- En
- Fr
- عربي
نحن والقانون
استفاد لبنان من اعتماد السرية المصرفية في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت سائدة في خمسينيات القرن الماضي، ونجح في جذب رؤوس الأموال الأجنبية وبخاصةٍ الخليجية، فعُرف بـ”سويسرا الشرق“. لكن في ظل المتغيرات التي طرأت في الداخل والخارج، والتعاون الدولي لمكافحة الفساد والأعمال الإرهابية والجرائم المُنظَّمة المحلية والدولية والعابرة للقارات، كان لا بد من تعديل قانون السرية المصرفية، وهذا ما حصل على عدّة مراحل كان آخرها التعديل الذي جرى في العام الحالي.
أولاً: التطوّر التشريعي لقانون السرية المصرفية في لبنان
اعتمد لبنان السرية المصرفية بموجب القانون الصادر بتاريخ 3 أيلول سنة 1956، مع وجود المادة 579 من قانون العقوبات التي تعاقب على إفشاء الأسرار من قِبل الأفراد الذين يعلمون بها بحكم وضعهم أو وظيفتهم، أو مهنتهم أو فنّهم، من دون أن يكون هناك سبب شرعي لذلك، أو لدافع تحقيق منفعة خاصة أو منفعة أخرى.
وانسجامًا مع الجهود الدولية، وتحت وطأة الضغوط الداخلية والدولية، لا سيما بعد الأزمة المالية والنقدية والمصرفية التي انفجرت في لبنان خلال تشرين الأول 2019، أقرَّ مجلس النواب اللبناني القانون رقم 200/2020 بتاريخ 21/12/2011، الذي نصّ على تعليق العمل بقانون السرية المصرفية لمدة سنة واحدة من تاريخ نشره في كل ما يتعلق بعمليات التدقيق المالي و/أو التحقيق الجنائي، التي قرَّرتها وتُقرّرها الحكومة على حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلّة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، أيًا تكن طبيعة هذه الحسابات، ولغايات هذا التدقيق ولمصلحة القائمين به حصرًا. ويشمل مفعول التعليق كل الحسابات التي تدخل في عمليات التدقيق، بينما تبقى أحكام سرية المصارف سارية في كل ما عدا ذلك.
وفي 28/10/2022 أقرَّ مجلس النواب اللبناني القانون رقم 306/2022 الذي قضى بتعديل بعض مواد قانون السرية المصرفية من خلال إقرار إمكان رفع هذه السرية في حالات عديدة.
وفي 24/4/2025 جرى تعديل ثالث لقانون السرية المصرفية بموجب القانون رقم 1/2025، بهدف إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه. ويرمي هذا القانون إلى إعطاء كل من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، الحق في أن تطلب معلومات مَحميّة بالسرية المصرفية من دون تحديد حساب معين أو عميل معين، وذلك عن جميع الحسابات والعملاء، وبأثر رجعي لمدة عشر سنوات من تاريخ صدوره، مع حق الاعتراض وفق أصول معينة.
يُعدّ هذا القانون، تحوّلًا تاريخيًا في النظام المصرفي اللبناني، وتلبية لمطلب من مطالب صندوق النقد الدولي، وخطوة ضرورية نحو الإصلاح المالي المنشود، وركيزة أساسية لأي خطة تعافٍ، وهو يهدف إلى كشف الحقائق، بشأن الأزمة المالية التي انفجرت سنة 2019، بما يسمح بمشاركة معلومات مصرفية بين مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، في إطار تعزيز مراقبة القطاع المصرفي وحماية النظام المالي، وهو يسمح بطلب معلومات مصرفية محمية بالسرية من دون تحديد حساب أو عميل معين، وذلك بهدف تعزيز الشفافية في القطاع المصرفي اللبناني وتحسين مراقبة ومراجعة العمليات المصرفية. وبالتالي يُشكّل هذا القانون خطوة ضرورية من أجل السير بعجلة الإصلاح والمحاكمة والمحاسبة والمُعاقبة، ورَدّ أموال المودعين.
