قضايا إقليمية

العدو الإسرائيلي وإعادة تشكيل الشرق الأوسط
إعداد: إحسان مرتضى
كاتب وباحث في الشؤون الإسرائيلية

لم يفارق مصطلح ”الشرق الأوسط الجديد“ القائم على تصفية القضية الفلسطينية والتطبيع والسيطرة الإسرائيلية، مخيّلة القادة الصهاينة قط. ففي العام 1992 ، أي قبل أوسلو بعام، نشر شمعون بيريس الذي كان يومها وزيرًا للخارجية الإسرائيلية، كتابًا بعنوان ”الشرق الأوسط الجديد“، حلم فيه بسلامٍ رسمي بين ”إسرائيل“ ودول المنطقة العربية، بعد إحراز تقدم في موضوع المفاوضات مع الفلسطينيين. وتخيّل بيريس شرق أوسط جديدًا تقوده ”إسرائيل“ قائلًا: ”لقد جرّب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجرّبوا قيادة إسرائيل إذًا“...

 

في غضون ما سُمّي «حرب لبنان الثانية» أي حرب تموز 2006، برز مصطلح الشرق الأوسط الجديد بقوة، إذ وصفت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس العنف الحاصل بأنّه جزء من «آلام ولادة شرق أوسط جديد». واليوم، بعد مرور 18 عامًا، تسعى السياسة التوسعية لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو، لإعادة تشكيل صورة جديدة للشرق الأوسط تتناسب مع أحلامه وأحلام الطغمة المتعاونة معه بالتوسع والسيطرة الجيوستراتيجية الكاملة على المنطقة. وفي ظل هذه المخطّطات سيظل الشرق الأوسط عرضة للخضّات الجيوسياسية والتوجهات الطموحة.

 

خرائط جديدة

تحارب «إسرائيل» منذ أكثر من عام على عدة جبهات في آنٍ واحد، شملت لبنان وغزة والضفة الغربية واليمن والعراق وسوريا، فضلًا عن استهداف قيادات ومواقع عسكرية إيرانية. وقد ترددت عبارة «رسم شرق أوسط جديد» مؤخرًا على ألسنة عديد من المسؤولين الإسرائيليين أبرزهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وإعادة ترتيب موازين القوى ورسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة ليس هدفًا إسرائيليًا جديدًا، ولكن ثمة من يرى من كبار المسؤولين الإسرائيليين أنّه «بات أقرب للتطبيق من أي وقت مضى». وقد تكرّر مشهد ظهور مسؤولين إسرائيليين وهم يحملون خرائط جديدة موسّعة لـ«إسرائيل» في محافل دولية، واللافت أنّ هذه الخرائط جميعها تضمّ الضفة الغربية ومناطق من لبنان وسوريا وتخلو من أي إشارة لدولةٍ أو أراضٍ فلسطينية. وتثير الأصوات المتطرفة داخل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ «إسرائيل»، مثل سموتريتش وبن غفير، مخاوف ممّا يسميه البعض «التطلّعات التوسعية نحو ما يُعرف بإسرائيل الكبرى». وفي السياق، حذّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له مما سماه «الطموحات التوسعية الإسرائيلية»، وقال «سيطمعون في أراضي وطننا بين دجلة والفرات ويعلنون صراحةً من خلال خرائط يلتقطون الصور أمامها، أنهم لن يكتفوا بغزة». ولا تخفي «إسرائيل» نواياها بشأن تمديد مشروعها الاستيطاني في المرحلة الراهنة، بخاصة في الضفة الغربية، وهي أعلنت وبشكل صريح عن نيتها مضاعفة عدد المستوطنين هناك إلى مليون، رغم ما يلقاه ذلك من انتقادات عربية ودولية.

 

استراتيجية التدمير والتهجير

في أعقاب هجوم السابع من تشرين الأول 2023، حوّل نتنياهو غزة إلى أنقاض، وشرّد سكانها وقصفهم وجوّعهم وحرمهم أبسط حقوقهم الإنسانية، ثم انتقل شمالًا إلى الحرب الطاحنة، وقصف ميناء الحديدة لمعاقبة الحوثيين وضرب مواقع متفرّقة في سوريا. وفي غضون النجاحات التكتيكية التي حقّقها في لبنان وفلسطين لم يسمح لأحد أن ينسى أنّ هدفه الأول هو ضمّ الضفة الغربية، حيث تضاعفت عمليات الاغتيال وتدمير قرى بأكملها ومصادرة الأراضي، تمهيدًا لضم كامل يشمل ترحيل ملايين الفلسطينيين إلى شرق نهر الأردن ومناطق أخرى، كما أعلن عن رغبته بإقامة دولة دينية يهودية خالصة تمتد من العراق إلى مصر.

