العلمية التي تتناول مختلف المجالات والإتجاهات, وتخدم ثقافتهم العلمية والمعلوماتية, ليكونوا على حجم المسؤولية الوطنية, وللوصول الى أعلى مستوى من التطوّر العسكري.
وكما تتبنى المؤسسة العسكرية صقل ثقافة الجندي التقنية والفنية (تدريبه على أصول إستخدام السلاح والآليات العسكرية), تهتم أيضاً بتوجيهه نفسياً وذهنياً ليكتسب السلوك السوي, بهدف تحصين دفاعاته الأخلاقية التي تساهم في رفد رصيده الشخصي بالمحفزات الإيجابية, وهذا يرتبط بمفهوم بث التنشئة العسكرية التي هي أساس عمل المؤسسة.
وهنالك أيضاً الأداء المهني (المسائل التطبيقية), وهي تمثّل جزءاً أساسياً من الحياة العسكرية, وقد أجمع علماء النفس العسكري وعلم النفس الإجتماعي على مبدأ أن لكل مؤسسة نظماً خاصة بها ومنهجية تحدد أهدافها, وهي في مجموعها تطالب الأفراد الناشطين فيها بالسهر على مصالحها والنضال من أجل تحقيق أهدافها, وتحذّرهم من أي تقصير في الأداء, فلا فوضى ولا إهمال ولا تراجع قيد خطوة الى الوراء. وفي هذا المجال, يرى العلامة "وارين" (Waren) , أن النجاح المهني يتطلّب وجود حالتي الضبط الذاتي والعمل المنضبط, وهما في طليعة الحالات المطلوبة لتحقيق عنصر الكفاءة في الفرد ليمارس دوره بأعلى مستوى.. ويؤكد وارين على ضرورة تعزيز العوامل المؤثرة إيجاباً في الشخصية, فالإستعداد الشخصي والوجداني, من شأنه أن يشحن الإرادة للصمود ويساعد الأفراد للإنسجام والتعاون وتقديم أداء متميّز, وعلى زيادة الإنتاج وإجادته من دون الوقوع في العجز والإخفاق.
خصائص الشخصية العسكرية
إن جوهر الشخصية العسكرية يتجلّى في إحترام الذات, والثقة بالنفس, والإيمان بقدسية الرسالة الوطنية, ومن أبرز السمات التي يجب أن تتصف بها الشخصية العسكرية لتكون على الصورة المثالية, وترقى الى مستوى التكامل: الحكمة والشجاعة والأخلاق والصبر والإرادة, والعدل والشهامة والنخوة والذكاء, والحسّ المرهف والإنتباه الشديد والإستعداد للتضحية, والمفروض أن يتحلّى كل جندي, بذهنية صافية, وأن يتعمّق لديه الإحساس في أن الوطنية هي طائفته, هي عائلته, وأن الجيش هو بيته الكبير, وأن يكون متسامحاً ومحباً ويتعاطى مع رفاقه في الجندية بإنسانية..
وللخبرة الذاتية في الشخصية العسكرية ضرورة حتمية, وهي تعتمد على النضج المعرفي والإنفتاح العلمي والثقافي وحسن الإدراك, كما أن الخبرة الذاتية التي تستند الى إختصاص معين مهمة جداً في المجال الإداري والمهني.
إن المجتمع الناجح لا ترتفع هرميته إلا على قاعدة ثابتة, وعلى أيدي رجال يملكون الكفاءة والعزيمة ويتمتعون بروح معنوية عالية, ولديهم الإستعداد للصمود أمام الملمات وتحقيق الأهداف من دون الوقوع في الفشل.
