رحلة في الإنسان

الشفاء بالأدوية الكاذبة
إعداد: غريس فرح

حقيقة يقرّها العلم الحديث

 

نسمع الكثير عن شفاء أمراض مستعصية بطرق يصعب فهمها، فيعزو البعض ذلك الى المعجزات، ويعتبره آخرون جزءاً من عمليات طبيعية يخضع خلالها الجسم لإمرة العقل، ويقوم بتصحيح أخطائه بنفسه. وخير دليل على ذلك، حالات الشفاء بالأدوية الكاذبة والعمليات الوهمية التي سجّلت مؤخراً، واعتبرها الطب برهاناً راسخاً على قوة الإيحاء الذهني، ودوره في المحافظة على الصحة ومحاربة الأمراض.
ما هو الجديد في هذا الشأن، والى أي حد يساعد الإيحاء الذهني في تفعيل قوة الأدوية، أو عدم الاستجابة لها؟


أهمية الطاقة الداخلية
منذ قرون، وفي غياب العقاقير الطبية الحديثة، كانت تحصل شفاءات بوسائل غير ذات صدقية علمية، ومنها الوصفات الشعبية القديمة، والممارسات الروحانية التي ترفع شعور توقّع الشفاء لدى المريض، وتساعده على تخطّي المرض. وفي عصرنا اليوم، وبالرغم من التقدم العلمي الهائل، نرى أن بعض الأطباء المعاصرين أصبحوا يولون أهمية كبرى لطاقات المريض الداخلية، ويستعينون بها من أجل تسريع علاجه. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة الى حدث طبي تناولته الصحف العلمية الأميركية منذ بعض الوقت، وتمثّل بشفاء أحد مرضى السرطان الميؤوس من علاجهم، بدواء غير ذي فعالية. وهو ما أعاد الإعتبار الى نظرية العلاج النفسي - الجسدي، وحتّم عدم الإستهانة بمشاعر المريض واعتقاداته.
الغريب في الموضوع، حسب تأكيد مجلة العلوم الأميركية والتي تطرّقت الى الحدث في حينه، أن الأطباء كانوا قد وصفوا الدواء المشار اليه، بناءً على رغبة المريض المشرف على الموت، خصوصاً وأنه كان قد آمن بمفعوله السحري على أثر سماعه بوجوده. وهنا حدثت المعجزة تحت أنظار الأطباء المصعوقين، إذ أشرف المريض على الشفاء وعاد الى ممارسة عمله. لكن لسوء حظه، نشرت الصحف لاحقاً خبر سحب دوائه الشافي من الأسواق لعدم فعاليته، الأمر الذي تسبب بعودة تفشّي مرضه، وموته.

 

ما هو رأي العلم؟
حسب ما أوردته مجلة العلوم الأميركية، فإن ما حدث مع هذا المريض يعتبر نموذجاً لعدد لا يحصى من حالات الشفاء الناجمة عن استجابة الجسم البشري لرسائل العقل. وما «استجابة الجسم للعقاقير الكاذبة» الذي يتم بحثه حالياً بعمق وتأنٍ شديدين سوى أحد أجزاء هذا اللغز المحيّر. وكما يؤكد العلم الحديث، فإن أسرار هذا اللغز تقبع في عقلنا الباطني الذي يستجيب لإشارات بيئية بالغة الدقة، وهي إشارات تجعله يتحسّس ويحرّك قوانا الكامنة، وفي مقدّمها صيدليتنا الداخلية.
فأجسامنا كما يؤكد العلم، تنتج أنواعاً من الكيميائيات الضرورية لمحاربة نسبة كبيرة من الأمراض. لذا، عندما يتأمن إفراز المناسب منها في أثناء الظروف المرضية الصعبة، يحصل ما نسميه اليوم «الشفاء الذاتي». لكن يبدو أن أجسامنا تتباطأ أحياناً في القيام بمهامها لأسباب متعددة، في مقدمها ضغوط الحياة، وتلوّث البيئة والطعام، وسواهما، ومن هنا حاجتها الى دعم إيحائي يؤمن تلقّي رسائل الدماغ والاستجابة لها. وقد يتمثّل هذا الدعم بمؤثرات خارجية تكون بمثابة دعوة مبطنة لإيقاظ صيدليتنا الداخلية التي سبق وأشرنا الى وجودها. وتكون إستجابة الجسم لهذه الدعوة الخطوة الأولى لسبر معنى رسالة الدماغ عبر العقل الباطني أو الإدراك اللاواعي.


ما الذي يحفّز الإستجابة؟
حسب تأكيد بعض الدراسات، فإن أطباء القرون الماضية كانوا أكثر إيماناً بقوة الإيحاء الذهني. وكما سبق وأشرنا، فإن معظمهم كان يستعين بوصفات شعبية لا تستند الى خلفية علمية لتسريع شفاء المرضى. والأهم أن الشفاء كان يحصل عموماً تحت تأثير الإيمان الأعمى بالطبيب والعلاج والقدرات الروحانية.
أما اليوم، ومع تزايد التعقيدات العصرية المرافقة لحياتنا اليومية، ومع الانفتاح الهائل على العلم، والنظر الى المرض والعلاج كحالة فيزيائية - كيميائية بحتة، فقد تغيّرت المحفّزات النفسية التي تتيح للمريض الإستجابة لنداء لاوعيه، وأصبحت تنحصر بالمحيط الطبي ودوره في مجال إيقاظ شعور توقّع الشفاء لدى المريض.
وهنا يشير الباحثون الى إحساس الإطمئنان الذي يثيره الجو الطبي العام، بدءاً بملابس الأطباء ونبرات أصواتهم الواثقة، وصولاً الى روائح الأدوية ووجود الأدوات الطبية المعقّمة في غرف الطوارئ والعمليات الجراحية. ولا يسقط من الحسبان الترويج لبعض العقاقير والأدوية المركبة والوصفات وبعض مشاهير الأطباء. وهي جميعها، كما تؤكد الدراسات، محفّزات عصرية لحال الإسترخاء الدماغي الذي يسبق توقّع الشفاء واستجابة الجسم له.


دور العقل الباطني وجهاز المناعة
هذا يعني أن بإمكان المحفّزات التي توقظ عمل العقل الباطني أن تعزّز جهاز المناعة. ومن هنا التشديد الطبي الحالي على العلاقة بين شعور «التوقّع» وفعل «التكيّف»، أي توقّع العقل الباطني للشفاء وتكيّف جهاز المناعة مع رسائله الإيحائية. وحسب تأكيد إحدى الدراسات التي نشرتها مؤخراً «مجلة العلوم الأميركية»، فإن عدداً من مشاهير الأطباء المعاصرين يستعينون حالياً بهذه النظرية لتسريع شفاء مرضاهم. وقد أشارت الدراسة الى عملية جراحية «وهمية» أجراها فريق من أطباء جامعة دينفر الأميركية بهدف تحسين أداء أحد مرضى الباركنسون. وعرف أن المريض المشار اليه قد تحسّن بعد العملية بنسبة فاقت تحسّن أحد زملائه ممن أجريت لهم عملية فعلية لزرع الخلايا العصبية. والأكثر غرابة، أن الباحثين الذين تابعوا حياة المريض المشار اليه، وبعده عدداً من مرضى الجراحات الوهمية، وجدوا أن هؤلاء يبدون تحسّناً من الناحيتين الفيزيولوجية والنفسية، يوازي التحسّن الذي يواكب حياة مرضى العمليات الفعلية. وعلى هذا الأساس تمّ الاستنتاج بأن أهمية العمليات الجراحية لا تكمن في نجاحها من الناحية التقنية فحسب، بل في مدى تقبّل المريض لها، واقتناعه بفعالية تأثيرها. فهذا الإقتناع بالذات هو الذي يعزّز شعور «التوقّع» وفعل «التكيّف»، وعلى هذا الأساس، تصبح رسالة الدماغ الآمرة بالشفاء، نافذة المفعول.
إن الأبحاث الطبية التي أجريت خلال السنوات الماضية في هذا المجال، كشفت النقاب عن عدة إنجازات طبية ارتبط معظمها بتأثير الأدوية الكاذبة والعمليات الجراحية الوهمية. وبناءً على ذلك، بدأ الأطباء المعاصرون يأخذون هذا المنحى بعين الاعتبار، ويخصصون له المزيد من الأبحاث والاختبارات العلمية. والى حين إنجلاء المزيد من المعلومات، فإن بعضاً منهم قد يتّخذ القرار بالتلاعب بمعطيات الوعي واللاوعي البشري بشكل يحقّق شفاء المرضى، من دون التسبّب بأذى المريض.