ضيف العدد

الصحافة الفنية بين الواقع والمنشود
إعداد: وجيه رضوان

أمضيتُ في الصحافة الفنية خمس سنوات كانت كافية لأن تغيّر مستقبلي تغييراً تاماً، ولأن تشكّل في حياتي حالة صعبة عانيت منها الكثير.
أتيت الى هذه المهنة بالمصادفة وأنا لم أزل بعد في السابعة عشر من عمري. شعرت يومها بأن حياتي قد تغيرت كلها، فانتقلت من الحلم بأن أكون مؤلفاً روائياً ومسرحياً وكاتباً في القصة القصيرة، الى صحافي فني لا يعطيه بعض الناس الأهمية والتقدير.
 فأنا لم أنتبه في بادئ الأمر الى ان الصحافة الفنية تشكل عملاً غير مألوف، خصوصاً وإن الوسط الفني اتُهم تاريخياً بالفساد وان الفن في بلادنا عملٌ غير أخلاقي وان الفنانين في عداد الساقطين إجتماعياً، فالممثل عندنا «مشخصاتي» والمؤلف الموسيقي «مزيكاتي» والممثل الكوميدي «مهرج» والفنانة امرأة غانية، الى آخر ما هنالك من صفات تلحق بهذا الفنان الذي يمثل عند الشعوب الأخرى رقيها وحضارتها.
وقد شعرت بصدمة عنيفة لدى اكتشافي هذا الواقع المر، فأنا مثلاً لم آتِ الى الصحافة الفنية من الملاهي وأماكن اللهو والمطاعم، بل جئت من مجلة الآداب التي أصدرها ورئس تحريرها الدكتور شربل ادريس، والتي شكلت دوراً نهضوياً قلَّ نظيره في العالم العربي فحملت رسالة الأدب الملتزم والفكر الوجودي، وأطلقت شعراء كباراً مثلوا حركة الشعر الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين أمثال نزار قباني، بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، صلاح عبدالصبور، احمد عبدالمعطي حجازي، نازك الملائكة، فدوى طوقان وخليل حاوي، اضافة الى النقاد الكبار وكُتاب القصة والرواية والمسرح.

 كذلك جئت من مجلة «الكاتب» المصرية التي كان يرأس تحريرها عميد الأدب العربي طه حسين الى مجلة «الأديب» اللبنانية الراقية التي أنشأها الأستاذ البير أديب، هذا فضلاً عن مئات الكتب في التاريخ والأدب والنقد والشعر والفلسفة والسياسة.
وحاولت طوال حياتي الصحافية التي تنقلت خلالها بين كبريات الصحف والمجلات، أن أسير بالصحافة الفنية الى الرقي معتمداً في ما أكتب على القيمة الفنية والمعنوية والإنسانية للفنان وليس على الغرائز الآنيّة العابرة ولا على الفضائح المسلية، كما حاولت أن أقدم نقداً جديداً في المضمون واللغة والأسلوب.

لكنني للأسف فشلت، لأن الصحافة يومذاك كانت تطلب أن أكون سمساراً وليس صحفياً ملتزماً، وأن أكون تاجر شهوات وغرائز وإثارة لا ناقِداً مثقفاً كان يريد أن يؤسس لثقافة فنية جديرة بالإحترام. لكنّ الهزيمة طاردتني، فلجأت الى العمل الإذاعي والتلفزيوني.
إن المطلوب هو اجراء تحول تاريخي في النظرة الإجتماعية للفنان، وهو ما حصل في أوروبا في القرن التاسع عشر خصوصاً بعد قيام الثورة الفرنسية بسنوات عدة.
ف«الفنان» الذي أعطته أوروبا حقوقه كإنسان مثقف يخدم الحضارة، جدير بالإحترام والتقدير، وقد حان الوقت لأن نرفع عنه النظرة القاسية والمؤلمة، ونرتفع بصحافتنا الفنية الى مقام يليق بعطاءات أهل الفن.