رحلة في للانسان

العسكري في الحرب وحاجته إلى الدعم النفسي
إعداد: غريس فرح

مهما تعدّدت الأدوار التي يؤديها الإنسان في الحياة الشخصية والمهنية، يبقى العامل النفسي هو المحرّك الأساسي لنجاحها أو فشلها، الأمر الذي يترك أثره على الأهداف المعلّقة على هذه الأدوار. هذه النظرية التي تأخذ بها اليوم المؤسسات التي ترتكز أهدافها على صحة أفرادها النفسية، كان لها منذ قرون النصيب الأكبر في المؤسسات العسكرية التي تولي حالة الأفراد النفسية أهمية بالغة، وتعمل باستمرار على رفع معنوياتهم. فالعسكري طاقة متّقدة بمعنويات يشعلها الاستعداد الدائم للدفاع عن الأرض وحماية حدود الوطن. فالدم يهون، وتسهل التضحيات، ولا خوف أو يأس أو تراجع أمام المصاعب والصدمات والحروب النفسية التي يشنها العدو لتضليله أو النيل من صموده وتفكيره الإيجابي.
لكن كيف تتم المحافظة على إتقاد هذه المعنويات في أثناء المعارك وما قد تتضمنه من مفاجآت؟

 

تقنيات الحماية

تنبّهت الجيوش العالمية الحديثة إلى ما قد يواجه المقاتلين في المعارك من صدمات نفسية لها آثار الجروح والإعاقات الجسدية نفسها أو أكثر، فوضعت الدراسات وألحقتها بخطط عملانية لمواكبة الفرق المقاتلة بهدف الإبقاء على سلامة صحة الأفراد النفسية ومعنوياتهم المرتفعة. وقد وردت معلومات تضمنت بعض أهم هذه الخطط في دراسات لكتّاب عالميين زاروا أرض المعارك في غير مكان، واطّلعوا على كيفية تطبيق تقنيات الحماية النفسية العملية والسريعة.

من البديهي القول إن الأجيال القديمة قيّمت خسائر الحروب من منظار الخسائر المادية وعدد القتلى والجرحى، من دون الأخذ بالحسبان الإعاقة النفسية التي قد تطرأ على فرق بأكملها بفعل الصدمات أو الأحداث غير المتوقعة والبعيدة عن منطق الحروب. فالتأثير النفسي الذي قد تتركه صدمات كهذه في نفوس المقاتلين ربما يكون أسوأ بكثير من الأضرار الجسدية، لأنه قادر على إصابة فرق بأكملها بالشلل. من هنا كان لا بد من التنبّه إلى هذه العوائق ومعالجة مضاعفاتها بالطرق العلمية الحديثة. على كل فإن التنبّه إلى آثار الضغوط النفسية التي تفرضها الحروب يعود إلى حقبات العصور القديمة، وقد وردت إشارة إلى ذلك في مخطوطات تناولت حروب الإغريق. إلاّ أن الإدراك الفعلي لمخاطر هذه الضغوط لم يتبلور إلاّ في أوائل القرن السابع عشر عندما تنبّه الأطباء والقادة في الجيش السويسري إلى تناقص مقدرة العسكريين على القتال في أثناء إحدى المعارك، بسبب سلبية تفكيرهم وانعدام حوافزهم. وعرفت هذه الحالة آنذاك بإسم «المرض السويسري» والذي وصف على أنه مرض ينجم عن الضغوط، ويتميز بعوارض القلق والخوف من الإعاقة أو الموت. وقد عُرفت هذه الظاهرة خلال القرون التالية بأسماء مختلفة منها، «الحنين إلى المنزل»، و«وهن المعركة» وسواهما من العبارات التي تترجم تأثيرات ضغوط الحرب السلبية.

 

ما الذي يسبّب هذه الضغوط؟

يؤكد الإختصاصيون النفسيون أن ضغوط الحرب تبدأ وتتفاقم عندما يواجه المقاتل ظرفاً طارئاً يجبره على إحداث تغيير فوري في سلوكه وتفكيره بهدف التأقلم مع المتطلبات الطارئة، وهو تغيير يفرض تحديات معرفية وسلوكية وعاطفية. ويعتبر هذا النوع من الضغوط طبيعياً ومتوقعاً بالنسبة إلى العسكريين المدرّبين المفترض بهم تجاوزها بفعالية ونجاح. وقد ثبت علمياً أن الأكثرية الساحقة من المقاتلين في الحروب تزداد قدراتهم القتالية وحوافزهم في مواجهة الضغوط العالية. إلاّ أن ظروفاً معيّنة كالهجمات الصاعقة التي يفرضها بعض المعارك تضع المقاتل بمواجهة صدمات قد يرزح تحت وطأتها، الأمر الذي يفقده المقدرة على متابعة مهامه، أو الاحتفاظ بالحد الطبيعي من المقدرة على الإحتمال، وهنا قد يصاب بالقلق والحزن والهلع، فيضطرب سلوكه وتفكيره ويصبح مكتئباً أو عدائياً ثائراً.

