- En
- Fr
- عربي
من واقع الحياة
وسائل الوقاية وقدرات التكيّف
كثر في الوقت الراهن الدراسات التي تتناول ضغوط العمل، وتأثيراتها على الصحة والإنتاج والتواصل الإجتماعي. وباعتبار أن المؤسسات العسكرية عموماً هي واجهة التفاعل البشري والمهني والإجتماعي، والأمكنة الأكثر عرضة للضغوط المستجدة وغير المتوقعة، أبدى بعض هذه الدراسات إهتماماً واسعاً بتفاصيل ضغوط الحياة العسكرية، بدءاً بمسبّباتها وانعكاساتها على الأفراد، وصولاً الى تقييم سلبياتها وإيجابياتها، ووسائل التكيّف معها.
كيف يقيّم الإختصاصيون النفسيون حياة العسكريين، وأي أسس يعتمدون لتحويل ضغوط هذه الحياة لصالح التفاعل الوظيفي؟
الخوف من المجهول
في دراسة أعدّها أحد الضباط الفرنسيين في أثناء تخصّصه في جامعة السوربون الفرنسية، وتحديداً في مجال «تنمية الشخصية لتحمّل الألم والضغوط»، (Sophrologie)، تحليل للحياة العسكرية، وما يتخلّلها من أعباء تشوّش أفكار العناصر وتضعف قدراتهم على التحمّل. وتركّز الدراسة على الصراع اللاواعي الذي يعيشه العسكري من منطلق خوفه من المجهول، أو المستجدات الطارئة، وتعتبره المصدر الأساسي للضغوط في حياته المليئة بالمخاطر، كما أن الدراسة لا تسقط من الاعتبار تراكم الأعباء اليومية الروتينية المختلفة.
أهم مصادر الضغوط في الحياة العسكرية
إضافة الى الشعور الدائم بخطر الموت، والقلق من احتمال مواجهة أحداث غير متوقعة، تلحظ الدراسة خطورة ضغوط رتابة العمل، وتخص بالذكر خدمات الطوارئ. أما «الخطورة» التي تحيطها الدراسة بالإهتمام، فلا تنبع من الضغوط بحد ذاتها، بل من نقص إمكانات تكيّف الأفراد معها. وهو ما يتسبّب بردّات فعل سلبية تعرقل سير العمل وأهمها: الشعور بالملل والفراغ والإحباط، والميل الى الهروب من المسؤولية. وتدخل في الحسبان مشكلة التواصل البشري في ظل التراتبية الوظيفية، وما تسبّبه من صراعات داخلية خانقة.
ويبرز إدمان العمل كأحد أهم مصادر الضغوط في الحياة العسكرية لدوافع أهمها: حب الظهور والسعي وراء الكمال وارتقاء المناصب، إضافة الى الإحتفاظ بمستوى مرتفع وثابت لصورة الذات. وقد ينجم عن هذا التوجّه أعراض سريرية تتجلّى بالإرهاق الجسدي والعقلي والعاطفي، وهي أعراض تؤثر في سير العلاقات المهنية، وقد تفرغها من الطابع الإنساني. وتشكّل الظروف غير المتوقعة البالغة القسوة، وخصوصاً على جبهات القتال سبباً رئيساً ضاغطاً يخلّف في النفوس آثار صدمات تستدعي سرعة العلاج. وهذا يحصل عندما تطغى هذه الظروف على قدرات التكيّف، ويعجز التوجيه عن برمجة ردات الفعل الغرائزية في إطار الإيجابية والفكر العقلاني.
كيف تتم البرمجة في هذا الإطار؟
حسب ما أكّد أحد الأطباء النفسيين الفرنسيين المشاركين في «إدارة الضغوط» في الثكنات وخطوط المواجهة، فإن كلمة «ضغوط» أو «سترس» (Stress) قد خرجت مؤخراً عن المفهوم العلمي السويّ واتخذت مفهوماً خاطئاً، حمّلها الكثير من أوزار الإضطرابات النفسية المعاصرة. فالمغالون في وصف مساوئ الضغوط، لا يرون اليوم سوى سلبياتها، علماً أن هذه السلبيات لا ترتبط بها بقدر ارتباطها بعجز الأفراد عن رؤية إيجابياتها. وتسلط النظرية الضوء على «اليقظة الفورية» التي تفرزها الضغوط في الظروف الصعبة، وتعتبرها أحد أبرز العوامل الإيجابية المعتمدة لتدريب العناصر. وترسي النظرية ايضاً القواعد الرئيسة المقترحة لبرمجة العقول الشابة لتحمّل الضغوط، والتعامل معها كحوافز يومية منشّطة، تؤمن الشحن بروح التحدّي، وتجمع الشمل، وترسّخ المبادئ العسكرية.
