ثقافة وفنون

العلامة عبدالله العلايلي فكر شمولي وروح منفتحة على الثقافات
إعداد: وفيق غزيري

فكر شمولي وروح منفتحة على الثقافات

ملأ العلاّمة الشيخ عبدالله العلايلي الدنيا وشغل الناس بآرائه المتحركة المتطوّرة, حيث يقول: لست أؤمن بالأسوار. هذه قاعدة كل تحرّك عندي, لأن الإيمان بها إيمان بالتحديد والجمود, فسبيل أبناء الحياة أنهم يتحركون وعذرهم أنهم يحسّون بتبعة الحياة.

النظرية اللغوية

من بين مآثر وإنجازات العلامة العلايلي, على تعددها وكثرتها, نجد مأثرته اللغوية, أمتنها أساساً وأفعلها أثراً في حياتنا الحاضرة, وفي أيامنا الآتية. إن اللغة العربية لا بد لها من استلهام النهج الذي اختطه العلايلي لها. والمعجم العربي لا محالة صائر الى ما رسمه له.
والعلاقة بين النظرية اللغوية والتطبيق اللغوي عند شيخنا هي بالضرورة العلاقة بين المقدمة والمرجع. ومن الجلي أن النظرية, كل نظرية, تلحظ مباحث واتجاهات في مادتها قد لا يسهل بسطها في التطبيق, وهذا من طبائع الأشياء مما لا ينازع. من ذلك بحث المعاني الأصلية للأصوات العربية.
وعلى ما بين النظرية والتطبيق من عوائق لا يستقيم تجاهلها, فإن إنبناء المعجم على أساس نظري, كما النتيجة والعلّة, معلماً بارزاً في التاريخ المعجمي العربي, لأنه بهذا الإنبناء يقول الدكتور رمزي البعلبكي, ينكشف التقصير الذي لحق المعجمات العربية, على تفاوت, وهو تقصير أعجب ما فيه أنه أخذ ينمو ويتزايد مع الزمن, بدلاً من أن يُتدارك ويُتلافى. وليس يمنعنا تعظيمنا للعمل المعجمي العربي, ولا يقيننا أن به مفخرة من مفاخر العرب, التي قلّ أن يحق لأمة غيرها أن تدعيها حتى باعتراف المستشرقين.
إن الدراسة الصوتية للعربية, هي اللبنة الأولى التي يقوم عليها فهم اللغة. وهنا تكمن الغربة بين الباحث وبين التاريخ الصوتي, لأن الكشف عن الأصول القديمة للأصوات, في نشأتها ومحاكاتها ودلالاتها, أفقر ما يكون الى الدليل الحسّي, وهو بذلك أبعد الأمور اللغوية عن التفسير وأكثر طلباً للإفتراض, على كونه أكثر ما يشوّق الباحث, ولم تمّ هذا الكشف لأغنى معرفتنا عن تاريخ الإنسان واللغة بما لا يقدّمه أي كشف آخر من طبيعته.
وجراء ما أنتجه العلايلي في هذا الشأن, فقد أثبت للجميع أنه اللغوي المميز, الذي سطع نجمه في سماء العرب, إذ أحدث كتابه المقدمة اللغوية هزّة في البحث اللغوي, وكان فيه قد دعا الى الإجتهاد في الكشف عن تاريخ النشوء اللغوي وتطوّر اللهجة, ونظّر في ذلك, مما أثار في مجالس العلم الجدل العلمي.

