- En
- Fr
- عربي
نحن والقانون
العربون (Arrhes) هو عبارة عن مبلغ من المال يدفع عند الاتفاق على عقد بيع أو غيره، على أن يحسب في ما بعد من أصل الثمن عند ابرام العقد، أو يبقى في ذمة البائع ولا يرد إلى من دفعه في حال عدم الوصول إلى اتفاق نهائي.
ولا يعتبر العربون ابتكاراً قانونياً جديداً، إذ عرفته شرائع قديمة، مثل التشريعات البابلية والمصرية القديمة والرومانية، وتطور مفهومه مع التطور الذي رافق الفكر القانوني بشكل عام. فقد جرى استعماله في الشريعة البابلية في عقدي العمل والزواج، حيث كان على الأجير الذي يقبض من صاحب الأرض جزءاً من أجرته لحصد محصوله أن يرد عشرة أمثال ما قبضه إذا لم ينجز العمل. وكذلك فرضت شريعة حمورابي على الخاطب الذي يعدل عن الزواج بأن يفقد ما دفعه من مال إلى والد خطيبته، أما إذا كان العادل هو والد الخطيبة فعليه أن يرد إلى الخاطب ضعف ما قبضه. كما جرى ذكر العربون في كتاب السياسة لأرسطو كأقدم نص يوناني على استعمال العربون في عقد الإيجار. وقد استقت التشريعات الحديثة فكرة العربون من التشريعات القديمة، كما هي الحال في القانون الفرنسي إذ نصت المادة 1590 من القانون المدني على أنه إذا جاء الوعد بالبيع مصحوباً بعربون، يحق لكل من المتعاقدين العدول عن العقد، فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه رده مضاعفاً.
وكذلك نصت المادة 103 من القانون المدني المصري على أن دفع العربون وقت ابرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك، فإذا عدل من دفع العربون فقده وإذا عدل من قبضه ردّ ضعفه ولو لم يترتب على العدول أي ضرر. وهكذا في المادة 104 من القانون المدني السوري، والمادة 107 من القانون المدني الأردني، والمادة 92 من القانون المدني العراقي، وغيرها...
أما المشترع اللبناني، فلم يتناول العربون ولم ينظمه بنص خاص. إلا أن كثيراً من المتعاقدين في لبنان يلجأون إلى اعتماد نظام العربون في تعاقدهم. فعدم وجود نصوص قانونية خاصة بالعربون لا يمنع استعماله استناداً إلى مبدأ حرية التعاقد، فللأفراد أن يرتبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون شرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة إلزامية (م 166 موجبات وعقود).
وقد اعتبر الفقهاء والقضاء اللبنانيان أن اللجوء إلى اعتماد نظام العربون جائز في القانون اللبناني استناداً إلى مبدأ حرية التعاقد، سواء في عقود البيع أو الايجار أو غيرها... غير أن المشترع اللبناني تناول خيار العدول بصفة عامة في المادة 84 من قانون الموجبات والعقود التي نصت على أنه يكون الموجب باطلاً إذا جعل وجوده موقوفاً على إرادة الموجب عليه وحدها (وهو الشرط الإرادي المحض). غير أنه يحق للفريقين أو احدهما أن يحتفظ لنفسه بحق التصريح في مهلة معينة بأنه يريد البقاء على العقد أو فسخه. وهذا التحفظ لا يجوز اشتراطه في الاعتراف بالدين ولا في الهبة ولا في إسقاط الدين ولا في بيع السلع.
المفهوم القانوني للعربون
اختلف الفقه والاجتهاد حول تحديد المفهوم القانوني للعربون، فمنهم من اعتبر أن العربون يفيد احتفاظ الطرفين بحق العدول عن العقد (عربون العدول)، واعتبر البعض الآخر أنه يفيد تأكيد التعاقد، أي أن العقد أصبح باتاً لا رجوع عنه (عربون البتات).
واعتبر بعض الفقهاء أن العربون يشكل ضمانة لجدية إرادة الشراء، فلا يجمد الشيء المنوي بيعه من دون مقابل، فيفوّت هذا التجميد فرصة بيعه في أثناء المهلة التي أخذها الشاري المحتمل. فإذا لم يتم الشراء كان العربون بمثابة تعويض عن مرحلة التجميد التي حصلت، ولا يشترط في استيفاء العربون لدى البائع أن يكون قد حصل ضرر له في إعراض الشاري المحتمل عن الشراء.
