ثقافة وفنون

الشاعر شكرالله الجر رائد التجديد في الشعر

يتميز بعمق إنسانيته، وصدق تجربته التي ينساق معها إنسياق اللحن المغرد في السمفونية المتناغمة، فيبدو في أسى وخوف وفراغ وحيرة، ويطلب الخلاص من الله والليل. وتطغى عليه الذكرى: وطن، وحبيبة، وجمال. ويتقاذفه شوق لقاء، وحرقة وداع، فيحنّ حنين الملتاع، ويلجأ الى نشوى الحواس، ويفيق منها مرهقاً يفتش عن طريق آخر وهو يعلم أن السعادة شرود لا يعقل لها زمام. إنه الشاعر المهجري شكرالله الجر ­ إبن منطقة فتوح كسروان.

 

دعوة التجديد

شكرالله الجر، أوّل من فكّر بإنشاء العصبة الأندلسية في البرازيل، وأول من سعى الى تأسيسها. وما جنى من جهوده الأدبية غير المتاعب والمشاكل، وما درّت عليه مجلته وكتبه ما يغريه بالإستمرار، فعاد الى ميدان التجارة.

هو في الأدب من دعاة التجديد الموضوعي مع التمسك بسلامة اللغة وفصاحة الاسلوب. يتميز شعره بموسيقى الألفاظ ونثره بحرارة التعابير. تشع في مؤلفاته الفكرة والثقافة الواسعة والثقة بالنفس حتى لنشعر إذ نقرأه أنه يخاطبنا من برج عال، وينظر الى صغارتنا نظرة إشفاق. لم يرض شكرالله الجر عن حظه وعن عشيرته وحقّه أن لا يرضى ­ ولكنه تجاوز حقّه حتى نصّب نفسه حاكماً مطلق التصرف في موازينهم. قال في هذا المجال: ˜وإذا قلت لأحدهم ليس لدينا في العالم العربي شاعر كامل سخط عليك وراح يكردس من أسماء الأحياء والأموات أجيالاً. فإن أحصيت ما تكدس من الشعر العربي منذ نشأة الشعر حتى الدقـيقة التي نحن فيها، فإنك لا تجد سوى أفق محدود ضيّق لا يزيد عن كونه صورة لحياتنا المحدودة، الضيقة، المبطنة بالضجر، المكبلة بالتقاليد البالية. هات ما تشاء من شعراء اليوم ­ وأنا منهم ­ لاقول لك أنّ كل ما نظموه لا يساوي ضياع الوقت في قراءته.

في حلق الشاعر غصّة سببها الإغتراب وجور الحياة المهجرية على الأديب، وضياع القلم في محيط جاهل مستهتر:

 

جلّ من قدّر السعادة للناس                               ومن قدّر الشقاء علينا

قد قضينا الأعمار نبري من الأقلام                     أعناقها الى أن بُرينا

 فإذا سربنا المزقزق يغني                               ريشة ريشة ولوناً فلونا

 

ولكن هذا السرب المزقزق والذي يغني ريشة ريشة، والذي يحنو عليه ويتوهج للمصير الذي ينتظره، لم يسلم من سهامه الحادة:

 

كثر الناظمون فينا ولكن                            قلّ من أولد المعاني جنينا

إن من ينسل الخلود بياناً                            غير من ينسل الفناء بنينا              

 

 في هذه الأبيات استثنى نفسه، وأشار من طرف خفي الى من يكون ذلك الشاعر الذي ينسل الخلود من شعره، وتجري في دمه عبقرية أجداده؟ من يكون غير الشاعر نفسه؟

 

ومهما تعددت موضوعات الشاعر شكرالله. وإن كانت ميادينها في الطبيعة، في الخارج أو الذات، فإن شعره يحافظ على وحدة القصيدة، وعلى المبدأ العام الذي رسمه له. وهو يؤمن كما آمن جبران خليل جبران، بأن من يكتب بالحبر ليس كمن يكتب بدم القلب، فهو يقول:

 

إن شعراً لم يصطبغ بدم القلب                      لشعـــر لم يصطبغ بالخـلود

 

 

 الغربة والليل

 الغربة لدى الشاعر إتساع الأفق، تفكيراً، وعاطفة، وتجربة، الى رهافة في الحس الشعري، والأداء البياني، نظماً، ونثراً، وحديثاً. أما البعث الذي يتحدث عنه في شعره فهو أنشودة كل نفس بشرية تدب على الأرض. وتأثيرها في الحياة العملية، كبير جداً ومتشعب ومفرح ومحزن معاً. وفي ذلك يقول:

 

˜قالوا بأن الروح سوف تعود في جسد جديد

                                                       من ذا يود بأن يعود الى حياة ضنى أكيد

 

