في كل بيت

الشباب يصبون الى حرية القرار والإختيار
إعداد: ناديا متى فخري

بالصبر والتفهم والحكمة نتيح لهم الانطلاق الآمن

 

ليس خافياً أننا نواجه في مجتمعنا الأسري أزمة تفرض نفسها على واقعنا من دون استئذان، طارحة بعض الصعوبات في مجال العلاقة الأبوية البنيوية.. وهذه الصعوبات تطال الأهل والأبناء الذين بلغوا سنّ الشباب ويستعدون لمواجهة الحياة المستقبلية بكل ما فيها من تحديات ومسؤوليات. وهذه المشكلة تنطوي على مخاطر تُحدث شرخاً عميقاً في العلاقات العائلية.

نحن نعرف أن لكل عمر خصوصياته، وكل مرحلة حياتية تترك بصماتها في الشخصية، كما نعرف أن أي أزمة لا تأتي من فراغ، وأن لكل مشكلة حلاً، وكلنا مسؤولون عن أي مشكلة تعترض الشباب. فكيف نتصرّف وماذا نفعل؟

 

في حدود الواقع

تلعب الأسرة دوراً أساسياً في تشكيل شخصية الأبناء وصقلها بالتوجيه المثمر لتصبح مهيأة للتأقلم مع مواقف الحياة، فالتوجيه يهذب الميول والطباع وله تأثير إيجابي في مجال التكيّف العلائقي، فإما أن يساعد الشاب على التوافق مع المجتمع ومع نفسه، أو يدفعه الى الشعور بالضياع، والتطرّف وذلك يتوقف على الطرق التي يعتمدها الأهل في توجيه أولادهم، ووحدهم الأهل الأسوياء قادرون على خلق جيل سوي، مثابر، ملتزم، يتعامل مع الواقع بمنطق وعقلانية.

وإذا كانت السياسة التربوية المعتمدة في الأسر قائمة على أسس وثوابت درجنا عليها وتشكّل دفاعاً لضمان نشأة جيل مثالي، وتعطي الحق للآباء في الدفاع عن وجهات نظرهم كمربّين لديهم الخبرة والتجربة ومن واجبهم إعداد جيل إيجابي في سلوكه واختياراته ومشاركاته الاجتماعية والوطنية، فهي أيضاً أعطت الأبناء حق الدفاع عن وجودهم وأمنهم النفسي والاجتماعي، وثمّنت حقهم في التعبير عن آرائهم سلبية كانت أم إيجابية كي لا يكونوا ضحايا لدوافع مكبوتة في نفوسهم، فالإنسان من خلال تفاعلاته وخبراته الشخصية وتفاعلات الآخرين واستجاباتهم معه، يتعلّم كيف يزن الأمور جيداً، ويتحمس لتأسيس أرضية ثابتة يبدأ منها خطواته الأولى نحو المستقبل غير آبه للعقبات والمعوقات الروتينية التي تقف حائلاً بينه وبين تحقيق أهدافه، وبذلك يتمكن من الدخول الى المجتمع من بابه العريض.

مهمتنا كأهل أن نعلم أولادنا ألا يسمحوا لأي موقف مهما كان معقداً أن يتغلّب عليهم، وأن نغرس في نفوسهم القيم الأخلاقية والوطنية السليمة، لأن الأوطان لا تُبنى إلا على أكتاف أبنائها الصالحين.

 

احتياجات الشباب

إن سن الشباب هو سنّ اتخاذ القرارات المهمة، المتمحورة حول الدراسة، والمهنة والعلاقات الاجتماعية، وهو السنّ الذي يبدأ فيه الشاب بالتخطيط للمستقبل؛ ما هي خياراته، وما هي المهنة التي تتلاءم مع مستواه العلمي وقدراته وطموحاته المستقبلية؟ ما مدى استعداداته للانخراط في معترك الحياة الاجتماعية؟ وما هي المهارات التي يملكها وتتيح له تفجير طاقاته الإبداعية؟ وما هي الأنشطة التي يجد فيها ملاذاً يساعده في التحرر من عبء الأزمات التي تورثه الإرهاق والتوتر؟ وبتعبير آخر، يبحث الشاب عن محور يمهد له المجال للتفريغ الانفعالي ويُيسر له أمر تكييف نفسه مع الواقع.