 

في المقابل، يشير التصعيد الإسرائيلي للعدوان في قطاع غزة وجنوب لبنان وبقاعه والضاحية الجنوبية لبيروت، بأنّ بنك الأهداف العسكرية بات يتضمن أهدافًا عشوائية تشمل بشكلٍ أساسي التدمير والتهجير والخلط الديموغرافي وزرع الفتن. ومعلوم أنّ العدو الإسرائيلي قد اعتاد عندما ينفد بنك أهدافه العسكرية أن يلجأ لتنفيذ استهدافات تدميرية لتسهيل تنفيذ مخططَين: الأول هو مخطط تدمير القرى الحدودية، وهذا الأمر مرتبط بحرق هذه الأرض وجعل الحياة فيها صعبة بهدف استثمارها في المفاوضات من جهة، ولكي يعلن من خلالها عن تحقيق إنجاز يجعل المستوطنين يتشجعون على العودة إلى مستوطنات الشمال من جهة أخرى. والمخطط الثاني، يهدف إلى استثمار الضغط الحاصل في المفاوضات، عبر رفع كلفة إعادة الإعمار إلى أقصى الدرجات، وإطالة أمد النزوح الذي تحوّل إلى ملف شائك وبالغ الصعوبة. والعدو قسّم جنوب لبنان إلى «مربعات»، لاستنزاف بيئة المقاومة والسعي لإنشاء منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي اللبنانية. وفي ظلّ هذه المعمعة تصاعَد الكلام عن مخطط تهجيري وعن تغيير ديموغرافي وعن افتعال مشكلات مذهبية وطائفية في الداخل اللبناني وصولًا إلى فتنة الحرب الأهلية، لأنّ الحرب البرية والجوية وحدَها لم تساعده على إحراز ما يسميه «النصر الحاسم». وتدمير البيئة الحاضنة للمقاومة لا ينحصر بإبعاد الصواريخ عن مستوطنات الشمال الإسرائيلية والسماح لسكانها بالعودة إليها، بل هو في عمقه تغيير للخريطة الديموغرافية والجيوسياسية اللبنانية وإضفاء مزيدٍ من الهشاشة والاضطراب عليها لآجال بعيدة، لا سيّما أنّ العدو يعتبر الأنموذج اللبناني نقيضًا لأحاديّـته وعنصريته وتهديدًا لوجوده. في ضوء ذلك ظهرت «إسرائيل»، بسبب وحشيتها المفرطة على أنّها عبء سياسي وأمني ومالي وأخلاقي على الدول الغربية، وعلى اليهود في مجتمعات تلك الدول. أما الوجه الآخر لجبروتها هذا، فيكمن في استحالة تمكّنها من تطبيع وجودها في المنطقة، وهي خسرت أيضًا مكانتها كملاذٍ آمن ليهود العالم، وباتت قطاعات من يهود الدول الغربية تدين سياساتها وترفض الربط بين معاداة السامية ومعاداتها. وإذا كانت غير قادرة على التصالح مع الفلسطينيين حتى من مواطنيها في أراضي 1948، فإنّها من باب أَولى غير قابلة للتطبيع مع محيطها العربي، ولا التطبيع حتى مع ذاتها مع التناقضات الكامنة فيها، بين الشرقيين والغربيين، والمتدينين والعلمانيين.

 

في الخلاصة، ثمّة خطّ سياسي متطرف وقوي جدًا في «إسرائيل» يدعو في المرحلة الحالية من الصراع، لأولوية تعويض عمقها الاستراتيجي باحتلال مساحات جديدة من أراضي دول عربية أولها فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، أو تغيير النظام فيها. ومفهوم «العمق الاستراتيجي الحيوي» كما كان يقول هتلر، هو من أهم المفاهيم المتحكّمة بالنظريات الأمنية الإسرائيلية المعاصرة. والنصر الاستراتيجي للعدو في هذا المجال هو النجاح في شَلّ قدرات كل من يتصدّى لمشروعه وتفكيك قواه وعزله سياسيًا واجتماعيًا وخلق أمر واقع طويل الأمد لغير مصلحته، واستغلال هذه الفترة لتصفيته على مراحل متلاحقة. أما النصر الاستراتيجي على العدو الإسرائيلي، فيتمثّل في الاحتفاظ بالقوة والقدرة على التصدي لتهديداته وإفشال مخططاته الإجرامية التوسعية.