ثانيًا: مفهوم السرية المصرفية
يندرج السر المصرفي بمعناه الواسع تحت لواء سر المهنة، وتحديدًا الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم إفشاء الأسرار المصرفية التي آلت إليه بحكم وظيفته أو بمعرض قيامه بهذه الوظيفة والمتعلقة بزبائنه، وهذا الموجب فرضته نصوص عامة، كنص المادة 579 من قانون العقوبات اللبناني.
أما السرية المصرفية بمعناها الضيق فهي الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم إفشاء الأسرار التي حاز عليها بفعل وظيفته، ولكن بموجب نصوص قانونية صريحة تفرض التكتّم وتعاقب الإفشاء.
ثالثًا: الأشخاص الملزمون بحفظ السرية المصرفية
يُطبَّق نظام السرية المصرفية على المصارف اللبنانية وفروع المصارف الأجنبية المسجلة في لبنان، ويُستثنى منه مصرف التسليف الزراعي والصناعي والعقاري. كما أنّ مديري ومستخدمي المصارف المشار إليها وكل من له اطلاع بحكم صفته أو وظيفته بأي طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية، يُلزمون بكتمان السر لمصلحة زبائن هذه المصارف ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص، فردًا كان أم سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية، إلّا إذا أذن لهم بذلك خطيًا صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم، أو إذا أعلن إفلاسه، أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها، أو وفق الاستثناءات المنصوص عنها في القانون.
رابعًا: الأشخاص الذين تسري بوجههم هذه السرية
تسري السرية المصرفية في مواجهة جميع الجهات الخاصة والعامة، سواء أكانت قضائية أم إدارية أم مالية أم عسكرية، إلّا في الحالات التي حدّدها القانون على سبيل الحصر.
كما أنّه على كل شخص ينتمي أو كان ينتمي إلى المصرف المركزي، بأي صفة كانت، أن يكتم السر المنشأ بقانون 3 أيلول سنة 1956. ويشمل هذا الموجب جميع المعلومات وجميع الوقائع التي تتعلق ليس فقط بزبائن المصرف المركزي والمصارف والمؤسسات المالية، وإنما أيضًا بجميع المؤسسات المذكورة نفسها والتي يكون قد اطلع عليها بانتمائه إلى المصرف المركزي. وإذا اعترض المصرف صاحب العلاقة على وجهة نظر المصرف المركزي، يبتّ بالقضية عن طريق التحكيم العادي، وفق قانون أصول المحاكمات المدنية، ويُلزَم المحكّمون والمحكّم الإضافي بكتمان السر المفروض.
خامسًا: الحالات التي لا تُطبَّق فيها أحكام السرية المصرفية
لا تُطبَّق أحكام السرية المصرفية بالنسبة إلى:
1- الموظف العمومي، والمقصود أي شخص ملزم بتقديم تصريح الذمة المالية المنصوص عنها في القانون رقم 189/2020 ويؤدي وظيفة عامة أو خدمة عامة لدى أي شخص من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص، على المستويين المركزي واللامركزي، وذلك سواء كان معينًا أم منتخبًا، دائمًا أم مؤقتًا، مدفوع الأجر أم غير مدفوع الأجر. وبشكلٍ عام أي شخص يؤدي عملًا لمصلحة ملك عام أو منشأة عامة أو مرفق عام أو مؤسسة عامة أو مصلحة عامة أو مال عام، سواء كان مملوكًا، كليًا أو جزئيًا، من أحد أشخاص القانون العام، وسواء تولّاها بصورة قانونية أم واقعية، بما في ذلك أي منصب من مناصب السلطات الدستورية أو أي منصب تشريعي أو قضائي أو تنفيذي أو إداري أو عسكري أو مالي أو أمني أو استشاري. ويشمل ذلك، الأزواج والأولاد القاصرين، والأشخاص المستعارين، و/أو المؤتمنين و/أو الأوصياء، و/أو صاحب الحق الاقتصادي.
2- رؤساء الجمعيات والهيئات الإدارية التي تتعاطى نشاطًا سياسيًا، وهيئات المجتمع المدني، كما وأزواجهم وأولادهم القاصرين، والأشخاص المستعارين، و/أو المؤتمنين و/أو الأوصياء، و/أو صاحب الحق الاقتصادي، والمرشحين للانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية كافة، من خلال تملكات متسلسلة أو وسائل سيطرة غير مباشرة متسلسلة أخرى أو خارجها، عملًا بالقوانين المرعية.
3- رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدرائها التنفيذيين ومدقّقي الحسابات الحاليين والسابقين، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية.
تبقى هذه المفاعيل سارية على المذكورين حتى بعد تاريخ استقالتهم أو إنهاء خدماتهم أو إحالتهم على التقاعد، وذلك عن الفترة التي كانوا يتولّون فيها مهماتهم أعلاه، ولمدة خمس سنوات إضافية بعدها. كما تسري على كل من تولّى سابقًا أيًا من المسؤوليات الواردة فيها في 23 أيلول 1988 ولغاية تاريخه، بمن فيهم من أُحيلوا على التقاعد أو أصبحوا خارج الخدمة. وحظَّر القانون رقم 306/2022 فتح حسابات ودائع مُرقَّمة وتأجير خزائن حديدية لزبائن لا يعرف أصحابها غير مديري المصرف أو وكلائهم، وأوجب تحويلها إلى حسابات عادية خلال مهلة ستة أشهر من تاريخ نفاذ القانون رقم 306/2022 بتاريخ 28/10/2022.
سادسًا: الحالات التي تُرفع فيها السرية المصرفية
لا يجوز كشف السر المصرفي إلّا في الحالات المعيّنة في القانون على سبيل الحصر، وهي:
1- إذن العميل أو ورثته خطيًا.
2- إذا حكم بإشهار إفلاسه.
3- عند وجود دعوى قضائية تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها.
4- يجوز للمصارف صيانةً لتوظيف أموالها أن تتبادل في ما بينها فقط وتحت طابع السرية، المعلومات المتعلقة بحسابات زبائنها المدينة.
5- عند توقف المصرف عن الدفع، تُرفع السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الإدارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات.
6- عند الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تُرفع السرية المصرفية بقرارٍ من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المُختصّة ولمصلحة الهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية.
7- لا يمكن للمصارف أن تتذرع بسر المهنة أو بسرية المصارف، وعليها أن تُقدّم جميع المعلومات المطلوبة فور تلقّيها طلبًا من:
- أ- القضاء المختص في الدعاوى المتعلقة: بجرائم الفساد، والجرائم الواقعة على الأموال وفق أحكام قانون العقوبات، والجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام قوانين الضرائب والرسوم في مختلف المرافق والمؤسسات العامة والبلديات، بما فيها الضرائب الأميرية والبلدية والرسوم الجمركية ورسوم المخابرات السلكية واللاسلكية. والجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة ولا سيما المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف. والجرائم الناشئة عن مخالفة قوانين الشركات المساهمة وجرائم الشركات متعددة الجنسية. والجرائم التي تنال من مكانة الدولة المالية أو السندات المصرفية اللبنانية أو الأجنبية المتداولة شرعًا أو عرفًا في لبنان، وجرائم تقليد وتزييف وترويج العملة والأسناد العامة والطوابع وأوراق الدمغة. وجرائم اختلاس الأموال العمومية، وجرائم الإفلاس، وجرائم تبييض الأموال، ودعاوى الإثراء غير المشروع.
- ب- هيئة التحقيق الخاصة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
- ج- الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
- د- الإدارة الضريبية بهدف مكافحة التهرّب الضريبي والالتزام الضريبي والتدقيق.
- ه- كل من: مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع.
- و- بهدف إعادة هيكلة القطاع المصرفي والقيام بالأعمال الرقابية عليه، يمكن لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع أن تطلب معلومات مَحميّة بالسـرية المصـرفية من دون تحديد حساب معين أو عميل معين، بما في ذلك إصدار طلـب عـام بإعطـاء معلومات عن جميع الحسابات والعملاء. إلّا أن هذه الطلبات تبقى قابلة للاعتـراض أمام قاضي الأمور المستعجلة من قبل الأشخاص الطبيعيين والمعنويين المعنيين بها، ويكون الاعتراض بدوره خاضعًا للأصول المقرَّرة بشأن الاعتراض على العرائض. يوقف الاعتراض تنفيذ الطلب إلى حين صدور الحكم بشأنه، ما لم يُقرّر القاضي الناظر في الطلب خلاف ذلك خلال مدة خمسة عشر يومًا. وفي حال تمّ استئناف قرار قاضي العجلة يوقف تنفيذ الطلب للمتضرر دون الواردين في الطلب العام.