إن انغماس الشباب في أنشطة ثقافية أو رياضية يُكسبهم صفاء النفس والذهن، وينمي لديهم قوة الملاحظة والتركيز، ويطوّر قدراتهم الفكرية، وبدلاً من أن يعيشوا أوقات فراغ مشحونة بالرتابة، يملأون وقتهم بالمفيد...

كما يحتاج الشباب الى الانفتاح على الثقافات المعاصرة، والى الشعور بالاستقرار والإطمئنان الى غدهم والثقة به، والى النظرة المتفائلة فيه، فالاستقرار والتفاؤل من الحوافز الرافدة للطاقة النفسية - المعنوية ومن أهم العناصر المحرّكة لنوازع السلوك السويّ؛ على نقيض التشاؤم واللاإستقرار اللذين يؤديان الى سوء التكيف العلائقي والسلوكي.

ويحتاج الشباب الى إشباع ميولهم وتطوير قدراتهم والى الشعور بالإنتماء واعتراف المجتمع واحترامه لهم.

يتسم عموماً سن الشباب بالعمق والحدة والحماس والإندفاع والطموح، فكل شاب يريد لنفسه الأفضل، ويطمح الى تحقيق أهدافه بصورة ترضي قناعاته الشخصية، بدون قلق أو قيود يشعر معها أنه أشبه بأسير لا يملك حريته، وهذا أكبر تحد له، فالحرية الشخصية تعني الكثير للشباب. فهي بالنسبة له الأفق الرحب الذي يدعم انطلاقته وفي ضوئه يبني شخصيته الاجتماعية بإرادة صلبة معتمداً على ثقته بنفسه وعلى إمكاناته الذاتية.

ولا جدل في أن الحرية هي حق من حقوق كل فرد, وإحساس الشاب بأنه يتمتع بحريته(حرية الاختيار وأخذ القرارات المصيرية، حرية التعبير عن الرأي، والمشاعر، وحرية المشاركة الموضوعية، واختيار المهنة والأصدقاء...) كل ذلك يجعله أكثر إحساساً بالمسؤولية؛ شرط ألا يفهم الحرية خطأ، وأن يحسب لكل خطوة حساباً.

إن ما سبق ذكره لا يمثل كل احتياجات شباب هذا العصر، فمرحلة الشباب لها احتياجاتها الصحية والتي تتمثل في التغذية السليمة وممارسة الرياضة والوقاية من التعرض للمرض؛ ولها أيضاً احتياجات نفسية تتمثل في الحماية من مواقف الفشل والإحباط والحرمان العاطفي والقسوة أو الإفراط في التدليل وترك الحبل على الغارب...

 

مشكلات الشباب

مشكلات الشباب كثيرة، منها: الإقتصادية والدراسية والعاطفية والنفسية.

إن أخطر الأزمات التي يواجهها المجتمع هي "أزمة البطالة"، وانعدام فرص العمل التي تمثل عصب الحياة الإقتصادية اليومية، وتكفل للفرد مستوى أفضل من المعيشة وتؤدي الى الرضا عن الذات وعن المجتمع...

فمشكلة البطالة هي أكثر المشكلات التي تجعل الشاب متوتراً، خائفاً من غده، فالعمل رسالة اجتماعية - إنسانية سامية وفيه خير ونفع ومصلحة عامة وخاصة، وفوق هذا كله ضرب من ضروب العلاج النفسي لمن يمارسه، إذ يقضي على أوقات الفراغ المملة، ويُشعر صاحبه بالقيمة والنفع بقدراته، وبأن له دوراً في المجتمع وعليه واجبات تجاهه. في المقابل فإن البطالة يصحبها عادة الشعور بالقلق والظلم والحرمان، وهذا الإحساس المحبط يُحدث اضطراباً في الصحة النفسية ويشجع على السلوك المضاد للمجتمع، ونقد النظم الاجتماعية، ويدفع الشاب الى التمرد والثورة ضد الأسرة والمجتمع.

الأزمة الأخرى تفرضها سياسة الرفض والمعارضة والتوجيه القاصر المشحون بالأوامر التي ينتهجها بعض الآباء في تعاملهم مع أولادهم، وتحرم الأبناء في هذه السن الحرجة من حرية التعبير والاعتماد على النفس والثقة بها، وتمنعهم من المباشرة في تنظيم أنفسهم وتحمل المسؤوليات من دون قلق أو توتر يسيطر على إرادتهم. ولعل أكثر ما يترك بصمات سيئة في الحياة النفسية للشاب هو ما يلقاه من صعوبة في التكيّف وسط بيئته ومجتمعه، فغالباً قد يصاب الشاب أو الشابة بخيبة أمل جراء معاملة الأهل. والإحساس بالخيبة يشجع الشباب على التمرّد والعصيان والإنسحاب من علاقة أسرية لا يجد فيها إشباعاً لاحتياجاته وتتداخل فيها الموانع التي تُشعره بالهزيمة؛ وحتى حياته الوجدانية تتأثر من التجارب الصادمة، ففي سن الشباب يبحث أولادنا عن المشاعر الدافئة، وعن علاقة أبوية حميمة يطمئن إليها وتحميه من الإحساس بسوء التوافق العلائقي - العائلي وتقدم له الدفع والمساندة الإنفعالية التي تساعده للتحكم في نفسه، وضبط أهوائه الطائشة؛ وعلى ذلك المفروض أن نتعامل مع مرحلة الشباب بمنتهى الهدوء والحكمة وأن نعامل أولادنا معاملة رحيمة مشحونة بالود وأن نتخذهم كأصدقاء، فذلك يقيهم خطورة التعرض للإنفعالات النفسية التي تهدد استقرارهم النفسي. فالصداقة بين الآباء والأبناء تمنع حدوث فجوة في بنية العلاقات العائلية، وتوجه الشاب توجيهاً منضبطاً ليختار قاعدة ثابتة يبني عليها كيانه المستقبلي بدلاً من التوجه نحو قنوات تعيث فيها تيارات فاسدة تتحرك بلا هدف فلا يعرف كيف يتجه ليتجنب المتاعب وخيبة الأمل.

 

العلاقة الأبوية - البنيوية

إن العقبات التي تتشكل عن العلاقات الأبوية وتقف حائلاً بين الشاب وبين تحقيق آماله وطموحاته، مردها الى افتقار الأبوين للنضج الكافي وعدم تمتعهم بالخبرة الواقية والوعي الصحيح لمسؤوليتهم، وإقدامهم على معاملة ابنهم الشاب أو ابنتهم الشابة، بأسلوب يتسم بالحدة والقسوة.

وإذا كان البعض يرى أن سن الشباب يحفل بالمشكلات، فلأنه يمثل مرحلة ميلاد جديد (ولادة نفسية، وجدانية وفكرية..) ومن شأن هذه المرحلة أن تتزامن معها صعوبات في التكيّف وفقاً للمتغيرات التي تفرض نفسها وترتبط ارتباطاً وثيقاً بها. لذلك نؤكد أن مرحلة الشباب تتطلب المزيد من التفهم والصبر والحكمة.

والمطلوب من الأهل في هذه المرحلة، مساعدة أولادهم على التكيّف مع الواقع والبيئة من دون أن يتعرضوا الى أي احباطات قد يصاحبها التشاؤم والضياع.

ليس منا من هو معصوم عن الخطأ، ولكن حين نخطئ كآباء نسيء الى مجتمعنا قبل أن نسيء الى نفسنا... وكثيراً ما نقع في أخطاء في أسلوب معاملتنا لأولادنا، فنحن نخطئ مثلاً حين ننتظر الطاعة العمياء من ابننا الشاب أو ابنتنا الشابة، كما لو كان أولادنا ما زالوا في سن الطفولة، ولا نراعي أنهم قد أصبحوا شباباً لديهم خصوصياتهم ومشاعرهم وشخصيتهم المستقلة، وأنهم في قرارة أنفسهم يطمحون الى مواجهة العالم بشخصيتهم المستقلة وخبرتهم.. وأن لهم أولوياتهم في ما يريدون وما لا يريدون.. وأن أي ضغوط يتعرضون لها قد تدفعهم الى التحدي...

إن سياسة الرفض والفرض التي يُقبل عليها الآباء تؤدي الى قيام حالة مرضية تشجع الشباب على التمسك بآرائهم لتكون بداية صراع بين الأهل والأبناء.

إن أهم خطوة يجب أن نقوم بها هي أن نكون أصدقاء لأولادنا، وألا نحاول التأثير عليهم ليحققوا أهدافاً ترضينا نحن ولا ترضيهم.. فنحن نخطئ حين نفرض عليهم الإلتحاق بتخصص علمي معين أو مزاولة مهنة محددة اخترناها لهم، ونصرّ على رغبتنا في احترام قرارنا.. فقد لا يكون اختيارنا متوائماً مع قدراتهم واستعداداتهم العلمية ولا حتى طموحاتهم.