ولإنجاح البرمجة المشار اليها، يقترح الإختصاصيون تضمينها لمسات من أرض الواقع. وعلى هذا الأساس، يولون أهمية بالغة لإشراك الأفراد المعانين الضغوط في وضع التقارير والنظريات المستمدة من تجاربهم الشخصية. وهو ما يتيح الإستفادة منها في وضع أسس التدريب، وخصوصاً بعد إخضاعها للتحليل، ومقارنتها بالنماذج التجريبية لعلم النفس العيادي.
من جهة ثانية تولي الدراسات في هذا الحقل أهمية بالغة للتدقيق بمصادر الضغوط والتعرّف على تفاعل الأفراد معها، كل بحسب طاقاته، الأمر الذي يسهم في تحديد آليات التأقلم وفق متطلبات الواقع. ولتحقيق ذلك، تسلّط الأضواء على تداعيات الضغوط لدرس مضمونها، وتدريب الأفراد على التكيّف معها.
تداعيات الضغوط وأساليب التكيّف
حسب الإختصاصيين النفسيين، فإن تداعيات الضغوط قد تتمثّل عموماً بأعراض سريرية واضحة ومختلفة، منها البيولوجي، ومنها العاطفي.
على المستوى البيولوجي، قد تتسارع دقات القلب وتتشنّج العضلات وتتضخّم. أما على المستوى العاطفي، فقد يحصل إنصعاق تام، أو تعطّل مفاجئ للوظائف الحركيّة. وهنا يجدر بالإشارة أن «التنبّّه الفوري» الذي يدرجه الأطباء النفسيون في إطار المؤثرات الإيجابية، قد يتّخذ إتجاهاً معاكساً، ويتحوّل الى مشكلة بالغة الخطورة.
فعندما يتعرّض الإنسان لخطر ما، من الطبيعي أن يواجهه باليقظة والحذر. لكن عنف الصدمة قد يوجّه هذه اليقظة نحو مصدر الخطر بشكل سريع ومبالغ فيه. وبمعنى آخر فهو قد يتسبّب بتضخيم رؤية الدماغ لتداعيات الموقف، ويحدث بالتالي ردّات فعل غير عقلانية تتمثّل بالهيجان المفاجئ وفقدان السيطرة على النفس. ولا ينسى الإختصاصيون ردّة فعل الهروب نتيجة الخوف، وهي ردّة فعل بالغة الخطورة كونها معدية، وقد تطاول الفرقة العملانية بأفرادها كافة.
لتفعيل عملية التكيّف مع الضغوط، يعمل الإختصاصيون على خفض التأثيرات السلبية المشار اليها بطرق أهمها:
• تعبئة طاقات العسكريين الذهنية، وفي مقدّمها محتوى «الذاكرة الفورية»، و«مخزون الذاكرة».
• تحفيز الإدراك بهدف تفعيل الفكر العقلاني.
• تفعيل السلوك الإجتماعي المتكيّف. وفي هذا السياق تشديد على بناء السلوك العلائقي، لأن تكامل العلاقة مع الغير يساعد على التكيّف ومواجهة الظروف الضاغطة.
• التركيز على التنشئة المسلكية التي ترسي مفاهيم التعاون والتعاضد، الأمر الذي يؤمن الإلتفاف حول القائد من منطلق الإيمان بالعقيدة، وعملاً بوحي ردّات الفعل العملانية المبرمجة.
• أهمية الإستماع الى الأفراد المعانين من الضغوط، بهدف إيجاد تنشئة دائمة ومتابعة نفسية للعسكريين الأكثر عرضة للمخاطر.
• التدريب على الإمساك بالقرار وإرساء التوازن بين التهوّر والتردّد. فالمبالغة في التهوّر يضعف التأقلم مع الموقف, أما التردّد، أو البطء في اتخاذ القرار فقد يتسبّب بفقدان السيطرة على التأثيرات غير المستحبة، أو تغييرها لصالح المهام المطلوبة.
إنطلاقاً من هذه المبادئ، تجري في الوقت الحاضر دراسات حول «إدارة الضغوط» في المؤسسات العسكرية الأوروبية وسواها، وذلك من خلال وسائل عملية وقادرة على تقديم المساعدة الفورية للمحتاجين اليها من العسكريين. وبهذا يتمكّن المسؤولون العسكريون من السيطرة على تداعيات الأحوال الضاغطة، ومن إرساء التوازن بين سلبياتها وإيجابياتها، وهو ما يحوّل هذه التداعيات الى مؤثرات منبّهة بردات الفعل العقلانية، ومحفّزة لاتخاذ أصعب القرارات وأكثرها صوابية في أحلك الظروف.