قضايا اجتماعية

الزواج من زمن «أم لحاف» إلى زمن الإنترنت
إعداد: دريد زهر الدين
عميد ركن متقاعد

الزواج هو علاقة أسرية تتشكّل وتتغير، وفق ظروف كل مجتمع وثقافته وعصره. وهو بالتالي عملية اجتماعية، تطوّرت وعرفت أشكالًا متعددة.

 

من الداخل إلى البعيد
الزواج وفق العادات القروية اللبنانية، كان زواج أقارب أو زواجًا داخليًا «إندوغامي» يتم عن طريق الأسرة، أو الأصدقاء أو المجموعة الإثنية. والتفتيش عن الفتاة الملائمة كثيرًا ما كان يتمّ بمساعدة «خطّابة» تُعرف باللبناني بـ«أم لحاف»، المرأة التي تعرف كل الفتيات العزباوات الراشدات. ومع مرور الزمن بدأ سعي «الخطّابة» يتّسم بطابع مادي، خصوصًا إذا كان العريس مغتربًا! و«العروس بدها تعيش معو برّا».
الزواج الاغترابي نوع من أنواع الزواج (الأباعدي من L’exogamie) حيث يتمّ البحث عن الزوج خارج المجموعة الاجتماعية (العشيرة، الإثنية، المجموعات الإقليمية، العرق، الطائفة أو البيئة الاجتماعية). وتكون الأباعدية كاملة حين يتمّ الزواج من خارج البيئة الاجتماعية كليًا، وتكون أباعدية خاصة عند الزواج من قريب بعيد ومجهول، مثلاً، قريب هاجرت عائلته منذ فترة طويلة. فلطالما حدث أن تطلّع شاب إلى الهجرة، فراح يستقصي عن أقارب له أو معارف تركوا الوطن، ولهم فتيات في عمر الزواج. وقد يسألون عن هؤلاء الأقارب، فإذا ما تأكد بأنّ في أسرهم فتيات في مقتبل الزواج، سعوا إلى القربى التي تنتج أسرة وتأشيرة دخول دائمة إلى البلاد المضيفة. وكم من حالة لبنانية تؤكد هذا التوجه!

 

 زواج أعمى!
في المقابل، انتشرت بين صفوف المهاجرين اللبنانيين الأوائل، والذين لم يرغبوا بالزواج من أجنبيات، ظاهرة سميت «بالزواج الأعمى». فبسبب عدم رغبة هؤلاء (ومعظمهم من القرويين) بالزواج من أجنبيات، نظرًا إلى اختلاف العادات والتقاليد، راح الكثيرون منهم يرسلون في طلب فتيات من الوطن الأم، ومن دون سابق معرفة، ليتخذوا منهن زوجات، يتعرفون عليهن في المرفأ... فاللبناني الذي وفد إلى المغترب رضيعًا، أو ولد هناك، تربّى مع أهل رسّخوا في ذهنه ضرورة الزواج من داخل «الملّة» والتقاليد وروابط القربى، وهذا ما كان شبه مستحيل في المجتمع الاغترابي، فاللقاءات ضمن أبناء الجالية الواحدة لم تكن  تحصل إلاّ في مناسبات قليلة، خصوصًا في فترة الهجرات الأولى،  ناهيك عن تحجّر الأفكار التي ترفض الزواج خارج العرق والدين.

 

خيارات أخرى
استحالة العثور على «بنت الحلال» في البلد المضيف المختلف، دفعت قسمًا آخر من الشباب إلى زيارة الوطن بهدف لقاء «شريكة العمر» ذات المواصفات المناسبة والملائمة. وهنا تبدأ المشكلة! الوسائل التقليدية الشائعة، العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، كلها تتمازج في فكر من يتولى إيصال العريس المنتظر إلى فتاة الأحلام، والفارس الآتي من وراء البحار «ومعو مصاري كتير»، «وهونيك الله بيعلم كيف بيعيشو بس أحلى منّا».
وترحل «بنت الحلال» إلى بلاد مجهولة إنما جديدة، حيث الحلم بحياة رغيدة ومريحة، فتحقق قلّة منهن، الحلم المراد، وتتصادم كثيرات مع تقاليد لا تعرف عنها شيئًا، أو تعاني مشكلة تحرّر الزوج من صديقاته العديدات، «وهيدا شي طبيعي». وكم من زوجة تركت المغترب، بعد أن عانت ما عانته، وعادت تتقوقع في الوطن الأم، مع تفضيلها حياة الأزمات والقهر في الوطن، عوضًا عن الجمالية المزيفة في المهجر. قد يكون ذلك غير قابل للتعميم وظرفيًا، إذ إنّ كثيرًا من الأسر التي نشأت على هذا النحو، كانت متماسكة وأدت المرأة اللبنانية فيها دورًا أساسيًا.
ثمة فئة أخرى من الشباب المغتربين بحثت عن الشريكة اللبنانية ضمن المجتمع الاغترابي، وإذا استحال الأمر كان الزواج من أجنبية تنتمي إلى المجتمع الذي تهيأت له فيه ظروف التربية والدراسة والعمل.
ومن اللبنانيين المغتربين من يرى أن النوع الأخير من الزواج غير مكلف، ولا يخضع لامتيازات الدين والطائفة والمذهب والتقاليد والمنزلة الاجتماعية والثقافية، فيقدم عليه مُقنعًا نفسه بأنه نوع من  «زواج الضرورة» الذي لا بد منه لتكوين أسرة جديدة.
في النهاية، لقد خضع مفهوم الزواج لتطورات كثيرة فرضتها التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وربما أمكن القول إن منصّات التواصل الاجتماعي ومواقع التعارف، تؤدي اليوم وعلى نحو ما، دور «أم لحاف»، مع بعض الفروقات طبعًا.