الليل الذي عُرف بأنه سمير العشاق، والمفعم بالأسرار، أحبه الشعراء وتغنوا به ومنهم شاعرنا، فالليل عنده جمال كما النهار، وجلّ قصائده نظمها في الليل، لكون النهار عنده للعمل المنتج، لما في الليل من هدوء، وطراوة جو، ونسمات منعشة للروح في مدينة كالريو ده جنيرو تبلغ الحرارة فيها الأربعين درجة أحياناً، خلال الصيف. وكما الليل وجه أسود والنهار وجه أبيض، فإن للحياة عند شكرالله الجر، وجهان: أسود وأبيض، وللنفس البشرية لونان هما: إما الضحك، وإما البكاء، وما بينهما حالة عابرة من الصحو هي الربيع والخريف. والإنسان، في حد ذاته، صورة عن الطبيعة الكونية، تتمثل فيه فصولها الأربعة، وأشدهما تأثيراً فيه هما الشتاء الباكي، والصيف الضاحك المتهلل.

 

جدلية العلاقة بين الفيلسوف والشاعر والسعادة

 

 يـرى الشاعـر شكرالله الجـر أن صلة الشـاعر بالفيلـسوف، قد تكون أحياناً، عن طريق بعض الخواطر والنظريات الإجتماعية التي تتسرب الى الشعر من ناحيـة الواقع الحياتي الذي يعيشه كل من الشاعر والفيلسوف، وما خلا ذلك، فلا صلة تصل بين من يعيش في جوار القمر، ومن يعيش في صحبة البشر، بين من يتخذ من الشمس قنديلاً، والسحاب منديلاً، والريح بوقاً ينفخ فيه أغانيه، فيرقص الزهر والطير والشجر، وبين من يتخذ من العقل مختبراً يحلل فيه جرائم المجتمع ليستخرج دواء لا يدفع بلاء، ولا يقتل وباء. ودليلـنا الى ذلك هذه الحروب المتتابعة، والثـورات المتـفجرة التي لم تخـمدها فلسـفات، ولم تلطّف من شرها نظريات.

 والسعـادة كانت وما تزال موضـع الجـدل بين المفكرين والبحاثة، فمنهم من يقول أنها تأتي من الخارج مع تأمين متطلبات الإنسـان، ومنهم من يقول أنها تنبع من داخل الإنسان نفسه. أما شاعرنا فقد رأى أن ثمة اختلاف بالنظر الى السعادة، وهذا الإختلاف ناجم عن اختلاف الطبائع والأمزجة. فالسعادة كلمة ترمز الى مشتهيات النفس البشرية. فمنهم من يراها بالحصول على الحب، ومنهم من يراها بالحصول على الثروة، وآخرون يرونـها في دوام العافية. ˜وهي، في حد ذاتـها، ما خـرجت عن كونها حاجة من حاجاتـنا، نسعى وراءها، ونجـدّ جدنا للتوصـل إليها، وكثيراً ما لا ندركها، وإذا صح وأدركناها، فقد تأتي في ظرف لا نستطيع معه التمتع بها. ولشاعرنا نصوص شعرية تتغنى بالسعادة، ومنها قصيدته "˜قهقهة رياح".

 

الطبيعة والمرأة

لقد شغـف شكرالله الجر بالطبيعة اللبنانيـة والبرازيلية وبالجـمال الطبيعي الذي خلعـته السماء على كلا البلدين. فالجبال الشامخة التي تحيط بهما كأقواس قزح، والبحر تلاعب أمواجه الرمال الذهبية. وقد وصف الطبيعة بأبدع الأوصاف فهو يقول:

 

والنهر كالديباجة الخضراء                                جعّدهـــا النسيـــــم

ينساب مثل اللوعة الخرساء                               في صدر الكريــــــم

                           ها أذان الشيخ في القبة يدوّي في الفضاء

                           والدعاء لله في الجامع والدير سواء

                           فصلاة الطير في الربوة والسفح غناء

                           وعبير الزهر بخور تعالى في الهواء 

                           لا يضير الله أن نعبده حيث نشاء

                            هيكل الله جبال وبحار وسماء

 

 والمرأة عند شاعرنا، هي الإطار الذي يتوج شخصيته كأم، وعشيقة، وزوجة. هي أنشودة الرجل، تهدهده بأنغامها طفلاً، وتراقصه فتى، وتغمره بعطفها شيخاً هرماً، فلا غرو أن يكون لها هذا الأثر الجميل في حياة شكرالله الجر وشعره، بل في حياة كل مبدع عرف فيها ذلك الجناح الثاني الذي يطير به. أو ذلك الملك الأبيض الذي أرسلته السماء لتضميد جراح الإنسانية الموغلة في مآسيها.

وفي نثـره كما في شعره، فإن شكرالله الجر فورة نفس ووثبة فكر وقوّة عصب. ففي كتابه "المنقار الأحمر" نهتز لبيانه الرائع الأخاذ. وقد تمكن شاعرنا من الآداب الفرنسية فتميز نتاجه عن نتاج زملائه، وشحت ثقته بهم حينما تحوّل مجراها نحو شعراء الغرب. إن شكرالله الجر رائد لبناني من روّاد التجديد في الشعر العربي.