وحول أهمية الروح المعنوية وجدواها في تفعيل الشخصية, أشار علم النفس العسكري مستنداً الى سلسلة من الإختبارات التي تمّت على ضوئها ترجمة الأسس التي تتشكل منها الشخصية العسكرية المتميزة, الى أن الحياة العسكرية بصورة خاصة, تفرض وجود مهارات وقدرات حيوية وصلبة في الشخصية التي يفترض أن تتوافر فيها الشجاعة والإستعداد للتضحية حتى البطولة, وتقتضي الضرورة وجودها, للنهوض بهيكلية المؤسسات الوطنية لتكون على الصورة التي تليق بالوطن وتخدم مصلحته العليا التي هي فوق كل اعتبار؛ وهذا ما تتعهد ببعثه وبوتيرة مرتفعة, “الروح المعنوية”, التي تؤثر على الشخصية تأثيراً مباشراً, وقد خلص العلماء النفسيون الى أنه مهم جداً أن يتسلح كل جندي بروح معنوية عالية, لأنها حالة من الحالات النفسية التي تتميز بتعزيز الشعور بالثقة في الجماعة, وبثقة الفرد بدوره في الجماعة.
الروح المعنوية
في المجال العسكري ينظر علم النفس الى الروح المعنوية, كمصدر قوة, تدفع الفرد الى الثبات والإتزان من حيث ضبط النفس وتنظيم الفعل, وهي في مطلق الحالات, تنطوي على الشجاعة والتصميم العميق وعلى الصمود بوجه الصعوبات والمحن, وإنجاز المهام على أكمل صورة. فالشخص الذي يتحلّى بمعنويات عالية, لا يخشى الإستجابة لأيّ تكليف عسكري, حتّى الذي يعجز عنه الآخرون.
من المعلوم طبعاً أن الشجاعة حافز مطلوب في الشخصية العسكرية, ولكنها وحدها ليست كافية لتجعل الجندي مؤهلاً بجهوزية كافية للقيام بواجباته العسكرية المشحونة بالمسؤوليات؛ فهنالك عوامل يُشترط وجودها في الشخصية لأهميتها في تشجيع الجندي ودفعه للمشاركة الجادة والجدية؛ ومن أهمها الروح المعنوية العالية, فهي تجعل الجندي يتعايش مع الواقع بنفسية مستقرة, ويبتعد عن الإكتئاب والضيق والملل من الروتين اليومي, وهو الشرط الأهم, كي لا يأخذ اليأس طريقه الى نفسه, فالشعور بالإحباط, يقود الى الفشل.
وقد أشار “بارتليت” (Bartlett) , في إحدى دراساته النفسية, الى وجوب توفير أجواء نفسية جيّدة للجنود, وطالب ببناء علاقات إنسانية معهم؛ لأن هذا الأسلوب في التعاطي يبعث الطمأنينة في نفوسهم, ويولّد لديهم شعوراً بالتفاؤل والإصرار على التعاون والنضال في سبيل تحقيق الواجب.. كما أصرّ “بارتليت”, على أن الروح المعنوية العالية هي دافع أساسي لقهر اليأس والصمود لكسب الإنتصار... كما أكّد نظرية زميله هاريمان (Harriman) الذي كانت له إجتهادات متعددة في هذا المجال وتتعلق بالروح المعنوية ومحفزاتها الإيجابية, واتفق معه حول مسألة أهمية التعرّف على قدرات كل جندي وتوجيهه للعمل الذي يلائم جدارته وكفاءته الفكرية والنفسية, لأن مراعاة الفروق الفردية في مفهوم علم النفس, شرط رئيسي من شروط التعبئة النفسية والذهنية التي يتوقف عليها رفع المعنويات, التي هي الوسيلة الوحيدة لقلب الهزيمة الى نصر والنصر الى هزيمة.
وقد أثبتت الدراسات المستحدثة حول هذا المفهوم, أن أي ضعف في المعنويات يؤدي الى شلل في الطاقة ويؤثر سلباً على شخصية الأفراد, لأن الضعف المعنوي يولّد إحساساً بعدم الرضى عن النفس, والشعور بالنقص والدونية, ويؤدي الى الإحساس بالخيبة والإضطراب والإحباط...