الأدب والنقد

الفنون الجميلة عند العلامة العلايلي, تؤدي المؤدّى نفسه وتؤول الى هدف واحد وإن اختلفت أسبابه وأدواته, ويرى أن القلم مذ كان شرّع للتاريخ أبوابه, وأملى الحضارة حرفاً حرفاً... والقلم كصنوه الإزميل, كلاهما يمشي مشيته الخالقة, هذا على الورق لينطق, وذاك على الحجر لتشع فيه نابضة الحياة, ثم يؤولان الى أنهما من التاريخ وجه ولسان, مشاهد وحكاية.
فالإنسان حسب اعتقاد العلايلي بحاجة ماسّة الى الفن بأنواعه المختلفة المتنوعة, ليعبّر بواسطته عن اللذات الخفية والجمالات الكامنة في جانبه الروحي.
أما بالنسبة للأدب, فقد عني شيخنا بدراسته, وأفرد له الصفحات الطوال في معجمه المعجم. والأدب عنده, كالثمرة تماماً هي التي يمكن أن تكون اقتطاعاً من فردية الشجرة, بل هي شيء كوني من عواصف ورعود وأمطار على شيء مثله من أشعة وحرارات تفتح لها الشجرة في مجال ذاتها لتفرغها خلقاً آخر. أو هو ما يلامس الواقع ويعبّر عنه, أو ما يصوّر الحياة تصويراً فنياً ويقول: أما أوائلنا كانوا أصح إدراكاً؟ فقد سمّوا ما كان يُخترع لهم اختراعاً أسطورة, أما ما وجدوا فيه أنفسهم, وما وجدوا فيه دنياهم, وما وجدوا فيه واقعهم الذي يتحرك, فإنه وحده الذي سمّوه أدباً.
لم يكتف العلايلي الأديب بالمشاركة النثرية, بل كان الى جانبها الممارسات الشعرية. فالشعر عنده أحاسيس تصوّر الواقع أو هو مرآة تعكس الواقع عليها. فالممارسة الشعرية باعتقاده هي التي تحمل بين ثناياها طبيعة الحادثة التي يصوّرها الشاعر ويريد الكشف عنها, فيقول:
الشعر الحق هو الذي يشعرك لا بأنه صورة من الألم والحب, بل الذي يشعرك بأنه يألم ويحب بنفس وحياة, وفيه طبيعة الألم والحب, أما إذا رسم الشعر صوراً من الألم أو صوراً من الضحك فقط, من دون أن تتأجج فيه حرارة الحياة, فإنه يأتي جدباً ميتاً لا حياة فيه ولا معنى....
أما العلايلي الناقد الأدبي, فإنه أوحى بوحدة المضمون والشكل والصورة, فابتعد عن المحسّنات البيانية والبديعية والزخارف إن لم تكن عفوية غير متكلّفة. كما أنه لم يجز المقارنة بين شعراء لا ينتسبون الى حقبة زمنية متقاربة أو ينتمون الى مذهب أدبي واحد.

خارج حدود الوطن

يأتي إسم العلامة العلايلي في طليعة العلماء العرب المعاصرين الذين يستند الى أبحاثهم ومؤلفاتهم الباحثون الروس في حقل الإستعراب. وقد اهتم الأكاديمي افنانسي كراتشوفسكي بكتاب العلايلي مقدمة لدرس لغة العرب, خاصة وأن منهجية الكتاب تتلاقى مع حرص المستعربين الروس على دراسة اللغة العربية في منحاها التطوّري التاريخي, وقد نصح كراتشوفسكي طلابه بالإعتـماد على مؤلـف العلايلي القيّم. ويـرى الكسندر سيمرنوف أن من يتابع النتاج العلمي للمستعربين السوفيـات كثيراً ما يرى الإشارات والإستشهادات لمؤلفات العلايلي المتعددة, وبصورة خاصة تلك التي تتناول القضايا الإجتماعية من وجهة نظر دينية مستنيرة مثل كتابه الشهير الكيان والفساد الإجتماعيان وأين الخطأ.
وفي الختـام, لا يسعنا إلا أن نربـط بين النـزعة التوحيـدية التي لمسـناها عند شيخـنا في المجال الدينـي متمـثلة بدعـوته لإيجاد القاعدة المشتركة بين أبناء الديانات المختلفة داخل الوطن الواحد, ولإيجاد القاعدة الفقهية المشتركة داخل الدين الواحد, وبين نزعته التوحيدية في المجال السياسي المتمثلة بدعوته الى تعزيز الشعور الوطني والقومي.