وهنا نذكّر بأنّ القانون رقم 1/2025، شمل جميع الحسابات والعملاء، وبأثر رجعي لمدة عشر سنوات من تاريخ صدوره في 24/4/2025. ويتم تحديد المعايير والضوابط التطبيقية بمراسيم من مجلس الوزراء بناءً لاقتراح وزير المالية.
سابعًا: الحالات التي يجوز فيها حجز أو تجميد الأموال والموجودات المودعة لدى المصارف
لا يجوز إلقاء أي حجز على الأموال والموجودات المودعة لدى المصارف المذكورة إلّا بإذن خطي من أصحابها. ويجوز الاتفاق مُسبقًا على إعطاء الإذن المذكور في كل عقد من أي نوع كان، ولا يجوز الرجوع عن هذا الإذن إلّا بموافقة جميع المتعاقدين.
وتُجمَّد الأموال بقرارٍ صادر عن هيئة التحقيق الخاصة وفق قانون مكافحة تمويل الإرهاب. ويُلقى الحجز على الأموال بقرارٍ صادر عن القضاء المُختصّ في الحالات التي يجوز فيها رفع السرية المصرفية.
ثامنًا: العقوبة كل من يُخالف عن قصد هذه الأحكام يُعاقب وفق الآتي:
1- إفشاء المعلومات: كل من أفشى أو حاول إفشاء معلومات مَحميّة بالسرية المصرفية أو بيانات استحصل عليها بمعرض تطبيق هذا القانون وخلافًا لأحكامه، يُعاقب بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر، وبالغرامة من 150 ضعف الحد الأدنى للرواتب والأجور لغاية 300 ضعف الحد الأدنى للرواتب والأجور، ويُعاقب الشروع بالجريمة بالعقوبة ذاتها. وتُضاعف العقوبة في حال تكرار المخالفة أو التمادي فيها.
2- الامتناع عن تقديم المعلومات: كل من امتنع عن الاستجابة للطلبات الصادرة عن المرجع المختصّ يخضع لعقوبة الحبس من ثلاث إلى سبع سنوات وغرامة لا تزيد عن مثل المبلغ موضوع عملية التبييض، أو الأشغال الشاقة المؤقتة لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن سبع سنوات، وغرامة لا تقل عن مثل المبلغ المدفوع ولا تزيد عن ثلاثة أمثاله إذا تعلق الفعل بتمويل الإرهاب. وتُشدَّد العقوبة في حال عدم الاستجابة لأي من هذه الطلبات لفترة تتجاوز الثلاثين يومًا من تاريخ وروده، أو في حال التكرار. ولا تحول الملاحقة دون الاستحصال على المعلومات المطلوبة وفق الأصول. إضافة إلى إحالة المصارف، التي ترفض عمدًا تقديم المعلومات المطلوبة خلال الفترة المحددة في الطلبات الموجهة إليها، على الهيئة المصرفية العليا لدى مصرف لبنان، لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقها.
3- لا تحول الملاحقة القضائية دون حق الهيئات الرقابية والتنظيمية بفرض العقوبات التأديبية والإدارية وفق أنظمتها والقوانين التي ترعاها.
4- لا تتحرّك دعوى الحق العام إلّا بناءً على شكوى المُتضرّر أو الجهات المُختصّة بطلب المعلومات عن الحسابات المصرفية.
5- لا يمكن لأي شخص أن ينشئ مصرفًا أو أن يكون مستخدمًا لدى مصرف إذا حكم عليه بمخالفة أحكام قانون سرية المصارف.
المراجع
1- د. غسان رباح: قانون العقوبات الاقتصادي، منشورات بحسون الثقافية، 1990، ص136.
2- https://www.alhurra.com/lebanon/2025/04/25
3- د. روكس رزق: السر المصرفي، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، (غير مذكور تاريخ النشر)، ص10.