مدة استعمال حق العدول في العربون
معظم القوانين الذي تناول حق العدول في العربون لم يحدّد المدة التي يمكن خلالها لأحد المتعاقدين أن يستعمل حقه في العدول، إذ أن ممارسة هذا الحق يجب أن تكون ضمن المدة المحدّدة قانوناً أو ضمن المدة المتفق عليها. فإذا حدّد المتعاقدان مدة معينة، ينتهي خيار العدول بانتهاء هذه المدة أو بتنفيذ العقد وتظهر الاشكالية هنا عند عدم تحديد هذه المدة لا قانوناً ولا اتفاقاً، خصوصاً أن القانون اللبناني لم يتناول العربون ولم يضع نظاماً خاصاً لممارسته.
ويبرز هنا دور القضاء في تحديد هذه المدة بالاستناد إلى العرف السائد. وقد اعتبر بعض الفقهاء الفرنسيين أنه إذا لم يكن هناك مدة محدّدة لاستعمال حق العدول في العربون يعود للمستفيد أن يمارس هذا الحق دائماً حتى تنفيذ العقد ما لم يعلن تنازله عنه، إلا أن فريقاً آخر اعتبر أن مدة حق العدول في الوعد بالبيع المصحوب بعربون هي خمس سنوات كحد أقصى.
ويجدر بالإشارة أن المادة 85 من قانون الموجبات والعقود اللبناني نصت على أنه إذا لم تعين مهلة تصريح المتعاقد للتمسك بالعقد أو فسخه، فكل فريق يمكنه أن يوجب على الفريق الآخر التصريح بقراره في مهلة كافية. وإذا انقضت هذه المهلة ولم يصرح ذلك الفريق برغبته في فسخ العقد أصبح العقد نهائياً من تاريخ انعقاده. وإذا صرح الفريق الآخر بشكل جلي عن رغبته في فسخ العقد، اعتبر الاتفاق كأنه لم يكن.
كما نصت المادة 86 موجبات وعقود على أنه إذا توفي قبل انقضاء المهلة الفريق الذي احتفظ لنفسه بحق الفسخ ولم يكن قد أفصح عن مشيئته، كان لورثته الحق في إبقاء العقد أو فسخه في المدة التي كانت باقية لمورثهم. وإذا اختلف الورثة فالذين يريدون البقاء على العقد لا يمكنهم إجبار الآخرين على قبوله ولكن لهم أن يتخذوا العقد كله لحسابهم الخاص.
أما إذا كان المتعاقد الذي له الخيار قد فَقَدَ أهليته، فيعود للمحكمة بناء على طلب الفريق الآخر أو غيره من ذوي العلاقة تعيين وصي خاص لهذا الغرض، فيقرر بترخيص من المحكمة ما إذا كان هناك محل لقبول العقد أو لفسخه حسبما تقتضيه مصلحة فاقد الأهلية. أما في حالة الافلاس فيتولى الوصاية حتماً وكيل التفليسة أو غيره من ممثلي جماعة الدائنين (م 87 موجبات وعقود).
تمييز العربون عن البند الجزائي
تعرّض المشترع اللبناني للبند الجزائي ضمن القواعد العامة في المادتين 266 و267 موجبات وعقود، حيث أجاز للمتعاقدين أن يعينوا مقدماً، في العقد أو في صك لاحق، قيمة بدل العطل والضرر في حال تخلف المدين عن تنفيذ موجباته كلها أو بعضها. وقد وضع البند الجزائي لتعويض الدائن عن الأضرار التي تلحق به من جراء عدم التنفيذ. ولا يحق له ان يطالب بالأصل والغرامة معاً، إلا إذا كان البند الجزائي قد وضع لمجرد التأخير أو على سبيل إكراه المدين على الإيفاء. ويحق للقاضي أن يخفض غرامة الاكراه إذا وجدها فاحشة، وله أيضاً أن ينقص البدل في البند الجزائي إذا كان قد نفذ قسماً من الموجب الاصلي. كما يعتبر البند الجزائي صحيحاً ومعمولاً به وان كان موازياً في الواقع لبند نافٍ للتبعة. وإنما تستثنى حالة الخداع الذي يرتكبه المدين.
واعتبر الفقهاء أن البند الجزائي تعويض من نوع خاص عن عدم التنفيذ العقدي، ويعتبر كتحديد اتفاقي معين مسبقاً وبشكل مقطوع بين الفريقين للتعويضات التي تستحق للدائن في حال عدم التنفيذ أو التأخير في التنفيذ، وقد تعددت النظريات لتحديد طبيعة البند الجزائي تعويضاً عن ضرر حقيقي أو متصور أو مجرد عقوبة تهديدية، وهو يحتمل مبررين كتعويض جزائي ووسيلة رادعة لتنفيذ العقد اكراهاً، وأن القصد منه حمل المتعاقد على تنفيذ التزاماته وإلا حكم به لتعويض الطرف المتضرر.
وبذلك، يتميّز العربون عن البند الجزائي من عدة جوانب، أهمها:
1- العربون هو مال يدفع عند التعاقد، ويكون ضماناً لتنفيذ العقد، ومقابلاً للعدول في حال ممارسته. أما البند الجزائي فهو يدون في العقد ليكون جزاء الاخلال بتنفيذه، ولا يدفع إلا عند الاخلال بالموجبات العقدية المتفق عليها.
2- العربون هو مقابل لحق العدول عن العقد، ولا تشكل ممارسته خطأ موجباً للتعويض. أما البند الجزائي فهو تقدير اتفاقي على التعويض الذي يلحق بالطرف الأخر عند عدم تنفيذ العقد.
3- ان العربون يستحق بمجرد ممارسة حق العدول من دون النظر فيما إذا وقع ضرر أم لم يقع، فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه وجب عليه رد ضعفه ولو لم يرتب العدول أي ضرر. أما البند الجزائي فهو مقابل للضرر الناتج عن عدم تنفيذ العقد أو عن التأخير في تنفيذه، فإن لم يقع ضرر لا يستحق البند الجزائي ما لم يتفق الفرقاء على خلاف ذلك بإعتبار مجرد عدم التنفيذ أو التأخير يشكل ضرراً بحد ذاته.
4- لا يجــوز للقضـاء تخـفيـض قيمـة العـربـون أو زيادته، سواء أكان الضــرر الذي أصـاب المتعـاقـد الآخر من جراء العدول موازياً للعربون أو غير مناســب. أما في البند الجزائي، فيعـود للقضـاء تخفيضـه إذا وجـده فاحشـاً، ولـه أيضـاً ان ينقـص البـدل في البنـد الجـزائي إذا كـان قد نفّذ قسماً من الموجب الأصلي.
وتقتضي الإشارة إلى أنه على الرغم من كل هذا الاختلاف بين العربون والبند الجزائي، فقد يخلط المتعاقدان بينهما، مما يقتضي تفسير نية المتعاقدين التي تبلورت في العقد لتحديد ما إذا كانت نيتهما قد اتجهت إلى الاتفاق على العربون وحق العدول أم على البند الجزائي، إذ يبقى لكل منهما صفته الخاصة. ويكون ذلك من خلال تبيان مدى تكريس حق أحد المتعاقدين، بالعدول عن العقد بنص واضح وصريح الذي يدل على نظام العربون، أم من خلال اتفاقهما على تحديد التعويض الناجم عن عدم تنفيذ العقد الذي يدل على نظام البند الجزائي.
الآثار القانونية للعربون
يعطي العقد بعربون لأطرافه حق العدول عن هذا العقد خلال المهلة المتفق عليها. فإذا مارس أحد الأطراف حقه في العدول فإن العقد يحل بأثر رجعي وكأنه لم يكن. ولا يثير هذا الحل أية مشكلة إذا لم يكن قد بوشر بالتنفيذ. أما إذا كان العقد قد دخل حيّز التنفيذ، كالعقد المتتابع التنفيذ فيجب أن يعاد الحال إلى ما كانت عليه على قدر المستطاع أو يتم التعويض لما جرى تنفيذه حتى لا يثرى أحد على حساب غيره.
كذلك، إن ممارسة حق العدول تختلف باختلاف الشخص الذي مارس حق العدول. فإذا كان هذا العدول من قبل من دفع العربون فهو يفقد العربون المدفوع منه ويبقى في ذمة الطرف الآخر بإعتباره ثمناً للعدول من دون أي تعويض إضافي، ما لم يكن هناك تعسف باستعمال حقه (م 124 موجبات وعقود). كما قد يتوجب على من قبض العربون إرجاعه عندما يكون تصرفه الخاطئ هو الذي دفع الطرف الآخر إلى ممارسة العدول، كالعدول الناتج عن العيوب التي اخفاها البائع أو تمنع هذا الأخير عن تنفيذ موجباته المتفق عليها في عقد البيع.
أما إذا مارس العدول الشخص الذي قبض العربون، فعليه إعادة المبلغ الذي قبضه إضافة إلى مبلغ مساوٍ له كثمن لعدوله، أي يتوجب عليه دفع ضعف قيمة العربون للطرف الآخر، ما لم يكن هناك تعسف في استعمال حقه في العدول، فيتوجب عليه دفع مبلغ إضافي كتعويض عن التعسف باستعمال الحق.
كما ان عدم ممارسة حق العدول خلال المدة المتفق عليها، أو التنازل عن هذا الحق، يجعل العقد باتاً، وتصبح الالتزامات الناتجة عنه واجبة التطبيق والتنفيذ، وكل امتناع يشكل خطأ عقدياً مرتباً للمسؤولية العقدية والتعويض عن الضرر الواقع بالطرف الآخر. إضافة إلى وجوب إرجاع مبلغ العربون إلى من دفعه. ويجري عملياً اعتبار المبلغ المدفوع كعربون جزءاً من الثمن الواجب دفعه كدفعة على الحساب. أما إذا أصبح التنفيذ مستحيلاً، فيقتضي إعادة مبلغ العربون إلى من دفعه لانتفاء سببه القانوني.
المراجع
1- د. مصطفى العوجي: القانون المدني، الجزء الأول، العقد مع مقدمة في الموجبات المدنية، مؤسسة بحسون، بيروت، 1995، ص550.
2- د. عبد السلام الترمانيني: أحكام العربون في الشريعة والقانون، بحث منشور في مجلة الحقوق والشريعة، جامعة الكويت، ع1984.1. ص50.
3- أرسطو: كتاب السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، دار الكتب المصرية، 1947، ص 119.
4- F.Terré, Ph.Simler et Y Lequette: Droit Civil, Les Obligations, précis Dalloz, Paris, 1993, p.351.
5- محكمة التمييز المدنية، غ1، قرار رقم 3/83، تاريخ 19/5/1983، حاتم، ج182، ص 377، وحمورابي 37821، وتمييز رقم 26/91، تاريخ 6/8/1991، مجلة العدل، 1998، ع1، ص32، تعليق المحامي الياس أبو عيد. وبداية لبنان الجنوبي، غ2، رقم 17/97، تاريخ 17/2/1997، ن. ق، 1997، ع6، ص 626، وحمورابي 20139، بداية البقاع، أساس 825، تاريخ 24/11/1988، ن، ق، 1988، ع11، ص 1232، وحمورابي 34797، وغيرها...
6- الأستاذة سمر اسماعيل: العربون في العقود، رسالة ماجستير، الجامعة اللبنانية - كلية الحقوق - الفرع الاول، بيروت 1999 - 2000، ص7.
7- د. عبد الحي حجازي: النظرية العامة للالتزام وفقاً للقانون الكويتي، ج1، مطبوعات جامعة الكويت، 1982، ص450.
8 -Dalloz Répertoire, 1er janv.1984, Arrches, Receuil, V. vente, no11, p2.
9- George Hubrecht et Aric Agostini: Notions Essentielles de Droit Civil, 13 ed, 1983, p.196, no.2.
10- د. سامي منصور: نظرية الجمع بين إلغاء العقد وتنفيذ البند الجزائي، دراسة منشورة في مجلة العدل، 1982، قسم الدراسات القانونية، ص1 وما يليها.
11- العقيد طلال المهتار: البند الجزائي في القانون المدني، أطروحة دكتوراه في الجامعة اللبنانية، 1974، ص47.
12- د. جورج سيوفي: النظرية العامة للموجبات، ج2، ص142.
13 -Mousseron in Et. Dr. Lib. (proche Orient), 1969, no1, p.93.
14- El Mokhtar Bey: note sous Amiens, 23nov. 1976, J.C.P, 1977-II-18567.
15- Boccara: note sous com. civ, 5 mars 1970, J.C.P. 1971-II-16581.
16- د. عاطف النقيب: نظرية العقد، منشورات عويدات، بيروت، 1988، ص444.