فقد نسمع أحياناً, أن أحد الجنود ماهر في استعمال سلاحه وإصابة الهدف, وكل طلقة من بندقيته لا تُخطئ مرمى, وهذا يدلّ على تمتعه بشخصية هادئة ومتزنة, وبأنه يتحلّى بمعنويات عالية تحرّكه لأداء عمله بثقة ومسؤولية وإنضباط وإنتباه واقتدار... وبعض المرّات نسمع أن أحد الجنود عاجز عن التركيز, ويتصرّف غالباً بإنفعال ولا يُحرز تقدّماً, وهذا مردّه بالتأكيد الى انخفاض مستوى الروح المعنوية لديه, وكل الحوافز الداعمة لها.
الضعف المعنوي
قد يتساءل البعض عن العوامل المؤدية الى خفض الروح المعنوية, وهنا لا بد من القول, أنه من الطبيعي أن يتعذّر على أي إنسان أن يحافظ على روح معنوية عالية في كل وقت, لأن الأمور في بعض الأحيان, لا تسير وفق رغبات الفرد وحسبما يريد, فهو يقابل الظروف المختلفة داخل محيط عمله وخارجه, والتي قد تحدث صراعاً داخلياً لديه, ثم إن كـل إنسان منّا معرّض في مواقف معينة لحالة من الإكتئاب والضيق, فهنالك أمور قد تعمل على تثبيط الهمم, وبالتالي تؤدي الى خفض الروح المعنوية. والمهم أن يقوم كل إنسان بواجباته من دون تقصير وعلى الوجه الأكمل, وأن يكون متعـاوناً وإيجابيـاً.
ولأن الأفراد أكثر حساسية وتأثراً بالمحيـط السيكولوجي منه بالمحيط المادي, فهم عند التعرض لأي موقف مفاجئ يؤثر في معنوياتهم, يتحوّلون الى السلبية.. والمؤسف, أنه أحياناً, يكون السبب كلمة ناقدة تجرح المشاعر, أو نظرة ساخرة, ملمحة, تترك أثراً في النفس المرهفة, أو قد تكون عبارة جارحة يُساء فهمها, وهي أمور قد يجدها البعض هامشية, ويكون لها يد مباشرة في خفض الروح المعنوية, ويكون تأثيرها أكثر بكثير من الظروف المحيطة بالأفراد.
في المقابل فإن الكلمة الطيبة تبعث الإطمئنان وتجذب الآخرين إلينا, ليكونوا الى جانبنا بدلاً من أن يكونوا ضدنا. وإذا واجهنا فشلاً محدداً, فإن ابتسامة مشجعة تدعم إرادة الآخر الذي فشل في مهمته وتعزز فيه روح المبادأة والإقدام...
إن أي صراع داخلي يعيشه الإنسان جرّاء بعض المواقف الخاطئة أو السليمة, يؤثر في معنوياته, فإما أن يرفعها أو العكس, خاصة عندما يتعلق الأمر بالشخصية العسكرية التي تواجه الظروف والمواقف الطارئة في مسيرة حياتها اليومية.
ويقول بارتليت أن وجود إتجاهات نفسية خاطئة, وعدم وجود إنسجام بين الجنود, أمور تتسبب في نشوء شرخ داخلي ينتج عنه تباعد وانشقاق في صفوفهم.
ولتجنب انخفـاض الروح المعنوية, لا بدّ من وجـود قيادة مخلصة وكفـوءة تعمل على تقليص الفجوة, بين القادة والجنود, وأن تعتمد في سياستهـا الركائز التي تؤثِر مباشرة على العديد والعتاد, كأن تهتـم مثلاً بتلبية احتياجـات الأفـراد بكل ما تملكه من صلاحيـات قانونية ومادية ومعنوية وتضعها في خدمة المؤسسات العسكرية بكل أقسامها وتجهيزاتها, وأن يكون تصميمها على إحقاق الحق والمحافظة على الحقـوق المكتسبـة صادقاً وجدياً, وأن تأخذ في الإعتبار, الضمانات التي يتشرّب منها الجندي الشعور بالولاء للوطن, وتحقق التماسك والتوحد, كالإلفة والمحبة والإحترام والتعاون الشريف.