 

العلم يضع التفسير ويجد الحلول

تندرج العوارض المشار إليها ضمن عوارض «إضطراب ما بعد الصدمة»، وهو تعبير يستخدمه الأطباء النفسيون لوصف ردة فعل بعض الأفراد تجاه الأحداث الطارئة. وهنا نعود لنذكّر بأن الضغوط التي يتدرّب المقاتلون على مواجهتها لا تتسبب بردات فعل سلبية، بل تكون حافزاً للمزيد من الصمود والتضحيات، إلا أن التنشئة الفردية والبصمات الوراثية وسواها من المؤثرات الشخصية قد تؤدي دوراً هاماً على مستوى ردة الفعل الشخصية للضغوط والمفاجآت، ومن هنا إهتمام الجيوش الحديثة بهذه الناحية الإنسانية البالغة الأهمية، ومن ثم تزويد الوحدات العسكرية اختصاصيين نفسيين للعمل كفرق طوارئ تؤمن العناية النفسية السريعة عند الحاجة، وهي فرق تعتمد العلاج بالأدوية إلى جانب العلاج النفسي السلوكي السريع المرتكز على تحدّي المعنيين بالإضطراب، وإجبارهم بالطرق العلمية الحديثة على تغيير تفكيرهم السلبي وسلوكهم المضطرب. كذلك تعمل فرق المساندة النفسية في الحروب على تأمين الحماية من الإضطراب النفسي ومنع إنتشاره، والمساهمة بفعالية في الإبقاء على المعنويات المرتفعة عن طريق الشحن بالتفكير الإيجابي.

وللحؤول دون تفاقم الإضطراب النفسي في حال حصوله، يحرص المعنيون على إبقاء الفرد المضطرب في موقعه في الصف الأمامي قريباً من وحدته، وعدم نقله إلى الصفوف الخلفية. وهي نظرية في علم النفس تمّ إقتباسها من تجارب الحرب العالمية الأولى، حيث ثبت آنذاك أن الجنود المضطربين الذين نقلوا إلى الصفوف الخلفية بهدف تهدئتهم، لم يتمكنوا من إستعادة صحتهم النفسية والإلتحاق مجدداً بوحداتهم، بينما لوحظ أن الجنود الذين عولجوا داخل مواقعهم القتالية قد سجلوا تحسناً سريعاً وتمكنوا من العودة إلى الخدمة. ويؤكد الكاتب الأميركي غريغ ريغيز الذي زار مواقع الجيش الأميركي القتالية في غير مكان، واطلع على طرق تطبيق خطط المساندة النفسية المتخصصة، أن الوحدات الأميركية المقاتلة تتضمن، بالإضافة إلى الجسم الطبي التقليدي، أطباء ومعالجين نفسيين ومرشدين إجتماعيين يعملون متّحدين وفق أسس علمية مدروسة هي:

- الحرص على علاج المضطّرب نفسياً بالقرب من وحدته.
- التعرّف الفوري إلى المشكلة النفسية والتدخل السريع لتغيير التفكير السلبي لتفادي حصول مضاعفات طويلة الأمد.
- مساندة المقاتل بإفهامه أن ما يشعر به من خوف وقلق وعدم مقدرة على متابعة العمل هو شيء طبيعي ومتوقع، بمعنى أن شعوره هو ردة فعل فطرية لظرف غير طبيعي، الأمر الذي يشعره بالراحة ويسمح بعودته إلى القيام بمهامه بملء إرادته.
- إعتماد البساطة بتطبيق تقنيات العلاج النفسي السلوكي المعرفي، إضافة إلى التأكد من تأمين حاجات العسكري المضطرب وفي مقدمتها الراحة والطعام والنظافة.

إن لضغوط الحرب كما يؤكد غريغر، تأثيراً سلبياً لا يمكن تجاهله على العسكريين بشكل عام. إلاّ أن التنبّه إلى مضاعفات هذا التأثير ومدى فداحة الخسائر التي يمكن أن يتسبّب بها، يساعد على تداركها وتجنّب مفاعيلها الطويلة الأمد. ولحسن الحظ فإن الجيوش الحديثة تدرك بعمق أهمية تأمين الحماية النفسية لأفرادها، لأنه من غير المنطقي أن يجرّد المقاتل من إنسانيته ومشاعره من دون أن يدفع الثمن غالياً من صحته النفسية.