كتاب في سطور أعلام الشعر العامي في لبنان

أعلام الشعر العامي في لبنان كتاب جديد للدكتور ميشال جحا صدر عن دار العودة ودار الثقافة, بيروت. وفيه يتناول المؤلف الشعر العامي من خلال إبداعات عشرة من أعلامه اللبنانيين هم: رشيد نخله, عبدالله غانم, عمر الزعني, خليل روكز, إميل مبارك, أسعد سابا, إيليا أبو شديد, ميشال طراد, أسعد السبعلي, ووليم صعب.
يبرر جحا اختياره للعشرة على أساس أنهم أبرز من يمثل هذا الشعر من الأعلام المتوفين, وكل منهم يمثل طبقة من طبقات القول, ويمتاز عن سواه من الشعراء...
وقبل أن يتـناول المؤلـف الشعـراء العشرة واحداً تلو الآخـر مسلطاً الضـوء على حياة كل منـهم ومميزات شعره, يستـعرض مختلف النواحي المتعلقة بالشعر العامي في مقدمة الكتاب.
يعرف المؤلف بالشعر العامي مؤكداً أن جوهر الموضوع هو الشعر والإبداع, سواء جاء بالعامية أو بالفصحى. فقيمة القصيدة ناتجة عن شعريتها ومقدار ما فيها من خلق وإبداع وليس عن كونها كتبت بالفصحى أو بالعامية.
وفي إطار استعراضه لنشأة الشعر العامي وتطوره يقول إن هذا الشعر ليس وقفاً على لبنان من بين الدول العربية, ففي كل من هذه الدول شعر عامي. وهو يعرف بـالنبـطي في السعودية ويسمى في المغرب الشعر الملحون, وفي مصر يقال له الزجل, وفي العراق الموال والعتابا, أما الموروث الفلسطيني من الشعر الشعبي فقريب من نظيره اللبناني متأثر به...
ويستند المؤلف الى دراسات وأبحاث عدة ليخلص الى القول إن أهم مواطن الزجل في العالم العربي هي لبنان ومصر, وإن الزجل اللبناني تفوّق على زجل جميع الأقطار العربية.
ويتناول جحا أنواع الشعر العامي من الموال والعتابا والقرّادي والشروقي والبغدادي, الى القصيد والمعنى والموشح... معدداً الأوزان التي استعملها هذا الشعر.
كما تتطرق المقدمة الى المواضيع التي ركّز عليها الشعر العامي: الطبيعة, الجمال, الحب, الغناء, العادات, الحكمة والخرافة, الوطن, المجتمع والسياسة, وتعالج مميزاته وأبرزها: الصدق, الطرافة, العذوبة والنقد اللاذع...
ويفرد المؤلف مساحة مهمة من مقدمة الكتاب للشعر العامي اللبناني متحدثاً عن نشأته وتطوره وصولاً الى المرحلة الذهبية التي عرفها خلال القرن العشرين. ولا يكتفي بالحديث عن الشعراء الذين خصص الكتاب لدراسة نتاجهم, فيتطرق الى نتاج آخرين بعضهم معاصر.
وفي مجال الإشارة الى الأهمية التي بلغها الشعر العامي في لبنان, يستعرض الجرائد والمجلات الزجلية التي عرفت انتشاراً واسعـاً, ويشير الى أداء كبار المطربين والمطـربات لأغانٍ نظمها شعراء كتبوا بالعـامية, وارتقوا من خلالها الى درجة عالية في الإبداع, أمثال ميشال طراد وأسعد السبعلي وأسعد سابا...
كما يخصص جحا حيزاً من مقدمة الكتاب لمناقشة مميزات الشعر العامي اللبناني الذي نشأ شعراؤه وترعرعوا في القرية اللبنانية, متأثرين بطبيعتها وعاداتها ونمط الحياة فيها.
أخيراً إشـارة الى أن للمـؤلف العديـد من الدراسات في مجالات الأدب والشعر, منها: اللهجة اللبنانية (بالألمانية), خليل مطران باكورة التجديد في الشعر العربي الحديث, الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي الى محمود درويش, الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا.